أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-8-2016
1642
التاريخ: 29-8-2016
1434
التاريخ: 8-8-2016
3804
التاريخ: 8-8-2016
2063
|
لا شكّ أنّ الواجب في هذه الشريعة قسمان: توصّلي وتعبّدي، فالأوّل ما يكون مجرّد الإتيان به مجزيا ولو لم يكن بقصد القربة، والثاني ما لا يجزى إلّا الإتيان به بقصد القربة، وحينئذ فهل يمكن عند الشكّ استفادة عدم اعتبار القربة وكون الواجب توصّليّا من إطلاق الصيغة أولا؟ فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملى.
تحقيق ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدّمة وهي: أنّه لو كان المراد بالقربة داعي الأمر قيل يلزم من أخذها في متعلّق الأمر الدور؛ إذ لا شكّ أنّ الإتيان بداعي الأمر متوقّف على وجود الأمر؛ ضرورة أنّ وجود المقيّد بما هو مقيّد متوقّف على وجود قيده، ووجود الأمر أيضا متوقّف على وجود الإتيان بداعي الأمر؛ لكونه معروضه، ووجود العرض متوقّف على وجود المعروض.
ويمكن دفعه بأنّه لا شكّ أنّ الطلب إنّما يتعلّق بالصورة الذهنيّة باعتبار حكايتها عن الخارج وانطباقها عليه لا بنفس الخارج؛ ضرورة أنّ تعلّقه به يؤدّي إلى تحصيل الحاصل؛ لاستحالة انفكاك العرض عن المعروض، وحينئذ فالفعل المقيّد بداعي الأمر بما هو فعل خارجي وإن كان يتوقّف على سبق وجود الأمر، لكنّه ليس متعلّقا للأمر وإنّما المتعلّق هو الصورة الذهنيّة لهذا المقيّد المنطبقة على الخارج وهي غير متوقّفة على وجود الأمر؛ ضرورة إمكان تصوّر الضرب بداعي الأمر مثلا مع عدم تعلّق أمر به اصلا.
وقد تقرّر الدور بوجه آخر وهو: أنّه لا شكّ أنّ الأمر متوقّف على قدرة المأمور على المأمور به؛ ضرورة استحالة صدور الأمر بغير المقدور من الحكيم، فإذا كان المأمور به هو الفعل بداعي الأمر فالقدرة عليه أيضا متوقّفة على وجود الأمر كما هو واضح.
ويمكن دفعه أيضا بأنّا لا نسلّم أنّ الأمر يتوقّف على سبق القدرة، وإنّما الثابت بالعقل هو أنّ الامر لا يجتمع مع العجز حين الامتثال، فلو فرض أنّ الآمر عند قوله:
طر إلى السماء يوجد القدرة في المأمور بمجرّد نظره فلا مانع من هذا الأمر عقلا، والحاصل أنّ القدرة بالأمر يكفي في صحّته ولا يحتاج إلى القدرة قبله.
وذكر في الكفاية ما حاصله: أنّ القدرة غير متحقّقة هنا حتّى بعد الأمر؛ لأنّ ذات الفعل خال عن الأمر بالفرض فلا يمكن الإتيان به بداعي أمره. لا يقال: إنّ الوجوب يسري من المقيّد إلى المطلق لكونه جزئه، لأنّا نقول: المطلق جزء عقليّ للمقيد لا خارجيّ؛ إذ ليس في الخارج إلّا وجود واحد ولا معنى للوجوب النفسي في الجزء العقلي ولا للمقدّمي بعد فرض الاتحاد في الوجود الخارجي.
ويمكن أن يقال: إنّ المطلق الذي هو قسم للمقيّد وإن كان لا يصير واجبا بوجوب المقيّد، ولكنّ الذات المهملة التي هي مقسم لهما يصير واجبا كذلك، لأنّ عرض القسم يضاف إلى المقسم على وجه الحقيقة؛ إذ أصل الوجود يضاف إليه بلا إشكال، فاذا وجد زيد يقال: قد وجد الإنسان أو الحيوان، فكذا عوارض الوجود من الوجوب ونحوه.
والشاهد على ما ذكرنا أنّ القائل بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين ..... وهما المطلق والمقيّد لا محالة، كما إذا دار الأمر بين وجوب عتق مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة يقول بأنّ وجوب الأقلّ متيقّن ووجوب الزائد مشكوك فينفى بالأصل، ولا شكّ أنّه ليس مراده بالأقلّ هو المطلق القسمي؛ إذ ليس وجوبه منتفيا كيف وهو احد طرفي الترديد بل المقسمي، فلولا سراية الوجوب من المقيّد إلى الذات المهملة لم يكن لدعوى القدر المتيقّن وجه.
لا يقال: نعم ولكن وجوب الذات المهملة بهذا المعنى غير مثمر؛ لأنّه لا يدعو ولا يحرّك إلى الذات مستقلا، بل إذا وجدت في ضمن المقيّد.
لأنّا نقول: الأمر كما ذكرت في مثل مثال العتق؛ ضرورة أنّ عتق غير المؤمن ناقص بخلاف ما نحن فيه؛ إذ لو أتى بذات العمل بداعي أمره ينطبق قهرا على المأمور به بلا نقص فيه أصلا، فعلم أنّ الأمر بالفعل المقيّد بداعي الأمر ليس تكليفا بما لا يطاق.
لكنّه مع ذلك محلّ إشكال؛ إذ شأن الأمر المولوي أن يكون صالحا لدعوة المأمور إلى المأمور به وتحريكه إليه، فإن كان المأمور به مطلقا حرّك إلى المطلق، وإن كان مقيّدا حرّك إلى المقيّد، ولازم ذلك أن يكون الأمر فيما إذا كان المأمور به هو العمل مقيّدا بداعي الأمر داعيا إلى نفس العمل وإلى قيده وهو داعويّته إلى نفس العمل وهذا محال؛ إذ يستلزم أن يكون التحريك والداعويّة سابقا على نفسه، فإرادة الفعل المقيّد بداعي الأمر غير ممكن لبّا.
وأمّا الواجبات التعبّديّة في الشريعة فقد ذكر للتفصّي عن الإشكال فيها وجهان:
الأوّل وهو مختار الكفاية أنّه: لو علم العبد أنّ الغرض الداعي إلى الأمر اخصّ بمعنى أنّ إتيان المأمور به بمجرّده غير محصّل له بل لا بدّ من ضمّ قيد آخر ولكن حيث كان أخذ هذا القيد في متعلّق الأمر غير ممكن تركه الآمر، فحينئذ يحكم العقل حكما إلزاميّا بأنّه يجب على العبد تحصيل الغرض وأنّه لا يجزي مجرّد موافقة الأمر، فلو أتى بالمأمور به ولم يأت بالقيد لم يسقط عنه الأمر ولم يخرج عن عهدة امتثاله.
ووجه ذلك أنّه لا شكّ أنّ الغرض علّة محدثة للأمر وكما أنّه صار علّة للحدوث فكذا يصير علّة للبقاء؛ ضرورة أنّ الإبقاء أسهل مئونة من الإحداث، فما دام الغرض باقيا كان الأمر باقيا، وإذا سقط سقط، فالواجب على العبد إسقاط العلّة التي هي الغرض حتّى يسقط بسببه المعلول الذي هو الأمر، وأمّا حكم صورة الشكّ فيذكر بعد ذلك.
لكن فيه ما سيأتي عن قريب، فالأولى أن يقال في وجه حكم العقل بإتيان الفعل على نحو يسقط به الغرض أنّه لو لم يأت كذلك وإن يسقط الأمر إلّا أنّ الغرض المحدث له ما دام باقيا يحدث أمرا آخر، وهكذا ما دام الوقت الصالح ليحصل ذلك الغرض باقيا، فلو أتى بالفعل على نحو يحصل به الغرض، وإلّا يعاقب على تفويت الغرض.
لا يقال: فوت الغرض الذي لم يدخل تحت التكليف ليس منشئا للعقاب
لأنّا نقول: نعم لو لم يكن الآمر بصدد تحصيله، وأمّا لو تصدّى لتحصيله بالأمر ولكن لم يقدر أن يأمر بتمام ما يكون محصّلا لغرضه كما فيما نحن فيه والمكلّف قادر على إيجاد الفعل بنحو يحصل به الغرض الأصلي فلا إشكال في حكم العقل بلزوم إتيانه كذلك، ومن هنا تعلم أنّه لا وجه للالتزام بأمرين، أحدهما بذات الفعل والثاني بالفعل المقيّد بداعي الأمر الذي هو الوجه الثاني؛ لأنّ الثاني ليس إلّا لإلزام المكلّف بالفعل المقيّد، وقد عرفت أنّه ملزم به بحكم العقل.
الثاني: أنّ المولى يحتاج في نيل غرضه إلى أن يتوسّل بأمرين: بأن يأمر أوّلا بنفس العمل وثانيا بالقيد وهو: حيث كون إتيانه بداعي أمره
وأمّا ما أورده في الكفاية على هذا من لغويّة الأمر الثاني ببيان أنّ الأمر الأوّل لا يخلو إمّا أن لا يسقط بمجرّد موافقته، بل لا بدّ في سقوطه من تحصيل الغرض الداعي إليه كما ذكرنا، وإمّا أن يسقط، فعلى الأوّل لا حاجة إلى الأمر الثاني؛ لاستقلال العقل بوجوب تحصيل الغرض المتوقّف على الإتيان بقصد القربة، وعلى الثاني لا يثمر ولا ينال المولى بسببه إلى غرضه، ضرورة أنّ للعبد حينئذ أن يأتي بالعمل خاليا عن قصد القربة حتّى لا يبقى مورد للأمر الثاني؛ لانتفاء موضوعه بسقوط الأمر الأوّل.
فيمكن دفعه بأنّا نختار الشقّ الثاني من سقوط الأمر الأوّل بإتيان ذات الفعل وسقوط الثاني أيضا بارتفاع موضوعه ولا يلزم محذور أصلا؛ لأنّ الوقت إمّا باق بعد وإمّا غير باق، فعلى الأوّل يوجب الغرض إيجاد أمرين آخرين على ما كانا، وعلى الثاني يعاقب المكلّف على عدم امتثال الأمر الثاني مع ما كان قادرا عليه بوجود الأمر الأوّل؛ لأنّ الأمر الثاني لو فرضناه أمرا مطلقا فعدم إيجاد متعلّقه معصية بحكم العقل سواء كان برفع المحلّ أو كان بنحو آخر وهذا واضح.
ويمكن دفعه أيضا بأنّه لا شكّ أنّ الأمر المولوي ما يتحقّق بسببه الإطاعة والمعصية وهو يتصوّر على نحوين، الأوّل: أن يكون مشروطا ببقاء الموضوع كأن يكون الأمر بغسل الميّت مشروطا ببقاء بدنه بحيث لو لم يبق بحاله وانعدم باحتراق ونحوه ولو من قبل المكلّف فلا أمر، فلا معصية، الثاني: أن يكون مطلقا بالنسبة إليه كأن يكون المطلوب تحقّق غسل الميّت في الخارج، وعصيان هذا الأمر كما أنّه يتحقّق بترك الغسل مع بقاء بدن الميّت، كذلك يتحقّق بإعدام البدن، وحينئذ فللمولى فيما نحن فيه أن يقول لعبده: إنّي أطلب منك إيجاد إتيان هذا العمل بداعي أمره في الخارج، فلو أتى به لا بهذا الداعي أطاع الأمر الأوّل وعصى هذا الأمر.
وأمّا مبنى الشقّ الأوّل الذي هو الوجه الأوّل أعني: وجوب تحصيل الغرض وعدم سقوط الأمر المتعلّق بالأعمّ بدون تحصيل الغرض الأخصّ فلم نتعقّل له معنى.
ولا بدّ لتوضيح الحال من ذكر مثال وإن كان أجنبيّا عن المقال وهو: أنّه لو كان المأمور به وجودا شخصيّا كقتل زيد، ولكن كان الغرض الداعي إلى الأمر غير حاصل إلّا مع قيد لا يمكن إدخاله تحت الأمر وأخذه في متعلّقه فأتى به المأمور بدون هذا القيد فحينئذ لا يعقل بقاء الأمر وإن كان الغرض الداعي إليه باقيا؛ ضرورة أنّ قابليّة المحلّ للأمر أيضا شرط له، فكما أنّه لو كان قتل زيد حاصلا قبل الأمر فالغرض المتعلّق به لا يمكن أن يصير علّة لحدوث الأمر به، كذلك لو أتى به بعد الأمر فالغرض الباقي لا يمكن أن يصير علّة لبقاء الأمر به.
فنقول: لو كان المأمور به هو الطبيعة بلحاظ صرف الوجود ولكن كان الغرض لا يحصل إلّا مع داعي الأمر الذي تبيّن عدم إمكان أخذه في متعلّقه فأتى المأمور بالطبيعة بغير هذا الداعي فحينئذ لا يمكن بقاء الأمر، وإن كان الغرض غير حاصل فإنّ صرف الوجود الذي هو مقابل العدم ونقيضه وعبارة عن خرق العدم الأصلي وقلبه بالوجود لا يمكن إيجاده إلّا مرّة واحدة، وأمّا إيجاد الفرد الثاني فهو خرق لعدمه لا لعدم أصل الطبيعة، وبالجملة فحال الطبيعة بهذا اللحاظ حال الوجود الشخصي في عدم قابليّته للتكرار، وحينئذ فكيف يمكن بقاء الأمر بها مع حصولها وعدم حصول الغرض.
ولمّا كان الغرض في هذا البحث هو التكلّم في الأصل اللفظي والعملي فيما لو تردّد أمر الواجب بين أن يكون عباديّا أو توصليّا فلنشرع في مقصودنا الأصلي فنقول:
لو شكّ في الواجب في أنّه هل هو تعبّدي أو توصّلي فعلى ما ذكرنا من عدم إمكان أخذ التعبّد بالأمر في موضوعه، وعلى تقدير القول بثبوت أمرين أحدهما بذات الفعل والثاني بالفعل المقيّد بداعي الأمر فلا يمكن الأخذ بإطلاق الصيغة حينئذ؛ لأنّ الأخذ به فرع إمكان التقييد، وعرفت عدم إمكانه، فمتعلّق الهيئة هو الجامع المقسمي بين المقيّد بالداعي وبين المطلق، وذلك لأنّ الإطلاق عبارة عن استيعاب المقيّدات وإدخال جميعها تحت الحكم فهو هنا في قوّة قولنا: ائت بالفعل إمّا بداعي أمره وإمّا لا بهذا الداعي، ومن المعلوم عدم إمكان ذلك بعد عدم إمكان قوله: ائت بالفعل بداعي أمره، بل التقييد بغير داعي الأمر أيضا غير ممكن؛ لأنّ شأن الأمر هو البعث والتحريك والداعويّة للمكلّف نحو متعلّقه، فأخذ داعويّة غيره في متعلّقه محال.
وبالجملة فحال هذين القيدين أعني داعي الأمر وداعي غيره حال الوجود والعدم، فكما لا يمكن أخذهما في متعلّق الأمر لا إطلاقا ولا تقييدا؛ ضرورة استحالة تحصيل الحاصل وإعادة المعدوم، فلا محيص عن توجيه الأمر إلى نفس الطبيعة المهملة من جهتهما فكذا هذان القيدان.
وحينئذ فلا بدّ عند الشكّ من الرجوع إلى الأصل العملي وهو هنا البراءة؛ إذ الشكّ في التعبديّة والتوصّلية على ما ذكرنا راجع إلى الشكّ في ثبوت أمر آخر متعلّق بالمقيّد بداعي الأمر بعد الأمر بذات الفعل وعدمه، فالشكّ واقع في أصل التكليف والمرجع فيه البراءة.
وأمّا على ما قيل من لزوم تعلّق الطلب على تقدير التعبديّة بذات الفعل مع أخصيّة الغرض فقد يقال كما يظهر من كلمات شيخنا المرتضى قدّس سرّه بعدم جواز التمسّك بإطلاق اللفظ لرفع القيد المشكوك، وكذلك لا يمكن إجراء أصالة البراءة فيه، بل المقام ممّا يحكم العقل بالاشتغال وإن قلنا بالبراءة في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد.
أمّا الأوّل فلأنّ رفع القيد بأصالة الإطلاق إنّما يكون لو احتملنا دخول القيد في المطلوب، والمفروض عدم هذا الاحتمال والقطع بعدم اعتباره فيه أصلا، وإنّما الشكّ في أنّ الغرض هل هو مساو للمطلوب أو أخصّ منه، وحدود المطلوب معلومة لا شكّ فيها على أىّ حال.
وأمّا الثاني فلأنّه بعد العلم بتمام المطلوب في مرحلة الثبوت لو شكّ في سقوطه بإتيان ذاته وعدم سقوطه بواسطة بقاء الغرض المحدث للأمر لا مجال إلّا للاحتياط؛ لأنّ اشتغال الذمّة بالأمر الثابت المعلوم متعلّقه يقتضي القطع بالبراءة عنه، ولا يكون ذلك إلّا بإتيان جميع ما يحتمل دخله في الغرض.
وممّا ذكر يعرف الفرق بين المقام وسائر الموارد التي شكّ في مدخليّة قيد في المطلوب، ويمحض الفرق أنّ الشكّ فيه راجع إلى مرحلة الثبوت وفي المقام الى السقوط. هذا، والحقّ عدم التفاوت بين المقام وسائر الموارد مطلقا أعني من جهة الأخذ بالإطلاق ومن جهة إجراء أصالة البراءة.
أمّا الأوّل فلأنّ القيد المذكور وإن لم يحتمل دخله في المطلوب لعدم الإمكان ولكن لو فرضنا وجود مقدّمات الأخذ بالإطلاق التي من جملتها كون المتكلّم في مقام بيان تمام المقصود وما يحصل به غرضه نحكم بعدم مدخليّة شيء آخر في تحقّق غرضه؛ إذ لولاه لبيّن ولو ببيان مستقل، وحيث ما بيّن نكشف عن كون متعلّق الطلب تمام ما يحصل به غرضه.
نعم الفرق بين المورد وسائر الموارد أنّ فيها بعد تماميّة مقدّمات الحكمة نحكم بإطلاق متعلّق الطلب، وفيه نحكم بإطلاق الغرض والأمر سهل، ويمكن أن يستظهر من الأمر التوصليّة من دون احتياج إلى مقدّمات الحكمة بوجه آخر اعتمد عليه سيّد مشايخنا طاب ثراه وهو أنّ الهيئة عرفا تدلّ على أنّ متعلّقها تمام المقصود؛ إذ لو لا ذلك لكان الأمر توطئة وتمهيدا لغرض آخر وهو خلاف ظاهر الأمر.
وأمّا الثاني فلأنّه بعد إتيان ذات الفعل لا يعقل بقاء الأمر الأوّل؛ لما عرفت سابقا من استلزامه لطلب الحاصل فلا يعقل الشكّ في سقوط هذا الأمر، نعم يحتمل وجود أمر آخر من جهة احتمال بقاء الغرض وظاهر أنّ هذا شكّ في ثبوت أمر آخر والأصل عدمه، فعلم أنّ المقام ممّا يحكم العقل بالبراءة وإن قلنا بالاشتغال في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد.
ولو سلّمنا كون الشكّ في سقوط الأمر الأوّل نقول: إنّ هذا الشكّ ينشأ من الشكّ في ثبوت الغرض الأخص، وحينئذ نقول في تقريب جريان أصالة البراءة أنّ اقتضاء الأمر أنّ ذات الفعل متيقّن، وأمّا الزائد عليه فلا نعلم، فلو عاقبنا المولى من جهة عدم مراعاة الخصوصيّة المشكوكة اعتبارها في الغرض مع الجهل به وعدم إقامة دليل يدلّ عليه مع أنّ إتيانه كان وظيفة له، لكان هذا العقاب من دون إقامة بيان وحجّة، وهو قبيح بحكم العقل، ولو كان الشكّ في السقوط كافيا في حكم العقل بالاشتغال للزم الحكم به في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد مطلقا؛ ضرورة أنّه بعد إتيان الطبيعة في ضمن غير الخصوصيّة التي نحتمل اعتبارها في المطلوب نشكّ في سقوط الأمر وعدمه.
هذا تمام الكلام فيما لو قلنا بأنّ العبادات يعتبر فيها قصد إطاعة الأمر، ويمكن أن يقال: إنّ المعتبر فيها ليس إلّا وقوع الفعل على وجه يوجب القرب عند المولى وهذا لا يتوقّف على الأمر.
بيان ذلك أنّ الفعل الواقع في الخارج على قسمين، أحدهما ما ليس للقصد دخل في تحقّقه بل لو صدر من الغافل لصدق عليه عنوانه، والثاني ما يكون قوامه في الخارج بالقصد كالتعظيم والإهانة وأمثالهما، وأيضا لا إشكال في أنّ تعظيم من له أهليّة ذلك بما هو أهل له، وكذا شكره ومدحه بما يليق به حسن عقلا ومقرّب بالذات ولا يحتاج في تحقّق القرب إلى وجود أمر بهذه العناوين، نعم قد نشكّ في أنّ التعظيم المناسب له أو المدح اللائق بشأنه ما ذا؟ وقد يتخيّل كون عمل خاص تعظيما بالإضافة إليه، أو أنّ القول الكذائي مدح له، والواقع ليس كذلك، بل هذا الذي يعتقده تعظيما توهين له، وهذا الذي اعتقده مدحا ذمّ بالنسبة إلى مقامه.
إذا تمهّد هذا فنقول: لا إشكال في أنّ ذوات الأفعال والأقوال الصلاتيّة مثلا من دون إضافة قصد إليها ليس محبوبا ولا مجزيا قطعا، ولكن من الممكن كون صدور هذه الهيئة المركّبة من الحمد والثناء والتسبيح والتهليل والدعاء والخضوع والخشوع مثلا مقرونة بقصد نفس هذه العناوين محبوبا للآمر، غاية الأمر أنّ الإنسان لقصور إدراكه لا يدرك أنّ صدور هذه الهيئة منه بهذه العناوين مناسب لمقام الباري عزّ شأنه ويكون التفاته موقوفا على إعلام اللّه سبحانه، فلو فرض تماميّة العقل واحتوائه بجميع الخصوصيّات والجهات لم يحتج إلى إعلام الشرع أصلا.
والحاصل أنّ العبادة عبارة عن إظهار عظمة المولى والشكر على نعمائه وثنائه بما يستحقّ ويليق به، ومن الواضح أنّ محقّقات هذه العناوين مختلفة بالنسبة إلى الموارد، وقد يكون تعظيم شخص بأن يسلّم عليه، وقد يكون بتقبيل يده، وقد يكون بالحضور في مجلسه، وقد يكون مجرّد إذنه أن يحضر في مجلسك أو يجلس عندك، إلى غير ذلك من الاختلافات الناشئة من خصوصيّات المعظّم بالكسر والمعظّم بالفتح، ولمّا كان المكلّف لا طريق له إلى استكشاف أنّ المناسب بمقام هذا المولى تبارك وتعالى ما هو إلّا بإعلامه لا بدّ أن يعلمه أوّلا ما يتحقّق به تعظيمه ثمّ يأمره به، وليس هذا المعنى ممّا يتوقّف تحقّقه على قصد الأمر حتى يلزم محذور الدور.
ويمكن أن يقال بوجه آخر وهو أنّ ذوات الأفعال مقيّدة بعدم صدورها عن الدواعي النفسانيّة محبوبة عند المولى، وتوضيح ذلك يتوقّف على مقدّمات ثلاث:
إحداها: أنّ المعتبر في العبادة يمكن أن يكون إتيان الفعل بداعي أمر المولى بحيث يكون الفعل مستندا إلى خصوص أمره وهذا معنى بسيط يتحقّق في الخارج بأمرين:
أحدهما جعل الأمر داعيا لنفسه، والثاني صرف الدواعي النفسانية، ويمكن أن يكون إتيان الفعل خاليا عن سائر الدواعي ومستندا إلى داعي الأمر بحيث يكون المطلوب المركّب منهما، والظاهر هو الثاني؛ لأنّه أنسب بالإخلاص المعتبر في العبادات.
المقدّمة الثانية: أنّ الأمر الملحوظ فيه حال الغير تارة يكون للغير واخرى يكون غيريا، مثال الأوّل الأمر بالغسل قبل الفجر على احتمال، فإنّ الأمر متعلّق بالغسل قبل الأمر بالصوم، فليس هذا الأمر معلوما لأمر آخر، إلّا أنّ الأمر به إنّما يكون مراعاة لحصول الغير في زمانه، والثاني الأوامر الغيريّة المسبّبة عن الأوامر المتعلّقة بالعناوين المطلوبة نفسا.
المقدّمة الثالثة: أنّه لا إشكال في أنّ القدرة شرط في تعلّق الأمر بالمكلّف، ولكن هل يشترط ثبوت القدرة سابقا على الأمر ولو رتبة، أم يكفي حصول القدرة ولو بنفس الأمر؟ الأقوى الأخير؛ لعدم وجود مانع عقلا في أن يكلّف العبد بفعل يعلم بأنّه يقدر عليه بنفس الأمر.
إذا عرفت هذا فنقول: الفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة وثبوت الداعي الإلهي الذي يكون موردا للمصلحة الواقعيّة وإن لم يكن قابلا لتعلّق الأمر به بملاحظة الجزء الأخير للزوم الدور أو لما مرّ، أمّا من دون ضمّ القيد الأخير لا مانع منه.
ولا يرد أنّ هذا الفعل من دون ملاحظة تمام قيوده التي منها الأخير لا يكاد أن يتّصف بالمطلوبيّة، فكيف يمكن تعلّق الطلب بالفعل من دون ملاحظة تمام القيود التي يكون بها قوام المصلحة.
لأنّا نقول: عرفت أنّه قد يتعلّق الطلب بما هو لا يكون مطلوبا في حدّ ذاته، بل يكون تعلّق الطلب به لأجل ملاحظة حصول الغير والفعل المقيّد بعدم دواعي النفسانيّة وإن لم يكن تمام المطلوب النفسي مفهوما، ولكن لمّا لم يوجد في الخارج إلّا بداعي الأمر لعدم إمكان خلوّ الفاعل المختار عن كلّ داع، يصحّ تعلّق الطلب به؛ لأنّه يتّحد في الخارج مع ما هو مطلوب حقيقة، كما لو كان المطلوب الأصلي إكرام الإنسان، فإنّه لا شبهة في جواز الأمر بإكرام الناطق؛ لأنّه لا يوجد في الخارج إلّا متّحدا مع الإنسان الذي إكرامه مطلوب أصلي.
وكيف كان فهذا الأمر ليس أمرا صوريا بل هو أمر حقيقي وطلب واقعىّ؛ لكون متعلّقه متّحدا في الخارج مع المطلوب الأصلي، نعم يبقى الإشكال في أنّ هذا الفعل أعني: الفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة ممّا لا يقدر المكلّف على إيجاده في مرتبة الأمر فكيف يتعلّق الأمر به؟ وقد عرفت جوابه في المقدّمة الثالثة.
ثمّ الكلام في مورد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة على هذين الوجهين هو الكلام في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد؛ إذ لا إشكال في أنّ احتمال التعبّديّة احتمال قيد زائد، فالشكّ فيه من جزئيات الشكّ في المطلق والمقيّد، فإن كانت مقدّمات الأخذ بالإطلاق موجودة نحكم بإطلاق الكلام ونرفع القيد المشكوك، وإلّا فالمرجع هو الأصل الجاري في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد، ولمّا كان المختار فيه بحسب الأصل العملي البراءة فنحكم بعدم لزوم القيد.
فاتّضح ممّا ذكرنا من أوّل العنوان إلى هنا وجوه اربعة في تصوير العبادات وأنت خبير بأنّ كلّ ما قلنا في الواجبات النفسيّة العباديّة يجري مثله في الواجبات المقدّميّة العباديّة، فلا نحتاج إلى إطالة الكلام بجعل عنوان لها مستقلا.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|