أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-9-2020
3828
التاريخ: 12-9-2020
5639
التاريخ: 13-9-2020
4092
التاريخ: 13-9-2020
3716
|
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [الأنبياء: 108 - 112]
{ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: مستسلمون منقادون لذلك بأن تتركوا عبادة غير الله وقيل معناه الأمر أي: أسلموا كقوله {فهل أنتم منتهون} أي: انتهوا .
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: أعرضوا ولم يسلموا {فقل آذنتكم} أي: أعلمتكم بالحرب {على سواء} أي: إيذانا على سواء إعلاما نستوي نحن وأنتم في علمه لا استيذانا به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم ومثله قوله فانبذ إليهم على سواء وقيل معناه أعلمتكم بما يجب الإعلام به على سواء في الإيذان لم أبين الحق لقوم دون قوم ولم أكتمه لقوم دون قوم وفي هذا دلالة على بطلان قول أصحاب الرموز وإن للقرآن بواطن خص بالعلم بها أقوام {وأن أدري} أي: وما أدري { أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } يعني أجل يوم القيامة فإن الله تعالى هوالعالم بذلك وقيل: معناه أذنتكم بالحرب ولا أدري متى أوذن فيه { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } أي: إن الله يعلم السر والعلانية {وإن أدري} أي وما أدري {لعله} كناية عن غير مذكور {فتنة لكم} أي: لعل ما أذنتكم به اختيار لكم وشدة تكليف ليظهر صنيعكم عن الزجاج وقيل لعل هذه الدنيا فتنة لكم عن الحسن وقيل لعل تأخير العذاب محنة واختبار لكم لترجعوا عما أنتم عليه .
{ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي: تتمتعون به إلى وقت انقضاء آجالكم {قل رب احكم بالحق} أي: فوض أمورك يا محمد إلى الله وقل يا رب احكم بيني وبين من كذبني بالحق قال قتادة كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا شهد قتالا قال رب احكم بالحق أي افصل بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق للجميع وقيل معناه: أحكم بحكمك الحق وهوإظهار الحق على الباطل {وربنا الرحمن} الذي يرحم عباده {المستعان} الذي يعينهم في أمورهم فجمع بين الرحمة والمعونة اللتين تضمنتا أصول النعم { عَلَى مَا تَصِفُونَ } من كذبكم وباطلكم في قولكم هل هذا إلا بشر مثلكم وقولكم اتخذ الرحمن ولدا وقيل: معناه وربنا الرحمن المستعان على دفع ما تصفون .
_______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص121-122.
{ قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . أمر اللَّه نبيه الكريم أن يقول للمشركين : ان اللَّه أوحى إليّ انه وحده لا شريك له في خلقه ولا في علمه ، وهذا الكون بعجائبه وقوانينه يشهد بوضوح على وحدانيته تعالى وقدرته وعظمته . . فلماذا لا تؤمنون به وتنقادون لأمره ؟ وكيف تزوغون عن عبادته إلى عبادة أحجار لا تنفع ولا تضر ؟
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ } . بعد ان لزمتهم الحجة بالتبليغ والانذار أمر اللَّه نبيه الكريم ان يقول لهم : لقد أديت ما علي ، وبلغتكم جميعا رسالات ربي ، ولم يبق لأحد منكم عذر يتعلل به { وإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ } .
أنا على يقين من عذابكم ، لأن اللَّه قد وعدكم به وحذركم منه ، ووعده تعالى أصدق الوعد ، وعذابه أشد العذاب ، ولكن لا أدري متى يكون ذلك ، وسواء أكان قريبا أم بعيدا فإنه له أجلا لا يعدوه ، فانتظروا اني معكم من المنتظرين.
{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ويَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ } . تقدم مثله في الآية 7 من سورة طه { وإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ ومَتاعٌ إِلى حِينٍ } . لست أدري ما هي الحكمة من إمهالكم وتأخير عذابكم ؟ هل أراد سبحانه بذلك ان يظهر كل على حقيقته ، فيتوب الطيب ، ويتمرد الخبيث ، أوانه أراد ان تستمتعوا أياما بقيت من أعماركم ؟ . اللَّه العالم ( قالَ » - محمد - « رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ) أي أظهره وانصر أهله على من كفر به ، وسخر منه وممن دعا إليه { ورَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ } أصنامكم بالألوهية ، ودعوتي بالافتراء .
أنت العزاء يا رسول اللَّه لكل بريء مفترى عليه . . ويا سعادة من تأسّى بك واقتص أثرك ، وقال للمفترين كما قلت : « ورَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ » .
_____________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص304-305.
قوله تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي إن الذي يوحى إلي من الدين ليس إلا التوحيد وما يتفرع عليه وينحل إليه سواء كان عقيدة أوحكما والدليل على هذا الذي ذكرنا ورود الحصر على الحصر وظهوره في الحصر الحقيقي.
قوله تعالى:{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} الإيذان - كما قيل - إفعال من الإذن وهو العلم بالإجازة في شيء وترخيصه ثم تجوز به عن مطلق العلم واشتق منه الأفعال وكثيرا ما يتضمن معنى التحذير والإنذار.
وقوله:{على سواء} الظاهر أنه حال من مفعول{آذنتكم} والمعنى فإن أعرضوا عن دعوتك وتولوا عن الإسلام لله بالتوحيد فقل: أعلمتكم أنكم على خطرها لكونكم مساوين في الإعلام أوفي الخطر، وقيل: أعلمتكم بالحرب وهو بعيد في سورة مكية.
قوله تعالى:{ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المأمور به.
والمراد بقوله:{ما توعدون} ما يشير إليه قوله:{آذنتكم على سواء} من العذاب المهدد به أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا أن يعلمهم الخطر إن تولوا عن الإسلام، وثانيا أن ينفي عن نفسه العلم بقرب وقوعه وبعده ويعلله بقصر العلم بالجهر من قولهم – وهو طعنهم في الإسلام واستهزاؤهم علنا - وما يكتمون من ذلك في الله سبحانه فهو العالم بحقيقة الأمر.
ومنه يعلم أن منشأ توجه العذاب إليهم هو ما كانوا يطعنون به في الإسلام في الظاهر وما يبطنون من المكر كأنه قيل: إنهم يستحقون العذاب بإظهارهم القول في هذه الدعوة الإلهية وإضمارهم المكر عليه فهددهم به لكن لما كنت لا تحيط بظاهر قولهم وباطن مكرهم ولا تقف على مقدار اقتضاء جرمهم العذاب من جهة قرب الأجل وبعده فأنف العلم بخصوصية قربه وبعده عن نفسك وأرجع العلم بذلك إلى الله سبحانه وحده.
وقد علم بذلك أن المراد بالجهر من القول ما أظهره المشركون من القول في الإسلام طعنا واستهزاء، وبما كانوا يكتمون ما أبطنوه عليه من المكر والخدعة.
قوله تعالى:{ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} من تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المأمور به وضمير{لعله} على ما قيل كناية عن غير مذكور ولعله راجع إلى الإيذان المأمور به، والمعنى وما أدري لعل هذا الإيذان الذي أمرت به أي مراده تعالى من أمره لي بإعلام الخطر امتحان لكم ليظهر به ما في باطنكم في أمر الدعوة فهو يريد به أن يمتحنكم ويمتعكم إلى حين وأجل استدراجا وإمهالا.
قوله تعالى:{ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} الضمير في{قال} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والآية حكاية قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن دعوتهم إلى الحق وردهم له وتوليهم عنه فكأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دعاهم وبلغ إليهم ما أمر بتبليغه فأنكروا وشددوا فيه أعرض عنهم إلى ربه منيبا إليه وقال:{رب احكم بالحق} وتقييد الحكم بالحق توضيحي لا احترازي فإن حكمه تعالى لا يكون إلا حقا فكأنه قيل: رب احكم بحكمك الحق والمراد ظهور الحق لمن كان وعلى من كان.
ثم التفت (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم وقال:{ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} وكأنه يشير به إلى سبب إعراضه عنهم ورجوعه إلى الله سبحانه وسؤاله أن يحكم بالحق فهو سبحانه ربه وربهم جميعا فله أن يحكم بين مربوبيه، وهو كثير الرحمة لا يخيب سائله المنيب إليه، وهو الذي يحكم لا معقب لحكمه وهو الذي يحق الحق ويبطل الباطل بكلماته فهو(صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمته:{ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} راجع الذي هو ربه وربهم وسأله برحمته أن يحكم بالحق واستعان به على ما يصفونه من الباطل وهو نعتهم دينهم بما ليس فيه وطعنهم في الدين الحق بما هو بريء من ذلك.
وقد ظهر بما تقدم بعض ما في مفردات الآية الكريمة من النكات كالالتفات من الخطاب إلى الغيبة في{قال} والتعبير عنه تعالى أولا بربي وثانيا بربنا وتوصيفه بالرحمن والمستعان إلى غير ذلك.
______________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص270-272.
النّبي رحمة للعالمين:
لمّا كانت الآيات السابقة قد بشّرت العباد الصّالحين بوراثة الأرض وحكمها، ومثل هذه الحكومة أساس الرحمة لكلّ البشر، فإنّ الآية الأُولى أشارت إلى رحمة وجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العامّة، فقالت: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فإنّ عامّة البشر في الدنيا، سواء الكافر منهم والمؤمن، مشمولون لرحمتك، لأنّك تكفّلت بنشر الدين الذي يُنقذ الجميع، فإذا كان جماعة قد إنتفعوا به وآخرون لم ينتفعوا، فإنّ ذلك يتعلّق بهم أنفسهم، ولا يخدش في عموميّة الرحمة.
وهذا يشبه تماماً أن يؤسّس جماعة مستشفى مجّهزة لعلاج كلّ الأمراض، وفيها الأطباء المهرة، وأنواع الأدوية، ويفتحوا أبوابها بوجه كلّ الناس بدون تمييز، أليست هذه المستشفى رحمة لكلّ أفراد المجتمع؟ فإذا إمتنع بعض المرضى العنودين من قبول هذا الفيض العام، فسوف لا يؤثّر في كون تلك المستشفى عامّة. وبتعبير آخر فإنّ كون وجود النّبي رحمة للعالمين له صفة المقتضى وفاعلية الفاعل، ومن المسلّم أنّ فعلية النتيجة لها علاقة بقابلية القابل.
إنّ التعبير بـ «العالمين» له إطار واسع يشمل كلّ البشر وعلى إمتداد الأعصار والقرون، ولهذا يعتبرون هذه الآية إشارة إلى خاتمية نبي الإسلام، لأنّ وجوده رحمة وإمام وقدوة لكلّ الناس إلى نهاية الدنيا، حتّى أنّ هذه الرحمة تشمل الملائكة أيضاً:
ففي حديث شريف مروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤيّد هذه العمومية، إذ نلاحظ فيه إنّ هذه الآية لمّا نزلت سأل النّبي جبرئيل فقال: «هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟» فقال جبريل: «نعم إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لمّا أثنى الله عليّ بقوله: عند ذي العرش مكين»(2).
وعلى كلّ حال، ففي دنيا اليوم حيث ينتشر الفساد والظلم والإستبداد في كلّ جانب، ونيران الحروب مستعرة في كلّ جهة، وأخذت قبضات الجبّارين العتاة بأنفاس المستضعفين المظلومين .. في الدنيا الغارقة في الجهل وفساد الأخلاق والخيانة والظلم والجور .. أجل في مثل هذه الدنيا سيتّضح أكثر فأكثر معنى كون النّبي رحمة للعالمين، وأي رحمة أسمى من أنّه أتى بدين إذا عُمل به فإنّه يعني نهاية كلّ المآسي والنكبات والأيّام السوداء؟
أجل، إنّه هو وأوامره، ودينه وأخلاقه كلّها رحمة، رحمة للجميع، وستكون عاقبة إستمرار هذه الرحمة حكم الصالحين المؤمنين في كلّ أرجاء المعمورة.
ولمّا كان أهمّ مظهر من مظاهر الرحمة، وأثبت دعامة لذلك هي مسألة التوحيد وتجليّاته، فإنّ الآية التالية تقول: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}؟
وهذه الآية في الواقع تشير إلى ثلاث نقاط مهمّة:
الأُولى: إنّ التوحيد هو الدعامة الأساسيّة للرحمة، وحقّاً كلّما فكّرنا أكثر فستّتضح هذه العلاقة أقوى، التوحيد في الإعتقاد، وفي العمل، والتوحيد في الكلمة، وتوحيد الصفوف، وفي القانون وفي كلّ شيء.
الثّانية: إنّه بمقتضى كلمة (أنّما) الدالّة على الحصر، فإنّ كلّ دعوات الأنبياء تتلخّص في أصل التوحيد، والمطالعات الدقيقة تبيّن أيضاً أنّ الاُصول، بل وحتّى الفروع والأحكام ترجع أخيراً إلى أصل التوحيد، ولذلك فإنّ التوحيد ـ وكما قلنا سابقاً ـ ليس أصلا من الاُصول وحسب، بل إنّه كالخيط القوي الذي يربط خرز المسبحة، أو الأصحّ أنّه كالروح السارية في البدن.
والنقطة الثّالثة: إنّ المشكلة الأساسيّة في جميع المجتمعات هي التلوّث بالشرك بأشكال مختلفة، لأنّ جملة {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} توحي بأنّ المشكلة الأساسيّة هي الخروج من الشرك ومظاهره، ورفع اليد عن الأصنام وتحطيمها، ليس الأصنام الحجرية والخشبية فحسب، بل كلّ الأصنام، وفي أي شكل كانت، وخاصّة طواغيت البشر!
ثمّ تقول الآية التالية: إنّهم إذا لم يذعنوا ويهتّموا لدعوتنا ونداءاتنا هذه {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ}.
«آذنت» من مادّة الإيذان، أي الإعلان المقترن بالتهديد، وجاء أحياناً بمعنى إعلان الحرب، لكن لمّا كانت هذه السورة قد نزلت في مكّة، ولم تكن هناك أرضية للجهاد، ولم يكن حكم الجهاد قد نزل، فيبدو من البعيد جدّاً أن يكون معنى هذه الجملة هنا إعلان الحرب، والظاهر أنّ النّبي أراد بهذا الكلام أن يعلن تنفّره وإبتعاده عن اُولئك، ويبيّن بأنّه قد يئس منهم تماماً.
وتعبير «على سواء» إمّا أن يكون إشارة إلى أنّي قد أنذرتكم جميعاً وحذّرتكم من العذاب الإلهي على حدّ سواء، لئلاّ يتصوّروا أنّ أهل مكّة أو قريشاً يختلفون عن الآخرين، وأنّ لهم عند الله فضلا أو كرامة. أو أنّه إشارة إلى أنّ النّبي قد بلّغهم جميعاً وبدون إستثناء.
ثمّ يبيّن هذا التهديد بصورة أوضح، فيقول بأنّي لا أعلم هل أنّ موعد عذابكم قريب أم بعيد: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} فلا تظنّوا أنّ هذا الوعيد بعيد، فربّما كان قريباً وقريباً جدّاً.
قد يكون المراد من العذاب والعقوبة هنا عذاب القيامة، أو عذاب الدنيا، أو كليهما، ففي الصورة الأُولى هو مختص بعلم الله، ولا يعلم أي أحد تاريخ وقوع القيامة بدقّة حتّى أنبياء الله، وفي الصورة الثّانية والثّالثة يمكن أن يكون إشارة إلى جزئياته وزمانه، وأنا لا أعلم بجزئياته، لأنّ علم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثل هذه الحوادث ليس له صفة فعليّة دائماً، بل له صفة إرادية أحياناً، أي ما دام لم يرد فهو لا يعلم(3).
ثمّ إنّكم لا ينبغي أن تتوهّموا أنّ عقوبتكم إذا تأخّرت فهذا يعني أنّ الله غير مطّلع على أعمالكم وأقوالكم، فهو يعلم كلّ شيء، فـ{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} فإنّ الجهر والإخفاء له معنى بالنسبة لكم حيث أنّ علمكم محدود عادةً، أمّا بالنسبة لمن لا حدود لعلمه، فإنّ الغيب والشهادة، والسرّ والعلن سواء لديه.
وكذلك إذا رأيتم أنّ العقوبة الإلهيّة لا تحيط بكم فوراً، فلا تظنّوا أنّ الله سبحانه غير عالم بعملكم، فلا أعلم لعلّه إمتحان لكم:{ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ثمّ يأخذكم أشدّ مأخذ ويعاقبكم أشدّ عقاب!
لقد أوضحت الآية في الواقع حكمتين لتأخير العذاب الإلهي:
الأُولى: مسألة الإمتحان والإختبار، فإنّ الله سبحانه لا يعجّل في العذاب أبداً حتّى يمتحن الخلق بالقدر الكافي، ويُتمّ الحجّة عليهم.
والثّانية: إنّ هناك أفراداً قد تمّ إختبارهم وحقّت عليهم كلمة العذاب حتماً، إلاّ أنّ الله سبحانه يوسّع عليهم النعمة ليشدّد عليهم العذاب، فإذا ما غرقوا في النعمة تماماً، وغاصوا في اللذائذ، أهوى عليهم بسوط العذاب ليكون أشدّ وآلم، وليحسّوا جيداً بألم وعذاب المحرومين والمضطهدين.
وتتحدّث آخر آية هنا ـ وهي آخر آية من سورة الأنبياء ـ كالآية الأُولى من هذه السورة عن غفلة الناس الجهّال، فتقول حكاية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عبارة تشبه اللعن، وتعكس معاناته (صلى الله عليه وآله وسلم) من كلّ هذا الغرور والغفلة، وتقول: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد مشاهدة كلّ هذا الإعراض {قال ربّ احكم بالحقّ}(4). وفي الجملة الثّانية يوجّه الخطاب إلى المخالفين ويقول: { وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
إنّه في الحقيقة ينبّه هؤلاء بكلمة (ربّنا) إلى هذه الحقيقة، وهي أنّنا جميعاً مربوبون ومخلوقون، وهو ربّنا وخالقنا جميعاً.
والتعبير بـ «الرحمن»، والذي يشير إلى الرحمة العامّة، يعيد إلى أسماع هؤلاء أنّ الرحمة الإلهية قد عمّت كلّ وجودنا، فلماذا لا تفكّروا لحظة في خالق كلّ هذه النعمة والرحمة؟
وتعبير {الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} يحذّر هؤلاء بأن لا تظنّوا أنّا وحيدون أمام جمعكم وكثرته، ولا تتصوّروا أنّ كلّ إتهاماتكم وأكاذيبكم، سواء كانت على ذات الله المقدّسة، أو علينا، ستبقى بدون جواب وجزاء، كلاّ مطلقاً، فإنّه تعالى سندنا ومعتمدنا جميعاً، وهو قادر على أن يدافع عن عباده المؤمنين أمام كلّ أشكال الكذب والإفتراء والإتّهام.
________________
1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص342-346.
2ـ مجمع البيان، ذيل الآية محل البحث.
3ـ كما ورد في كتاب الكافي في باب يتعلّق بهذا الشأن أيضاً.
4ـ لا شكّ أنّ حكم الله سبحانه بالحقّ دائماً، وعلى هذا فإنّ ذكر كلمة (بالحقّ) هنا له صبغة التوضيح.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|