أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-5-2022
1265
التاريخ: 4-1-2020
1551
التاريخ: 28-8-2020
2712
التاريخ: 7-5-2022
1503
|
فصلٌ في تلاوة القرآن:
ولا حدّ لثوابه، والأخبار فيه كثيرة لا تحصى، وكيف لا يعظم أجره وهو كلام الله ربّ العالمين، حامله روح الأمين، والمرسل إليه محمّد بن عبد الله خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله، وهو مشتمل على حقائق وأسرار لا تحملها الا قلوب الأحرار.
وبالجملة؛ يشهد بتأثيره الكامل في القلب العقل والنقل والاعتبار، إلا أنّ لها آداباً ظاهرة وباطنة.
فمن الأولى: الوضوء والوقوف على هيئة الأدب والطمأنينة قائماً كان أو جالساً، مستقبل القبلة مطرقاً رأسه غير متربّع ولا متّكئ، والترتيل والبكاء والجهر المتوسط لو أمن من الرياء، وإلا فالسر، وتحسين القراءة، ومراعاة حق الآيات، فإذا مرّ بآية السجود سجد، وآية العذاب استعاذ، وآية الرحمة طلب، وآية التسبيح أو التكبير سبّح أو كبّر، وآية الدعاء والاستغفار دعا واستغفر، وافتتاح القراءة بالاستعاذة، وعند الفراغ «صدق الله [العليّ] العظيم وصدق رسوله الكريم»، وسائر ما ورد من الأدعية المأثورة.
ومن الثانية: فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله ولطفه بنزوله من عرش جلاله إلى درجة أفهام خلقه.
فانظر كيف لطف بهم في إيصال نبذ من آثار حكمته وعلمه إليهم في طيّ حروف وأصوات هي من صفات البشر، ولولا استتار كنه جلاله بكسوة الحروف والأصوات لما ثبت لسماع كلامه العرش والثرى وما بينهما، بل تلاشت من عظمته وسبحات نوره. {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] فلولا تثبيته لموسى عليه السلام لم يطق سماع كلامه، كما لم يطق الجبل مبادي تجلّيه حتى صار دكّاً.
وهذا كما أنَّ الانسان إذا أراد تفهيم الطيور أو البهائم بما يزيد على إقبالها وإدبارها وكان تمييزها قاصراً عن فهم كلامه الصادر عن عقله مع حسنه وترتيبه وبديع نظمه تنزَّل إلى درجاتها وأوصل مقاصده إليها بأصوات تليق بها من النقر والصفير وما يشبه بأصواتها وتطيق حمله، فكذا الناس لمّا عجزوا عن حمل كلام الله بكنهه وكمال صفاته تنزّل إلى درجة أفهامهم فتجلّى في مظاهر الحروف والأصوات، وقد يشرّف الصوت للحكمة المخبوّة فيه كما يكرم البدن لكرامة الروح، فالكلام عالي المنزلة رفيع الدرجة قاهر السلطان في إنفاذ الحكم في الحقّ والباطل، عدل في أمره ونهيه، لا طاقة للباطل في قيامه قدّامه كما لا طاقة للظلمة قبل الشعاع، ولا طاقة لبصائر الناس أن تنفذ نور الحكمة كما لا طاقة لأبصارهم أن تنفذ نور الشمس، وإنّما ينال كلّ بقدر قوّة بصره.
فالكلام للبصائر كالملك المحجوب الغائب وجهه المشاهد أمره، فهو مفتاح نفائس الخزائن، وشراب الحياة الذي لا يموت شاربه ولا يسقم.
ثم تعظيم المتكلّم فيحضره في قلبه عند الشروع، وأنّه ليس من كلام البشر، بل تلاوته في غاية الخطر، فكما لا ينبغي مس جلده وورقه وحروفه بالبشرة المتنجّسة بخبث أو حدث، فكذا لا ينبغي قراءته بلسان مستقذر بآفات معاصيه، وقلب مكدّر بذمائم الصفات، بل باطن معناه محجوب عن بواطن القلوب الا من استنار قلبه بأنوار الغيوب، وتطهرّت نفسه وجوارحه عن الأخلاق الخبيثة والذنوب، ولولا تعظيم المتكلّم لم يتمكّن من تعظيم الكلام.
والعلاج في تحصيله مع الغفلة التفكّر في صفاته وأفعاله المورث لاستشعار عظمته، ولذا كان بعض السلف إذا نشر المصحف غشي عليه وقال: هو كلام ربّي.
ومنها: الخضوع والرقّة.
قال الصادق عليه السلام: «مَن قرأ القرآن ولم يخضع له أو لم يرقّ قلبه له ولم ينشئ حزناً ووجلاً في سرّه فقد استهان بعظم شأن الله، وخسر خسراناً مبيناً فمن تفرّغ قلبه عن الأسباب واعتزل عن الخلق بعد أن أتى بالخصلتين (1) استأنس روحه بالله ووجد حلاوة مخاطباته لعباده الصالحين ولطفه بهم ومقام اختصاصه بهم بقبول كراماته وبدائع إشاراته، فإذا شرب من هذا المشرب كأساً لم يختر عليه شيئاً أصلاً ورأساً، بل آثره على كلّ طاعة وعبادة؛ لأنّ فيه مناجاة مع الربّ بلا واسطة» (2).
ولذا قال الصادق عليهالسلام: «كنت أردّدها حتّى سمعت من المتكلّم بها» (3).
ومنها: حضور القلب، وهو يترتّب على التعظيم، فإنّ من عظّم شخصاً لم يغفل عنه سيّما إذا كان كلامه ممّا يستأنس به القلب ويفرح.
ومنها: التدبّر زائداً على حضور القلب، إذ التالي [ربّما] لم يتفكّر في غيره، ولكن اقتصر على سماعه من نفسه بدون تدبّر، والمقصود هو التدبّر.
قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
وقال علي عليهالسلام: «لا خير في قراءة لا تدبّر فيها» (4).
وإن توقّف على التكرير والترديد ردّد كما حكيناه عن الصادق عليهالسلام وحكايته عن الأكابر كثيرة.
ومنها: التفهّم، أي أن يستوضح من كلّ آية ما يليق بها لاشتمال القرآن على ذكر صفات الله وأفعاله وأحكامه وأحوال النشأة الأخرويّة والقرون السالفة من الأنبياء والأمم وغير ذلك، فإن مرّ بصفة تفكّر في معناها لينكشف له أسرارها، فإنّها لا تكشف إلا للمؤيّدين في فهم كتابه، وإن مرّ بفعل كخلق السماء والأرض وغيرهما تفكّر في عظمته، إذ عظمة الفعل تدلّ على عظمة الفاعل، وينبغي شهوده الفاعل في الفعل، إذ مَن عرف الحقّ رآه في كلّ شيء؛ لأنّ كلّ شيء منه وله وبه وإليه، فهو واحد في الكلّ، فمن لم يره فيما يراه لم يعرفه.
وإذا تلا شيئاً من عجائب صنعه فليتأمّل فيها ثم يترقّى منها إلى أعجبها أي الصفة الصادرة عنه هذه الأعاجيب، وإذا سمع وصف الجنة والنار فليتذكّر أنّه لا نسبة لما في هذا العالم إلى عالم الآخرة، فلينتقل منه إلى عظمته تعالى مع الانقطاع إليه ليخلص من عقوبات تلك النشأة ويصل إلى لذّاتها، ولا يمكن استقصاء ما يفهم من القرآن، إذ لا نهاية له. {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] الا أنّ كلّ واحد يستفيد منه بقدر استعداده وصفاء نفسه.
ومنها: التخلّي عن موانع الفهم من التعصّب والتقليد لما عرفت من كونهما حجابين لمرآة النفس يحجبانها عن انعكاس غير ما تعتقده فيها، وكذا الجمود على التفاسير الظاهرة ظنّاً أنّ غيرها تفسير بالرأي وصرف الهمّة نحو تحقيق الحروف وما شاع بين القرّاء، فإنّ ذلك أيضاً مانع عن انكشاف الحقائق والإصرار على الذنوب الظاهرة والباطنة المظلمة للقلب الباعثة لحرمانه عن انكشاف الأسرار والحقائق فيه.
قال الله تعالى:
{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13].
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8].
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19].؟
ومنها: التخصيص، أي تقدّر أنك المقصود بكلّ خطاب فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد، إذ ما من شيء في القرآن الا وسياقه لفائدة في حقّ النبي صلى الله عليه وآله وأمّته. قال تعالى: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32].
فالقرآن كلّه هدى وشفاء ورحمة ونور وموعظة، فقدّر أنّ مولاك كتب لك كتاباً لتدبّره وتعمل بمقتضاه.
ومنها: التأثّر، أي يتأُثّر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كلّ فهم حال من الخوف والحزن والوجد والفرح والرجاء والقبض والانبساط، فإذا سمع المخوّف اضطرب قلبه وتضاءل من الخوف كأنّه يموت، وإن سمع الرحمة والمغفرة فليفرح ويستبشر كأنّه يطير من الابتهاج، وإذا سمع صفات جلاله تطأطأ خضوعاً واستشعاراً لعظمته، وإذا سمع ذكر الكفّار وما يصفون به الله من الأولاد غضّ صوته بانكسار في قلبه وحياء من قبح مقالتهم، وكذا غيرها، ومهما تمّت المعرفة كان الغالب على القلب الخشية، لكون التضييق غالباً في القرآن، فلا ترى ذكر الرحمة والمغفرة الا مقروناً بشروط يقصر أغلب الناس عن نيلها، ولذا كان بعض الأكابر يغشى عليه من استماعها، بل مات بعضهم منه.
وبالجملة؛ المقصد الأصلي استجلاب هذه الأحوال إلى القلب والعمل به، والا فالمؤونة بتحريك اللسان خفيفة، وحقّ التلاوة اشتراك اللسان والعقل والقلب فيها فاللّسان حظّه تصحيح الحروف بالترتيل، وحظّ العقل إدراك المعاني، وحظّ القلب تأثّره بالحالات المذكورة.
ومنها: الترقّي، أي يرقى إلى أن يسمع الكلام من الله لا من نفسه، وله درجات ثلاث، أدناها تقدير العبد قراءته واقفاً بين يدي الله وهو ناظر إليه مستمع له، فحاله حينئذ التملّق والتضرّع والسؤال، وأعلى منه أن يرى بقلبه ربّه يخاطبه بألطافه يناجيه بإحسانه، فمقاومه الهيبة والحياء والتعظيم والإصغاء، وأعلى منه أن يرى في الكلام المتكلّم، وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى تلاوته ولا إلى إنعامه، بل يكون مقصور الهمّ مستغرقاً في مشاهدة المتكلّم، وهذا حال المقرّبين والصدّيقين، وقد أخبر عنها سيّد الشهداء عليه السلام فقال: «الذي تجلّى لعباده في كتابه، بل في كلّ شيء، وأراهم نفسه في خطابه، بل في كلّ نور وفيء» (5).
وقال الصادق عليهالسلام: «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه، ولكن لا يبصرون» (6).
وقد سبق منّا نقل قوله عليهالسلام: «أردّدها حتّى سمعتها من المتكلّم بها».
ومنها: التبرّي عن حوله وقوّته، فلا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا والتزكية، فإذا قرأ آيات الوعد فلا يدخل نفسه في زمرتهم، ولا يلاحظ الا أهل الصدق واليقين، ويسأله تعالى أن يلحقه بهم، وإذا قرأ آيات المقت والعذاب شهد على نفسه بها، وإليه أشار مولانا علي عليهالسلام في وصف المتّقين: «وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم في آذانهم» (7).
قيل: «وإذا رأى القارئ نفسه بصورة التقصير في القراءة كان رؤيته سبب قربه، فإنّ من شهد البعد في القرب لطف له بالخوف حتّى يسوقه إلى درجة أخرى في [القرب وراءها، ومن شهد القرب في البعد مكر به بالأمن الّذي يفضيه إلى درجة أخرى في] البعد أسفل ممّا هو فيه، وإذا شاهد نفسه بعين الرضا صار محجوباً بنفسه، وإذا جاوز حدّ الالتفات إلى نفسه ولم يشاهد الا الله في قراءته انكشف له الملكوت بحسب أحواله، فحيث يتلو آيات الرحمة والرجاء وغلب عليه الاستبشار ظهرت له الجنّة فشاهدها عياناً كأنّه يراها، وإن غلب عليه الخوف كوشف له النار حتّى كأنّه يرى أنواع عذابها، فإنّ كلامه تعالى مشتمل على السهل اللطيف والشديد العسوف والمرجوّ والمخوف، فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات يتقلّب القلب في الحالات وبحسب كلّ حالة يستعدّ لمكاشفة مناسبة لتلك الحالة، إذ يمتنع مع اختلاف الكلام اتّحاد حال المستمع، إذ فيه كلام راضٍ وكلام غضبان وكلام منعم وكلام منتقم وهكذا» (8) والله المستعان.
__________________
(1) المراد من الخصلتين خشوع القلب وفراغ البدن.
(2) ففي الكافي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت: إنّ قومًا إذا ذكروا شيئًا من القرآن أو حدّثوا به صعق أحدهم حتّى يرى أنّ أحدهم لو قطعت يداه أو رجلاه لم يشعر بذلك. فقال عليه السلام: «سبحان الله ذاك من الشيطان، ما بهذا نعتوا، إنّما هو اللين والرقّة والدمعة والوجل» (الكافي: 2 / 616).
(3) مصباح الشريعة: الباب 14، في قراءة القرآن مع اختلاف كثير وراجع المحجّة: 1 / 352.
(4) المحجّة البيضاء: 2 / 237.
(5) جامع السعادات: 3 / 377.
(6) المحجّة البيضاء: 2 / 247.
(7) نهج البلاغة: الخطبة 193.
(8) القائل هو أبو حامد كما في المحجّة البيضاء: 2 / 248 ـ 249، وما بين المعقوفتين ساقط من النسخ أُثبتناه من المصدر.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|