أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-5-2019
2131
التاريخ: 19-3-2022
1778
التاريخ: 20-1-2021
2377
التاريخ: 2024-08-16
499
|
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): "يا علي: ركعتان يصلّيهما العالم، أفضل من ألف ركعة يصلّيها العابد" (1).
توضيح في معنى العبادة:
العبادات من أسمى ما جعله الإسلام وسيلة للقرب من الله تعالى والارتقاء المعنويّ للإنسان وإذا قرنت العبادة بالعلم والمعرفة بالمعبود والعبادة وحقيقة العابد فإنّها تعدّ من أرقى أنواع العبادة. وبعكسه إذا لم تحظ العبادة بالعلم والمعرفة فإنّها تكون في الحد الأدنى منها؛ ومن هنا صارت عبادة العلماء حتّى لو كانت قليلة أفضل وأعلى من عبادة العبّاد غير العلماء الذين يقيمون الليل والنهار بالعبادة وذلك لأنّ العبادة تقوم بقصد القربة من الله تعالى في قبال الأعمال التوصّليّة التي لا تحتاج إلى قصد القربة كإعطاء النفقة للزوجة وتطهير الملابس من النجاسات ونحو ذلك، فإنّ هذه إذا لم نقصد فيها القربة تصحّ وإذا قصدنا فيها القربة تحظى بالثواب مضافاً إلى الصحّة كما يقول الفقهاء والأصوليّون.
أمّا العبادة فيجب فيها قصد القربة بحيث إذا عبد الإنسان ربّه فى صلاته أو صيامه أو حجه وجاء بالعمل ولكن من دون أن يقصد القربة منه تعالى فإنّ عبادته باطلة، وأمّا إذا قصد القربة فتصحّ عبادته ويحصل على آثارها الوصفيّة الخاصّة كما يعبّر علماء الأصول.
ومن الواضح أنّ إتيان العمل العباديّ كالصلاة مثلاً مع قصد القربة يقتضي معرفة المتقرّب به وبشرائطه وأجزائه حتّى يقبل لأنّ من شرائط صحة العبادة أن تكون تامّة الأجزاء والشرائط حتّى تُقبل وإلا فإنّ العبادة بدون هذه السمات لا تقع صحيحة ولا يترتّب أثرها الوضعيّ الخاص عليها، ولعلّ من هنا صارت صلاة العالم حتّى لو كانت ركعتين أفضل من ألف ركعة يصلّيها العابد.
أمّا العابد غير العالم الذي ربّما يجهل هذه الأجزاء والشرائط فتقع عبادته غير صحيحة فلا يترتّب عليها أثرها الوضعيّ الكامل.
فللعلم والجهل أثر كبير على صحة العبادات ومقاماتها المعنويّة ومقبوليّتها عند الله تعالى. ولذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ وكم من قائم ليس له من قيامه إلا العناء، حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم» (2)؛ لأنّ الصوم الذي لا يقترن بآثاره الوصفيّة ومقاماته المعنويّة لا يعدّ صوماً تامّاً.
وقال رسول الله (صلى الله عله وآله): «رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه» (3)؛ لأنّ الذي يتلو القرآن ينبغي أن يهتدي ويتعظ والذي لا يهتدي ولا يتعظ تصبح قراءته للقرآن لعنة عليه.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): "مَن زار الحسين (عليه السلام) عارفاً بحقّه كتب الله له ثواب ألف حجّة مقبولة..." (4)؛ فالمعرفة بمقام الإمام (عليه السلام) وحقوقه على العباد من أهمّ الأسباب لقبول الزيارة وإذا قبلت الزيارة يحظى العبد بشفاعة الإمام (عليه السلام) في الآخرة فضلاً عن العناية في الدنيا والذي يشفع له الإمام في الآخرة يدخل الجنة، كلّ ذلك لمقام العلم والمعرفة وأثرهما في مستوى العبادات ومقاماتها.
ولعلّ من هنا قالوا: إنّ العبادة قد تُلحَظ بلحاظين:
الأول: أن نلحظ العبادة بما هي هي وكم لها من الفضل والثواب بغض النظر عن العابد ومستواه.
الثاني: أن نلحظ العبادة والعابد معاً وما لهما من الفضل والثواب.
والذي يدخل في دائرة اهتمام الإسلام واعتباره هو القسم الثاني من اللحاظ ولذا يشترط الإخلاص في العمل وتماميّة الأجزاء والشرائط وقصد القربة ونحوها في العبادات، ومن الواضح أنّ هذا يتوفّر في العالم والعارف بمعناه الأكمل والأتمّ، أمّا العابد غير العالم فربّما يفتقد هذه الاعتبارات فتقلّ أهميّة عبادته حتّى لو كانت كثيرة ولذا فإنّ صلاة العالم كيفاً أفضل من الكم الهائل في صلاة العابد.
"ركعتان يصلّيهما العالم أفضل من ألف ركعة يصلّيها العابد" (5).
العبودية الشاملة:
للعبادة وجهان: باطن وظاهر، الوجه الباطن هو العبوديّة والوجه الظاهر هو التنسّك.
أمّا العبوديّة فمعناها أن يُقرّ الإنسان بالكبرياء والجبروت لقوة أعلى، ثم
يطيعها ويسلّم لها قياده، والله تعالى هو القوة الأعلى في هذا الكون والعزة جميعاً له كما في قوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165]. وقال تعالى: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]. ولو نظرنا إلى الكون نظرة شاملة من أصغر ذرة في الأرض إلى أكبر جرم في السماء لا نراه إلا وهو مسخّر بنظام رائع وتام لا قبل له بالحراك من قبل نفسه وإنّما هو خاضع لقانون إلهيّ إذا خالفه فسد وفني. وهذا القانون الذي يحكم كلّ شيء في السماوات والأرض من إنسان وحيوان وشجر، هو قانون الخلق والتكوين الذي لا ينفك عن هذه الموجودات، وهذا القانون هو بيد حاكم قوي وعزيز هو الله تعالى. فعبوديّة الإنسان إذن الاستسلام للفطرة أو بمعنى أنهّا امتزجت بطبيعة الإنسان سواء أراد ذلك أم لم يرده وهي التي تدفعه للبحث عن الإله من داخل نفسه وتصف الإله بإيحاءاتها اللطيفة. أي أنّها تقول للإنسان إنّ إلهك هو مَن قد خلقك وهو القادر عليك والغالب على أمرك وهو الرزّاق الذي يستحقّ الحمد والثناء لحسنه وجماله وعلوّه وهذه النعم التي تتنعّم بها كلّها من الله تعالى.
العبادة بقدر المعرفة:
وهي لا تكتمل إلا بأمرين:
1 - معرفة المعبود (الإيمان).
2- الطاعة (الامتثال لأوامره).
أمّا الأوّل فهو معرفة الإنسان بمعبوده وهو الله تعالى وهذه المعرفة تكون خالصة لا تشوبها أدنى شائبة من الشرك أو الكفر، ولا يخاف سوى الله تعالى، ولا يطمع إلا في نعمه، ولا يتوكّل إلا عليه وقد ورد في الحديث الشريف: "أوّل العلم معرفة الجبار، وآخره تفويض الأمر إليه".
وأمّا الثاني فهو إظهار العمل والطاعة للمعبود وتتفاوت الطاعة أو العبادات بقدر المعرفة، فلا تكتمل العبادة من صلاة أو صوم أو تسبيح من دون معرفة. ومن هنا جاء قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقينا»؛ لأنّه (عليه السلام) بلغ درجة من الإيمان وهي المعرفة بالخالق والمخلوق إلى حدّ اليقين وكلّ أفعاله وأعماله جاءت خالصة لله تعالى، لذا فإن كل عمل أو فعل دنيوي أو ديني إذا كان يأتي به الإنسان المؤمن امتثالا لأمر الله تعالى وشريعته فهو عبادة حتى بيعه وشراءه في السوق ومعاشرته لأهل بيته، وإن كانت هذه الأعمال من أدنى مراتب العبادة ولكنّها إذا ابتنيت على المعرفة بالخالق تعالى وظهرت امتثالاً وطاعة له كانت من أجزاء العبادة وعملاً صالحاً. أي أنّ المطلوب من العبادة هو الأثر والفائدة المرجوة منها أيضاً وليس إنجاز أفعال خاصّة وحركات خاصّة وما شابه فقط.
ومن هنا يظهر أنّ الإسلام ناظر إلى النوع أو الكيف أو الأثر من العبادة وليس للعمل وحده ولو كان ناظراً إلى العمل وحده لما احتاج الإنسان إلى العبوديّة أو معرفة المعبود وإنّما كان يكتفي بإنجاز العمل أو إظهاره دون معرفة أو علم بالأثر والفائدة منه ولذا ورد في الأحاديث الشريفة:
عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «سكّنوا في أنفسكم معرفة ما تعبدون حتّى ينفعكم ما تحرّكون من الجوارح بعبادة من تعرفون» (6).
وقال (عليه السلام) أيضاً: «لا خيرَ في عبادة ليس منها تفقّه» (7).
وعلى أساس ذلك فإنّ العبادة لا تلاحظ في حدّ ذاتها عند الإمتثال بل يلاحظ العابد أيضاً فإذا كان العابد (عالماً) فله ثواب عظيم بعكس ما لو كان جاهلاً.
نجاة العالم وسقوط العابد:
ذُكر في أحوال أحد عباد بني إسرائيل عن ابن عباس قال:
«إنّه كان في بني إسرائيل عابد اسمه (برصيصا) عبد الله زماناً من الدهر حتّى كان يُؤتى بالمجانين يداويهم ويعوّذهم فيبرؤون على يده. وإنّه أتي بامرأة في شرف قد جنت وكان لها إخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت فلما استبان حملها قتلها ودفنها فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتّى لقي أحد إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنّه دفنها في مكان كذا ثم أتى بقيّة إخوتها رجلاً رجلاً فذكر ذلك له فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول والله لقد أتاني آتٍ فذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره فذكر بعضهم لبعض حتّى بلغ ذلك ملكهم فسار الملك والنّاس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل فأمر به فصُلب فلمّا رُفع على خشبته تمثّل له الشيطان فقال: أنا الذي ألقيتك في هذا فهل أنت مطيعي فيما أقول لك فأخلّصك ممّا أنت فيه قال: نعم، قال: اسجد لي سجدة واحدة. فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة. فقال: أكتفي منك بالإيماء، فأوحى له بالسجود فكفر بالله وقُتل الرجل فهو قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] (8).
ولعلّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أراد من الأفضليّة في وصيّته لأمير المؤمنين (عليه السلام): «يا علي ركعتان يصلّيهما العالم أفضل من ألف ركعة يصلّيها العابد» أن عاقبة العالم إلى خير وعمله البدنيّ يكون مع اليقين والمعرفة في الأغلب ويخرج من الفتنة بعلمه ولا يمكن أن يتغلّب عليه الشيطان في الغالب. أمّا الجاهل فإنّ عبادته بدون علم أو معرفة ولذا فإنّه إذا عصفت به الفتن لا يمكنه الخروج منها ولذا جاء عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «ركعتان من عالمٍ خير من سبعين ركعة من جاهل؛ لأنّ العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه وتأتي الجاهل فتنسفه نسفاً» (9).
يونس بين العالم والعابد:
ومن الروايات التي تدلّ على فضل العالم على العابد هذه الرواية عن جميل قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): "ما ردّ الله العذاب إلا عن قوم يونس، وكان يونس يدعوهم إلى الإسلام فيأبون ذلك، فَهَمَّ أن يدعو عليهم وكان فيهم رجلان: عابد وعالم، وكان اسم أحدهما مليخا، والآخر اسمه روبيل، فكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم، وكان العالم ينهاه ويقول: لا تدعُ عليهم فإنّ الله يستجيب لك، ولا يحبّ هلاك عباده، فقبل قول العابد ولم يقبل من العالم فدعا عليهم، فأوحى الله إليه: يأتيهم العذاب في سنة كذا وكذا، وفي شهر كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا، فلمّا قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد، وبقي العالم فيها، فلمّا كان في ذلك اليوم نزل العذاب، فقال العالم لهم: يا قوم افزعوا إلى الله فلعلّه يرحمكم ويردّ العذاب عنكم، فقالوا: كيف نصنع؟ قال: اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة وفرّقوا بين النساء والأولاد، وبين الإبل وأولادها، وبين البقر وأولادها، وبين الغنم وأولادها، ثم أبكوا وادعوا، فذهبوا وفعلوا ذلك وضجّوا وبكوا فرحمهم الله وصرف عنهم العذاب..." (10).
ولا غرابة في أن يحظى العلماء بتلك الخصائص الجليلة، والأفضليّة في أعمالهم وإن قلّت فهم ورثة الأنبياء وحماة الدين وحفظة آثار أهل البيت (عليهم السلام) وتراثهم الخالد يحملون للناس عبر القرون مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها وآدابها فتهتدي الأجيال بأنوار علمهم وتتنور بتوجيههم الهادف، ومن الطبيعي أنّ هذه المزايا لا ينالها إلا العلماء المخلصون والعاملون لحفظ الشريعة والمتحلون بالآداب الإسلامية والأخلاق الكريمة.
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:
"قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "مَن سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به، وإنّه يستغفر لطالب العلم مَن في السماء ومَن في الأرض، حتّى الحوت في البحر. وفضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر. وإنّ العلماء ورثة الأنبياء ..." (11).
تقييم العالم والعابد:
وقد ورد في بعض الأحاديث الشريفة أنّ نوم العالم أفضل من عبادة العابد.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا علي نوم العالم أفضل من ألف ركعة يصلّيها العابد.." (12).
ولعلّ تفضيل نوم العالم على عبادة العابد جاء من وجوه:
1- إنّ العالم ينام وتعاليمه وأفكاره تعمل مع الناس يهتدون بها ويستفيدون منها.
2- نوم العالم لأجل رفع تعبه وحفظ جسده مراعاة للحديث الشريف: «إنّ لجسدك عليك حقّاً» (13). ويحفظ الجسد لحفظ القوى فيتمكن العالم أن يخدم أكثر وينير أكثر فنوم العالم فيه منفعة للناس وسهر العابد فيه منفعة نفسه.
3- ربّما جاء تفضيل النوم على العبادة من جهة الثواب والفضل وذلك لأنّ العالم إذا أفاد النّاس وهداهم إلى الطريق الصحيح يدعوهم للدعاء له والاستغفار فهو نائم في فراشه والناس يدعون له ويطلبون له من الله الثواب بينما العابد ساهر بالعبادة ويحصل ثواب عبادته فقط.
4 - ربّما الرواية ناظرة إلى جهة الإتقان وضبط العمل.
لأنّ العالم وإن كانت صلاته أقلّ في بعض الأحيان «ركعتان» أو أكثر أو أقلّ بينما قد يصلّي العابد يومه وليله. إلا أنّ الفرق أنّ العالم عندما يصلّي يؤدّي صلاته كاملة تامّة متقنة بينما العابد ربّما لعدم علمه يصلي كثيراً ولكنّ صلاته ناقصة من حيث الضبط والإتقان، ومن الواضح أنّ فضل الصلاة المتقنة أعلى بكثير من الصلوات غير المتقنة.
ولعلّ هناك وجوهاً أخرى في المقام نرجئها لمحلّها.
وممّا تقدم من روايات وأحاديث شريفة عن فضل العالم على العابد جزء من تأكيد الإسلام على طلب العلم والحث على التفقه في الدين ولذا ورد أنّ أفضل الأعمال في أشرف ليلة من ليالي السنة وهي ليلة القدر، هو طلب العلم، مع العلم بأنّ كتب الأدعية ذكرت أعمالا كثيرة وفرائض في تلك الليلة ولكنّها تشير إلى أنّ طلب العلم في تلك الليلة من أفضل الأعمال. وقد قال شيخنا الصدوق (رحمة الله عليه) فيما أملى على المشايخ في مجلس واحد من مذهب الإمامية في خصوص أعمال ليالي القدر الخاصة: «ومَن أحيى هاتين الليلتين بمذاكرة العلم فهو أفضل» (14).
وعموماً فإنّ فضيلة العلم والعلماء على العباد تنبع من أمور منها:
العلم كمال:
إنّ العلم كمال في حدّ ذاته؛ لأنّ العلم فضيلة في ذاته فالله تعالى قد وصف نفسه بالعلم وبه شرّف الملائكة والأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) وبتعبير آخر إنّ معرفة الشيء بمعرفة ثمرته وثمرة العلم تتبيّن من خلال هذا التقسيم: إنّ الأشياء المرغوب فيها تنقسم إلى ما يطلب لذاته وإلى ما يطلب لغيره وإلى ما يطلب لذاته ولغيره؛ فما يطلب لذاته هو الكمال الخاص وما يطلب لغيره هو المال وما يطلب لذاته ولغيره هو العلم، فما يطلب لذاته أفضل ممّا يطلب لغيره حيث إنّ المال ليس إلا نقوداً ورقيّة لا منفعة ذاتيّة من وراءها وإنّما هي لقضاء الحاجة وإذا لم يحتج الإنسان للمال سقطت منفعتها، أمّا الذاتيّة فهي مطلوبة لذاتها لمنفعتها الأخرويّة، وأمّا ما يطلب لذاته ولغيره فهو أفضل ممّا يطلب لذاته؛ لأنّ العلم لذيذ في ذاته ووسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها والقرب من الله تعالى .
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «رأسُ الفضائل العلم، غاية الفضائل العلم» (15).
إذن فالعلم كمال بحدّ ذاته ووسيلة إلى الآخرة والكامل أرقى وأسمى من غير الكامل.
أشرف المعقولات:
قال أهل المعقول:
إنّ المعقولات تنقسم إلى موجودة ومعدومة، والعقول السليمة تشهد بأنّ الموجود أشرف من المعدوم، بل لا شرف للمعدوم أصلاً، ثم الموجود ينقسم إلى جماد ونام والنامي أشرف من الجماد ثم النامي ينقسم إلى حسّاس وغير حسّاس والحسّاس أشرف من غيره، ثم الحسّاس ينقسم إلى عاقل وغير عاقل ولا شكّ أنّ العاقل أشرف من غير العاقل، ثم إنّ العاقل ينقسم إلى عالم وجاهل ولا شبهة في أنّ العالم أشرف من الجاهل، فتبيّن بذلك أنّ العالم أشرف المعقولات والموجودات ولذا فإنّ العالم في ثبات من أمره بعكس الجاهل حيث تزلزله أدنى شبهة.
عن الأصبغ بن نباتة قال: قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه حسنة.. بالعلم يُطاع الله ويُعبد، وبالعلم يُعرف الله ويُوحّد، وبالعلم تُوصَل الأرحام، والعلم إمام العقل، والعقل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء» (16).
سبب خلق العالم:
ورد في القرآن الحكيم آيات شريفة تبيّن أنّ غاية خلق العالم العلويّ
والسفليّ هو العلم كما جاء في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] فالعلم لأنّه الغاية يسبق خلق السماوات والأرض لأنّ الغاية أوّل الفكر آخر العمل كما يعبّر أهل المعقول وقال سبحانه وتعالى في أوّل.. [ما] أنزله على نبيّه (صلى الله عليه وآله): {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5].
وكذلك حصر الخشية ومعرفة مقام الخالق تعالى والخوف منه بالعلماء بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وهناك آيات عديدة أخرى تذكر فضل العلم والحكمة والعقل على غيرها، وإنّ أفضل العلوم هو علم التوحيد، العلم بالمعبود والإقرار به وذلك بالتفكّر في أحوال مخلوقاته وصفاتها.
العالم مع المجتمع والعابد مع نفسه:
ومن أوجه تفضيل العالم على العابد هو أنّ العالم ينقذ الأمّة من الضلالات والشبهات والأمواج الإلحاديّة، أمّا العابد فإنّه ينقذ نفسه فقط بعبادته إذا ناله التوفيق وربّما هو الآخر تاه في الضلال، فالعالم نور وهداية للبشر وأمّا العابد فلا يتعدّى حدود ذاته وشخصه عادة ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (عليه السلام): "العالم كمَن معه شمعة تضيء للناس، فكلّ مَن أبصر شمعته دعا له بخير، كذلك العالم مع شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة.." (17).
وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): «فقيه واحد يُنقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنّا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشدّ على إبليس من ألف عابد؛ لأنّ العابد همّه ذات نفسه فقط، وهذا - يقصد العالم - همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد، وألف ألف عابدة» (18).
ولعلّ المراد من قول الإمام الكاظم (عليه السلام) "ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنّا" هم المحبّون والشيعة الذين يوالون أهل البيت (عليه السلام) الذين لاحقتهم السلطات الظالمة ومنعتهم من الوصول إلى أئمتهم (عليهم الصلاة والسلام) للتعلّم منهم.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): "إذا كان يوم القيامة بعث الله (عزّ وجلّ) العالم والعابد فإذا وقفا بين يدي الله (عزّ وجلّ) قيل للعابد: انطلق إلى الجنّة وقيل للعالم: قف تشفع للناس بحسن تأديبك لهم" (19).
فالأمّة التي تسير خلف علمائها العاملين المخلصين فإنّها تتقدّم وتنجو من الضلالة والشبهات كما يعمل الشيعة الإماميّة في ذلك فإنّهم يقلّدون في أعمالهم العبادية الفقهاء الجامعين للشرائط ويتبعون تعاليمهم ومناهجهم التي اكتسبوها من القرآن الحكيم وأقوال المعصومين (عليهم السلام) فمن اتّبع علماءه نجى وتقدّم ومَن لم يتبعهم ضلّ وتخلّف عن ركب الحضارة وفقد السعادة..
موقف العالم مع المجتمع:
ومن الشواهد الجلية في هدي الأمة إلى الطريق المستقيم والنجاة من أغلال المستعمرين هو قيادة العلماء لثورة العشرين في العراق وعلى رأسهم مرجع الأمة الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمة الله عليه) وبفضل توجيهاته وآرائه السديدة للعلماء ورجال الفكر ورؤساء الأحزاب والعشائر وأبنائها استطاع أبناء الأمة حينذاك الوقوف صفاً واحداً بوجه أكبر مستعمر آنذاك وأكبر قوة في العدة والعدد واستطاعوا طرده من سيادة العراق وإن تمتّع العراق بفترة القيادة الحكيمة للعلماء عاش في ظلّ الحرّيّة والأخوّة والأمّة الواحدة وبفقدان هذه القيادة استطاع الغرب أن يحلّ ثانية ليجثو على صدر العراق بطرق ملتويّة .
وليس هذا العمل الوحيد لعلمائنا فلقد كان لهم المواقف العديدة والحساسة أمام أصحاب الشبهات والعقائد الفاسدة والتيارات الثقافية المعادية التي تجتاح بلادنا الإسلامية وبفضل العلماء استطاع الناس تمييزهم والوقوف أمام هذا المد وأمام هذه التيارات الدخيلة على المبادئ الإسلامية..
وإذا علمت وجوه الأفضليّة تعرف وجه أفضليّة العالم على العابد وكيف أن ركعتين يصلّيهما العالم تحسبان أفضل من ألف ركعة يصلّيها العابد لأنّ المقصود النوع والكيف لا الكمّ لما يتولّد من فائدة وأثر عظيم للعالم في قيادة المجتمع وتوجيه أبنائه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كلمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): ص 162.
(2) البحار: ج 93، ص 294، باب 36، ح 22، ط ـ بيروت.
(3) البحار: ج 89، ص 184، ط ـ بيروت.
(4) البحار: ج 97، ص 257، ط ـ بيروت.
(5) نفس المصدر.
(6) البحار: ج75، ص 63، باب 16، ح151.
(7) المصدر نفسه: ص 41.
(8) تفسير مجمع البيان: المجلّد الخامس، ص 265، الحشر 16.
(9) سفينة البحار: ج 2، ص 115، باب العين بعده الباء.
(10) البحار: ج 14، ص 380، باب قصص يونس (عليه السلام)، ح 2، راجع تمام الحديث.
(11) الكافي: ج1، ص34، باب ثواب العالم والمتعلم، ح1، ط 3.
(12) البحار: ج 2، ص 22، باب 8، ح 66، ط ـ بيروت.
(13) البحار: ج67، ص128، باب 51، ح14.
(14) مفاتيح الجنان: أعمال ليلة لقدر الخاصة.
(15) تصنيف غرر الحكم: ص 41، ط 1.
(16) البحار: ج 1، ص 166، باب 1، ح 7.
(17) البحار: ج 2، ص 4، باب 8، ح 7، ط ـ بيروت.
(18) نفس المصدر: حديث 9.
(19) البحار: ج2، ص16، باب 8، ح36.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|