أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-8-2020
3421
التاريخ: 18-8-2020
2484
التاريخ: 17-8-2020
3163
التاريخ: 13-8-2020
3783
|
قال تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوشَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُو إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون : 23 - 29] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)
ذكر قصة موسى وفرعون ليعتبروا بها فقال {ولقد أرسلنا موسى ب آياتنا} أي بعثناه بحججنا ودلالاتنا {وسلطان مبين} أي حجة ظاهرة نحو قلب العصا حية وفلق البحر {إلى فرعون وهامان وقارون} كان موسى رسولا إلى كافتهم إلا أنه خص فرعون لأنه كان رئيسهم وكان هامان وزيره وقارون صاحب كنوزه والباقون تبع لهم وإنما عطف وبالسلطان على الآيات لاختلاف اللفظين تأكيدا وقيل المراد بالآيات حجج التوحيد والعدل وبالسلطان المعجزات الدالة على نبوته {فقالوا ساحر} أي مموه {كذاب} فيما يدعو إليه .
{فلما جاءهم بالحق من عندنا} أي فلما أتاهم موسى بالتوحيد والدلالات عليه من عندنا وقيل المراد بالدين الحق {قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم} أي أمروا بقتل الذكور من قوم موسى لئلا يكثر قومه ولا يتقوى بهم وباستبقاء نسائهم للخدمة وهذا القتل غير القتل الأول لأنه أمر بالقتل الأول لئلا ينشأ منهم من يزول ملكه على يده ثم ترك ذلك فلما ظهر موسى عاد إلى تلك العادة فمنعهم الله عنه بإرسال الدم والضفادع والطوفان والجراد كما مضى ذكر ذلك ثم أخبر سبحانه أن ما فعله من قتل الرجال واستحياء النساء لم ينفعه بقوله {وما كيد الكافرين إلا في ضلال} أي في ذهاب عن الحق لا ينتفعون به .
{وقال فرعون ذروني أقتل موسى} أي قال لقومه اتركوني أقتله وفي هذا دلالة على أنه كان في خاصة فرعون قوم يشيرون عليه بأن لا يقتل موسى ويخوفونه بأن يدعو ربه فيهلك فلذلك قال {وليدع ربه} أي كما يقولون وقيل إنهم قالوا له هو ساحر فإن قتلته قبل ظهور الحجة قويت الشبهة بمكانه بل أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين وقوله {وليدع ربه} معناه وقولوا له ليدع ربه وليستعن به في دفع القتل عنه فإنه لا يجيء من دعائه شيء قاله تجبرا وعتوا وجرأة على الله .
{إني أخاف أن يبدل دينكم} إن لم أقتله وهوما تعتقدونه من إلهيتي {أو أن يظهر في الأرض الفساد} بأن يتبعه قوم ويحتاج إلى أن نقاتله فيخرب فيما بين ذلك البلاد ويظهر الفساد وقيل إن الفساد عند فرعون أن يعمل بطاعة الله عن قتادة فلما قال فرعون هذا استعاذ موسى بربه وذلك قوله {وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} أي إني اعتصمت بربي الذي خلقني وربكم الذي خلقكم من شر كل متكبر على الله متجبر عن الانقياد له لا يصدق بيوم المجازاة ليدفع شره عني .
ولما قصد فرعون قتل موسى وعظهم المؤمن من آله وهو قوله {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه} في صدره على وجه التقية قال أبوعبد الله (عليه السلام) التقية من ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له والتقية ترس الله في الأرض لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل قال ابن عباس لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك قال السدي ومقاتل كان ابن عم فرعون وكان آمن بموسى وهو الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقيل إنه كان ولي عهده من بعده وكان اسمه حبيب وقيل : اسمه حزبيل .
{أ تقتلون رجلا أن يقول ربي الله} وهو استفهام إنكار ولو قال أ تقتلون رجلا قائلا ربي الله لم يدل على أن القتل من أجل الإيمان لأن يقول يكون صفة لرجل نحو يقتلون رجلا قائلا ربي الله فموضع أن يقول نصب على أنه مفعول له {وقد جائكم بالبينات من ربكم} أي بما يدل على صدقه من المعجزات مثل العصا واليد وغيرهما .
{وإن يك كاذبا فعليه كذبه} إنما قال هذا وجه التلطف كقوله وإنا أو إياكم لعلى هدى أوفي ضلال مبين ومعناه إن يك كاذبا فعلى نفسه وبال كذبه {وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم} قيل إن موسى كان يعدهم بالنجاة إن آمنوا وبالهلاك إن كفروا وقال يصبكم بعض الذي يعدكم لأنهم إذا كانوا على إحدى الحالين نالهم أحد الأمرين فذلك بعض الأمر لا كله وقيل إنما قال بعض الذي يعدكم لأنه توعدهم أمرا مختلفة منها الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة فيكون هلاكهم في الدنيا بعض ما توعدهم به وقيل استعمل البعض في موضع الكل تلطفا في الخطاب وتوسعا في الكلام كما قال الشاعر :
قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون من المستعجل الزلل
وكأنه قال أقل ما فيه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفي ذلك البعض هلاككم وقال علي بن عيسى إنما قال {بعض الذي يعدكم} على المظاهرة بالحجاج أي أنه يكفي بعضه فكيف جميعه {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} أي لا يهدي إلى جنته وثوابه من هو مسرف على نفسه متجاوز عن الحد في المعصية كذاب على ربه ويجوز أن يكون هذا حكاية عن قول المؤمن ويجوز أن يكون ابتداء الكلام من الله تعالى .
ثم ذكرهم هذا المؤمن ما هم فيه من الملك ليشكروا الله على ذلك بالإيمان به فقال {يا قوم لكم الملك اليوم} أي لكم السلطان على أهل الأرض يعني أرض مصر اليوم {ظاهرين في الأرض} أي عالين فيها غالبين عليها قاهرين لأهلها {فمن ينصرنا من بأس الله} أي من يمنعنا من عذاب الله {إن جائنا} ومعناه لا تتعرضوا لعذاب الله بقتل النبي وتكذيبه فلا مانع لعذاب من عذاب الله إن حل بكم ف {قال فرعون} عند ذلك {ما أريكم إلا ما أرى} أي ما أشير عليكم إلا بما أراه صوابا وأرضاه لنفسي وقيل معناه ما أعلمكم إلا ما أعلم {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} وما أرشدكم إلا إلى ما هو طريق الرشاد والصواب عندي وهو قتل موسى والتكذيب به واتخاذي إلها وربا .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص435-438 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1)
تقدم الكلام عن موسى مرات ومرات ، وكنا نشير عند الآية اللاحقة إلى الآية السابقة واسم السورة ورقم الآية ، والآن عاد الحديث إلى قصة موسى ، وسيأتي أيضا . . وعند تفسير الآية 9 من سورة طه ج 5 ص 206 فقرة (تكرار قصة موسى) بيّنا السبب الموجب لهذا التكرار ، والآن نعطف على ما بيّناه هناك انه من غير البعيد ان كل آية ، وان تكررت ، فإنها تلقي أضواء جديدة قد خفيت علينا لأننا لم نتصدّ للبحث عنها ، أو لأننا لا نملك الموهبة التي تؤهلنا لإدراكها ، ومهما يكن فإن الجديد في هذه الآيات التي نحن الآن بصددها والتي بعدها هو الحديث عن مؤمن آل فرعون .
{ولَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وهامانَ وقارُونَ} . هامان وزير فرعون ، وقارون أغنى رجل في عصره ، وقيل : انه كان وزير المالية عند فرعون . . واللَّه سبحانه أرسل موسى لأهل زمانه كافة ، وخص بالذكر هؤلاء الثلاثة لأنهم أصل الفساد ومصدر الضلال ، ولو آمنوا لآمن الجميع {فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ} تماما كما قال الذين من قبلهم ومن بعدهم لمن جاءهم بالآيات والبينات .
{فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ} . أمر بقتل الذكور خوفا منهم ، وإبقاء الإناث للخدمة . . وتسأل :
لقد أصدر فرعون هذا الأمر من قبل أن يأتي موسى ، فما هو القصد من هذا التكرار ؟ .
وأجاب بعض المفسرين بأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى ، فلما بعث اللَّه موسى رسولا عاد فرعون إلى ما كان . . وهذا يحتاج إلى اثبات . وغير بعيد أن يكون الأمر الثاني بالقتل استمرارا للأول ، وانه لا يصح العدول عنه بحال .
{وما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} أي {ولا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ} - 43 فاطر . {وقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ولْيَدْعُ رَبَّهُ} . يومئ هذا إلى أن بعض رجال فرعون أشاروا عليه أن لا يقتل موسى مخافة أن يثأر رب موسى من قاتله . قال فرعون : {إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسادَ} . فرعون مصلح لأنه يقول : أنا ربكم الأعلى .
وما علمت لكم من إله غيري . . وموسى مفسد لأنه يدعو إلى تحرير الإنسان من عبادة الإنسان . . ولا بدع فهذا هو بالذات منطق الجبابرة الطغاة في كل زمان ومكان .
{وقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ} .
تعوّذ موسى باللَّه ممن جمع بين التكبر وعدم الخوف من اللَّه وحسابه وعقابه لأن أرذل الخلق على الإطلاق من جمع بين هاتين الرذيلتين .
{قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} . ان الحق لا يخلو من ناصر ، ولو بكلمة الإخلاص يجابه بها أهل الباطل والضلال . . هذا رجل من قوم فرعون آمن باللَّه عن صدق ويقين ، ولكنه كتم إيمانه خوفا على نفسه من القتل ، ولما أراد فرعون الشر بموسى دفعت به حرارة الايمان الخالص إلى أن يحذر ويستنكر ولكن بأسلوب العالم العاقل والناصح المشفق ، وقال فيما قال : ما ذا جنى هذا الرجل حتى استحق منكم القتل ؟ ألا أنه قال : ربي اللَّه ومعه الحجة القاطعة التي أفحمتكم وأعجزتكم كاليد البيضاء والعصا التي تلقف ما تأفكون ؟ .
وقال الشيخ المراغي في تفسيره ما نصه بالحرف : (الرجل المؤمن هو ابن عم فرعون وولي عهده وصاحب شرطته ، وهو الذي نجا مع موسى ، وهو المراد بقوله تعالى : {وجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى} - 20 يس . ويلاحظ بأنه قد سبق من الشيخ المراغي ان قال وهو يفسر سورة يس : ان هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة كان في عهد عيسى تماما كما قال غيره من المفسرين .
فمن الذي أحياه وجاء به إلى زمن عيسى وبينه وبين زمن موسى أكثر من 1200 سنة على أقل التقادير التي ذهب إليها المؤرخون ؟ . . ولكن العصمة لأهلها .
{وإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} . وما عليكم من تبعته شيء {وإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} سواء أقتلتموه أم تركتموه لشأنه . وقال المؤمن {بعض} الذي يعدكم ولم يقل {كل} لأن البعض كاف واف في الإهلاك {إِنَّ اللَّهً لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} . زعمتم انه كاذب ، فدعوه يلاقي من اللَّه جزاء الكاذبين ، وفيه إيماء إلى أن هذا الوصف ينطبق على فرعون ، وانه سيلاقي جزاء كذبه وإسرافه لا محالة .
{يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا} . ما زال الخطاب من المؤمن الصالح لقومه آل فرعون ، ومعناه :
أنتم الآن في أمن وأمان ، ولكم الملك والغلبة ، وهذه نعمة امتن بها اللَّه عليكم ، فلا تعرضوها للزوال بقتلكم من قال : اللَّه ربي . . ومن الذي ينجينا من بأسه تعالى إذا جاءنا بياتا أو نهارا ؟ .
والخلاصة ان مؤمن آل فرعون دافع عن موسى بالتي هي أحسن ، وجادل أعداء اللَّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فبرّأ أولا موسى من الذنب ، ثم أمّن ثانيا أعداءه من خطره وضرره ، ثم ذكّرهم ثالثا بنعمة اللَّه عليهم ، وحذرهم أن يبدلوها كفرا . . وقد استطاع هذا الأسلوب الحكيم أن يثني الطاغية عن عزمه وتصميمه على قتل موسى حتى {قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ} . وهذا القول من فرعون يشبه الاعتذار مما كان قد عزم عليه من قتل موسى والفضل في ذلك للمؤمن الناصح ، والمعنى اني ما أشرت بقتل موسى إلا بعد التدبر وإمعان النظر ، وما أردت بذلك إلا خيركم وصلاحكم .
____________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص446-449 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)
قوله تعالى : {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين} لعل المراد بالآيات الخوارق المعجزة التي أرسل بها كالعصا واليد وغيرهما وبالسلطان المبين السلطة الإلهية القاهرة التي أيد بها فمنعت فرعون أن يقتله ويطفىء نوره ، وقيل : المراد بالآيات الحجج والدلالات وبالسلطان معجزاته من العصا واليد وغيرهما ، وقيل : غير ذلك .
قوله تعالى : {إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب} فرعون جبار القبط ومليكهم ، وهامان وزيره وقارون من طغاة بني إسرائيل ذو الخزائن المليئة؟ وإنما اختص الثلاثة من بين الأمتين بالذكر لكونهم أصولا ينتهي إليهم كل فساد وفتنة فيهما .
قوله تعالى : {فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه} إلخ مقايسة بين ما جاءهم به موسى ودعاهم إليه وبين ما قابلوه به من كيدهم فقد جاءهم بالحق وكان من الواجب أن يقبلوه لأنه حق وكان ما جاء به من عند الله وكان من الواجب أن يقبلوه ولا يردوه فقابلوه بالكيد وقالوا ما قالوا لئلا يؤمن به أحد لكن الله أضل كيدهم فلم يصب المؤمنين معه .
ويشعر السياق أن من القائلين بهذا القول قارون وهومن بني إسرائيل ولا ضير فيه لأن الحكم بقتل الأبناء واستحياء النساء كان قبل الدعوة صادرا في حق بني إسرائيل عامة وهذا الحكم في حق المؤمنين منهم خاصة فلعل قارون وافقهم عليه لعداوته وبغضه موسى والمؤمنين من قومه .
وفي قوله : {الذين آمنوا معه} ولم يقل : آمنوا به إشارة إلى مظاهرتهم موسى في دعوته .
قوله تعالى : {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه} إلخ {ذروني} أي اتركوني ، خطاب يخاطب به ملأه ، وفيه دلالة على أنه كان هناك قوم يشيرون عليه أن لا يقتل موسى ويكف عنه كما يشير إليه قوله تعالى : { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الشعراء : 36] .
وقوله : {وليدع ربه} كلمة قالها كبرا وعتوا يقول : اتركوني أقتله وليدع ربه فلينجه من يدي وليخلصه من القتل إن قدر .
وقوله : {إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} تعليل لما عزم عليه من القتل وقد ذكر أنه يخافه عليهم من جهة دينهم ومن جهة دنياهم ، أما من جهة دينهم – وهو عبادة الأصنام - فأن يبدله ويضع موضعه عبادة الله وحده ، وأما من جهة دنياهم فكأن يعظم أمره ويتقوى جانبه ويكثر متبعوه فيتظاهروا بالتمرد والمخالفة فيئول الأمر إلى المشاجرة والقتال وانسلاب الأمن .
قوله تعالى : {وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} مقابلة منه (عليه السلام) لتهديد فرعون إياه بالقتل واستعاذة منه بربه ، وقوله : {عذت بربي وربكم} فيه مقابلة منه أيضا لفرعون في قوله : {وليدع ربه} حيث خص ربوبيته تعالى بموسى فأشار موسى بقوله : {عذت بربي وربكم} إلى أنه تعالى ربهم كما هو ربه نافذ حكمه فيهم كما هو نافذ فيه فله أن يقي عائذه من شرهم وقد وقى .
ومن هنا يظهر أن الخطاب في قوله : {وربكم} لفرعون ومن معه دون قومه من بني إسرائيل .
وقوله : {من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} يشير به إلى فرعون وكل من يشاركه في صفتي التكبر وعدم الإيمان بيوم الحساب ولا يؤمن ممن اجتمعت فيه الصفتان شر أصلا .
قوله تعالى : {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه} إلى آخر الآية .
ظاهر السياق أن {من آل فرعون} صفة رجل و{يكتم إيمانه} صفة أخرى فكان الرجل من القبط من خاصة فرعون وهم لا يعلمون بإيمانه لكتمانه إياهم ذلك تقية .
وقيل : قوله : {من آل فرعون} مفعول ثان لقوله : {يكتم} قدم عليه ، والغالب فيه وإن كان التعدي إلى المفعول الثاني بنفسه كما في قوله : { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } [النساء : 42] لكنه قد يتعدى إليه بمن كما صرح به في المصباح ، .
وفيه أن السياق يأباه فلا نكتة ظاهرة تقتضي تقدم المفعول الثاني على الفعل من حصر ونحوه .
على أن الرجل يكرر نداء فرعون وقومه بلفظة {يا قوم} ولولم يكن منهم لم يكن له ذلك .
وقوله : {أ تقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} إنكار لعزمهم على قتله ، وفي قوله : {من ربكم} دليل على أن في البينات التي جاء بها دلالة على أن الله ربهم أيضا كما اتخذه ربا فقتله قتل رجل جاء بالحق من ربهم .
وقوله : {وإن يك كاذبا فعليه كذبه} قيل : إن ذكره هذا التقدير تلطف منه لا أنه كان شاكا في صدقه .
وقوله : {وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم} فيه تنزل في المخاصمة بالاكتفاء على أيسر التقادير وأقلها كأنه يقول : وإن يك صادقا يصبكم ما وعدكم من أنواع العذاب ولا أقل من إصابة بعض ما يعدكم مع أن لازم صدقه إصابة جميع ما وعد .
وقوله : {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} تعليل للتقدير الثاني فقط والمعنى إن يك كاذبا كفاه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم لأنكم حينئذ مسرفون متعدون طوركم كذابون في نفي ربوبية ربكم واتخاذ أرباب من دونه والله لا يهدي من هو مسرف كذاب ، وأما على تقدير كذبه فلا ربوبية لمن اتخذه ربا حتى يهديه أولا يهديه .
ومن هنا يظهر أن ما ذكره بعضهم من كون الجملة تعليلا للتقديرين جميعا متعلقة بكلتا الجملتين غير مستقيم .
قوله تعالى : {يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا} ظهورهم غلبتهم وعلوهم في الأرض ، والأرض أرض مصر ، وبأس الله أخذه وعذابه والاستفهام للإنكار .
والمعنى : يا قوم لكم الملك حال كونهم غالبين عالين في أرض مصر على من دونكم من بني إسرائيل فمن ينصرنا من أخذ الله وعذابه كما يعدنا به موسى إن جاءنا؟ وقد أدخل نفسه فيهم على تقدير مجيء البأس ليكون أبلغ في النصح وأوقع في قلوبهم أنه يريد لهم من العافية ما يريده لنفسه .
قوله تعالى : {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} أي طريق الصواب المطابقة للواقع يريد أنه على يقين مما يهدي إليه قومه من الطريق وهي مع كونها معلومة له مطابقة للواقع ، وهذا كان تمويها منه وتجلدا .
______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص265-268 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)
ذروني أقتل موسى !!
بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى العاقبة الأليمة للأقوام السابقة ، فقد شرعت الآيات التي بين أيدينا بشرح واحدة من هذه الحوادث ، من خلال قصة موسى وفرعون ، وهامان وقارون .
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ قصة موسى(عليه السلام) مكررة في أكثر من سورة من سور القرآن الكريم ، ولكن التأمّل في هذه الموارد يظهر خطأ هذا التصوّر ، إذ يتبيّن أن القرآن يتطرف الى ذكر القصة في كلّ مرّة من زاوية معينة ، وفي هذه السورة يتعرض القرآن للقصة من زاوية دور «مؤمن آل فرعون» فيها . والباقي هو بمثابة أرضية ممهّدة لحكاية هذا الدور .
يقول تعالى {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين} .
أرسله تعالى : {إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذّاب} .
لقد ذكر المفسرون عدّة تفاسير في الفرق بين «الآيات» و«السلطان المبين» فالبعض اعتبر «الآيات» الأدلة الواضحة ، بينما «السلطان المبين» هي المعجزات .
والبعض الآخر اعتبر «الآيات» آيات التوراة ، بينما «السلطان المبين» المعجزات .
واحتمل البعض الثّالث أنّ «الآيات» تشمل كلّ معاجز موسى(عليه السلام) ، أمّا «السلطان المبين» فهو المعاجز الكبيرة كالعصا واليد البيضاء ، التي تسببت في غلبته الواضحة على فرعون .
ومنهم من اعتبر «الآيات» المعجزات ، بينما فسّرَ «السلطان المبين» بالسلطة القاهرة والنفوذ الإلهي لموسى(عليه السلام) والذي كان سبباً في عدم قتله وعدم فشل دعوته .
لكن الملاحظ أنّ هذه الآراء بمجموعها لا تقوم على أدلة قوية واضحة ، ولكن نستفيد من الآيات القرآنية الأُخرى أنّ «السلطان المبين» يعني ـ في العادةـ الدليل الواضح القوي الذي يؤدي إلى السلطة الواضحة ، كما نرى ذلك واضحاً في الآية (21) من سورة «النمل» أثناء الحديث عن قصة سليمان(عليه السلام) والهدهد حيث يقول تعالى على لسان سليمان : {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } [النمل : 20 ، 21] . فالسلطان المبين هنا هو الدليل الواضح للغيبة .
وفي الآية (15) من سورة الكهف قوله تعالى : {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف : 15] .
أمّا «الآيات» فقد وردت في القرآن مراراً بمعنى المعاجز .
وبناء على هذا فإنّ «آيات» في الآية التي نحن بصددها تشير إلى «معجزات موسى» بينما يشير «سلطان مبين» إلى منطق موسى (عليه السلام) القوي وأدلته القاطعة في مقابل الفراعنة .
إنّ موسى(عليه السلام) كان يزاوج بين منطق العقل ، وبين الأعمال الإعجازية التي تعتبر علامة كافية على ارتباطه بعالم الغيب وبالله تعالى ، ولكن في المقابل لم يكن للفراعنة من منطق سوى اتهامه بالسحر أو الكذب . لقد اتهموه بالسحر في مقابل الآيات والمعجزات التي أظهرها ، وكذّبوه مقابل منطقه واستدلاله العقلاني على الأمور . وهذا ما يؤيد الرأي الذي اخترناه في تفسير «آيات» و«سلطان مبين» .
وبالنسبة للطواغيت والفراعنة لا يملكون أصلا سوى منطق الإتهام ، وأُسلوب إطلاق الشبهات على رجال الحق ودعاته .
والذي يلفت النظر في الآية الكريمة إشارتها إلى ثلاثة أسماء ، كلّ واحد منها يرمز لشيء معين في سياق الحالة السائدة آنذاك ، والتي يمكن أن تجد مماثلاتها في أي عصر .
«فرعون» نموذج للطغاة والعصاة وحكّام الظلم والجور .
«هامان» رمز للشيطنة والخطط الشيطانية .
«قارون» نموذج للأثرياء البغاة ، والمستغلين الذين لا يهمهم أي شيء في سبيل الحفاظ على ثرواتهم وزيادتها .
وبذلك كانت دعوة موسى(عليه السلام) تستهدف القضاء على الحاكم الظالم ، والمخططات الشيطانية لرموز السياسة في حاشية السلطان الظالم ، وبتر تجاوزات الأثرياء المتستكبرين ، وبناء مجتمع جديد يقوم على قواعد العدالة الكاملة في المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية . ولكن من وقعت مصالحهُ اللامشروعة في خطر! قصدوا لمقاومة هذه الدعوة الإلهية .
الآية التي بعدها تتعرض إلى بعض مخططات هؤلاء الظلمة في مقابل دعوة النّبي موسى(عليه السلام) : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ } [غافر : 25] .
وما نستفيده من الآية هو أنّ قضية قتل الأبناء والإبقاء على النساء فقط لم يقتصر ـ كأُسلوب طاغوتي ـ على الفترة التي سبقت ولادة موسى(عليه السلام) فحسب ، وإنّما تمّ تكرار هذه الممارسة أثناء نبوة موسى(عليه السلام) ، فالآية (129) من سورة الأعراف تؤيد هذا الرأي ، حيث تحكي على لسان بني إسرائيل قولهم لموسى(عليه السلام) : {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} .
لقد صدر هذا القول عن بني إسرائيل بعد أن قام فرعون بقتل أبناء المؤمنين منهم بدعوة موسى(عليه السلام) .
وفي كلّ الأحوال ، يعبّر هذا الأُسلوب عن واحدة من الممارسات والخطط المشؤومة الدائمة للقدرات الشيطانية الظالمة التي تستهدف إبادة وتعطيل الطاقات الفعّالة ، وترك غير الفاعلين للإفادة منهم في خدمة النظام .
لقد كان «بنو إسرائيل» قبل موسى(عليه السلام) عبيداً للفراعنة ، لذلك لم يكن من العجيب أن تبادر سلطات فرعون بعد بعثة موسى(عليه السلام) وشيوع دعوته إلى اعتماد الخطة المعادية في قتل الأبناء واستحياء النساء ، بهدف الإنتقام والإبادة الشديدة لبني إسرائيل كي تتعطل فيهم عوامل الصمود والمقاومة .
ولكن ما هي نتيجة كلّ هذا الكيد؟
القرآن يجيب : {وما كيد الكافرين إلاّ في ضلال} .
أعمالهم سهام تطلق في ظلام الجهل والضلال فلا تصيب سوى الحجارة! لقد قضى الله تعالى بمشيئته أن ينتصر الحق وأهله ، وأن يزهق الباطل وأنصاره .
لقد اشتد الصراع بين موسى (عليه السلام) وأصحابه من جانب ، وبين فرعون وأنصاره من جانب آخر . ووقعت حوادث كثيرة ، لا يذكر القرآن عنها كثيراً في هذه الفقرة ، ولتحقيق هدف خاص يذكر القرآن أنّ فرعون قرّر قتل موسى(عليه السلام) لمنع انتشار دعوته وللحيلولة دون ذيوعها ، لكنّ المستشارين من «الملأ» من القوم عارضوا الفكرة .
يقول تعالى : {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وَليدع ربّه} .
نستفيد من الآية أنّ أكثرية مستشارية أو بعضهم على الاقل كانوا يعارضون قتل موسى ، لخوفهم أن يطلب(عليه السلام) من ربّه نزول العذاب بساحتهم ، لما كانوا يرون من معجزاته وأعماله غير العادية ، إلاّ أنّ فرعون ـ بدافع من غروره ـ يصر على قتله مهما تكن النتائج .
وبالطبع ، فإنّ سبب امتناع «الملأ» عن تأييد فكرة فرعون في قتل موسى غير معلوم ، فهناك احتمالات كثيرة قد يكون بعضها أوكلّها صحيحة . . . .
فقد يكون الخوف من العذاب الإلهي ـ كما احتملنا ـ هو السبب .
وقد يكون السبب خشية القوم من تحوّل موسى(عليه السلام) بعد استشهاده إلى هالة مقدّسة ، وهو ممّا يؤدي إلى زيادة عدد الأتباع والمؤمنين بدعوته ، خاصة إذا ما وقعت حادثة قتله بعد قضية لقاء موسى مع السحرة وانتصاره الإعجازي عليهم .
وما يؤكّد هذا المعنى هو أنّ موسى جاء في بداية دعوته بمعجزتين كبيرتين (العصا واليد البيضاء) وقد دعا هذا الأمر فرعون إلى أن يصف موسى(عليه السلام) بالساحر ، وأن يدعوه للمنازلة مع السحرة في ميقات يوم معلوم (يوم الزينة) وكان يأمل الإنتصار على موسى(عليه السلام) عن هذا الطريق ، لذا بقي في انتظار هذا اليوم .
وبمشاهدة هذا الوضع ينتفي احتمال أن يكون فرعون قد صمّم على قتل موسى قبل حادث يوم الزينة خشية من تبدّل دين أهل مصر (2) .
خلاصة القول : إنّ هؤلاء يعتقدون أنّ موسى(عليه السلام) مجرّد حادث صغير ومحدود ، بينما يؤدي قتله في مثل تلك الظروف إلى أن يتحول إلى تيار . . . تيارٌ كبير يصعب السيطرة عليه .
البعض الآخر من المقربين لفرعون ممّن لا يميل إليه ، كان يرغب ببقاء موسى (عليه السلام) حياً حتى يشغل فكر فرعون دائماً ، كي يتمكن هؤلاء من العيش بارتياح بعيداً عن عيون فرعون ، ويفعلون ما شاؤوا من دون رقابته .
وهذا الأمر يعبّر عن «سليقة» في بلاط السلاطين ، إذ يقوم رجال الحاشية ـ من هذا النوع ـ بتحريك بعض أعداء السلطة حتى ينشغل الملك أو السلطان بهم ، وليأمنوا هم من رقابته عليهم ، كي يفعلوا ما يريدون!
وقد استدل فرعون على تصميمه في قتل موسى(عليه السلام) بدليلين ، الأوّل ذو طابع ديني ومعنوي ، والآخر ذو طابع دنيوي ومادي ، فقال الأول ، كما يحكي القرآن ذلك : (إنّي أخاف أن يبدّل دينكم) .
وفي الثّاني : {أو أن يظهر في الأرض الفساد} .
فإذا سكتّ أناوكففت عن قتله ، فسيظهر دين موسى وينفذ في أعماق قلوب أهل مصر ، وستتبدل عبادة الأصنام التي تحفظ منافعكم ووحدتكم; وإذا سكتّ اليوم فإنّ الزمن كفيل بزيادة أنصار موسى(عليه السلام) وأتباعه ، وهو أمرٌ تصعب معه مجاهدته في المستقبل ، إذ ستجر الخصومة والصراع معه إلى إراقة الدماء والفساد وشيوع القلق في البلاد ، لذا فالمصلحة تقتضي أن أقتله أسرع ما يمكن .
بالطبع ، لم يكن فرعون يقصد من الدين شيئاً سوى عبادته أو عبادة الأصنام ، وهذا الأسلوب في استخدام لباس الدين واسمه وتبنّي شعاراته ، يستهدف منه السلطان (فرعون) تحذير الناس وتجهيلهم من خلال إعطاء طابع الدين على مواقفه وكيانه وسلطته .
أمّا الفساد فهومن وجهة نظر فرعون يعني الثورة ضدّ استكبار فرعون من أجل تحرير عامّة العباد ، ومحو آثار عبادة الأصنام ، وإحياء معالم التوحيد ، وتشييد الحياة على أساسها .
إنّ استخدام لباس الدين ورفع شعاراته ، وكذلك «التدليس» على المصلحين بالإتهامات ، هما من الأساليب التي يعتمد هما الظلمة والطغاة في كلّ عصر ومصر ، وعالمنا اليوم يموج بالأمثلة على ما نقول !
والآن لنر كيف كان رد فعل موسى(عليه السلام) والذي يبدو أنّه كان حاضر المجلس ؟
يقول القرآن في ذلك : {وقال موسى إنّي عذت بربي وربكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} .
قال موسى(عليه السلام) هذا الكلام بقاطعية واطمئنان يستمدان جذورهما من إيمانه القوي واعتماده المطلق على الله تعالى ، وأثبت بذلك بأنّه لا يهتز أو يخاف أمام التهديدات .
ويستفاد من قول موسى(عليه السلام) أيضاً أنّ من تحل فيه صفتا «التكبر» و«عدم الإيمان بيوم الحساب» فهو إنسان خطر ، علينا أن نستعيذ بالله من شرّه وكيده .
فالتكبر يصبح سبباً لأن لا يرى الإنسان سوى نفسه وسوى أفكاره ، فهو يعتبر كما في حال فرعون ـ الآيات والمعجزات الإلهية سحراً ، ويعتبر المصلحين مفسدين ، ونصيحة الأصدقاء والمقربين ضعفاً في النفس .
أمّا عدم الإيمان بيوم الحساب فيجعل الإنسان حراً طليقاً في أعماله وبرامجه ، لا يفكر بالعواقب ، ولا يرى لنفسه حدوداً يقف عندها ، وسيقوم بسبب انعدام الضوابط وفقدان الرقابة بمواجهة كلّ دعوة صالحة ويحارب الأنبياء .
ولكن ماذا كان عاقبة تهديد فرعون ؟
الآيات القادمة تنبئنا بذلك ، وتكشف كيف استطاع موسى (عليه السلام) أن يفلت من مخالب هذا الرجل المتكبر المغرور .
وقوله تعالى : {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } [غافر : 28 ، 29] .
أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله !
مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تأريخ موسى(عليه السلام) وفرعون ، لم تطرح في أي مكان آخر من القرآن الكريم . المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة «مؤمن آل فرعون» الذي كان من المقربين إلى فرعون ، ولكنّه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا ، وإنّماتكتم عليه واعتبر نفسه .
من موقعه في بلاط فرعون ـ مكلفاً بحماية موسى (عليه السلام) من أي خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أومن جلاوزته .
فعندما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون ، بادر بأسلوبه المؤثر للقضاء على هذا المخطط .
يقول تعالى : {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله} .
أتقتلوه في حين أنّه : {وقد جاءكم بالبينات من ربّكم} .
هل فيكم من يستطيع أن ينكر معاجزه ، مثل معجزة العصا واليد البيضاء؟ ألم تشاهدوا بأعينكم انتصاره على السحرة ، بحيث أن جميعهم استسلموا له وأذعنوا لعقيدته عن قناعة تامة ، ولم يرضخوا لا لتهديدات فرعون ووعيده ، ولا لإغراءاته وأمنياته ، بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق; في سبيل دعوة موسى ، وإله موسى . . . هل يمكن أن نسمّي مثل هذا الشخص بالساحر؟
فكروا جيداً ، لا تقوموا بعمل عجول ، تحسّبوا لعواقب الأُمور وإلاّ فالندم حليفكم .
ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين : {وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم} .
إنّ حبل الكذب قصير ـ كما يقولون ـ وسينفضح أمره في النهاية إذا كان كاذباً ، وينال جزاء الكاذبين ، وإذا كان صادقاً ومأُموراً من قبل السماء فإنّ توعده لكم بالعذاب حاصل شئتم أم أبيتم ، لذا فإنّ قتله في كلا الحالين أمر بعيد عن المنطق والصواب .
ثم تضيف الآيات : {إنّ الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذّاب} .
فإذا كان موسى سائراً في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية ، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته .
ولنا أن نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة برغم أنّها تحمل معنيين إلاّ أن «مؤمن آل فرعون» يهدف من خلالها إلى توضيح حال الفراعنة .
والتعبير الذي يليه يفيد أنّ فرعون ، أو بعض الفراعنة ـ على الأقل ـ كانوا يؤمنون بالله ، وإلاّ فإن تعبير «مؤمن آل فرعون» في خلاف هذا التأويل سيكون دليلا على إيمانه بإله موسى (عليه السلام) وتعاونه مع بني إسرائيل ، وهذا ما لا يتطابق مع دوره في تكتمه على إيمانه ، ولا يناسب أيضاً مع أسلوب «التقية» التي كان يعمل بها .
وبالنسبة للتعبير الآنف الذكر {وإن يك كاذباً . . . } فقد طرح المفسّرون سؤالين :
الأوّل : إذا كان موسى(عليه السلام) كاذباً ، فإنّ عاقبة كذبه سوف لن تقتصر عليه وحسب ، وإنّما سوف تنعكس العواقب السيئة على المجتمع برمته .
الثّاني : أما لوكان صادقاً ، فستتحقق كلّ تهديداته ووعيده لا بعض منها ، كما في تعبير «مؤمن آل فرعون»؟
بالنسبة للسؤال الأول ، نقول : إنّ المراد هو معاقبة جريمة الكذب التي تشمل شخص الكذّاب فقط ويكفينا العذاب الالهي لدفع شرّه . وإلاّ فكيف يمكن لشخص أن يكذب على الله ، ويتركه سبحانه لشأنه كي يكون سبباً لإضلال الناس وإغوائهم؟
وبالنسبة للسؤال الثّاني ، من الطبيعي أن يكون قصد موسى(عليه السلام) من التهديد بالعذاب ، هو العذاب الدنيوي والأخروي ، والتعبير بـ «بعض» إنّما يشير إلى العذاب الدنيوي ، وهو الحد الأدنى المتيقّن حصوله في حالة تكذيبكم إيّاه .
وفي كلّ الأحوال تبدو جهود «مؤمن آل فرعون» واضحة في النفود بشتى الوسائل والطرق إلى أعماق فرعون وجماعته لتثنيهم عن قتل موسى(عليه السلام) .
ونستطيع هنا أن نلخص الوسائل التي اتبعها بما يلي :
أوضح لهم أولا أنّ عمل موسى(عليه السلام) لا يحتاج إلى ردّة فعل شديدة كهذه .
ثم عليكم أن لا تنسوا أنّ الرجل يملك «بعض» الأدلة ، ويظهر أنّها أدلة معتبرة ، لذا فإنّ محاربة مثل هذا الرجل تعتبر خطراً واضحاً .
والموضوع برمته لا يحتاج إلى موقف منكم ، فإذا كان كاذباً فسينال جزاءه من قبل الله ، ولكن يحتمل أن يكون صادقاً ، وعندها لن يتركنا الله لحالنا .
ولم يكتف «مؤمن آل فرعون» بهذا القدر ، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلين وحكمة ، حيث قال لهم كما يحكي ذلك القرآن من أنّه قال لهم أن بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها ونعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي . (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) .
ويحتمل أن يكون غرضه : إنكم اليوم تملكون كلّ أنواع القوّة ، وتستطيعون اتخاذ أي تصميم تريدونه اتجاه موسى (عليه السلام) ، ولكن لا تغرنكم هذه القوّة ، ولا تنسوا النتائج المحتملة وعواقب الأُمور .
ويظهر أنّ هذا الكلام أثر في حاشية فرعون وبطانته ، فقلّل من غضبهم وغيظهم ، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع ، فقطع الكلام بالقول : {قال فرعون ما أريكم إلاّ ما أرى} وهو إنّي ارى من المصلحة قتل موسى ولا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل .
ثمّ إنني : {وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد} .
وهذه هو حال كافة الطواغيت والجبّارين على طول التأريخ ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره ، ولا يسمحون لأحد في إبداء وجهة نظر مخالفة لما يقولون ، فهم يظنون أن عقلهم كامل ، وأن الآخرين لا يملكون علماً ولا عقلا . . . وهذا هو منتهى الجهل والحماقة .
___________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص56-64 .
2 ـ ورد في تفسير الميزان عند الحديث عن الآية (36) من سورة الشعراء : (قالوا أرجه وأخاه) إنّ الآية دليل على أنّ هناك مجموعة منعت فرعون من قتل «موسى» (عليه السلام) إلاّ أنّ التدقيق في الآيات الخاصة بقصة موسى تظهر أنّه لم تكن هناك نية لقتله في ذلك الوقت ، وإنّما كان الهدف اختبار النوايا لمعرفة الصادق من الكاذب ، أما التصميم على القتل فقد كان بعد حادثة السحرة وانتصار موسى (عليه السلام) عليهم ونفوذ تأثيره في أعماق قلوب أهل مصر ، حيث خشي فرعون العواقب .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|