أقرأ أيضاً
التاريخ:
3580
التاريخ: 2023-05-23
906
التاريخ: 9-5-2017
5499
التاريخ: 9-1-2017
2936
|
التّاريخ في مجال الفكر
* التفكّر:
هو التأمّل، والفِكر - بالكسر - اسم منه، وهو يستعمل - حسب ما ذكره علماء اللّغة - للدّلالة على معنيين:
أحدهما:
القوّة المودَّعة في الدّماغ الّذي هو مركز التفكير، وإنْ كان علينا أنْ نعترف بأنّ لوضعيّة أعضاء أخرى في الجسم من حيث الصحّة والمرض دخلاً في عمليّة التفكير.
والفكر - بهذا المعنى -: اسم لآلة التفكير.
ثانيهما:
أثر التّفكّر، وهو ترتيب أمور في الذهن تتولّد منها معرفة جديدة، أو تؤدّي إلى تعميق وتوسيع معرفة قديمة.
والفكر - بهذا المعنى -: اسم لفعل التّفكير أو لعملية التّفكير.
هذا هو المعنى اللّغوي لكلمة تفكّر وفكر مع شرح وتوضيح.
وثمّة معنى ثالث لهذه الكلمة: غلب استعمال اللّفظ فيه في العصور الأخيرة، ولعلّه دخل العربيّة من الاستعمالات الأوربِّيّة، وهو نفس الأفكار والمعلومات الّتي يجعلها الفكر (بالمعنى الأوّل) موضوعاً لعمله (الفكر بالمعنى اللّغوي الثاني).
فيُقال مثلاً:
- الفكر الإسلامي.
- والفكر المسيحي.
- والفكر الماركسي.
- والفكر الدّيني.
- فالفكر المادي... .
يُراد من ذلك: الأفكار والمناهج والمعلومات الّتي يتشكّل منها ويتقوّم بها مذهب أو فلسفة أو دين.
والمقصود ببحثنا هنا هو هذا المعنى لكلمة (فكر) .
* والفكر في الثّقافة الّتي تُقوِّم شخصيّة كلّ أُمّة على قسمين:
١ - فكر حيّ.
٢ - وفكر ميّت.
والأوّل: هو ما يُطلق عليه لفظ (فكر) في عصرنا الحاضر.
والثاني: هو ما يُطلق عليه في عصرنا الحاضر مصطلح (تُراث) .
* والتّراث في أصل اللّغة: الميراث.
* وقد وردت كلمة (تراث) في القرآن الكريم مرّة واحدة في قوله تعالى في خطاب المشركين:
( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا ) (١) .
* وقد استعملت كلمة (ميراث) في اللّغة العربية في المادّيات والمعنويّات: أمّا استعمالها في المادّيات فأمثلته كثيرة ظاهرة، وأمّا استعمالها في المعنويّات فقد ورد في القرآن الكريم في عدّة مواضع، هي الآيات التالية:
١ - ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ... ) (٢) .
٢ - ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ... ) (٣) .
٣ - ( ... وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) (٤) .
* وقد استعملت هذه الكلمة في السُنّة في المعنويّات أيضاً:
كما فيما رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه رواه عن رسول اللّهِ (صلّى الله عليه وآله):
(... إنّ العُلماءَ ورَثةُ الأنبياءِ. إنّ الأنبياء لم يُورِّثِوا دِيناراً ولا دِرهماً، ولكِن وَرَّثوا العِلمَ، فمَن أخذَ مِنهُ أخذَ بِحظٍّ وافرٍ) (5) .
* وقد وردت مادّة (و. ر. ث) في نهج البلاغة:
في مواضع كثيرة بصيغة الفعل الماضي والفعل المضارع، وبصيغة الاسم (ميراث، تُراث) وغيرهما، واستعملت في المادّيّات والمعنويّات: فَمِن استعمالها في المعنويّات قوله: (لا مِيراثَ كالأَدبِ ..) (6) و(... العِلمُ وِراثَة كرِيمة ...) (7) .
- واستعملها في المعنويّات في السلطة السياسيّة في قوله: (إن بنِي أُميَّةَ ليُفوِّقُونني تُراث مُحمّدٍ صلّى اللّه عليه وآله تفوِيقاً ...) (8) . وقوله: (فصبرتُ وفِي العينِ قذىً أرى تُراثِي نهباً ...) (9) .
* وعلى ضوء هذه الاستعمالات يمكن أنْ يُقال أنّ التراث أو الميراث - بمعناه العام، لا بمعناه الاصطلاحي الفقهي -:
هو كلّ ما يخلفه سابق في الحياة لِلاحق له في الزّمان، مهما بَعُدَ الزّمان بالمورّث، سواء في ذلك المادّيّات والمعنويّات.
وإذن، فما يقع عليه اسم التراث أو الميراث شيء لم يكن في حوزة الوارث وإنّما انتقل إليه من غيره. وهو قد يكون في حاجة إليه وقد لا يكون في حاجة إليه. ومع كونه في حاجة إليه فقد يعي حاجته إليه ويستعمله وينتفع به، وقد يعي حاجته إليه ولكنّه ينصرف عنه لسبب أو لآخر، وقد لا يعي حاجته إليه فيهمله ولا يعني به إلاّ باعتباره أثراً من الآثار الّتي تتّصل بأحبّته وأهله الماضين، ربّما تكون له قيمة عاطفيّة ولكن ليس له قيمة عمليّة في حياة الوارث.
- وهذا يعني أنَّ التراث أو الميراث ليس - بالضرورة - جزءً مقوّماً للحياة الحاضرة تفسد بدونه؛ لأنّه يشغل فيها حيِّزاً مهمّاً وأساساً، ويسدّ فيها حاجات ملحّة لا غنى عنها، وإنّما قد يكون الأمر فيه هكذا.
- وقد يكون - في نظر الوارث - شيئاً يحسن أنْ يُقتنى ويُستعمَل، ولكن فَقْده لا يُغيِّر شيئاً مِن وضْع الحياة الحاضرة ولا يدخل نقصاً هامّاً فيها.
- وقد يكون في نظر الوارث ذا قيمة عاطفيّةٍ محضة لا يؤثّر فَقْده أبداً.
- وقد يكون في نظر الوارث عِبْأً على الحياة، ومُعوِّقاً لنموِّها، ومانعاً من ازدهارها؛ ولذا فهو يسعى إلى نَبْذه والتخلّص منه والبراءة من آثاره.
هذا تحليل لمفهوم التراث أو الميراث في اللّغة العربيّة - بمعناه العام لا بمعناه الاصطلاحي الفقهي الخاص.
وقد استعملت كلمة التراث في اللّغة العربيّة في العصور الأخيرة على ألسِنة الباحثين والأدباء والمفكِّرين للدّلالة على آثار الفكر الإسلامي في: السُنّة وعلومها، والفقه وأصول الفقه، والتاريخ، والأدب والفلسفة.
وما إلى ذلك من الآثار الفكريّة الّتي خلّفها المسلمون باللّغة العربيّة.
ذاك هو الفكر، وهذا هو التراث.
* والفكر - في المفهوم الحضاري - إذن هو:
المعلومات والشرائع والمناهج والقيم الّتي تقوّم شخصيّة الأمة الثقافية والحضارية، وتُعطيها سِمَتَها المميِّزة لها عن الأمم الأخرى، ويرسم لها دورها في حركة التاريخ.
إنّ هذه المعلومات والشرائع والمناهج والقِيَم تشكّل عقل الأمّة وروحها وضميرها. وهي تنظر إلى الكون والحياة والإنسان والأمم الأخرى من خلال هذه المعلومات والشرائع والمناهج والقِيَم، وتواجه مشاكلها ومسائل حياتها على ضوء الحلول والمواقف الّتي يحميها هذا الفكر. وإنتاجها العقلي النظري كلّه يكون مطبوعاً بطابع هذا الفكر، محتوياً روحه، ومستهدياً بالنور الّذي يشعّه...
* مثلاً:
الماركسيّة: هي فكر العالَم الشيوعي. فهي تشكّل عقل شعوبه وروحها وضميرها، وهي تميّز هذه الشعوب عن العالَم الرّأسمالي بالسّمات الّتي تطبع بها طريقة الحياة لدى هذه الشّعوب. كما أنّ النتاج الثقافي النظري لهذه الشّعوب مرسوم بالطّابع الخاص للماركسيّة، بل لقد طمح المُنَظِّرون السوفيات إلى طبع النظريّات العلميّة الّتي تُفسَّر بها المادّة بالطابع الخاصّ للماركسيّة، هذا في العصر الحديث.
وقد كانت المسيحيّة في القرون الوسطى وما قبلها بالنّسبة إلى أوربا على هذه الشاكلة.
كما كانت الكونغو شيوعيّة بالنّسبة إلى الصين. والهندوسيّة بالنّسبة إلى الهند. والزّردشتية بالنّسبة إلى إيران. والإسلام بالنسبة إلى العالم الإسلامي، منذ ظهور الإسلام وإلى يومنا هذا..
ولكلّ فكر بؤرة يرتدّ إليها كلّ شيء؛ باعتبارها مقياساً للصدى والأصالة والاستقامة، وينطلق منها كلُّ شيء؛ باعتبارها الذّخر الأكبر للأصول الأساس في التكوين الثقافي للأمّة.
* مثلاً كتاب: رأس المال للماركسيّة والشيوعيّة، والإنجيل والتوراة للمسيحيّة، والبهاجافاد/جيتا للهندوسية، والقرآن للإسلام والآوستا للزردشيّة .
وهكذا يكون لكل فكر مركز أساس يتضمّن الخطوط الكبرى والمبادئ المركزيّة لذلك الفكر.
هذا هو الفكر في المفهوم الحضاري.
أمّا التّراث في المفهوم الحضاري فهو مجرّد ثقافة ومعرفة نظريّة لا تبلغ في أكثر الأحيان ومعظم الحالات أنْ تبلغ مستوى كونها فكراً بالمعنى الّذي شرحناه آنفاً، ولنقل: التّراث فكر ميّت .
إنّ التراث لا يدخل في صلب ثقافة الأمّة الّتي تُغذّي عقلها العملي وفعاليّتها وحَرَكِيَّتها في مجرى التاريخ ، ولا يقوّم وجودها، ولا ينير طريق حياتها، ولا يميّزها عن غيرها من الأمم.
وبالإجمال:
كلّ ما هو دور إيجابي للفكر في الأمّة منفي عن التّراث. إنّ التّراث شيء من بقايا الآباء والأجداد، كان صالحاً لحياتهم فهو يمثّل هذه الحياة الماضية وأساليبها وألوانها، ولكنّه لا يصلح للحياة الحاضرة، أو لا يصلح أكثره للحياة الحاضرة، وإذا احتفظنا به ودرسناه وأقمنا له المؤسّسات فليس لأجل أنْ نُقيم عليه حياتنا ونقوّم به شخصيّتنا كأُمّة؛ وإنّما ذلك لِمَا تربطنا به من صِلات عاطفيّة، أو لأنّه يمثّل حلقة هامّة في تاريخ نموّنا، إنّ له قيمة عاطفيّة وقيمة أكاديميّة (نظرّية)، وليست له قيمة عمليّة، أو إنّ أكثره كذلك. ونحن ندرسه، ونحقّقه وننشره، ونحفظه؛ لنعرف كيف كنّا لا لنعرف كيف نكون ، ولنرى صورتنا القديمة لا لنرسم صورتنا الحاضرة، أو لنرى كيف تكون صورتنا المستقبليّة. إنّ التراث - في أحسن الحالات - شيء من أشياء القلب والعاطفة، وليس من أشياء العقل والعمل.
هذا هو التراث في المفهوم الحضاري.
وهنا أودّ أنْ أُثير مسألة شديدة الخطورة وذات أهمِّيّة بالغة جدّاً بالنّسبة إلينا نحن المسلمين في هذا العصر، وهي أنّ الكثرة الساحقة من المسلمين المتعلِّمين والمثقّفين على مناهج الغرب وأساليبه ينظرون إلى الإسلام - بما هو ثقافة ونظام وحضارة - ويتعاملون معه على أنّه تراث، أي: فكر ميت، لا على أنّه فكر.
أمّا الكثرة الساحقة من المسلمين فهُم بحمدِ اللّه ونعمته لا يزالون يتعاملون مع الإسلام على أنّه فكرهم (لا تراثهم) وهم يحرصون ما وَسِعَهُم الحرْص على أنْ يُقيموا حياتهم على هدى أحكامه وقِيَمِه، وإنْ كان علينا أنْ نعترف أنّ الحياة الحديثة كثيراً ما تضطرّ الكثير منهم إلى تجاوز أحكام الإسلام، أو تُغريهم بتجاوزها؛ لأنّها حياة قائمة على غير الإسلام، وتستمدّ مفاهيمها الفكريّة، وقِيَمها الأخلاقيّة، ومقاييسها الجماليّة، وأفكارها العمليّة من غير الإسلام. ولكن هذه الكثرة الساحقة من المسلمين لا تزال تعتبر الإسلام - كما قلنا - (فكرها) وإنْ تجاوزتْه اضطراراً أو تهاوناً في الكثير أو القليل من شؤون حياتها. إنّه عقيدتها، وشريعتها، وقِيَمها.
* ونعود، بعد هذا الاستطراد، إلى شرح موقف المسلمين الّذين يتعاملون مع الإسلام على أنّه تراث لا فكر:
هم يرون أنّ الإسلام - لا بما هو عقيدة - وإنّما بما هو شريعة وقِيَم، فكر عَصْرٍ مضى، وأنّه بالنسبة إلى عصرنا هذا - حيث تشكّل حياتنا الحضارة الحديثة، ومناهجها في التشريع، وقيمها - مجرّد تراث، يمثّل مرحلة سابقة في نموّنا، تجاوزها تطوّرُ التاريخ، فليس لنا والحال هذه أنْ نعتبره (فكرنا) أنّه (تراثنا) مبعث فخرٍ لنا، موضوع حبِّنا وتقديرنا، ولكنّه لا يصلح لأنْ يشكّل حياتنا، ويكون موضوع عملنا الّذي نبني عليه مناهجنا ونستمدّ منه قيمنا.
والمفكِّرون العرب المحدّثون المعنيُّون بقضايا النهضة العربيّة كثيراً ما يستعملون في التعبير عن الإسلام أو عن هذا الجانب أو ذاك من جوانب الفكر الإسلامي كلمة (تراث) (10) ذاهبين إلى أنّ هذا (التراث الإسلامي) ليس شأن عصرنا وليس شأن الإنسان العربي في هذا العصر، وإنّما هو شأن السلف وقد ورثناه عنهم، ومن المؤكَّد أنّه ليس من الصالح ولا من الراجح أنْ نأخذه كلّه لنتمثّله في حياتنا مناهج وتشريعات وقيماً؛ لأنّه معطّل معوّق لنموّ هذه الحياة المعاصرة وازدهارها، ولكن هل ننبذه كلّه فلا نعني بشيء منه ونحفظه كأثر من آثار تاريخنا، أو نُخْضِعُهُ لمقياس انتقائي نأخذ بموجبه من هذا (التراث) ما يتّفق مع حياتنا الحاضرة (والفكر المعاصر) وننبذ من هذا (التراث) ما لا يتوافق مع هذا (الفكر المعاصر) أو يخالفه.
ولكنّ هؤلاء المفكِّرين على خطأ فادح في هذه المسألة الهامّة، بل المصيريّة لا بالنسبة إلى العرب وحدهم، بل بالنسبة إلى المسلمين جميعاً.
إنّ الإسلام لا يزال حتّى الآن (فكر) المسلمين، والعرب منهم، وسيبقى فكر المسلمين جميعاً. ولم يبلغ الإسلام في قلوب وعقول المسلمين درجة من الضّمور والتقلّص أو الاندثار والنّسيان بحيث يكون (تراث) يحتاج إلى (إحياء) كالّذي حدث في أوروبا في عصر النّهضة بالنّسبة إلى التراث اليوناني - الروماني.
إنّ الإسلام لا يزال (حي) مملوءً بالحياة في قلوب وعقول المسلمين، ولا يزال قادراً على (تحريك) مئات الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم نحو أهدافه العظيمة النبيلة، وإذن فهو لا يزال (فكر) هذه المئات من الملايين من البشر، وإنّما لا (يحرِّكه) أو (لا تتحرك) وفقاً لمناهجه؛ بسبب وجود الموانع الخارجيّة القاهرة والمعوّقات الشالّة لحركة المسلمين من خلال إسلامهم، وهي قوى الحضارة المادّية الّتي استعمرتْ بلاد المسلمين، وأقصتْ الإسلام عن مركز القيادة وحلّت محلّه في هذا المركز.
وإذاً، فالإسلام ليس (تراث) ميتاً نختلف على (إحيائه) و (عدم إحيائه) أو (إحياء بعضه) ممّا يتلاءم مع عصرنا كما يقولون... إنّه (فكر حيّ) وما يدعوننا إليه هو (إماتة هذا الفكر الحيّ) لإحلال فكر آخر غريب محلّه، هو فكر الحضارة المادّيّة.
وقد أفلحتْ قوى الحضارة المادّيّة لا في (إماتة الإسلام) فهو لا يزال حيّاً كما قلنا، ولكن في فرض نفسها على حياة المسلمين الّذين يحملون في قلوبهم وعقولهم إسلاماً حيّاً قادراً على التحريك ولكنّه (ممنوع عن التحريك) وليس (عاجز) عنه.
واستمرار مفكِّرينا المتأثِّرين بهذه الحضارة المادّيّة في جهودهم لفرضها على واقع حياة المسلمين وعزل الإسلام عن هذه الحياة لن يؤدّي إلى (إماتة الإسلام) ، كما لنْ يؤدّي إلى (تحرير) المسلم أو العربي، وإنَّما يؤدّي إلى مزيدٍ من التمزّق الدّاخلي والأزمات الحضاريّة لإنسان ينقسم على نفسه، موزّع الذّات بين ضرورات حياته اليوميّة وبين قناعاته العقليّة والنفسيّة والأخلاقيّة والعاطفيّة.
وهذا ما يؤدّي - كما أدّى بالفعل في العالم الإسلامي كلّه ومنه العالم العربي - إلى فقدان الفعاليّة والإيجابيّة في مواجهة تحدّيات الحياة، ويؤدِّي من ثمّ إلى مزيد من التّخلّف والعجز عن مجاراة حركة التقدّم لدى الأمم الأخرى، وهكذا يسيء هؤلاء المفكّرون من حيث يحسبون أنّهم يُحْسِنُونَ صُنْعَاً، فبدلاً مِن إتاحة الفرصة أمام الإنسان العربي للتغلّب على مصاعبه وعوامل تخلّصه يُضيف هؤلاء المفكِّرون سبباً آخر للتخلّف يزيد الأمر سوءً؛ لأنّه يُقدَّم تحت شعار التقدّم، وهكذا يكون حال الإنسان العربي في هذه الحالة، حالة القطّ الّذي يلحس المِبْرَد الذي يغري لسانه وينزف دمه وهو يحسب أنّه يغذي نفسه بالمبرد الذّي يغريه في حقيقة الحال.
رأينا أنّ نُقدّم للبحث عن التّاريخ في مجال الفكر عند الإمام علي (عليه السلام) بهذا التمهيد؛ لشعورنا العميق:
- بخطورة هذه المسألة.
- وموقفنا من الفكر الإسلامي.
- وضرورة تصحيح النظرة السائدة إلى هذا الفكر الذي ملاك وجودنا كلّه.
(بَعثهُ والنّاسُ ضُلال فِي حَيرةً، وحاطِبُونَ (11) فِي فِتنةٍ، قدِ استهوتْهُمُ الأهواء، واستنزلتْهُمُ الكِبرِياءُ (12) ، واستخفَّتْهُمُ (13) الجاهِليّةُ الجهلاء. حيارى فِي زلزالٍ مِن الأمرِ وبلاءٍ مِن الجهلِ، فبالَغ صلّى الله عليه وآله فِي النّصِيحَةِ، ومضى على الطّرِيقة، ودعا إلى الحِكمَةِ والموعِظةِ الحسنَةِ) (14) .
وقال في نصّ ثالث:
(وأَشهدُ أنّ محمّداً عبدُهُ ورسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشهُورِ... والنّاسُ فِي فِتنٍ انجذمَ (15) فِيها حبلُ الدِّينِ، وتَزَعْزَعَتْ سَوارِي (16) اليقِنِ، واختلفَ النّجرُ (17) وتشتَّت الأمرُ، وضاقَ المَخْرَجُ وعمِيَ المصدَرُ، فالهُدى خامِل والعَمَى شامِل، عُصِي الرّحمانُ ونُصِرَ الشّيطانُ، وخُذِلَ الإيمَانُ، فانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وتنَكّرتْ معالِمُهُ، ودُرِسَتْ سُبُلُهُ، وعَفَتْ شُرُكُهُ (18) أطاعُوا الشّيطانَ فسلكُوا مسالِكَهُ، وَوَرَدُوا مناهِلهُ (19) ، بِهِم سارتْ أعلامُهُ، وقام لِواؤُهُ، فِي فِتنٍ داستْهُم بِأخفافِها، ووطِئتْهُم بِأَظلافِها وقامتْ على سَنابِكِها (2٠) فهُم فِيها تائهُون، حائرُون، جاهِلُون، مفتُونُون...) (2١) .
أشار الإمام في هذه النّصوص إلى وجوه الفساد الّتي كان يعاني منها العالم عشيّة بعثة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله)، وهي وجوه الفساد الكبرى في كلّ عصر وفي كلّ أُمّة، فإصلاحها هو وظيفة النّبوّة في حركتها الصاعدة منذ بدأتْ في مستهلّ التاريخ البشري، إلى أنْ خُتِمَتْ بمحمّد (صلّى الله عليه وآله):
الأوّل:
الضّلال في العقيدة: فَالنّاسُ ضُلال فِي حَيْرَةٍ... وَحاطِبُون فِي فتنَةٍ، وَهُم حائرونَ؛ لأنّه حيث لا يستقر الإنسان على عقيدة أو يؤدِّي به الفساد العام إلى عقيدة باطلة، فإنّه يشعر بالضياع ويشعر بانعدام الهدف... انعدام المعنى من وجوده، يشعر بالعبث حين يواجه نفسه بسؤال:
- مَن أنا؟
- لماذا أنا هنا؟
- ما المعنى لوجودي؟ ...
وهكذا يمضي هذا الإنسان الضائع في التماس الجواب حيث لا جواب؛ لأنّه (... بين مُشَبّه للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره).
الثّاني:
الفساد السياسي والاجتماعي، فالناس قد أوقعتْهم كبرياؤهم الّتي لا مبرّر لها في الزّلل والسّقوط الحضاري، فحملتْ أقوياءهم على احتقار ضعفائهم وفقرائهم... وخاصّتهم إلى الاستهانة بعامّتهم، فهانتْ كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، وغدا مقياس الكرامة خاضعاً لعوامل غير إنسانية: للثّروة، أو للقوّة، أو للنسب، وما إليها.
لقد غدا الناس - نتيجةً لذلك - مِلَلاً متفرِّقةً متناحرةً، لكلّ ملّة مذهب وطريق، ولكلّ فئة هوى واتِّجاه، ولكلّ فريق منهج وغاية، والكل مفتون برأيه، مأخوذ بهواه، يعمل على شاكلته.
والنّبوّة تعالج وجوه الفساد كلّها في الإنسان والمجتمع، في الرّوح وفي المادّة، والمؤسّسات؛ لتحقق الغاية العظيمة النبيلة، وهي تكوين الإنسان المتكامل.
وقد أعلن الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين هدفهم هذا على مدى التاريخ، كلّ واحد منهم في المحيط الذي بُعث إليه في الزّمان الّذي كان فيه.. إلى أنْ خُتمت النبوّة بمحمّد (صلّى الله عليه وآله) فكان هذا الهدف العظيم بحجم امتداد الرسالة الخاتمة في الزمان والمكان على مستوى البشريّة كلّها وعلى مدى المستقبل كلّه... إِلى نهاية الزمان:
(فبالغ - صلّى الله عليه وآله - في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة)...
(... فهداهم به من الضّلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة).
وقد أثمر جهد الأنبياء العظيم النبيل وجهادهم ومَن اتّبعهم وجرى على سُنَّتهم، أثمر تحقيق هذا الهدف العظيم الذي هو وضع الإنسانيّة على طريق التكامل.
وربّما كان هذا القول مثيراً للدّهشة والتّعجب، والتّساؤل:
كيف حقّق الأنبياء الكرام هدفهم هذا، ولم يؤمن بهم إِلاّ القليل، وأعرض عنهم أكثر الناس، بل حاربوهم ورفضوهم..؟
إنّ هدف النبوّة قد تحقق في كلّ عصر، وعلى عهد كلّ نبيّ في صورتين:
إحداهما:
فيمن آمن بالنّبيّ وصدّق به واتبع منهاجه، فالتزم في حياته العامة والخاصة بالعقيدة والشريعة اللّتين اشتملت عليهما رسالته.
والصّورة الأخرى:
تتمثّل في الجوّ الثّقافي والرّوحي العام الّذي أشاعتْه الرّسالة النّبويّة في المجتمع، نتيجةً لتبليغ النبيّ وأتْباعه، وللصراع الفكري والاجتماعي الّذي ولّدتْه الرّسالة في المجتمع، فإنّ هذا المناخ الثقافي يترك آثاره بلا شكّ على المفاهيم والمؤسّسات والقِيَم والقناعات الّتي تسود المجتمع، ويدفع بها نحو التغيير بصورة لا شعوريّة، فينتقل المجتمع إلى حالة أفضل في علاقاته وقِيَمِه ومؤسّساته وحوافز العمل فيه، وإنْ كان أكثر هذا المجتمع كافراً برسالة النّبيّ.
ومِن هنا كان الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين هم آباء الحضارة الإنسانيّة والمدنيّة الإنسانيّة. وما مِن خير بلغتْه وتمتَّعتْ به البشريّة في عقولها وأذواقها وقيمها ومؤسّساتها وحوافز العمل من أجل التقدّم المادِّي عندها إِلاّ وللأنبياء فيه فضل كبير؛ لأنّهم - على مدى التاريخ - أشاعوا بما بثّوه من الوحي الإلهي في الناس وحدة جديدة في كلّ مجتمع تنبثّ كالنّور... كالعافية فيه، فتضيء بدرجات متفاوتة مناطق الظُلْمة، وتلمس - بدرجات متفاوتة - مناطق البؤس والمرض فيه. وكان تأثير هذه الروح النبويّة متفاوتاً بنسبة مقاومة قوى الشر حين تعي درجة تأثير الخير النبوي، وبقاء هذا الخير حُرّاً في التأثير حين تغفل قوى الشرعيّة أو ترى لنفسها مصلحة فيه.
وهكذا، فَمِنْ هذا المنظور نفهم أنّ كلّ نبي قد هدى اللّه به الناس من الضّلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة. فهم صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين آباء الإنسانيّة الكرام، وآباء الحضارة العظام.
وهذا نصّ آخر يضيء به الإمام جانباً آخر من جوانب وظيفة النبوّة في نطاق الهدفَين العظيمَين:
قال عليه السّلام:
(قَد صُرِفَت نحوهُ أفئدةُ الأبرارِ، وثُنِيت إليهِ أزمَّةُ الأَبصارِ. دفنَ اللهُ بِهِ الضّغائنَ (22) وأَطفأ بِهِ الثَّوائرَ (23) . ألَّفَ بِهِ إخواناً، وفرَّقَ بِهِ أقراناً. أعزَّ بِهِ الذِّلّةَ، وأذَلَّ بِهِ العِزَّة) (24) .
في هذا النّصّ كشف الإمام عن عمل النبوّة في تغيير القِيَم السائدة في المجتمع، هذه القِيَم الّتي تحكم وتوجّه العلاقات داخل المجتمع بين فئاته وأفراده، وإبدالها بقِيَم أخرى متّسقة في طبيعتها مع طبيعة الرّسالة النبويّة؛ لأنّها مستمَدّة منها. وما يترتّب على ذلك من تغيّر في المفاهيم والقناعات، ومِن تبدّل في نوع العلاقات نتيجةً لتبدّل القِيَم الجاهليّة بالقِيَم النبويّة.
لقد ثُنيت أزمّة الأبصار نحو الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) كما كانت تثنى نحو كل نبيّ في مجتمعه؛ لأنّه قد أثار اهتمام الناس كلّهم، وأوجد هزّة راحت تنداح على المجتمع كلّه وتَنْفذ في أعماقه. وهذه الفكرة تضيء التحليل الّذي بيَّنّا فيه آنفاً أنّ أثر النبوّة الخيّرة لا يقتصر على المؤمنين بالنبي ورسالته وحدهم، وإِنّما يتعدّاهم ليشمل ببركاته المجتمع كلّه.
لقد أدّت القِيَم الجديدة الّتي جاء بها النّبيّ إِلى تغيير المفاهيم، ومِن ثمّ إِلى تغيير عميق وجذري في العلاقات الاجتماعيّة بين الأفراد والفئات، وإِلى إحداث التّبدّلات الاجتماعيّة.
لقد دُفنت به الضغائن؛ لأنّ أسباب تولّدها قد زالت، ومِن ثمّ فقد زالت أسباب تفجّرها فزالتْ الثوائر.
لقد نعم المجتمع كلّه بدرجة عالية من الاستقرار والطمأنينة، بعد أنْ انخفضت إلى أدنى الدرجات مظاهر العنف والتوتّر فيه؛ نتيجةً لتبدّل المفاهيم والقِيَم الّتي كانت سائدة فيه بمفاهيم وقِيَم أُخرى بثّتْها النبوّة.
وقد أدّت القِيَم الجديدة إلى إيجاد علاقات جديدة:
فألّف اللّه بالنبي... بالقِيَم الّتي بشّر بها وأذاعها في الناس، إخواناً في الإيمان، وفرّقت هذه القِيَم الإيمانيّة بين أقران اختلفت بهم الطريق حين هتف صوت النبوّة في المجتمع، فسلك بعضهم طريق الإيمان وبقي الآخر على طريقه القديمة، وقِيَمِهِ القديمة، طريق الجاهليّة وقِيَم الجاهليّة.
كما أدّت هذه القِيَم الجديدة إلى تغيير في المراتب الاجتماعيّة؛ لأنّ القِيَم القديمة التي كانت تجعل أساس الترتيب في البُنْية الاجتماعيّة بين الأشخاص أو الفئات متمثِّلاً:
- في المال.
- أو السلالة والنسب.
- أو القوّة الحربية... .
هذه القِيَم قد زالتْ وحلّت محلّها قِيْمَة جديدة غَدَتْ هي الأساس الّذي يقوم عليه الترتيب الاجتماعي، وهي التّقوى (25) ، ومِن ثمّ فقد أعزّ اللّه بالنبي... بالقِيَم الّتي جاء بها الذّلّة الّتي كانت تفرضها القِيَم الجاهليّة القديمة على الفقراء والمستضعَفين، وأذلّ به العزّة الّتي كانت تنشأ من قِيَم غير إيمانيّة.
من تاريخنا الإسلامي تحفل السيرة النبويّة بمئات من الشّواهد والنّماذج.
فالأذلاّء في الجاهليّة كـ (عمّار بن ياسر، وبلال الحبشي) غدوا أعزّاء في المجتمع الجديد؛ لأنّ القِيَم الجاهليّة الّتي كانت تفرض عليهم أنْ يكونوا أذلاّء في مرتبة اجتماعيّة متدنِّية قد زالت بالإسلام. وجاء الإسلام بقِيَم جديدة غيّرت موقعهم في المجتمع فجعلتْهم من النُخْبَة، والأعزّاء في الجاهليّة غدوا أذلاّء؛ لأنّ القِيَم الّتي كانوا يتّكئون عليها ويستمدّون منها اعتبارهم الاجتماعي ويتبوّؤن مركز النُخبة فيه... هذه القِيَم قد زالت بالإسلام وحلّت محلّها قِيْمة جديدة هي التقوى، وحيث إنّهم لم يتحلّوا بهذه القيمة الجديدة فقد غدوا من الأذلاّء.
وثمّة نصوص في نهج البلاغة تحدّث فيها الإمام عن حالة العرب بالنّسبة إلى تأثير النبوّة في أوضاعهم الحياتية والمعنوية.
ففي النص التالي صوّر أمير المؤمنين حالة المجتمع العربي الجاهلي عشيّة بعثة النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله)، في جميع وجوه حياته الّتي كان عليها من النّواحي الرّوحية والاجتماعيّة والأخلاقيّة: قال عليه السّلام:
(إنّ اللهَ بعثَ مُحمّداً (صلّى الله عليه وآله) نَذِيراً للعالَمِين، وأميناً على التَّنزيلِ، وأنتُم معشرَ العربِ على شرِّ دِينٍ وفِي شرِّ دارٍ مُنِيخون (26) بينَ حِجارَةٍ خُشنٍ وحيَّاتٍ صُمٍّ (27) تشربُون الكَدِر، وتأكُلُون الجشِبَ (28) ، وتسفِكُون دِماءكُم وتقطعُون أرحامكُم، الأصنام فِيكُم منصوبَة والآثامُ بِكم معصُوبة (29) ) (30) .
إنّهم كانوا على شرّ دينٍ.
كانت الأصنام فيهم منصوبة يتوجّهون إليها بالعبادة والضراعة، كانوا - إذن - وَثَنِيِّيْن، وكانت وثنيَّتهم - الّتي استعاروها من هنا وهناك - بدائيّة متخلِّفة خالية من الجمال الفنّي والذوق، إضافةً إلى خلوِّها - بطبيعة الحال - من كلّ مضمون روحي سليم، وكانوا في شر دارٍ.
كانت دارهم البادية القاحلة المُجْدِبَة، الّتي تفرض عليهم شروط حياة صعبة قاسية، جعلتْ من حياتهم سلسلة من الأخطار والمتاعب وألوان الحرمان.
وكانوا - بسبب ما هم عليه من إفلاس روحي؛ لأنّهم على شرّ دين، ومِن تخلّف في حياتهم المادّيّة؛ لأنهم في شرّ دار، بسبب هذا وذاك - كانوا على شرّ حال في حياتهم الاجتماعيّة وعلاقاتهم الإنسانيّة، فهم يقطعون أرحامهم، وهم يسفكون دماءهم.
وهم - بالإجمال - يكدحون باستمرار لتوفير حياة متخلِّفة، قاسية، فقيرة في الشكل والمضمون في ظلّ علاقات اجتماعيّة وإنسانيّة فاسدة.
في نصّ آخر يؤرخ الإمام للتغيير الّذي أدخلته النبوّة على حياة العرب، ويسجّل ملامح عامّة للحال الّتي انتقلوا منها وللحال الّتي صاروا إليها بعد الإسلام:
قال عليه السّلام:
(أمّا بعدُ فإنَّ الله سُبحانهُ بعثَ مُحمّداً (صلّى الله عليه وآله) وليس أحد مِن العربِ يقرأُ كِتاباً ولا يدّعِي نُبوَّةً ولا وَحْياً، فقاتلَ بِمَنْ أطاع مَنْ عصاهُ، يسُوقُهُم إلى منجاتِهِم، ويُبادِرُ بِهِمُ السّاعة أنْ تنزِلَ بِهِم يحسِرُ الحسِيرُ ويقِفُ الكسِيرُ (31) فَيُقِيم عليهِ حتّى يُلحِقهُ غايتهُ، إلا هالِكاً لا خير فيِهِ، حتَّى أرأهُم منجاتُهم (32) وبوّأهُم محلَّتَهُم (33) ، فاستدارَت رحاهُم (34) واستقامَت قناتَهُم) (35) .
كان العرب أمّيّين لا يقرؤون؛ ومِن ثمّ فقد كان الجهل سائداً فيهم، وكانوا بعيدي عهدٍ بالنبوّات ورسالات السماء؛ ومِن ثمّ فقد كانت حياتهم الروحيّة فقيرة هزيلة مشوّهة. وقد جهد رسول اللّه في إخراجهم من الظلمات... كلّ الظلمات: ظلمات الروح، والعقل، والحياة، إلى كلّ النور، من التخلّف إلى التقدّم، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن العمى الرّوحي إلى نعمة الإيمان الكبرى.
وبذلك بلغهم ساحل النجاة في الدنيا والآخرة.
وبذلك أعطاهم دوراً عالميّاً - بما هم مسلمون - يحملون فيه الهدى والنور والكرامة إلى جميع الأُمم، بعد أنْ كانوا كَمِّيَّة مهملة لا قيمة لها ولا قدر ولا دور.
وبذلك أعطاهم لين الحياة، وكرامة الحياة، واستقرار الحياة.
ولم تعد حياتهم قاسية صعبة، بل لقد استدارتْ رحاهم بالأرزاق.
ولم تَعُد حياتهم متوجِّسة متوحِّشة، بل لقد استقرّت واطمأنّت.
واستقامتْ قناتُهم، لم تَعُد مشرعة لأجل العدوان أو لأجل ردّ العدوان.
___________________
(1) سورة الفجر: (مكِّيّة رقم ٨٩) الآية ١٩.
(2) سورة الأعراف: (مكِّيّة / رقم ٧) الآية ١٦٩.
(3) سورة فاطر: (مكِّيّة / رقم ٣٥) الآية ٣٢.
(4) سورة الشورى: (مكِّيّة / رقم ٤٢) الآية: ١٤.
(5) (محمّد بن يعقوب الكليني) : الكافي ج ١ / ص ٣٤.
(6) نهج البلاغة: باب الحكم، رقم ٥٤ و١١٣.
(7) نهج البلاغة: باب الحكم / رقم ٥.
(8) نهج البلاغة: الخطبة رقم ٧٧.
(9) نهج البلاغة: الخطبة رقم ٣.
(10) نشير هنا إلى أنّ بعض دُور النَشْر الكبرى في بعض البلاد العربيّة، ومنها ما هو تابع لمؤسّسات ثقافيّة رسميّة، نَشَرَ كُتُبَاً في الفكر الإسلامي تحت عنوان (تراثنا) أو (سلسلة التراث) وغير ذلك من العناوين. هذا وعلينا أنْ ننبّه هنا إلى أنّه ليس كلّ من استعمل كلمة (تراث) في الدّلالة على الفكر الإسلامي يحمل على الفكر الإسلامي هذه النظرة، فثمّة مفكِّرون وباحثون مسلمون مخلصون استعملوا كلمة (تراث) في الدّلالة على الفكر الإسلامي دون أنْ يقصدوا بها موقفاً فكِّريّاً من (الفكر الإسلامي) يضعه في (التراث) بالمعنى الحضاري، وإنّما قصدوا بالتعبير مجرّد الدّلالة اللّغويّة.
(11) الحاطب: هو الّذي يجمع الحطب، يُقال لِمَنْ يأخذ بالصّواب والخطأ دون تمييز: (حاطب ليلٍ) ، شبّه للفتنة باللّيل الّذي تلتبس فيه الأشياء لظلامه، حيث إنّ الحق يلتبس فيها بالباطل.
(12) استزلَّتْهم: أوقعتهُم الكبرياءُ فِي الزّللِ والسّقوطِ، يعني بذلك فساد حياتهم الاجتماعيّة.
(13) استَخفَّتْهُم: جَعلتْهُم طائشينَ مُندفِعينَ وراء شهواتِهم الجسديّة والنفسيّة دون كابح ورادع.
(14) نهج البلاغة: رقم الخطبة: ٩٥.
(15) انجذم: انقطع.
(16) ا لسّارية: هي العمود، يدعم بها السقف، والجمع سوارٍ.
(17) النّجر: الأصل، ومثله: النجار.
(18) درست واندرست بمعنى زالت وانطمست. والشّرُك - بضم الرّاء - جمع شراك، وعفت شُرُكُهُ: بمعنى انطمستْ.
(19) المناهل: جمع منهل، مورد النهر.
(20) الأخفاف جمع خُفّ، وهو للبعير كالقدم للإنسان، و الأظلاف: جمع ظِلْف للبقر والشّاة. والسّنابك: جمع سُنبك: طرف الحافر.
(21) نهج البلاغة: رقم الخطبة: ٢.
(22) الضّغائن: الأحقاد المكتومة.
(23) الثّوائر: الأحقاد المتفجّرة في أعمال عدائيّة عُنْفِيّة ومعارك.
(24) نهج البلاغة: رقم الخطبة: ٩٦.
(25) في شرح مفهوم التقوى الإسلامي وبيان مكوّناته وأبعاده راجع كتابنا (دراسات في نهج البلاغة) فصل: المجتمع والطبقات الاجتماعيّة.
(26) منيخون: مقيمون.
(27) خشن: من الخشونة. والحيّات الصّم: أخبث أنواع الحيّات. كنى عن صعوبة مناخ البادية وقساوة العيش فيها.
(28) الكَدِر: الماء الذّي يخالطه الطين وغيره، والجَشب من الطعام: الغليظ الخشن، كناية عن بؤس حياتهم وفقرها، وانعدام وسائل الراحة فيها.
(29) - معصوبة: مشدودة، كناية عن استمرارهم على المعصية.
(30) نهج البلاغة: رقم الخطبة: ٢٦.
(31) الحسير: هو الّذي أصابه الإعياء والتعب.
والكسير: المكسور الّذي لا يقوى على السير، يريد أنّ النبي كان تحريضه على الإسلام وإشفاقه على المسلمين يلاحظ حال من حدثت عنده شبهة أو خالط قلبه ريب في الدّين فلا يزال يرشده برفق وحب حتى يزيل من قلبه الريب ويجلو عن عقله الشبهة.
(32) منجاتهم: ما به نجاتُهم وهو الإسلام.
(33) محلتهم: مركزهم في المجتمع العالمي، وكونهم ذوي رسالة عالميّة هي الإسلام.
(34) استدارة الرّحى : كناية عن وَفْرَة الأرزاق. واستقامة القناة: كناية عن صلاح الحال واستقرار الحياة.
(35) نهج البلاغة: رقم الخطبة: ١٠٤.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|