أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-09-2014
5655
التاريخ: 9-06-2015
5275
التاريخ: 17-12-2015
5200
التاريخ: 18-10-2015
5990
|
أنّ المسألة تكتسب توازنا أكبر حين نعيدها إلى خلفيات أوسع ترتبط بموقف الإمام من الفلسفة والعرفان. فالإمام لا يتبنّى الفلسفة كموقف مطلق وعلى طول الخطّ، بحيث تكون هي الصحيحة وحدها وفي جميع الدوائر، وعلى مدار حركة الإنسان، بل يؤمن بدورها في إطار منطقتها الخاصّة التي ترتبط غالبا باصول المعتقدات، ودورها البرهاني الذي تنهض به لا يتخطّى دائرة الإثبات وحسب. أمّا ما وراء دائرة الإثبات التي يختصّ بها العقل، فهناك دائرة الإيمان التي يكون رائدها القلب.
ثمّ إنّ للإمام لمحات في نقد الفلسفة خاصّة في إطارها اليوناني، وحتّى في إطارها المشائي داخل العصر الإسلامي نفسه.
و عند ما ننتقل إلى العرفان، فإنّ ذاكرتنا ممّا مرّ علينا في فصول متعدّدة من الكتاب، لا بدّ وأنّها تسعفنا بنقدات لاذعة وجّهها الإمام إلى هذا الخط محذّرا من الشطحات وجهالات الصوفية والتلبيسات. على أنّ العرفان ليس هدفا بحدّ ذاته خاصّة الجانب النظري منه، وكم حذّر الإمام منذ كتاباته الاولى مطلع شبابه حتّى رسائله العظيمة التي كتبها آخر حياته، من الانزلاق إلى الاطر النظرية ولغة الاصطلاح وجعل ذلك بديلا عن الغاية المنشودة، المتمثّلة في يقظة الإنسان، ولسيره على خطّ متكامل، وأن يكون كلّ شيء للّه وفي سبيله سبحانه.
لقد قدّم الإمام في أحد كتبه تفسيرا للآيات الاولى من سورة الحديد، فبلغ في هذا التفسير خلاصة تفيد بأنّه لا يسع الإنسان أن يركن إلى رأيه الخاص أو إلى الظهور العرفي في التعاطي مع المعارف التوحيدية المركوزة في القرآن والروايات وأدعية الأئمّة ومناجاتهم، وإنّ مثل هذا التصوّر لو حصل فهو محض وهم فارغ ووسوسة شيطانية، نصبها الشيطان كمينا للإنسان كي يصدّه عن المعارف ويؤصد أمامه أبواب الحكمة والمعرفة، ويدفعه إلى وادي الضلال والحيرة (1). عند ما بلغ الإمام هذه النقطة في منهج التعامل مع القرآن، شعر وكأنّ في كلامه تسويقا للفلسفة والعرفان ودعاية لهما، لذلك بادر إلى تصحيح هذا التصوّر وأنّه لا يهدف بتاتا الدعوة إلى الفلسفة والعرفان قدر ما يرى فيهما وسيلة وحسب، حيث أضاف قائلا :
«اللّه شهيد على ما أقول وكفى به شهيدا، إنّني لا أرمي من هذا الكلام التشجيع على الفلسفة التقليدية أو العرفان التقليدي وإذكاء جوّهما، بل المقصود دفع إخواني المؤمنين بخاصّة أهل العلم نحو معارف أهل البيت عليهم السّلام، وحثّهم على الالتفاف حول القرآن وأن لا يغفلوا عنه وينسوه. فالهدف الأساسي لبعث الرسل وإنزال الكتب، إنّما يتمثّل بالمقصد الأسمى المتجسّد بمعرفة اللّه؛ هذه المعرفة التي تتوفّر في ظلّها تمام سعادة الدنيا والآخرة» (2).
هذه النظرة التي تتعامل مع الفلسفة والعرفان في نطاق وظيفي بحت وبوصفهما وسيلة وحسب، تؤكّدها نصوص كثيرة اخرى يتجه فيها الإمام إلى نقد الشطحات ونزعات التراكم العلمي والاصطلاحي التي تنصب العرفان أو الفلسفة بوصفهما هدفين مطلوبين لنفسهما، وكذلك تعريض سماحته العنيف بذوي الادّعاءات الفارغة. العارف أولى الناس بمراقبة نفسه مراقبة شديدة، والتوغّل في تلافيفها الباطنية، حتّى لا تفلت أزمّتها من قبضته، ويتحوّل مساره إلى الضدّ تماما.
فمع غفلة هذا الإنسان وغياب الرقابة الدائمة «ربّما انزلق إلى مسلك الشياطين أو البهائم والسباع، وتحوّل ما ينبغي أن يكون رصيدا لكمال الإنسانية وبلوغ المراقي العالية إلى الضدّ وأعطى نتائج عكسية، وجرّ الإنسان إلى الشقاوة ودفعه نحو هاوية مظلمة، كما هو الحال في بعض أهل العرفان الاصطلاحي، حيث رأينا اناسا انتهت بهم هذه الاصطلاحات والغور فيها إلى الضلالة، وجعلت قلوبهم منكوسة وبواطنهم مظلمة، كما صارت ممارستهم للمعارف سببا لقوة أنانيّتهم وإنّيتهم، وصدرت منهم الدعاوى المشينة والشطحيات غير اللائقة» (3).
من الأمراض التي يتعرّض لها المنخرطون في هذا المسلك أكثر من غيرهم هو تضخّم الذات والتعالي على العباد، لذلك فهؤلاء على خطر عظيم، بحيث يكون الواحد منهم معرّضا لسقطات مريعة والرجوع القهقري سنوات. في تحليلات نفسية نافذة يحذّر الإمام من هذه الحالات، وهو يذكر أنّ إنسانا مثل هذا يقوده حبّ النفس إلى «الغفلة عن عيوبه ... وربما يعجب بنفسه ويتكبّر على عباد اللّه ويعدّ سائر الخلق بعيدين عن ساحة قدس الحقّ، ويرى نفسه من المقرّبين ومن خلّص عباد اللّه، وربما يبتلى بالرياء وسائر المفاسد العظيمة» (4).
كما قد يهوي الإنسان وهو يرد هذا الوادي بشباك المصطلح والتفنّن بضروب الألفاظ، بعد أن يحسب أنّ ذلك علم ينفعه فيما هو شراك يفرض بقيوده عليه فيخلد به إلى الأرض. وهذا ما حذّر منه الإمام، بقوله : «ثمّ طائفة اخرى اشتغلت بالكسب العلمي وبتحصيل المعارف علما، لكنّها اكتفت عن حقائق المعارف ومقامات أهل اللّه بالاصطلاحات والألفاظ والعبارات المنمّقة، وقيّدت نفسها وجمعا من المساكين [المتأثّرين بمسلكها أو المخدوعين بها] بسلسلة من الألفاظ والاصطلاحات، واقتنعت بالكلام بديلا عن جميع المقامات. ثمّ بين هؤلاء زمرة تعرف حقيقة نفسها، لكنّها اتخذت من هذه المصطلحات التي لا روح فيها وسيلة للارتزاق وكسب المعيشة والترؤّس على عدّة مساكين، حيث راحت تصيد القلوب الصافية لعباد اللّه بالألفاظ الخدّاعة والأقوال الجذّابة». ثمّ ينعطف الإمام لإصدار حكم عنيف ضدّ هؤلاء، وهو ينعتهم بقوله : «هؤلاء شياطين إنسية ضررهم على عباد اللّه ليس بأقلّ من إبليس اللعين ... هؤلاء غاصبوا منزل الحقّ [قلوب العباد] ومخرّبو الكعبة الحقيقة، ينحتون أوثانا وينصبونها في قلوب عباد اللّه، هذه القلوب التي هي الكعبة بل هي البيت المعمور، هؤلاء مرضى يتلبّسون بزي الطبيب ويبلون عباد اللّه بضروب الأمراض المهلكة» (5).
في رسائله التي كتبها آخر حياته ظلّ الإمام يطرق على الأوتار ذاتها، بلغة صريحة وواضحة، ففي إحداها وبعد أن حذّر من مغبّة الإنكار، عاد ليقول : «و لست أريد من قولي هذا الدفاع عن بعض ذوي الادّعاءات الجوفاء» (6). وعند ما طلبت منه السيّدة فاطمة طباطبائي (7) تعريفا بأسماء الكتب العرفانية، أجابها بالقول :
«ليكن سعيك في رفع الحجب لا بجمع الكتب. ثمّ أسألك، إذا اقتنيت الكتب العرفانية والفلسفية ورحت تحملينها من مكان إلى آخر، أو صرت أرشيفا للألفاظ والاصطلاحات وخدعت جلساءك في المحافل بعرض ما في جعبتك من المعلومات، وأثقلت ظهرك وأنت مخدوعة بخداع الشيطان والنفس الأمّارة التي تعد أشدّ خبثا من الشيطان، وأصبحت نتيجة مكر إبليس زينة المجالس، وتسرّب إليك لا سامح اللّه- غرور العلم والعرفان- ولا ريب أنّ ذلك سيحصل؛ أسألك هل إنّك ستقلّلين بهذه الأوزار الكثيرة من الحجب التي تعترضك أم إنّك ستزيدين فيها؟ لقد أنزل اللّه تعالى الآية الشريفة : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ } [الجمعة: 5] لتحذير العلماء إلى أنّ محض اختزان العلوم حتّى إذا كان من علوم الشرائع والتوحيد، لا يخفّف الحجب بل يزيدها» (8).
ما يحرص عليه الإمام هو التوازن في النظرة إلى العلوم ومناهج المعرفة في إطارها الوظيفي المحض، بحيث لا تتعدّى هذا الإطار فتنقلب إلى ضدّها، وتتحوّل إلى أوثان وغايات مطلوبة لذاتها، فيكون ضررها أكثر من نفعها. ومن ثمّ لا تعني تحذيرات الإمام المتتالية هذه الصدّ عن انتهال المعرفة، ودراسة العلوم بما في ذلك الفلسفة والعرفان، لذلك لا يلبث وأن يستدرك مذكّرا : «لا أقول ابتعدي عن العلم والعرفان والفلسفة واقضي عمرك بالجهل، فإنّ هذا انحراف، لكن أقول اجهدي أن يكون دافعك إلهيا، وإذا عرفت شيئا من العلم فليكن للّه ولتربية عباده، لا للرياء والتظاهر، فتصبحي- لا سامح اللّه- من علماء السوء الذين يؤذون أهل النار بريحهم النتنة» (9).
______________________
(1)- راجع : شرح چهل حديث : 660.
(2)- نفس المصدر.
(3)- آداب الصلاة : 21.
(4)- نفس المصدر : 89.
(5)- نفس المصدر : 168- 169.
(6)- المظاهر الرحمانية : 53.
(7)- زوجة السيّد أحمد الخميني، وقد صدرت لها دراسة تحليلية مقارنة عن« الحب» بين ابن عربي والإمام الخميني. راجع : حديث الحب، مصدر سابق.
(8)- المظاهر الرحمانية : 49- 50.
(9)- نفس المصدر : 50.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|