أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-9-2016
1128
التاريخ: 5-9-2016
1460
التاريخ: 19-7-2020
2102
التاريخ: 5-9-2016
1016
|
[آية النبأ من جملة الآيات التي استدلّ بها على الجواز]
أمّا حجج المجوّزين فالأدلّة الأربعة، أمّا الكتاب فآيات، ومن جملة الآيات التي استدلّ بها على الجواز آية النبأ وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
تقريب الاستدلال بهذه الآية يكون من ثلاثة وجوه:
الأوّل: بمفهوم الشرط، فإنّ مفهومه أنّه: إن لم يجئكم فاسق النبإ فلا يجب التبيّن، يعني إن جاءكم عادل به فلا يجب التبيّن، وهذا الوجه على ما قرّره القدماء محتاج إلى ضمّ مقدّمة اخرى وهي أنّه بعد نفي وجوب التبيّن في خبر العادل بمقتضى المفهوم إمّا يردّ بدون التبين، وإمّا يقبل كذلك، وحيث إنّ الأوّل باطل؛ إذ يلزم أن يكون العادل أسوأ حالا من الفاسق، فيتعيّن الثاني وهو المطلوب، لكن قد كفانا مئونة هذه المقدّمة شيخنا المرتضى جزاه اللّه خيرا ببيان: أن ليس المراد في الآية الوجوب النفسي للتبيّن، بل المراد الوجوب الشرطي؛ إذ من المعلوم أنّه لا يجب علينا تفتيش الحال عند كلّ خبر يخبره فاسق في العالم، بل المقصود أنّه يجب التبيّن عند خبر الفاسق للعمل، فلا يجوز العمل بدون التبيّن.
فيصير المفهوم على هذا أنّه يصحّ العمل في خبر العادل بدون التبيّن، وهو المطلوب، فإنّ مفاد المنطوق على هذا يصير هكذا: إن جاءكم فاسق بنبإ فيشترط في صحّة العمل بمضمون هذا النبأ الفحص والوصول إلى صدق هذا المضمون، فيصير المفهوم هكذا: إن جاءكم غير الفاسق بنبإ فلا يشترط في صحّة العمل التبيّن وتحصيل العلم، ومعنى نفي الاشتراط هو الإطلاق وهو المطلوب.
لا يقال: يلزم اللغوية في الشرطيّة؛ إذ المحصّل أنّ العمل بخبر الفاسق مشروط بالعلم، والحال أنّه مع العلم يكون العمل به لا بخبر الفاسق.
فإنّا نقول: المقصود أنّ العمل بمضمون هذا النبأ مشروط بالعلم، وهذا لا يلزم منه لغويّة كما هو واضح.
هذا مضافا إلى ما ذكره قدّس سرّه أيضا من أنّه: لو كان المراد الوجوب النفسي لما تمّ الاستدلال بالآية أصلا، فإنّه على هذا يكون مفاد المنطوق مطلوبيّة التبيّن عند خبر الفاسق لإظهار فسقه وتفضيحه، والمفهوم أنّ خبر العادل لا يجب التبيّن عنده لأجل احترامه.
وأنت خبير بأنّ هذا ساكت عن مقام العمل رأسا، فيكون اجنبيّا عن المقام بالمرّة ولا يلزم أسوئيّة حال العادل أيضا، بل يلزم أحسنيّته كما هو واضح، وأمّا بحسب مقام العمل فيمكن توقّفه على التبيّن في كليهما وعدم جوازه قبله فيهما، وبالجملة، بعد وضوح أنّ المراد هو الوجوب الشرطي فالأمر سهل.
والوجه الثاني: هو التمسّك بمفهوم الوصف بأن يكون النظر إلى مجرّد تعليق الحكم على وصف الفسق، فكما أنّ قولنا: أهن الفاسق يدّل بحسب المفهوم على عدم وجوب الإهانة في غير الموصوف، فكذا في المقام حيث وجب التبيّن في خبر الفاسق يدّل بالمفهوم على عدم وجوبه في خبر غير الموصوف.
والوجه الثالث: هو التمسّك بمناسبة وصف الفسق لوجوب التبيّن، وهذا أقوى من مفهوم الوصف؛ فإنّ المفهوم دائر مدار استفادة حصر العليّة من تعليق الحكم على الوصف وإن لم يعلم مناسبة بينهما، بل الملحوظ مجرّد الوصف، وأمّا هنا فيبتني استفادة العليّة على أمرين، الأوّل: درك المناسبة بينه وبين الحكم مثل: أكرم العالم وأهن الفاسق، وتبيّن في خبر الفاسق، والثاني: كون الوصف عرضيّا وطارئا على الذات، فإنّه يستفاد من ذلك عليّة الوصف ولو لم يستفد حصرها الذي هو مبنى أخذ المفهوم؛ إذ لو كان للذات اقتضاء لكان التعليل بالوصف لغوا، بل لزم جعل الحكم معلّلا بالذات، لكونه أقدم رتبة من الوصف، وإن فرض اقتضاء للوصف أيضا، مثلا لو قيل: أكرم الرجل العالم، فالعالميّة وإن كان لها اقتضاء وجوب الإكرام، لكن لو كان للرجوليّة أيضا اقتضائه لكان اللازم جعل الوجوب معلّلا بالرجوليّة، لأنّه موضوع والعلم محموله، ورتبة الموضوع مقدّم على محموله.
والحاصل: أنّ مبنى الوجه الثاني على مجرّد تعليق الحكم على الوصف وأنّه يفيد العليّة مع الحصر ولو كان وصفا غير مناسب كما في: أكرم الجهال، ومبنى الوجه الثالث على حصر استفادة أصل العليّة بدون الحصر على التعليق مع وجود المناسبة بين الحكم والوصف المعلّق عليه مثل: أكرم العالم.
والحاصل: إنّه يقال: يستفاد من الآية أنّ ذات الحجّة مع قطع النظر عن الطواري ليس فيه اقتضاء التبيّن، بل بملاحظة الطواري، فهذه الاستفادة مبنيّة على استفادة العليّة من المناسبة العرفيّة ولو لم يستفد الحصر؛ إذ لو كان للذات أيضا الاقتضاء لكان الإناطة بالفسق لغوا، كما نقول في قضيّة «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجّسه شيء، إنّه يعلم أنّ ذات الماء ليس فيه مقتضى الاعتصام في قبال من يقول:
إنّه كذلك، لا في قبال من يثبت الاعتصام للجاري أيضا.
فهنا أيضا الآية ردّ لمن يسلب الحجيّة عن طبيعة الخبر بالسلب الكلّي، لا لمن يثبت اقتضاء وجوب التبيّن لوصف آخر أيضا، مثل كونه نبأ العادل الكثير السهو، ومقصودنا أيضا إثبات الإيجاب الجزئي في قبال السلب الكلّي.
وقد اورد على هذه الوجوه إيرادات كثيرة، ونبدأ أوّلا بذكر ما كان صعب الذّب منها، فقد استشكل على التمسّك بمفهوم الشرط بأنّ القائلين بمفهوم الشرط إنّما يقولون به فيما إذا كان هناك موضوع ومحمول وواسطة بحسب متفاهم العرف من القضيّة، كما في قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه، فإنّ العرف يفهم منها أنّ زيدا موضوع، ووجوب إكرام زيد محمول، والمجيء واسطة لثبوت هذا المحمول لذاك الموضوع، وكان انتفاء الواسطة غير موجب لانتفاء الموضوع كما في المثال، حيث لا يلزم من انتفاء المجيء انتفاء الزيد.
فحينئذ يقولون بأنّ القضيّة تدلّ مفهوما على أنّ انتفاء الواسطة يوجب انتفاء الحكم من الموضوع، فعند عدم المجيء في المثال يحكم بعدم وجوب الإكرام لزيد، ولكن لا يثبت بذلك عدم وجوبه لعمرو؛ إذ هو موضوع مغاير لموضوع القضيّة، فهو مسكوت عن حكمه.
وأمّا لو كان انتفاء الواسطة ملازما لانتفاء الموضوع فلا موضوع عند انتفاء الواسطة حتّى يحكم بقضيّة المفهوم بانتفاء الحكم عنه.
نعم هنا مطلب عقلي أجنبيّ عن المفهوم ثابت في كلّ قضيّة ولا اختصاص له باللفظيّة الشرطيّة وهو انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، ومن المعلوم أنّه ليس من باب الدلالة المفهوميّة، وإن شئت سمّه مفهوما، لكنّه ليس من المفهوم النافع في سائر المقامات، ومن هذا القبيل القضايا التى تكون بصورة الشرطيّة يذكر أداة الشرط فيها، ولكن سيقت لأجل تحقّق الموضوع.
وقد مثّلوا لها بأمثلة، منها قولك: إذا رزقت ولدا فاختنه، فوجوب الختان حكم موضوعه الولد للمخاطب لا ولد غيره، والشرط أعني المرزوقيّة بالولد محقّق له، ولا وجود له بدونه، ومعه يكون عدم وجوب ختان الولد أمرا عقليّا، ولا تعرّض في القضيّة لحال غير ولد المخاطب حتى يقال بثبوت المفهوم فيه، فيقال عند عدم المرزوقيّة: لا يجب ختان غير الولد من ولد الأشخاص الأخر.
وبالجملة، فالآية الشريفة من هذا القبيل، وذلك لأنّ الموضوع فيها خبر الفاسق، فإنّ الجزاء وجوب التبيّن في خبر الفاسق، ومن المعلوم أنّ هذا الموضوع معدوم عند عدم الشرط أعني: عدم مجيء الفاسق بالنبإ، وأمّا خبر العادل فهو أجنبيّ عن موضوع الحكم في الآية، فهو مثل العمرو في مثال: إن جاءك زيد فأكرمه، فكما لا تعرّض فيه لحال العمرو لا منطوقا ولا مفهوما، فكذا هنا لا تعرّض لحال خبر العادل لا في منطوق الآية ولا في مفهومها.
فإن قلت: مبنى ما ذكرت على أنّ مبنى أخذ المفهوم وجود ثلاثة أشياء:
موضوع ومحمول وشرط خارج عن الطرفين، حتّى يكون الموضوع بجميع خصوصيّاته محفوظا في جانب المفهوم.
وفيه أنّه غير معقول؛ لأنّه لا محالة يتأتّى من قبل الشرط تضيّق في عالم الموضوع، لا نقول إنّه بمنزلة التقييد، لكن حاله حال المقدّمة الموصلة في أنّه موضوع في لحاظ الشرط، وليس له إطلاق حالي يشمل حال عدم الشرط، وعلى هذا فإذا جعلنا الموضوع طبيعة النبإ فلا محالة يصير متضيّقة بلحاظ وجود الشرط أعني مجيء الفاسق به، فالطبيعة منفكّة عن هذا اللحاظ ما وقع تحت حكم وجوب التبيّن، فلا يلزم الإشكال الذي ذكرت من سراية الحكم إلى النبإ المجيء به للعادل، كيف والشرط مساوق لعلّة الحكم، فلو سرى الحكم إلى الفرد الغير المقترن بالشرط لزم انفكاك المعلول عن علّته، وهذا ما ذكرنا من عدم المعقوليّة.
قلت: لا يرد هذا الإشكال أصلا، وذلك بعد مقدّمة وهي أنّه من الممكن أن يكون وجود الشرط في فرد من الطبيعة موجبا لإنشاء الحكم في فردها الآخر، مثل قولك: إن جاءك زيد فأكرم عمرا، فحينئذ نقول: من الممكن أن يكون اقتران الطبيعة المهملة بالشرط موجبا للحكم في جميع أفرادها حتى الخالي منها على الشرط، وليس هذا إنكارا لما قرّرته من ورود التضيّق من قبل الشرط على الموضوع.
فإنّا نقول: نسلّم هذا التضيّق في المقام، لكن في قبال أنّ الطبيعة بنفسها مع قطع النظر عن أمر خارج لا يصير محكوما بالحكم، وليس مقتضاه تحديد الموضوع الذي يتعلّق به وجوب التبيّن أيضا بالشرط، فمتى اتّصفت المهملة فالمتّصف وغير المتّصف منها يصير تحت الحكم، بل لو كان ذلك ممكنا في الموضوع الشخصي مثل «الزيد» في: إن جاء زيد فأكرمه لقلنا بذلك فيه أيضا، لكن لا يتصوّر فيه بعد حالة المجيء حالة عدم المجيء، وأمّا الطبيعة المهملة فانقسامها إلى القسمين بعد محفوظ، فلا مانع من الإطلاق فيه، بل لا وجه للتقييد.
فعلم أنّه إن اريد السلامة من هذا فلا بدّ من ملاحظة التقييد في موضوع الجزاء، فيقال: طبيعة النبأ إن جاء بها الفاسق، فتلك الطبيعة المتّصفة بمجيء الفاسق بها يجب فيها التبيّن، فيجري إشكال شيخنا المرتضى قدّس سرّه.
فإن قلت: إنّ لنا في الآية موضوعا موجودا في حالتي وجود الشرط وعدمه وهو مطلق النبأ من دون اعتبار إضافته إلى الفاسق أو العادل، فكأنّ القضيّة تكون بهذه الصورة: النبأ إذا جاء به الفاسق فتبيّن عنه، ولا شكّ أنّ مفهومه يصير حينئذ:
النبأ إذا جاء به العادل فلا يجب التبيّن عنه، فاتّحد الموضوع في المنطوق والمفهوم.
ونظير ذلك أيضا ممكن في المثال، فيقال: الولد إن رزقته فاختنه، فالمفهوم يصير: الولد إذا لم تكن أنت رزقته فلا يجب عليك اختتانه، يعني لا يجب عليك اختتان ولد غيرك، ولا ملزم لنا بأن نجعل الموضوع للقضيّة في الآية نبأ الفاسق، وفي المثال هو الولد لك حتى يقال: إنّه على فرض عدم مجيء الفاسق بالنبإ وعدم المرزوقيّة بالولد فلا موضوع في البين، وعدم الحكم حينئذ ليس من المفهوم في شيء.
قلت: إن اريد بالنبإ الذي يجعل موضوع القضيّة طبيعة النبأ الغير المقيّدة بالتشخيص الخارجي فلا شكّ أنّ الطبيعة بعد حصول الشرط وهو مجيء الفاسق بها قابلة للانقسام إلى قسمين: ما جاء به العادل، وما جاء به الفاسق؛ ضرورة أنّ الطبيعة المجيء بها الفاسق يتصوّر لها الفرد المجيء بها العادل، نعم خصوص هذا الشخص المجيء به الفاسق لا يتصوّر مجيء العادل به، ولكن نفس الطبيعة المجرّدة تكون بعد مجيء الفاسق بها على حالها قبل المجيء بلا تفاوت، فلها فردان كما كانا له قبل حصوله.
وبالجملة، فيصير محصّل مدلول القضيّة حينئذ: إن جاء الفاسق بنبإ فطبيعة النبأ يصير واجب التبيّن سواء جاء بها العادل أم الفاسق، وهذا خلاف المقصود، وأيضا لا يخفى ما في المعنى حينئذ من البرودة؛ إذ يلزم وجوب تبيّن تمام أخبار العالم بمجرّد مجيء فاسق بنبإ، وحينئذ فلا بدّ من أن نجعل الطبيعة باعتبار التقيّد بمجيء الفسق موضوعا للحكم بأن نعتبر الموضوع في قولنا: النبأ إن جاءكم فاسق به فتبيّنوا عنه، هو النبأ المجيء به الفاسق، فالطبيعة المقيّدة بقيد مجيء الفاسق يكون واجب التبيّن، فإذا صار القيد فعليّا وموجودا في الخارج يصير الحكم وهو وجوب التبيّن منجّزا لتنجّز شرطه، وحينئذ فيستقيم المعنى، لكن لا يفيد المفهوم؛ إذ عند عدم تحقّق الشرط لا تحقّق للموضوع أعني الطبيعة المقيّدة، فيعود الإشكال من أنّ الانتفاء عند انتفاء الموضوع ليس من المفهوم، ونبأ العادل مغاير لموضوع القضيّة.
وإن اريد بالنبإ المجعول موضوعا الأفراد الخارجيّة، يعني أنّ الموضوع كل شخص شخص من الأخبار الموجودة في الخارج، فلا ريب أنّ النبأ الشخصي الخارجي ليس قابلا للتقسيم بين ما جاءه العادل وما جاءه الفاسق، ضرورة أنّ ما جاءه الفاسق لا يتصوّر فيه مجيء العادل وبالعكس، ولكن يصحّ فيه الترديد فيقال:
هذا الشخص من النبأ إمّا جاء به العادل وإمّا جاء به الفاسق، فحينئذ يصحّ تركيب القضيّة على وجه يفيد المفهوم، بأن يقال في كل واحد واحد من الأنباء الشخصيّة:
إن كان الجائي به فاسقا فيجب فيه التبيّن، فيصير المفهوم أنّه إن لم يكن الجائي به فاسقا ولا محالة يكون حينئذ عادلا فلا يجب التبيّن.
لكن هذا كما ترى إنّما يناسب مع المضيّ كما مثّلنا وهو خلاف الموجود في الآية، فإنّ الشرط فيها يكون مسوقا للاستقبال، فلا يناسب إلّا مع الطبيعة، ضرورة أنّه لا يصحّ التعبير ب (يجيء) في النبأ الشخصي الخارجي، وإنّما الصحيح هو التعبير ب (جاء) على معنى المضىّ، نعم التعبير ب (يجيء) يناسب الطبيعة، فيقال: طبيعة النبأ إمّا يجيء بها العادل وإمّا يجيء بها الفاسق، كما يناسبها التعبير بالمضيّ أيضا، ولا يخفى أنّ كلمة (جاءكم) في الآية يكون بمعنى الاستقبال.
والحاصل: الفرد الموجود في الخارج فعلا، أو الذي وجد وانعدم في الأوصاف التي تكون من نحو وجوده، مثل الرجوليّة والانوثيّة في الإنسان، ولا محالة يكون قابليّته لأمرين منها على نحو الترديد، يكون التعبير الصحيح في مثل ذلك بالمضيّ فقط، مثلا يقال: هذا الشخص إمّا وجد رجلا وإمّا امرأة، ولا يصح إمّا يوجد.
وكذا في الفارسيّة يقال: يا مرد است يا زن است، ولا يقال: يا مرد مىشود يا زن، بخلاف الأوصاف العرضيّة التي يعتور اثنان منها على فرد واحد في حالين مثل العلم والجهل، فالتعبير بالاستقبال حينئذ صحيح، فيقال: الزيد إن كان يصير عالما فكذا، وفي الفارسيّة أيضا يصحّ التعبير بأنّه «اگر عالم شود چنين» ومن هذا القبيل قضيّة «إذا بلغ الماء قدر كر».
وأمّا الفرد الذي لم يوجد بعد ويوجد في المستقبل ففرديّته موقوفة على لحاظ الفراغ عن وجوده ورؤيته موجودا في الخارج كأنّه المحسوس والمشاهد بالعين، ولو لم يلاحظ كذلك فكلّ ما زيد القيد على القيد لا يصير جزئيّا، بل كليّا مضيّقا، فالتعبير بالاستقبال حينئذ وإن كان صحيحا لكن حاله حال الكلّي، كما يقال: النبأ الذي يوجد في ما بعد إمّا يجيئه العادل وإمّا يجيئه الفاسق.
وأمّا لو لوحظ على نحو الفراغ عن الوجود فحاله حال الموجود الفعلي أو الماضوي في أنّ التعبير بالاستقبال فيه غلط، فلا يصحّ أن يقال في هذا اللحاظ بالفارسيّة مثلا: مردى كه فردا موجود مىشود يا مرد موجود مىشود يا زن، بل يقال: يا مرد است يا زن، وكذلك لا يقال: صيدى كه فردا زيد مىكند يا آهو صيد مىكند يا چيز ديگر، بل يقال: يا آهو است يا چيز ديگر، نعم يصحّ هذا التعبير في اللحاظ الأوّل أعني لحاظ عدم الفراغ الذي تكون الكليّة معه محفوظة، فتدبّر فإنّه دقيق.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ هنا ثلاثة أشياء: الأوّل: النبأ الموجود الخارجي، وهذا لو جعلناه موضوعا وإن كان يمكن تركيب القضيّة على وجه أمكن أخذ المفهوم منها، إلّا أنّه لا يمكن موضوعيّته في الآية المفروض كون الشرط فيها المجيء في المستقبل.
والثاني: طبيعة النبأ، وعلى تقدير موضوعيّته يلزم وجوب التبيّن في خبر العادل أيضا عند حصول مجيء الفاسق بهذه الطبيعة، وهو مضرّ بالمدّعى من حجيّة خبر العادل لا نافع، مضافا إلى بشاعة المعنى على تقديره.
والثالث: طبيعة النبأ المقيّدة بمجيء الفاسق، وجعل هذا موضوعا متعيّن؛ لسلامته عن الإشكال بحسب المعنى واللفظ، لكن على تقديره لا مفهوم للآية؛ لعدم التحقّق لهذا الموضوع عند عدم الشرط، فتحصل بعدم الشرط سالبة منتفية الموضوع، ولا ربط لها بانتفاء وجوب التبيّن عن موضوع نبأ العادل، فعلم عدم إمكان ذبّ الإشكال بجعل الموضوع مطلق النبأ وإن تخيّله بعض الأساطين قدّس سرّه.
فإن قلت: المفروض هو بناء الاستدلال على القول بثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة، ففي ما إذا لم يكن في البين موضوع موجود في كلتا الحالتين ليمكن انتفاء الحكم عن الموضوع الموجود عند انتفاء الشرط يجب الأخذ بالمفهوم مهما أمكن، فإنّ مبنى المفهوم هو إفادة الأداة للعليّة المنحصرة، فإذا لم يكن الأخذ بظهورها في العليّة المنحصرة في الموضوع المذكور في القضيّة وجب الأخذ بظهورها في العليّة في الجملة، بأن يقال بالعليّة للتالي بالنسبة إلى سنخ الحكم، نظير ما يقال في مفهوم الوصف على القول به، فإنّه يدّل على انتفاء سنخ الحكم، لا شخص الحكم المذكور في القضيّة المحمول على الموضوع المذكور فيها.
مثلا قولنا: أكرم الرجل العالم لو قيل بالمفهوم فيه فمعنى مفهومه انتفاء سنخ وجوب الإكرام عند انتفاء العلم ولو كان في الرجل الجاهل، وليس مفاد المفهوم انتفاء نفس هذا الحكم المنشأ في هذه القضيّة؛ فإنّ المذكور في هذه القضيّة هو وجوب الإكرام المعلّق على الرجل العالم، فليس المفهوم أنّه لو انتفى العلم ينتفي وجوب الإكرام المعلّق على الرجل العالم؛ إذ هذا من باب حكم العقل بانتفاء الحكم عند انتفاء الموضوع، وليس بقضيّة المفهوم، بل قضيّتها كون العلم علّة منحصرة لسنخ وجوب الإكرام للرجل أعمّ من المعلّق منه على العالم أو الجاهل، فيكون الحكم عند انتفاء العلم بانتفاء هذا الوجوب عن العالم من باب حكم العقل، وعن الجاهل من باب المفهوم، فيكون المفهوم في القضيّة الوصفيّة هو انتفاء الحكم عن غير الموضوع المذكور فيها، كما أنّه في القضيّة الشرطيّة انتفاؤه عن الموضوع المذكور فيها.
وحينئذ نقول في الأمثلة التي ليس فيها موضوع محفوظ في كلتا الحالتين بأنّ كلمة «إن» و«إذا» لم يسقطا عن إفادة العليّة المنحصرة بالمرّة، بل هما يفيدان في هذه الموارد مفاد الوصف والعليّة المستفادة منه، فنحن وإن استشكلنا في إفادة الوصف بنفسه للمفهوم، ولكن إذا وقع في سياق أداة الشرط في أمثال تلك الموارد قلنا بإفادة هذا المفهوم للأداة.
فنقول في الآية: إنّه لو كان الكلام بصورة القضيّة الوصفيّة بأن قيل: يجب التبيّن في نبأ الفاسق وقلنا بثبوت المفهوم للوصف، كان المستفاد عليّة وصف الفسق لثبوت التبيّن، بمعنى أنّه متى انتفى هذا الوصف انتفى وجوب التبيّن الكلّي لا الشخص المعلّق منه على نبأ الفاسق، ضرورة أنّه بديهيّ بحكم العقل بانتفاء الحكم لانتفاء موضوعه، فكان مفاد المفهوم انتفاء وجوب التبيّن عن نبأ العادل؛ إذ لو ينتف لما كان الفسق علّة تامّة منحصرة لوجوب التبيّن الكلّي وسنخه، وقد فرض استفادة ذلك من القضيّة.
فنقول: إنّ عين هذا المعنى يكون لكلمة «إن» في الآية، فليست لمجرّد ربط الوجود بالوجود بدون مفهوم له أصلا، بل نقول بالمفهوم له على طرز مفهوم الوصف، وهذا الوجه لإثبات مفهوم الشرط في الآية قد تعرّض له المحقّق الجليل المولى محمّد كاظم الخراساني طاب ثراه في حاشيته على الرسائل وأشار إليه في كفايته أيضا، ونقل الاستاد دام ظلّه إصراره عليه في الدرس.
قلت: هذا مبنيّ على إثبات ظهورين لأداة الشرط في معنيين ولو لم يكونا في عرض واحد وبوصفين، بل كان أحدهما في طول الآخر ومن باب أقرب المجازات عند عدم إرادته، الأوّل: ظهورها في العليّة المنحصرة كما هو مبنى الأخذ بالمفهوم، والثاني ظهورها في ثبوت هذه العليّة للتالي بالنسبة إلى الحكم المتعلّق بالموضوع الأجنبي عن التالي كما في: أكرم زيدا إن جاءك، حيث أفادت كلمة «إن» العليّة المنحصرة للمجيء بالنسبة إلى وجوب الإكرام المتعلّق بالزيد الذي هو غير المجيء.
وحينئذ فإذا لم يمكن الأخذ بظهور الأداة في المعنى الثاني أعني خصوصيّة ثبوت العليّة المنحصرة للتالي لثبوت الحكم للموضوع المغاير للتالي، كان ظهورها في المعنى الأوّل أعني أصل العليّة المنحصرة محفوظا.
ولكنّك خبير بأنّا إن قلنا بثبوت مفهوم الشرط فلا إشكال أنّ للأداة وضعا واحدا وظهورا واحدا في معنى واحد وهو العليّة المنحصرة الخاصّة بخصوصيّة كونها في التالي المغاير للموضوع، وليس لها ظهور في مطلق العليّة المنحصرة بعد عدم إمكان إرادة الخصوصيّة.
فدعوى أنّ الوضع وإن كان واحدا بإزاء العليّة الخاصّة، إلّا أنّا نقول بمراتب الظهور وكون مطلق العليّة أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي، لوضوح أنّ أمر الأداة بعد عدم إمكان الحمل على العليّة الخاصّة يدور بين الحمل على مجرّد ربط وجود هذا بوجود ذاك من دون إشعار بالعليّة أصلا، وبين الحمل على العليّة لسنخ الحكم المستلزمة لانتفائه عن موضوع آخر، ولا شكّ أنّ الأقرب إلى العليّة الخاصّة هو الثاني دون الأوّل، فنحن وإن سلّمنا عدم الظهور في مطلق العليّة في عرض الظهور في العليّة الخاصّة بأن يكون هنا وصفان، ولكن نقول بثبوت الظهور الأوّل عند رفع اليد عن الثاني وفي طوله، وبعبارة اخرى: وإن سلّمنا عدم ثبوت الظهور في مطلق العليّة من باب الحقيقة، ولكن نقول به من باب أقرب المجازات عند تعذّر المعنى الحقيقي، نظير ظهور صيغة الأمر بالنسبة إلى الاستحباب عند تعذّر الوجوب.
مدفوعة بأنّه لا يخفى على من راجع الأمثلة العرفيّة من قبيل قولنا: إذا رأيت زيدا فاقرأه منّي السلام ونحوه أنّ دعوى انفهام العليّة بالنسبة إلى سنخ الحكم منها بعيدة، بل إمّا يكون هذا المعنى في الظهور والانفهام العرفي مساويا مع مجرّد تحقيق الموضوع بدون نظر إلى العليّة، وإمّا أنّ الثاني أظهر، ولا يبعد القول بأنّ المتفاهم لدى العرف من هذه الأمثلة هو سوق الشرط لمجرّد تحقيق الموضوع، فهي متّحدة المفاد مع القضيّة الحمليّة، وليس الملحوظ فيها اشتراط شيء بشيء وإناطته به على وجه العليّة المنحصرة، هذا هو الكلام في مفهوم الشرط.
وأمّا مفهوم الوصف فالجواب أنّه تقرّر في محلّه عدم ثبوت المفهوم للوصف، وأمّا المناسبة العرفيّة وقضيّة فهم العليّة من ذلك، فلا يخفى أنّ الاستشكال على أصل فهم المناسبة بأنّه يحتمل أن يكون النكتة لإتيان الوصف هو التنبيه على فسق وليد لا لأجل دخالته وعليّته في حكم وجوب التبيّن، خروج عن طريق السداد وبعيد عن الإنصاف، لكمال الظهور للآية في كونها مسوقة لبيان الحكم الكلّي، لا أن يكون الغرض من التعليق بيان نكتة شخصيّة، هذا.
ولكن يرد على هذا الاستدلال أنّه وإن كان مناسبة الوصف في الآية وهو الفسق للحكم المقترن به فيها وهو وجوب التبيّن مسلّمة، إلّا أنّه من القريب أن يكون وجه تعليق الحكم بوجوب التبيّن على مجيء الفاسق بالنبإ هو أنّ الغالب عدم حصول العلم من إخبار الفاسق بملاحظة فسقه وعدم تحرّزه عن الكذب، بخلاف العادل؛ فإنّ الغالب حصول العلم من خبره بملاحظة قيام ملكة العدالة المانعة عن ارتكاب تعمّد الكذب به، مع كون خبره في المحسوسات، والاشتباه فيها قليل، مثل احتمال خروج العادل عن عدالته بنفس هذا الإخبار لتعمّده الكذب فيه، فإنّ باب هذا الاحتمال منسدّ غالبا.
وبالجملة، فمن المسلّم غلبة العلم بالمخبر به في جانب العادل وغلبة الجهل به في جانب الفاسق.
وحينئذ فمن المحتمل قريبا أن يكون وجه تعليق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق بالنبإ هو ما يكون الغالب في خبره من ثبوت الجهل معه بالمخبر به، وحينئذ فيصير الكلام في قوّة إناطة وجوب التبيّن على الجهل، وإناطة عدمه على العلم، وهذا أجنبيّ عمّا نحن بصدده من جعل الضابط لوجوب التبيّن عنوان خبر الفاسق، والضابط لعدمه عنوان خبر العادل، وبعبارة اخرى: يصير موضوع وجوب التبيّن الخبر الغير المفيد للعلم، وموضوع عدمه الخبر المفيد للعلم، وهذا غير أن يكون موضوع الوجوب خبر الفاسق وموضوع عدمه خبر العادل.
والحاصل أنّ الظاهر عدم مدخليّة خصوص الفسق بما هو فسق وإن كان ظاهر العنوان نوعا هو الموضوعيّة لا المعرّفيّة، لكن في خصوص المقام بملاحظة هذا المحمول أعني وجوب التبيّن تكون الموضوعيّة بعيدة، بل الظاهر أنّ وجه التعليق هو كون الفاسق ليس له ملكة رادعة عن الكذب، فاحتمال تعمّد الكذب فيه متمشّ، فيحب التبيّن في خبره لأجل هذا الاحتمال، وإلّا فلو كان المخبر شارب الخمر مثلا لكن نعلم بعدم تعمّده الكذب فلا تعمّه الآية بظاهرها.
فعلم أنّ خصوصيّة الفسق ملغاة، وإنّما المعتبر هو احتمال تعمّد الكذب، ولكن لمّا كان فرده الشائع في الفاسق فلهذا خصّ بالذكر، وأمّا العادل فدرجاته مختلفة، فربّ عادل لا يحتمل في حقّه الكذب في شخص إخباره هذا، وهذا لا يحتاج في حجيّة خبره إلى التعبّد؛ لأنّ احتمال كذبه مفقود، واحتمال خطائه مسدود بالأصل العقلائي، وربّ عادل لا تكون الملكة الرادعة فيه بمثابتها في الأوّل، بل يحتمل في حقّه الخروج عن مقتضاها في شخص الإخبار الشخصي، وهذا يحتاج إلى التعبّد، وقد عرفت قصور الآية عن الدلالة على حجيّته.
ومن هنا تعرف أنّا لو أغمضنا عن إشكال شيخنا المرتضى في ثبوت المفهوم للشرط في الآية بكونه محقّقا للموضوع وقلنا: إنّه ليس كذلك وأنّ الموضوع مطلق النبأ، فيفيد المفهوم لأنباء الفاسق، لكن نقول بعد فرض إلغاء خصوصيّة الفسق في جانب المنطوق وكون الاعتبار باحتمال تعمّد الكذب كان المعتبر في المفهوم أيضا ذلك.
فكأنّه قيل: إذا جاءكم مخبر يحتمل في حقّه تعمّد الكذب بنبإ فتبيّنوا، فالمفهوم أنّه:
إذا جاءكم غير هذا المخبر- يعني من لا يحتمل في حقّه تعمّد الكذب- فلا يجب التبيّن، وقد عرفت أنّ هذا لا يفي بالمقصود.
والحاصل كلّما فرض الفراغ منه في الموضوع لا يصحّ جعله تلو «إن» وهنا حيث إنّ أصل مجيئه الخبر مفروغ عنه حسب الفرض لا يصحّ تلويّته لإن، نعم يصحّ ذلك بالنسبة إلى قيد المجيء أعني كون الجائي فاسقا.
وحينئذ نقول: هذا وإن كان صحيحا، لكنّه خلاف الظاهر في تلك القضيّة وأمثالها مثل: إن رزقت ولدا ونحوه؛ فإنّ الظاهر فيها عدم المفروغيّة من الذات في الموضوع حتى لوحظ التعليق بالنسبة إلى القيد فقط، بل الظاهر تعلّق التعليق بمجموع الذات والقيد، ومعه عرفت أنّه لا يصحّ أن يكون الموضوع مفروغ الاتّصاف بأصل الذات.
فتبيّن أنّ إشكال عدم ثبوت المفهوم للآية غير ممكن الذبّ، كما ذكره الشيخ الأجلّ شيخنا المرتضى قدّس سرّه.
[الايرادات التى يورد على الاستدلال بآية النبأ]
بقي الكلام في الإيرادات التي يورد على الآية بعد تسليم المفهوم لها.
أحدها: أنّ المفهوم يعارضه عموم التعليل في ذيل الآية، فإنّه قد علّل فيها وجوب التبيّن للعمل بخبر الفاسق بأنّ الإقدام عليه قبله بجهالة وغير علم يكون في معرض ظهور خلافه وحصول الندم لذلك.
فيدلّ على أنّ كلّ إقدام على عمل كان عن غير علم وفي معرض تبيّن الخلاف والوقوع في الندم لا يجوز قبل التبيّن، ولا شكّ أنّ هذا ينطبق على العمل بخبر العادل الغير المفيد للعلم فإنّه إقدام عن جهل، ويكون في معرض الوقوع في مخالفة الواقع والندم، فيكون ممنوعا بمقتضى التعليل، فإنّ الحكم المعلّل يتبع العلّة عموما وخصوصا، فربّما تكون العلّة مخصّصة للمورد، وربّما تكون معمّمة له، وثالثة تكون مخصّصة من جهة ومعمّمة من اخرى.
ألا ترى أنّ قول القائل: لا تشرب الخمر لأنّه مسكر يفيد حرمة كلّ مسكر وإن كان الموضوع في القضيّة خصوص الخمر، وقول القائل: لا تأكل الرّمان لأنّه حامض مخصّص من جهة إخراج الفرد الغير الحامض من الرّمان، ومعمّم من جهة إدخال الفرد الحامض من غير الرّمان.
لا يقال: إنّ التعليل عام يشمل كلّ عمل صادر عن جهل، ولكنّ المفهوم أخصّ منه مطلقا، لاختصاصه بخبر العادل الغير العلمي، وعدم اشتماله الخبر العادل العلمي، فيلزم تخصيص عموم التعليل بالمفهوم، فيكون المحصّل وجوب التبيّن في كلّ إقدام عن جهالة إلّا في العمل بخبر العادل.
لأنّا نقول: ليس المناط في التقديم مجرّد كون أحد الدليلين أخصّ، بل الوجه في تقديم الأخصّ إمّا كونه نصّا أو أظهر، فيدور الأمر بين رفع اليد عن النصّ أو الأظهر وحفظا للظاهر وبين عكسه، ولا شكّ في تعيّن العكس كما في قولك: أكرم العلماء، وقولك: لا تكرم زيدا العالم، فإنّ الثاني نصّ في حرمة إكرام الزيد، والأوّل ظاهر في وجوبه.
وأمّا هنا فالأمر دائر بين طرح ظهور التعليل في العموم وحفظ ظهور القضيّة في المفهوم وبين العكس، فالتعارض واقع بين الظهورين.
وبعبارة اخرى: إنّما نعمل بالخاص لأنّ في العمل به عملا بكلا الدليلين؛ لأنّ فيه العمل بالعام في بعض أفراده، بخلاف العمل بالعام حيث يلزم منه طرح الخاص بالمرّة، وليس العمل بالعام هنا إلّا على نحو العمل بالخاص من حيث كون كلّ منهما أخذا ببعض الدليل المخالف وطرحا لبعضه، فإنّا إن أخذنا بظهور القضيّة في المفهوم لا يلزم إلّا طرح العموم في بعض أفراده، كذلك لو أخذنا بالعموم لا يلزم إلّا طرح أحد جزئي القضيّة وهو المفهوم، ولا يلزم طرح ظهورها بالمرّة.
وحينئذ فالترجيح لأظهرهما، ولا شكّ أنّه التعليل، فإنّ ظهور القضيّة في المفهوم لو سلّمناه فإنّما هو بالالتماس، وليس إلّا ظهورا أوّليا لا يقاوم مع ظهور التعليل خصوصا بملاحظة أنّ العموم المستفاد من العلل أقوى من المستفاد من الصيغ، ككلمة «كلّ» ونحوها.
وإن شئت قلت: إنّ المفهوم وإن كان اخصّ، ولكنّه ليس بدليل مستقلّ حتى يلاحظ في مقام المعارضة بانفراده، وإنّما الدليل نفس القضيّة التي يكون المفهوم بعض مدلولها، والنسبة بينها وبين العام المعارض إنّما هو العموم من وجه (1) ، فإذا كان العموم المعارض منفصلا عن القضيّة فلا بدّ من ملاحظة الأظهريّة فيما بينهما، ويمكن أن يكون ظهور القضيّة في المفهوم أقوى من ذلك العام في العموم، وأمّا إذا كان العموم في ذيل القضيّة المشتملة على المفهوم، وكانت هي معلّلة به، فحينئذ حيث قلنا إنّ العبرة في المعلّل بالنظر إلى العلّة عموما وخصوصا ولا ينظر إلى نفس المعلّل فلو فرض المساواة أيضا بين ظهور القضيّة في حدّ ذاتها في المفهوم وظهور العلّة في العموم لوجب رفع اليد عن المفهوم، لكون العموم في العلّة قرينة صارفة مانعة عن انعقاد ظهور المفهوم، فكيف مع كون العموم المستفاد من التعليل أقوى من سائر العمومات وآبيا عن التخصيص.
هذا حاصل الإيراد، وقد عدّه شيخنا المرتضى قدّس سرّه ممّا لا يمكن الذبّ عنه، والحقّ إمكان التفصّي عنه بأن يقال: إنّ كلمة «جهالة» الواقعة في التعليل وإن كانت بحسب المادّة ظاهرة في المعنى المقابل للعلم فيشمل كلّ شكّ وظنّ، إلّا أنّ المراد بها هنا هو السفاهة، أعني العمل بالجهل الذي لا يكون عقلائيّا، ولا ينبغي صدوره عن العاقل، والدليل على إرادة ذلك منه هو تفريع الندامة عليه، فإنّ العمل بالشكّ بمجرّد كونه عملا بالشكّ لا يكون معرضا للندامة؛ إذ ربّما يعمل العقلاء بالشكوك فيما إذا كانت معتبرة عندهم ولا يحصل الندم عقيب ظهور الخلاف.
ألا ترى أنّه إذا أخبر البيّنة بطهارة شيء فعاملت معه معاملة الطهارة، ثمّ ظهر كونه نجسا لا تحصل لك الندامة على موافقة البيّنة، لأنّه فعل عقلائي وهو لا يتعقّبه الندم، فكلّ إقدام كان مستندا إلى حجّة عقلائيّة ممضاة للشرع أو تعبديّة شرعيّة فليس متعقّبا بالندم.
وإذن نقول: خبر العادل بعد ما جعله الشارع حجّة بقضيّة المفهوم تكون موافقته فعلا عقلائيّا، فيخرج عن عموم التعليل خروجا موضوعيّا، نعم قبل جعله حجّة كان من أفراده ومعدودا من الأفعال السفهائيّة.
إن قلت: كيف يمكن ذلك في كلام واحد؛ فإنّ استقرار ظهور نفس القضيّة المعلّلة في المفهوم مبنيّ على عدم شمول التعليل لخبر العادل، وعدم شموله مبنيّ على استقرار ظهورها في المفهوم.
قلت: إنّما يلزم ذلك لو كان التعليل منافيا لأخذ المفهوم وهاهنا الأخذ به وعدمه في حدّ سواء بالنسبة إلى التعليل، وذلك لأنّه إن كان خبر العادل حجّة فيلزم خروجه عن التعليل خروجا موضوعيّا، وإن لم يكن حجّة يكون واحدا من أفراد موضوعه، فنقول: نأخذ بظهور القضيّة في المفهوم كما هو المفروض ونحكم باستقراره من دون ارتكاب خلاف ظاهر في التعليل، وإذا أمكن الجمع بين الظهورين فلا وجه لطرح أحدهما، وملاحظة تمام أجزاء الكلام التي من جملتها العلّة إنّما يلزم لأخذ المفهوم ليكون المفهوم المنتزع مطابقا لها ولم يكن في الكلام ما يخالفه، والمفروض أنّه هنا كذلك؛ إذ ليس في المفهوم مخالفة للعلّة أصلا، فطرحه مع ذلك ليس إلّا طرحا للظهور بلا دليل.
فإن قلت: لا شكّ أنّه لو لا حجيّة خبر العادل كان مشمولا لعموم التعليل، فنحن ندّعي أنّها متأخّرة رتبة عن هذا العموم ببيان أنّ وجوب التبيّن لكونه معلولا لهذه العلّة متأخّرة رتبة عنها، فنقيضه الذي هو الحجيّة أيضا متأخّر عنها بقضيّة وحدة رتبة النقيضين، فحيث لا حجيّة في رتبة التعليل أثّر التعليل أثره.
قلت: هذا خلط لمقام الثبوت بمقام الإثبات؛ فإنّ قضيّة العليّة والمعلوليّة بحسب مقام الثبوت ما ذكرت، وأمّا بحسب مقام الإثبات والتلفّظ وترتيب ترصيف المعاني في الذهن وانتقاشها تكون طبق الألفاظ، فما كان في اللفظ مقدّما كان مقدّما في التصوّر والانتقاش، ولا شكّ أنّ القضيّة الشرطيّة حسب الفرض في حدّ ذاتها لها دلالة تصوّريّة انتقاشيّة على المفهوم، غاية ما في الباب أنّك تقول: إنّ هذا الظهور الانتقاشي يحتاج استقراره إلى تمام الكلام وحجيّته منتظرة لاستقراره.
فنقول: نعم الأمر كذلك، لكن بعد ثبوت أصل هذا الظهور الانتقاشي من الصدر يلاحظ في الذيل، فإن كان فيه ما ينافيه ولا يجامعه نرفع اليد عنه، كما في قضيّة رأيت أسدا يرمي بالقوس، وأمّا إذا لاحظناه غير مماس به ولا متعرّض لنفيه ولا إثباته فقهرا يستقرّ ما فهمناه تصوّرا من الصدر عند تمام الكلام.
فنقول: أيّ منافاة بين هذين الكلامين لو فرضناهما مستقلّين، أعني قولك:
لا تعمل بغير الحجّة وقولك: خبر العادل حجّة، فإن فهمت في صورة الاستقلال منافاة فقل في صورة الاتّصال وكون أحدهما في الصدر والآخر في الذيل: إنّ أحدهما قرينة صارفة عن ظهور الآخر، وأمّا بعد عدم المنافاة- كما هو الواضح- لعدم تعرّض الاولى لحجيّة شيء وعدمها فلا وجه للصرف.
فعلى هذا نحن نقول: لا شكّ أنّ العلّة وإن كانت مضيّقة لدائرة الموضوع في بعض الأحيان، لكنّه ليس كالتقييد، بمعنى أنّه لو شكّ في فرد من العام أنّه متّصف بالعلة أو لا، يمكن الأخذ بالإطلاق أعني إطلاق قوله: لأنّهم عدول مثلا في قوله: أكرم العلماء لأنّهم عدول، وإن كان يتوقّف في مشكوك العدالة من العلماء لو كان الكلام بصورة التقييد، كما قال: أكرم العلماء العدول؛ لأنّه تمسّك بالعام في الشبهة الموضوعيّة.
وحينئذ نقول: كما يرفع الشكّ بواسطة العلّة عن الأفراد المشكوكة، كذلك لو كان الكلام ذا مدلولين، منطوق ومفهوم، فالعلّة المذكورة فيه تدلّ على انتفاء نفسها في مورد المفهوم، وجه الدلالة أنّ العلّة علّة لمجموع ما للكلام من المدلول، والفرض أنّ من مدلوله حصر الحكم على الموضوع المذكور فيه الذي هو منشأ أخذ المفهوم.
فإذا قيل: أكرم زيدا إن جاءك لأنّه يعطيك درهما، يفهم منها أنّ العلّة أيضا مقصورة على صورة المجيء وأنّ في صورة عدمه لا يعطي الدرهم وإن أكرمه.
وبالجملة، بعد ما فرضنا أنّ القضيّة الشرطيّة ومدلولها ومفادها في حدّ ذاتها إثبات الحكم على وجه الحصر، فإيراد العلّة أيضا لا محالة يكون على هذا المفاد، ومعنى إيرادها عليه أنّ العلّة غير مشتركة بين صورتي وجود الشرط وعدمه، بل مختصّة بالصورة الاولى.
نعم لو فرضنا العلم من الخارج بالاشتراك فحينئذ نأخذ بعموم العلّة ونجعله صارفا ومانعا عن انعقاد استقرار ظهور الجملة في المفهوم، لكن عند عدم العلم وفرض مشكوكيّة الحال يحكم ظاهر العلّة بواسطة ارتباطها بالحصر بعدم وجودها في حالة عدم الشرط، ويرفع الشكّ الحاصل لنا، كما قلنا: إنّ العالم المعلوم من الخارج عدم عدالته نحكم بخروجه من العام في قوله: أكرم العلماء لأنّهم عدول بقضيّة العلّة، وأمّا الفرد المشكوك العدالة يرفع الشك في عدالته ويحكم بدخوله بقضيّتها أيضا.
ثانيها: وهو إشكال على جميع أدلّة الحجيّة لخبر الواحد ولا اختصاص له بالآية: أنّ حجيّة خبر الواحد يلزم من وجودها عدمها، وكلّ ما يلزم من وجوده عدمه فهو محال، ينتج أنّ حجيّة خبر الواحد محال.
أمّا الكبرى فواضحة، وأمّا الصغرى فلأنّ من جملة أخبار الآحاد التي نقول بحجيّتها خبر السيّد قدّس سرّه بعدم حجيّة خبر الواحد، لاجتماعه جميع شرائط القبول والحجيّة، فلو كان خبر الواحد الذي من جملته خبر السيّد بعدم الحجيّة حجّة لزم من حجيّته عدمها.
وأجاب شيخنا المرتضى قدّس سرّه بما حاصله أنّه لا بدّ من ملاحظة أنّ هذا الأمر المحال نشأ من قبل أيّ شيء؟ فنقول: لا ريب في أنّه ناش من شمول أدلّة الحجيّة لهذا الخبر أعني خبر السيّد قدّس سرّه، فإنّ هذا الخبر لو كان داخلا لزم من دخوله عدم حجيّة نفسه، ولا شيء من سائر الأخبار فيلزم من الحجيّة عدمها، فعلينا أن نقلع مادّة الفساد وهو دخول هذا الخبر، فتكون العمومات مخصّصة بغير هذا الفرد بتخصيص عقلي.
أقول: يمكن الاستشكال عليه قدّس سرّه بما قد علّمه قدّس سرّه إيّانا وهو أن نقول: كما أنّكم تفحّصتم عن منشأ لزوم المحال في أدلّة الحجيّة وقلتم: إنّه دخول خبر السيّد نحن أيضا نتفحّص عن أنّ موجب لزوم المحال في خبر السيّد قدّس سرّه ما ذا؟
فنقول: لهذا الخبر مدلولان، أحدهما أنّ ما سواه من الأخبار ليس بحجّة، والثاني أنّ نفسه غير حجّة، ولا شكّ أنّ دلالته على عدم حجيّة غيره من الأخبار لا مدخل لها في لزوم المحال كما هو واضح.
وأمّا دلالته على عدم حجيّة نفسه فهي المنشأ بمعنى عدم إمكان شمول الأدلّة لخبر السيّد بملاحظة دلالته هذه، فنحن نقول: لا تشمل الأدلّة لخبر السيّد بلحاظ هذا المدلول وهو سلب الحجيّة عن نفسه، فتكون شاملة له من حيث مدلوله الآخر وهو سلب الحجيّة عن غيره، فيلزم من دخول خبر السيّد تحت الأدلّة خروج الأخبار الواردة في باب الصلاة مثلا عنها، كما أنّه يلزم من دخول تلك الأخبار فيها خروج خبر السيّد.
فغاية ما في الباب وقوع التعارض بين خبر السيّد وأخبار الصلاة وغيرها، فيكون الجواب وجود المرجّح في طرف الأخبار لكثرتها ووحدة خبر السيّد، فإنّه إذا دار الأمر بين خروج فرد واحد أو خمسمائة فرد مثلا فلا ريب في رجحان الأوّل، هذا مضافا إلى ما يلزم على الثاني من صيرورة الكلام من نحو اللغز والمعمّا، فإنّه قد حكم على جميع الأفراد بحكم واريد فرد واحد ينافي ثبوت الحكم لسائر الأفراد، فقيل: كلّ خبر عادل حجّة واريد به خبر السيّد الذي مضمونه أنّه لا شيء من خبر عادل بحجّة.
وحاصل أصل الإشكال أنّ حجيّة خبر الواحد محال؛ لأنّه يلزم من حجيّته عدم حجيّته، وذلك لأنّه لو كان خبر الواحد حجّة لكان خبر السيّد حجّة؛ لأنّه أيضا خبر واحد، وحجيّته مستلزمة لعدم حجيّة خبر الواحد، وهذا هو المدّعى من استلزام حجيّة خبر الواحد عدم حجيّته.
وحاصل الجواب الشيخ عنه أنّ هذا المحذور مختصّ بخبر السيّد دون سائر الأخبار، وذلك لأنّ خبر السيّد دالّ إمّا باللفظ وإمّا بالملاك على عدم حجيّة نفسه قطعا، ولذا لو سئل عن السيّد عنه لقال: ليس بحجّة، ولهذا لو كان خبره المذكور المفيد لعدم حجيّة نفسه حجّة لزم من حجيّته عدم حجيّته، فالاستلزام المذكور مختصّ بخصوص هذا الخبر دون الأخبار الأخر، فاللازم إخراج هذا الخبر بتخصيص عقلي.
وحاصل إشكالنا على الشيخ- وهو في الحقيقة شيء تنبّهنا له ببركة تنبيه الشيخ فأوردنا ما استفدنا منه عليه- هو أنّه كما أنتم حلّلتم الإشكال في كلّي خبر الواحد وبيّنتم أنّه من جهة خبر السيّد، كذلك نحن أيضا نحلّل الإشكال في خبر السيّد ونبيّن أنّه من جهة أيّ من مداليله.
فنقول: هو عامّ يشمل نفسه أيضا بالقطع إمّا لفظا وإمّا ملاكا، فله مدلولان، عدم حجيّة نفسه وعدم حجيّة غيره، فحجيّته بالنسبة إلى المدلول الأوّل محال؛ إذ يلزم حجيّته وعدم حجيّته، وأمّا بالنسبة إلى المدلول الثاني فغير محال، فيمكن شمول أدلّة الحجيّة له بملاحظة هذا المدلول، فخبر السيّد بعد اندراجه تحت دليل الحجيّة بمنزلة عام لا يمكن إرادة فرد منه، فيكون مخصّصا عقلا بغيره، فحينئذ يقع التعارض بين هذا الخبر مع سائر الأخبار؛ إذ دخوله مستلزم لخروجها، ودخولها مستلزم لخروجه.
وإذن فالأولى في الجواب أن يقال: بعد دوران الأمر في الآية بين أن تكون نازلة من السماء لخصوص خبر السيّد وبين كونها نازلة لأجل غيره من الأخبار الكثيرة أنّ المقدّم هو الثاني، لا لأجل مجرّد كثرته واستلزام الأوّل انتهاء التخصيص إلى الواحد، بل لاستلزام الأوّل استبشاع المعنى؛ إذ يلزم إفادة عدم حجيّة خبر الواحد بعبارة دالّة على حجيّة خبر الواحد وهو من المضحكات والهزليّات ومحسوب من الألغاز والمعميّات، هذا.
ومن أغرب ما كتب في حاشية المولى الأعظم محمّد كاظم الخراساني طاب ثراه على الرسائل ما كتبه في هذا المقام ممّا حاصله: أنّه يمكن الالتزام بأنّ الآية تدلّ على حجيّة خبر الواحد إلى زمان السيّد، وتدلّ على عدم حجيّته بعد هذا الزمان بدلالته على حجيّة خبر السيّد، ثمّ ذكر ما حاصله أنّه وإن كان التفكيك مقطوع الخلاف للإجماع على أنّه لو كان خبر الواحد حجّة للأوّلين فيكون حجّة للآخرين أيضا، بل ولا يحتمل كونه حجّة للأوّلين وغير حجّة للآخرين وإن كان عكسه وهو عدم حجيّته للأوّلين بملاحظة انفتاح باب العلم وحجيّته للآخرين باعتبار انسداده محتملا، إلّا أنّه لا بأس بأن نلتزم في مرحلة الظاهر بعدم حجيّة خبر الواحد بعد زمان خبر السيّد لوجود الحجّة عليه وهو خبر السيّد، وأمّا ما قبل هذا الزمان فهو خارج عن محلّ الابتلاء.
والحاصل أنّ الأخذ بهذه الحجّة وإن كان لا يمكن في غير محلّ الابتلاء للزوم القبح، لكن لا يضرّ ذلك بمحلّ الابتلاء إذا أمكن الأخذ بها فيه.
وحاصل مرامه بعبارة اخرى أنّ مخالفة الإجماع على المطلب الواقعي لموافقة حجّة ظاهريّة لا تضرّ، وهنا من هذا القبيل، فالواقع حسب الإجماع لا يخلو من أحد الأمرين فقط، إمّا إرادة الحجيّة وإمّا عدمها، ولكن في مقام الظاهر والأخذ بالحجّة وقع التفكيك، ففي قطعة من الزمان- وهو ما بين صدور الآية إلى زمان صدور خبر السيّد- كانت الحجّة الفعليّة الغير المزاحمة واقعا بشيء قائمة على الحجيّة، فكان تكليف الناس في مرحلة الظاهر الأخذ بهذه الحجّة أعني ظاهر عموم الآية، وفي قطعة اخرى- وهو ما بعد صدور خبر السيّد- كانت الحجّة الفعليّة قائمة على عدم الحجيّة، فمن هذا الحين صار تكليفهم الرجوع إلى هذه الحجّة الظاهريّة وهو خبر السيّد المخصّص بعموم الآية.
فإن قلت: صدور خبر السيّد وإن كان في الزمان المتأخّر، لكن مفاده عدم الحجيّة من الزمان الأوّل، فيشمل زمان صدور الآية أيضا، فيعود الإشكال.
قلت: نعم ولكن الحجيّة مختصّة بمفاده بالنسبة إلى زمان وجوده وما بعده، فلا يلزم محذور بالنسبة إلى ما هو الحجّة، أمّا بالنسبة إلى الأوّلين فلعدم الموضوع أعني خبر السيّد، وأمّا بالنسبة إلينا فلعدم كون تلك الأزمان السابقة محلا لابتلائنا وموردا لعملنا، فتكون الحجيّة مختصّة بنا بالنسبة إلى الزمان المتأخّر.
وأنت خبير بما فيه، أمّا أوّلا فلأنّ إشكال الاستبشاع جار بعينه في ما بعد زمن إخبار السيّد أيضا، فإنّ التعبير عن عدم حجيّة خبر الواحد بعبارة مؤدّاها أنّ خبر الواحد حجّة يكون مستبشعا مطلقا، سواء كان بملاحظة أوّل زمان صدور الآية أم بملاحظة ما بعد خبر السيّد.
وأمّا ثانيا فلأنّا نحصر ما يحتمل إرادته من الآية في وجوه بالفحص والترديد والدوران، ونبيّن بطلان إرادة كلّها سوى الوجه الذي ذكرنا من خروج خبر السيّد ودخول ما عداه.
فنقول: المراد بمفهوم الآية الدال على أنّ خبر الواحد حجّة لا يخلو إمّا أن يكون حجيّة خصوص خبر السيّد من أوّل زمان الصدور، وإمّا حجيّة خبر الواحد من الأوّل إلى زمان خبر السيد، وحجيّة خبر السيّد فقط ممّا بعد هذا الزمان، وإمّا حجيّة خبر السيد والأخبار الأخر معا، وإمّا حجيّة الأخبار الأخر دون خبر السيّد، ولا خامس لهذه الوجوه.
لا سبيل إلى الأوّل؛ للزوم الاستبشاع في المعنى، ولا إلى الثاني؛ لكونه مقطوع الخلاف، ولا إلى الثالث؛ للزوم المحال من حجيّة الأخبار الأخر وعدم حجيّتها، فتعيّن الرابع وهو المطلوب.
ثمّ إنّ أحسن الأجوبة عن أصل الإشكال أن يقال: إنّ خبر السيّد غير مشمول لأدلّة الحجيّة رأسا؛ لأنّه إجماع منقول، وقد عرفت في ما تقدّم أنّ الآية إنّما تدلّ على حجيّة الخبر عن حسّ أو قريب عن الحس، ولا يشمل الإخبار الحدسي فتذكّر.
ثالثها: وهو أيضا وارد على جميع أدلّة حجيّة خبر الواحد ولا اختصاص له بالآية- وله تقريبان مرجعهما إلى الواحد:
الأوّل: أنّ تلك الأدلّة موردها الخبر بلا واسطة، ولا يمكن أن يشمل الخبر مع الواسطة، بيان ذلك أنّه إذا أخبرنا الشيخ أنّه قال المفيد: كذا، فالخبر الوجداني لنا منحصر في خبر الشيخ، فلا بدّ من إجراء «صدّق العادل» في خبر الشيخ ليثبت ببركة هذا الحكم خبر المفيد تعبّدا، لنرتّب بعد حصول موضوع الخبر التعبّدي نفس حكم «صدّق» عليه أيضا، فيلزم أن يكون الحكم محقّقا لموضوع نفسه، فإنّ حكم «صدّق» المترتّب على خبر الشيخ تحقّق موضوع خبر المفيد التعبّدي، فيصير حكما له، فيلزم تقدّم الحكم على موضوعه والواجب العكس، فالواجب أن لا يشمل الحكم الموضوع المتحقّق بسببه لئلا يلزم هذا المحذور.
فقول القائل: كلّ خبري صادق، لا بدّ أن لا يشمل نفسه، فإنّ حكم «صادق» يكون سببا لتحقّق موضوع هذا الخبر، فلا يمكن أن يكون حكما له أيضا، غاية الأمر أنّ الحكم في هذه القضيّة موجد المخبر حقيقة وفي قضيّة «صدّق» موجد له تعبّدا.
والثاني: أنّ معنى «صدّق العادل» ليس هو التصديق الجناني، بل المراد هو التصديق العملي الذي هو عبارة عن ترتيب الأثر الثابت لمقول قوله عليه، ومقول قول الشيخ هنا قول المفيد، وليس أثر قول المفيد لزوم العمل مثل قول الصادق عليه السلام، بل إنّما أثره تصديق العادل، فيلزم أن يكون صدق العادل المرتّب على خبر الشيخ بلحاظ ترتيب نفسه، ولا يمكن أن يكون الحكم التنزيلي ناظرا إلى نفسه، بل لا بدّ أن يكون الحكم بتصديق العادل بلحاظ أثر آخر غير هذا الأثر الذي هو نفسه.
ولا يخفى أنّ مرجع التقرير الأوّل إلى الثاني؛ فإنّه ليس الحال في «صدّق العادل» هو الحال في «كلّ خبري صادق»؛ فإنّ الثاني يكوّن الخبر ويوجد الفرد الحقيقي له، وأمّا هنا فصدق العادل لا يوجد الفرد الحقيقي لخبر المفيد مثلا، بل الخبر التعبّدي، والخبر التعبّدي يعنى ما يكون له أثر الحقيقي، وليس التعبّد بالخبر إلّا ترتيب أثر الخبر الحقيقي وهو تصديق العادل.
وبعبارة اخرى: معنى «صدّق العادل» في خبر الشيخ هو البناء على وجود خبر المفيد، ومعنى البناء على وجوده ترتيب أثر التصديق عليه، فيرجع إلى عدم إمكان أن يكون الحكم بالتصديق بلحاظ ترتيب نفسه.
وقد أجابوا عن هذا الإشكال أنّ المراد بقوله: رتّب الأثر، ترتيب طبيعة الأثر، وهذه الطبيعة صادقة على هذا الحكم الذي هو وجوب التصديق، فخبر العادل كلّ أثر يكون لقوله يجب ترتيبه وإن كان الأثر وجوب التصديق، وعلى هذا فهذه القضيّة تشمل نفسه بالمدلول اللفظي، ويمكن بتنقيح المناط أيضا، للعلم بعدم خصوصيّة أثر دون آخر في نظر الشارع، هذا ما قالوه.
وأظن أنّ هذا الجواب غير نافع لهذا المقام، لأنّ المراد بتصديق العادل كما اعترفوا به هو التصديق العملي، والحاصل أنّه لا بدّ أن يكون معنى «صدّق العادل» «صلّ الجمعة» مثلا، فما لم يرجع معناه إلى العمل لا معنى لإجرائه، وعلى هذا فالأثر الذي يهمّ ترتيبه هنا على خبر الشيخ باخبار المفيد ليس إلّا تصديق المفيد في خبره، وتصديق المفيد لا إشكال في أنّه في حدّ ذاته ليس عملا مطلوبا شرعيّا.
فإن قلت: ثمرته الانتهاء إلى قول الإمام عليه السلام: «صلّ الجمعة» وهو أثر عملي، وتصديق المفيد وغيره من الوسائط وسائط لهذا الأثر.
قلت: فيكون «صدّق العادل» بلحاظ ذاك الأثر الذي هو الحكم الصادر عن الإمام، وهو مناف لما ذكروه من أنّ الأثر المرتّب على تصديق الشيخ تصديق المفيد وأثره تصديق الصدوق وهكذا إلى أن ينتهي إلى قول الإمام، فهنا يجب إجراء حكم «صدّق العادل» المتعدّد المرتّب في الطول، وكلّ لا حق يكون بلحاظ سابقه.
والحقّ في الجواب أن يقال: إنّه لا حاجة لنا إلى أزيد من الخطاب الواحد ب «صدّق العادل»، وبإجراء الفرد الوحد من «صدّق» يرتفع الإشكال، بيان ذلك أنّه إذا أخبرنا الشيخ أنّه أخبره المفيد أنّه أخبره الصدوق أنّه أخبره أبوه أنّه أخبره الصفّار أنّه قال له العسكري عليه السلام: صلاة الجمعة واجبة مثلا، فلا شكّ أنّه من هذه السلسلة قد استفدنا قول الإمام وحكي لنا رأيه عليه السلام، وذلك لأنّ خبر الشيخ يحكى بالحكاية الظنّية الشخصيّة مثلا عن خبر المفيد، وهو يحكي لنا ويفيد الظنّ الشخصي بقول الصدوق، وهكذا كلّ يفيد الظنّ الشخصى بمحكيّه إلى قول الصفار، وهو أيضا يفيد الظنّ الشخصي بمحكيّه وهو صدور قول: «صلّ الجمعة» عن الامام.
فتحقّق هنا الحكاية الظنّية عن قول الإمام مستندة إلى خبر العادل، والدليل دلّ على أنّ الظنّ بالحكم الشرعي المستند إلى خبر العادل واجب الاتّباع، ولا يلزم في باب الأمارة أن يكون الحكم الشرعي الذي يقصد ترتيبه أثرا شخصيّا لمؤدّاها.
ألا ترى أنّه لو قام البيّنة على طهارة أحد الإنائين المعلوم إجمالا نجاسة أحدهما يحكم بنجاسة الإناء الآخر، مع أنّ نجاسة الثاني ليست أثرا شرعيّا لطهارة الأوّل، وإنّما حصل التلازم بينهما بحسب علمك، فأنت بهذا الاعتقاد قاطع على تقدير صدق البيّنة بنجاسة الإناء الثاني، فإذا حصل لك الظنّ الشخصي من قول البيّنة الحاكية لطهارة الأوّل حصل لك الظنّ أيضا بنجاسة الثاني، فيكون خبر البيّنة حاكيا لنجاسته بالحكاية الظنيّة.
فكذلك هنا أيضا يكون التلازم بين قول العادل والصدق ظنّا، فكلّ من خبر الشيخ والمفيد الخ يكون متلازم الصدق ظنّا إلى قول الإمام، فيصدق الحكاية الظنيّة عن قول الإمام عليه السلام مستندة إلى خبر العادل، ثمّ بعد هذه الحكاية يدور الأمر بين اثنين لا ثالث لهما:
الأوّل: أن يكون القول صادرا عن الإمام عليه السلام، والثاني: أن يكون عادل كاذبا، فإنّه لو لم يصدر القول عنه عليه السلام فلا يخلو إمّا يكون الشيخ كذب في قوله: أخبرني المفيد، ولو صدق هو فيلزم أن يكون المفيد كاذبا في خبره:
أخبرني الصدوق، ولو صدق هو كان الصدوق كاذبا في خبره: أخبرني أبي، وهكذا لو صدق الأب لزم كذب الصفّار، ولا يمكن أن لا يكون في البين كذب عادل ومع ذلك لم يكن القول صادرا عن الإمام.
نعم لو كان في الوسائط فاسق ولو واحدا لأمكن صدق العادل وعدم صدور الحكم عن الإمام، وأمّا بعد كون الوسائط جميعا محقّق العدالة غير مشكوك في عدالتهم فلا محالة يكون عدم الصدور ملازما لكذب عادل واحد، وحينئذ فالتوقّف عن العمل بالحكم المحكيّ بالحكاية المذكورة أعني وجوب الجمعة ليس له سبب وعلّة إلّا احتمال كذب العادل، ضرورة أنّه مع القطع بعدم كذب العادل فلا مانع عن المصير إلى العمل، فعند هذا التوقّف لأجل هذا المانع يكون المكلّف مخاطبا بخطاب «صدّق العادل» وهذا الخطاب يدعوه إلى العمل بالحكم المزبور؛ إذ مع إلغاء هذا الاحتمال ينتفي المانع عن العمل مطلقا.
فعلم أنّ المحتاج إليه ليس بأزيد من فرد واحد من «صدّق العادل» ويكون المقصود طبيعة العادل من دون إشارة إلى شخص خاص من الشيخ ومن قبله من الوسائط، ويكون اللازم العادي لتصديقه هو العمل أعني صلاة الجمعة.
والحاصل أنّ قول الإمام صدورا وعدما يدور مدار صدق العادل بقول مطلق وكذبه ولو في ضمن فرد واحد منه، وكون تمام توقّف المكلّف عن العمل بسبب مجرّد احتمال كذب العادل يكفي في توجّه خطاب واحد إليه بتصديق العادل.
فإن قلت: ما ذكرت من كفاية خطاب واحد إنّما يتمّ في ما إذا كان هناك اخبار عدول متعدّدة محقّقة محرزة لنا وجدانا، كما لو علمنا وجدانا بصدور الخبر عن كلّ واحد من الشيخ ومن قبله إلى الصفّار، فحينئذ لو لم يكن القول صادرا عن الإمام فلا محالة يلزم كذب عادل واحد، فخطاب واحد بتصديق طبيعة العادل يكفي في سدّ باب هذا الاحتمال، والتحريك نحو العمل، وهذا بخلاف ما نحن فيه، حيث إنّ الخبر الوجداني المحقّق منحصر في خبر الشيخ، وأمّا خبر غيره فلا بدّ من إحرازه بخطاب «صدّق» المتعلّق بخبر الشيخ، فب «صدق العادل» في خبر الشيخ يثبت خبر المفيد وب «صدق العادل» الجاري في خبر المفيد يثبت خبر الصدوق، فلا محيص عن خطابات عديدة طوليّة، ولا يكفي سوق خطاب واحد نحو طبيعة العادل مع عدم إحراز ما عدا خبر الشيخ.
قلت: لكن مع ذلك كلّه لا يخرج الأمر من حالين، إمّا صدر من الإمام الحكم، وإمّا كذب عادل واحد، ولا ثالث لهذين، وهذا العادل الواحد إمّا الشيخ وإمّا المفيد وإمّا الصدوق وإمّا أبوه وإمّا الصفّار، فنحن نرفع احتمال الكذب عن الجميع بخطاب «صدّق العادل» ومن المعلوم أنّ اللازم العادي للاخبار المسلسلة هو صدور الحكم عن الإمام ظنّا.
وإن شئت التوضيح فافرض حصول القطع من خبر كلّ من الشيخ ومن قبله، فعند هذا القطع يلزم قهرا حصول القطع بقول الإمام، فكذلك لو حصل الظّن بصدق العادل حصل قهرا الظنّ بالصدور، فيصدق أنّه حصل الظنّ بقول الإمام من خبر العادل كما يصدق في المثال حصول القطع به من خبر العادل، وقد قلنا: إنّه لا يلزم أن يكون أثرا لقول العادل، بل يكفي ثبوت الملازمة بينهما بمعنى أن يكون العمل لازما له أو ملزوما بحيث صدق الحكاية.
فهنا أيضا تكون الملازمة بين قول العادل والظنّ بالصدق وبقول الإمام عليه السلام كما هو واضح، فإذا رفع احتمال الكذب عن البين بواسطة «صدّق العادل» فلا معنى لهذا الخطاب إلّا الإلزام بصلاة الجمعة.
وحاصل الكلام في المقام أنّ مجرّد تصديق العادل ما لم ينته إلى العمل ليس بأثر؛ إذ ليس مفاد «صدّق» هو التصديق القلبي، حتى أنّ في ما يكون الأثر الشرعي لمؤدّى الأمارة بواسطة ملازمات خارجيّة أيضا ليس المقصود تصديق ما هو اللازم للمؤدّى بلا واسطة، بل المقصود توجيه المكلّف نحو العمل الذي هو متأخّر عن الجميع، مثلا لو أخبر بشيء وكان في الخارج ملازما مع وجوب صلاة ركعتين فليس معنى «صدّق» ابن على وقوع هذا الأمر الخارجي، بل المقصود: صلّ الركعتين.
وحينئذ نقول: يكفي في الحكاية بقول العادل كون الوقوع واللاوقوع منوطين بصدقه وكذبه، كما في مثال المخبر بأحد المتلازمين بعد الفراغ عن الملازمة الخارجيّة بينهما، فإنّه لو لم يكن اللازم الآخر متحقّقا فلا محالة كذب العادل، ولو صدق فلا محالة يكون اللازم الآخر متحقّقا، وبمجرّد هذا القدر حصل المطلب بحكاية قول العادل وببركته، ولا يحتاج في تحقّق الحكاية إلى كون المحكيّ مدلولا مطابقيّا لقوله، بل ولا كونه التزاميّا بأن لا يلتفت المخبر بملازمته أصلا، بل ولو كان قاطعا بالخلاف.
فإذا أخبر بطهارة أحد المشتبهين كان حكاية عن نجاسة الآخر لمن له العلم الإجمالي، وإن كان نفس المخبر قاطعا بطهارة الآخر فيكفي في الاستفادة والتحصيل للمطلب من قول العادل ثبوت الوقوع على تقدير صدقه، وهذا هو المراد لو اعتبر كون الواسطة من اللوازم العقليّة أو العاديّة، فإن الملاك هو الحكاية المتحقّقة بدوران الوقوع واللاوقوع على صدقه وكذبه.
فنقول في ما نحن فيه: وجوب الجمعة الذي هو الأثر العملي وإن لم يكن مدلولا مطابقيّا إلّا لقول الصفّار، ولكن نحن لا نشكّ في أنّه لو لم يكن الشيخ والمفيد والصدوق وأبوه والصفّار كاذبين فهذا الحكم واقع، وإن كان لا واقعيّة له فلا محالة إمّا مستند إلى كذب الصفّار وإمّا أب الصدوق وهكذا، فتحقّق الحكاية عن قول الإمام بخبر العادل، وأنّا قد استفدنا من هذه السلسلة من العدول وببركة أخبارهم حكم الإمام، فإذن فنحن مكلّفون بصدق العادل لأجل نفس هذا الأثر العملي المحكيّ بقول العادل المترتّب على صدقه، هذا غاية توجيه مرام شيخنا الاستاد دام ظلّه على ما استفدته من تقريره في مجلس الدرس.
وأنا أقول: هنا سؤال وهو أنّ طبيعة خبر العادل التي علّق عليها في الأدلّة حكم «صدّق» لا يخلو من حالين، إمّا يسري حكمه إلى أفراده وإمّا لا، وحيث إنّ المختار هو سراية الحكم من الطبيعة إلى الفرد فيتعيّن الأوّل، وحينئذ فنقول: إخبار شيخ الطائفة لنا بخبر المفيد الذي هو الفرد الحقيقي لهذه الطبيعة في المقام وليس غيره فرد وجداني آخر لا يخلو إمّا يكون من جملة تلك الأفراد التي يسري إليها الحكم المذكور من الطبيعة وإمّا خارج عنها.
فإن كان الثاني فنحن في الراحة؛ إذ لا يجب علينا تصديق هذا الخبر، وليس غيره خبر آخر في أيدينا، وإن كان الأوّل كان هذا النزاع في ما بين الاستاد والشيخ الأجلّ المرتضى لفظيّا، فإنّه على هذا يجب إسراء حكم «صدّق» في خبر الشيخ من الطبيعة، وبه يتحقّق موضوع خبر المفيد تعبّدا، فيشمله هذا الحكم بالسراية، فيتحقّق موضوع الخبر التعبّدي للصدوق، فيشمله أيضا، فهنا أحكام طوليّة، كلّ لاحق محقّق لموضوع السابق.
فينحصر وجه تصحيح الإشكال بما ذكره الشيخ من جعل قضيّة صدق العادل طبيعيّة، بأن يكون المراد منها طبيعة الأثر ولو كان جاريا بنفس هذا الحكم، فهو قدّس سرّه إنّما يقول بتعلّق حكم «صدّق» بخصوص شخص خبر الشيخ من باب السراية، وإلّا فلا يقول بتعلّقه به أوّلا وبالذات.
والاستاد دام ظلّه يقول: هنا حكم على طبيعة العادل من دون نظر إلى خصوص الأفراد، وهذا مسلّم إلّا أنّه تبعا يتعلّق بالأفراد كما هو معترف أيضا، فلا محالة يكون النزاع- في أنّ المحتاج إليه خطاب واحد ب «صدّق» أو خطابات طوليّة بعدد الاخبار- على هذا الوجه نزاعا لفظيّا.
وطريق التخلّص منحصر في جعل القضيّة عامّة إمّا بالملاك وإمّا بجعلها طبيعيّة، والمراد بالتصديق أيضا تصديق عملي، ولكن لا يلزم عدم الواسطة بينه وبين العمل، بل يكفي كون المنتهى إليه عملا كما هنا، فصدّق في خبر الشيخ ناظر إلى «صدّق» في خبر المفيد وهو إلى «صدّق» في خبر الصدوق إلى أن ينتهي إلى «صلّ الجمعة»، والغاية الأصليّة للجميع هو هذا بحيث لو لم يكن هذا لما كان محلّ لخطاب «صدّق» أصلا.
فإن قلت لا شبهة في أنّ حكم «صدّق» موجود في موضوع خبر العادل قبل أن يخبر، غاية الأمر على نحو التعليق، يعني لو وجد فصدّقه، وهذه القضيّة التعليقيّة أبدا موجودة وإن لم يكن لها مصداق في العالم أصلا.
فنقول: خبر الصفّار والصدوق والمفيد والشيخ موضوع لهذا الحكم التعليقي بلا ترقّب لحصول أمر، فحينئذ إذا حصل لخبر الشيخ المصداق الخارجي وصار فعليّا صار هذا الحكم التعليقي فعليّا، وهذا الحكم بانضمام الأحكام التعليقيّة الموجودة في نفسها في موضوع خبر الآخرين من دون توقّف له على تحقّق الحكم لخبر الشيخ يفيد المدّعى ويكفي في الوصول إلى قول الإمام؛ فإنّ مقول قول الشيخ هو قول المفيد ونحن مكلّفون بالتكليف الفعلي التنجيزي بتصديق خبر الشيخ، وحينئذ فإن لم يقل المفيد لزم كذب الشيخ، وهذا خلاف ما امرنا به، وإن قال فالمفروض أنّه أيضا واجد للقضيّة التعليقيّة، وهكذا نقول في خبر الصدوق والصفّار، فيكفي لنا أيضا خطاب واحد ب «صدّق العادل».
قلت: هذا عين تقرير مطلبنا، فإنّ القضيّة التعليقية قبل صيرورتها منجّزة لا يترتّب عليها أثر، وهذا من البديهيّات الأوّليّة في الميزان، فلا بدّ من صيرورة هذه القضيّة التعليقيّة في خبر المفيد بتوسّط وبركة فعليّتها في خبر الشيخ حتّى يكون لها أثر، ففي مرتبة القضيّة التعليقيّة وإن كان لا ترتّب بين القضايا، بل كلّها في عرض واحد، ولكن في مرتبة الفعليّة والتنجيز الذي هو لا بدّ منه يكون بينهما الترتّب، بمعنى أنّ فعليّة الحكم التعليقي للموضوع السابق الذي هو خبر المفيد يحدث من قبل فعليّته للموضوع اللاحق الذي هو خبر الشيخ.
فالحكم المتصوّر هنا في كلّ من الأفراد بدون الترتّب وتوقّف وجود السابق بوجود اللاحق- وهو التعليقي- غير مفيد، والحكم الذي له فائدة وهو الوجوب الفعلي لا يتصوّر بغير الترتّب ومجيء السابق من قبل اللاحق، فعلم أنّه لا يمكن إخراج المقام عن إيجاد الحكم بالحكم كما هو واضح، هذا وقد قرّر دام ظلّه مرامه بتقرير آخر دفعا لما أوردناه عليه.
وحاصل تقريره الثاني أنّه لا بدّ من تقديم مقدّمة لها كمال الدخل في فهم المطلب وهي. فهم الفرق بين الاصول والأمارات.
فنقول: يجب في الاصول الاقتصار على مدلولها، ولا يجوز التعدّي منه إلى شيء أجنبي عن مدلولها، مثلا مدلول الاستصحاب عدم نقض اليقين بالشكّ، فلو كان إناءان مشكوكا الطهارة وكان أحدهما مسبوقا بها دون الآخر، ولكن علم التلازم بين طهارتيهما فحينئذ يبنى على طهارة الأوّل دون الثاني، لعدم كون الحكم بطهارته من مصاديق عدم نقض اليقين بالشك، ومدلول الأصل هو هذا لا غيره فلا يجوز التعدّي عنه.
وكذلك لو كان في طول المدلول ومترتّبا عليه، كما لو شكّ في حياة الزيد بعد العلم بها، وكان من لوازم حياته إلى هذا الزمان بياض لحيته، وكان لبياض لحيته أثر شرعي كوجوب صلاة ركعتين، فإنّه لا يحكم باستصحاب الحياة بوجوب الركعتين، فإنّ بياض اللحية أجنبي عن مدلول الاستصحاب، لعدم تحقّق المصداق، لعدم نقض اليقين بالنسبة إلى بياض اللحية، وإنّما تحقّق بالنسبة إلى الحياة وهي غيره.
نعم يحكم باللوازم الشرعية مثل طهارة الملاقي عند استصحاب الطهارة في ملاقاه، فإنّ مدلول الأصل البناء على الطهارة، ومعنى ذلك معاملة الطهارة التي من جملته طهارة ملاقيه.
وهذا بخلاف الإمارات، فمعنى «صدّق العادل» مثلا: رتّب أثر الصدق على قوله وألق احتمال الخلاف، فكلّ كشف يحصل للإنسان بواسطة الاعتماد على «صدّق العادل» لزم الأخذ به إذا كان كشفا لحكم شرعي، فإذا علمنا التلازم بين طهارة الإنائين المشكوكين وأخبر العادل بطهارة أحدهما فمدلول قوله والمخبر به لإخباره إنّما هو طهارة هذا الأحد لا غير، لكنّ المقدار الحاصل من الكشف عن طهارة هذا الأحد من قوله تحصّل هذا المقدار بعينه بلا زيادة ونقيصة بالنسبة إلى طهارة الآخر، فيندرج تحت دليل «صدّق» وإن كان العادل لم ير الملازمة أو قطع بالنجاسة.
وكذا الحال في ما إذا كان الأثر في طول ما أخبر به العادل، كما لو أخبر بأنّ المنار الموجود في بلاد الإفرنج ستّة عشر ذرعا، وكان بين كون المنار المذكور بهذا القدر وبين وجوب صلاة ركعتين ملازمة فإنّه كما يحصل الكشف بالنسبة إلى مقدار المنار يحصل بعينه بالنسبة إلى وجوب الركعتين، وحينئذ لا يلزم تعلّق خطاب «صدّق» أوّلا باللازم بلا واسطة وهو المقدار الخاص للمنار ثمّ تعلّقه بالأثر، بل يكون متعلّقا من الأوّل بلحاظ الأثر، يعني هذا الكشف الحاصل من إخبار العادل يجب الأخذ به وإلغاء احتمال خلافه الملازم لكذب العادل.
والحاصل: حيث ما دار وقوع الحكم وعدم وقوعه مدار صدق العادل وكذبه وجب البناء على صدقه وإلغاء احتمال الكذب، ولو كان معنى «صدّق العادل» هو البناء على مقول قوله لما كان فرق بين الأمارة والأصل، فليس الموضوع لوجوب التصديق خبر العدل، بل ما انكشف بسبب ملاحظة الملازمة بين خبره ومطابقته للواقع.
وحينئذ نقول في ما نحن فيه: بين قول الصفّار ومطابقة مقوله للواقع ملازمة ظنيّة، وكذا الصدوق، فيحصل الكشف الظنّي من قول الصدوق باخبار الصفّار، ومنه يحصل الكشف الظنّي بوجود تكليف «صلّ الجمعة» فيتحقّق هنا كشف في نفس الإنسان لحكم وجوب الجمعة من جهة الاعتماد على صدق العادل، بحيث لا يمكن الخلاف إلّا مع كذب عادل واحد لا محالة، فإذا علمنا من الشارع أنّه أراد إلغاء هذا الاحتمال في حقّ العادل كان معناه وجوب الجمعة، فلو كان بالفرض حجيّة قول العادل دائرا مدار الظنّ الفعلي لكان يصدق أنّ الظّن الفعلي حصل بصلاة الجمعة من قول العادل، إذ لا إشكال في أنّ قول العادل في حدّ نفسه مع قطع النظر عن حكم «صدّق» يكون بينه وبين مطابقة مدلوله للواقع ملازمة ظنيّة.
فبقول الشيخ يحصل الكشف الظنّي بقول الصفّار، وبه يحصل بوجوب الجمعة، فيتحقّق هنا كشف حاصل من الاعتماد على مطابقة قول العادل، فلو كان أحد الوسائط فاسقا لما حصل هذا المضمون أعني: الكشف الحاصل من الاعتماد على صدق العادل.
وكذلك الحال على ما هو الواقع من اعتبار الظنّ النوعي؛ فإنّ معناه أنّه قد لا يكون فعليّا لأجل شوب الذهن ببعض العوارض والمعارضات، وإلّا كان اللازم حصول الظنّ الفعلي.
وكيف كان فحينئذ يكون هنا كشف ظنّي نوعي لوجوب الجمعة حاصل من قول العادل يعني من صدقه وعدم كذبه فلا تغفل، فإنّه لا نجعل الموضوع خبر العادل حتّى نحتاج إلى تجشّم تعلّقه أوّلا بخبر الشيخ حتى يثبت به موضوع خبر الصفّار، بل نجعل الموضوع الانكشاف الحاصل في النفس من جهة الاتّكال على صدق العادل وإلغاء احتمال كذبه، وهذا يكون ملازما بلا واسطة للحكم الشرعي، ويكون معنى «صدّق» من أوّل الأمر «صلّ الجمعة».
والحاصل (2) أنّه لو كان معنى الحجيّة الطريقيّة هو التعبّد بمدلول القول مطابقة أو التزاما، وبعبارة اخرى: كانت الحجيّة دائرة مدار عنوان الإخبار والمخبر بهيّة ولازم ذلك الجمود على هذا، كما في التعبّد بعنوان عدم النقض، وعدم التعدّي إلى اللوازم والملزومات والملازمات العاديّة أو العقليّة، فضلا عن الملازمات العلميّة،- إذ ليس في الكلام إشعار بذلك ولا في ذهن المتكلّم احتماله، فكيف يصحّ إطلاق أنّه:
قاله، أو أخبر به، أو دلّ عليه لفظه، أو كان معناها إيراد التنزيل أوّلا على المقول ثمّ على الوسائط فيكون هنا تنزيلات طوليّة مترتّبة بعدد الوسائط وترتيبها- كان الإشكال متوجّها؛ إذ يلزم على التقدير الأوّل في المقام إجراء التعبّد في خبر الشيخ ليثبت ببركته مقوله وهو قول المفيد، ثمّ في هذا القول الثابت تعبّدا ليثبت ببركته قول الصدوق وهكذا، وعلى التقدير الثاني إجراء الحكم أوّلا في قول الشيخ ثمّ جعل الملازمة بينه وبين قول المفيد وهكذا، وحيث إنّ الأثر الملحوظ في التنزيل على كلّ من التقديرين وجوب التصديق لزم كون الحكم ناظرا إلى نفسه.
ولكنّ الأمر على خلاف ذينك التقديرين، والحقّ في استكشاف حقيقة معنى الطريقية هو الرجوع إلى العرف في الطرق العرفيّة، ونحن إذا راجعناهم وجدنا معنى طريقيّة قول الثقة مثلا عندهم هو الاعتبار بكلّ انكشاف كان منشائه حسن الظنّ بالثقة وبعد احتمال الكذب في خبره، فلو فرض انكشافات طوليّة حاصلة بتوسّط الملازمة القطعيّة فهذه الانكشافات وإن كانت مترتّبة في الوجود، ولكنّها في ملاك الأخذ عندهم في عرض واحد.
وكذا لو أخبر ثقة أنّه أخبر فلان الثقة بكذا، فعين تلك الدرجة من حسن الظنّ والبعد المذكورين يحصل هنا كما يحصل عند إخبار الثقة بلا واسطة، وليس الغرض التشبّث بهذا الأصل المطلب حتى يقال: لعلّ وجه الأخذ وجود المناط أو صحّة القضيّة الطبيعيّة، بل المقصود التشبّث بهذا في فهم الطريقيّة الواردة في الأدلّة اللفظيّة الشرعية.
فنقول: الفرق بين «لا تنقض» وبين «صدّق العادل» هو الدوران في الأوّل مدار صدق العنوان، وأمّا في الثاني فنحكم بشهادة ذلك الارتكاز العرفي أنّ كلّ انكشاف لحكم شرعي نشأ من الاعتماد بقول العادل ولو بغير هذا الحكم، بحيث لزم من عدمه كذب العادل في خبر من أخباره، فالشارع حكم بلزوم الأخذ بهذا الحكم ولو كان في البين وسائط عقليّة أو عاديّة، فالجعل يتعلّق أوّلا بهذا الكشف المتعلّق بالحكم الشرعي، لأنّه القابل للجعل من دون تعلّق له بتلك الوسائط أصلا.
وحينئذ نقول: إذا قال الشيخ: قال المفيد: قال الصدوق: قال الصفّار: قال العسكري عليه السلام: تجب صلاة الجمعة، فنحن بعد إحراز عدالة هؤلاء المذكورين في السلسلة وعدم تخصيص حكم «صدّق العادل» بالنسبة إلى واحد منهم لا نحتاج إلّا إلى تعبّد واحد بوجوب صلاة الجمعة.
وذلك لأنّ خبر الشيخ محرز وجدانا وهو كاشف نوعيّ عن خبر المفيد، وهذا المكشوف كاشف نوعي عن خبر الصدوق وهكذا إلى وجوب صلاة الجمعة، بحيث لو فرض حصول الظنّ الفعلي من قول العادل لكنّا ظانّين بوجوب الجمعة فعلا من قول العادل، غاية الأمر أنّ الحال يحصل الظن النوعي من هذه السلسلة التي أوّلها وجداني، نعم هذا كشف ناقص فنحتاج- كما في كلّ مقام- إلى تتميمه بقول الشارع: «صدّق العادل».
وبالجملة، يصدق على هذا الانكشاف أنّه حصل من قول العادل ونشأ من حسن الظنّ به وبعد احتمال الكذب في حقّه، بحيث لو لم يكن المنكشف لزم كذب أحد العدول المذكورة في السلسلة.
نعم لو كان واحد من أهل السلسلة خارجا عن حكم «صدّق» بأن كان فاسقا أو مشكوك الحال لا يتمّ ما ذكرنا، فحاله حال ما إذا كان في الوسائط أولويّة ظنّية أو غيرها من الظنون الغير المعتبرة، ووجهه كما مرّ أنّا نحتاج إلى وجود دليل الاعتبار في كلّ واسطة ولو على نحو التعليق على وجود الموضوع من دون حاجة إلى إحراز الموضوع، فإنّه مع عدم ترتيب الأثر يلزم قطعا إمّا كذب الشيخ، ولو صدق هو كذب المفيد وهكذا، والحال أنّ الكلّ واجب التصديق ومحرّم التكذيب بلا تقييد بوصول شخص خبرهم إلينا تفصيلا؛ إذ الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمريّة لا المحرزة الواصلة إلى المكلّف تفصيلا.
فتحصّل أنّا لا نحتاج في إجراء دليل التعبّد في هذا الانكشاف إلى إدراجه تحت عنوان مقول العادل، ولا إلى تصحيح الملازمات الكائنة قبله لنحتاج على التقديرين إلى التعبّدات المترتّبة، بل نجري أوّلا دليل التعبّد في نفس هذا الانكشاف لاتّصافه بما هو المعيار من كونه حاصلا من قول العادل وأنّه لولاه لزم كذب عادل في خبر لا محالة.
ثمّ إنّ شيخنا الاستاد دام بقاه استشكل على القضيّة الطبيعيّة في المقام بوجهين، الأوّل: في كلّي شمول الطبيعية نفسها، والثاني: في خصوص المقام ولو فرغ عن كليّه، أمّا الخاص بالمقام فهو أنّ التصديق الواجب ليس المراد به التصديق الجناني، بل العمل الخارجي، وليس لخبر المفيد وغيره في المقام أثر عملي حتى بعد ملاحظة كونه موضوعا لوجوب التصديق، فإنّه بعد عدم كون المراد منه البناء القلبي على الصدق ليس في حدّ نفسه أثرا عمليّا، فيرجع الأمر بالأخرة إلى إيجاب الصلاة التي هي المنتهى إليه السلسلة، ومنه يعلم أنّه لو صحّحنا الطبيعيّة في مقام آخر فلا ينفعنا في هذا المقام، بل النافع هي الطريقة التي ذكرناها ليس إلّا.
وفيه أنّه يمكن تجزئة هذا العمل الواحد الذي هو الصلاة وتسهيمه على هذه الأخبار، فباب عدمها من ناحية كلّ خبر ينسدّ بواسطة «اعمل» المتعلّق بهذا الخبر، فكلّ يتكفّل لسدّ باب من ابواب عدمه ولإصلاح طرف من أطرافه، نظير شيء له مقدّمات أخبر بكلّ واحدة منها عادل.
وأمّا الإشكال العام فهو أنّ المتكلّم لو لاحظ الطبيعة في جانب الموضوع على نحو لا يتعدّى نظره منها إلى الأفراد أصلا وبعبارة اخرى: كان بصدد امتياز الطبيعة عن طبيعة اخرى كما في قضيّة، «الرجل خير من المرأة» ففي هذه الصورة يمكن شمول حكم القضيّة لنفسها باعتبار الطبيعة الموجودة فيها، لفرض أنّ النظر مقصور على صرف الطبيعة، والإشكال أعني وحدة الحكم والموضوع وبعبارة اخرى إيجاد الحكم لموضوع نفسه إنّما يحدث من وقوع النظر على خصوصيّة شخص هذا الفرد المتأتّي من قبل الحكم.
وأمّا لو لاحظ الطبيعة على نحو السريان وأنّها بكلّ وجود تلبّس، لها هذا الحكم فلا محالة حينئذ يقع نظره على هذا المصداق المتأتّي من قبل الحكم أيضا.
فإن قلت: إنّما يسري إليه بما هو وجود للطبيعة لا بما هو وجود خاص.
قلت: الخصوصيّة خارجة، ولكنّ الخاص بما هو خاص يصير معروضا.
فإن قلت: مع هذا أيضا يمكن التفكيك؛ فإنّ الخاص بما هو حصّة خاصّة للطبيعة مغاير ذهنا معه بما هو وجود هذا الفرد كما قلت في مبحث الاجتماع.
قلت: فرق بين العرض التحليلي أعني ما يتعلّق بالطبيعة باعتبار وجودها التحليلي، ففيه يتمّ ذلك ومحلّ الكلام في ذلك المبحث من هذا القبيل، وبين العرض الخارجي وما يعرضها في الوجود الخارجي؛ فإنّه لا محالة يسري إلى الفرد، فإذا صار الإنسان أبيض فلا محالة يصير الزيد أيضا أبيض، وما نحن فيه من هذا القبيل، والفرق هو اختلاف ما بين الأفعال المتعلّقة للأحكام والموضوعات المتعلّقة لتلك الأفعال.
وفيه أنّه فيما إذا علّق الحكم على الطبيعة بلحاظ الوجود الساري يكون النظر مقصورا على حصّة الطبيعة بما هي هذه الحصّة الخاصّة للطبيعة، وهي مغايرة في اللحاظ عن الخاص بالخصوصيّات الشخصيّة الفرديّة، ولهذا يصحّ إيقاع الحمل بينهما، ويقال: هذا الإنسان مثلا زيد، فنقول: إذا ثبت عرض لهذا الإنسان فالمتكلّم ما لاحظ الزيد وإن كان صحّة النسبة وصدقها تكون موقوفة على ثبوت هذا العرض في الخارج على وجه لا ينفكّ عن وقوع الخاص بتمام الوجود، بحيث لا يبقي حيثيّة منه خارجا متلبّسا بهذا العرض، ولكن في لحاظ الإثبات إنّما اثبت العرض بحيثيّة واحدة وهي حيثيّة حصّة الطبيعة.
ففرق بين: كلّ إنسان كذا وقولنا: الإنسان كذا بلحاظ الطبيعة بالوجود السرياني، ففي الأوّل وقع كلّ خاصّ خاصّ بشراشر وجوده وحيثيّاته تحت الحكم في لحاظ الحاكم بنحو الإجمال، ولهذا نقول: لا يمكن شمول القضيّة بهذا النحو نفسها؛ إذ لحاظ ما يتفرّع على الحكم ويتأتّى من ناحيته غير ممكن قبل الحكم ولو على نحو الإجمال. وأمّا في الثاني فلم يتعلّق نظر الحاكم بالخصوصيّة المتأتّية من قبل الحكم لا إجمالا ولا تفصيلا.
فإن قلت: فعلى هذا نحتاج إلى المناط بالإضافة إلى الخصوصيّة لإحراز أنّه لا مانع من قبلها في فعليّة الحكم المتعلّق بالحصّة.
قلت: بعد ما وقع هذه الحصّة تحت الحكم لا يعقل وقوع الخصوصيّة تحت ما يضادّه، فإنّه لا يعقل أن يحكم على هذا الإنسان بما هو هذا الإنسان بأنّه واجب الإكرام، ويحكم عليه بما هو زيد بأنّه محرّم الإكرام.
فإن قلت: لا مانع من أن يتعلّق حكم بالذات بلا سراية إلى الخصوصيّة، وحكم مضادّ له بالخصوصيّة كما هو الحال في الظاهري مع الواقعي.
قلت: قد استشكلنا عين هذا الإشكال هناك أيضا وهو أنّه وإن كان في الرتبة الثانية لا يسري الحكم إلى الاولى ولكنّه ينافي معه؛ لأنّ لحاظ أصل الذات مع فرض الحكم عليه بالوجوب مثلا ينافي مع الحكم في الرتبة الثانية بمضادة، وقد أجبتم عن الإشكال بإمكان دخل قيد التجرّد في الحكم، ولكن هذا لا يتمشّي هنا؛ إذ الفرض تأتّي الحكم بمقتضى الإطلاق في هذه الذات، وبعد ذلك يلزم اللغوية لو جعل الحكم المضادّ في الخصوصيّة.
وبالجملة وإن كان الإطلاق قاصرا عن شمول الخصوصيّة، لكنّه يكون بحيث يكفينا مئونة تحصيل المناط من الخارج؛ إذ بنفسه يستكشف عدم المانع من قبل الخصوصيّة لمكان التنافي بينهما، والأمارات مثبتاتها أيضا حجّة.
_____________
(1) ولو فرض أنّه ليس من هذا القبيل اصطلاحا فلا شكّ في اتّحاده معه في الملاك، لراقمه عفي عنه.
(2) هذا تقرير آخر لكلام آية اللّه العظمى الحائري قدّس سرّه وإشكال المؤلّف طاب ثراه عليه.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|