أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-11-2016
2785
التاريخ: 14-1-2017
3593
التاريخ: 8-11-2016
1888
التاريخ: 18-1-2017
1903
|
الوضع الديني:
أ- تطور العقائد الدينية وانتشارها:
الظاهرة التي نلاحظها على تطور العقائد الدينية في شبه الجزيرة هي أن المنطقة عرفت عددًا من مراحل التطور الديني في العصور السابقة للإسلام، ولكن مع ذلك فإن هذا التطور لم يشمل كل أرجاء شبه الجزيرة في وقت واحد منتقلا بها كلها من مرحلة إلى مرحلة، وإنما ظهرت هذه المراحل بشكل متفرق في الأقسام المختلفة من شبه الجزيرة وكانت في بعض الأحيان تتجاور أو تتداخل حسب ظروف كل قسم من هذه الأقسام، ويشمل هذا التطور في عمومه مراحل أربعة. والعبادات التي تمثل المرحلة الأولى من مراحل هذا التطور الديني، إذا كانت قد ظهرت بين عدد من مجتمعات شبه الجزيرة في حياته البدائية قبل أن تصبح مجتمعات أكثر تطورًا وتقدمًا، وإذا كانت بعض آثارها قد ظلت موجودة في صورة أو أخرى في هذه المجتمعات حتى بعد تطورها، إلا أنها كانت السمة التي بقيت كظاهرة أساسية في مجتمع البادية.
هذه المرحلة الأولى هي مرحلة عبادة أو تقديس أشياء مادية محددة مثل: الأحجار والأشجار والكهوف وينابيع المياه، وهي أشياء يرى البدوي أنها تفيده في حياته اليومية. فالأحجار، وبخاصة ما كان منها يختلف عن اللون الرملي المعتاد في الصحراء، مثل الحجر الأسود "وفي بعض الأحيان الحجر الناصع البياض" أو إذا كانت بارزة في مظهرها بشكل أو بآخر، كان وجودها في مكان ما يشكل إشارة يستدل بها البدوي على طريقه في مناطق قد تتشابه فيها الرمال في كل الاتجاهات ومن ثم يصبح فيه البدوي على طريقه معرضًا لأن يضل طريقه في أثناء تنقله من مكان إلى مكان. والأشجار وبخاصة شجرة النخيل كانت تشكل عنصرا أساسيا في حياة البدوي يعتمد على تمرها كغذاء رئيسي ويعتمد على أجزاء أخرى منها لتغطية حاجات وضرورات أخرى في حياته اليومية، والشجرة تصبح أكثر أهمية ومن ثم أكثر قداسة بالنسبة له في المناطق التي يقل فيها الشجر؛ وبالتالي تصبح شيئا يعتمد عليه البدوي ويلتصق به بدرجة أكبر. والكهوف تمثل في الصحراء نقطة الحماية التي يلجأ إليها البدوي للاحتماء من الشمس أو من الأعداء، وقد لجأ الرسول -صلى الله عليه [وآله] وسلم- هو ورفيقه أبو بكر الصديق إلى غار حراء، على سبيل المثال، للاحتماء من متتبعيه من قريش في الفترة التي ضيقت هذه خلالها الخناق عليه هو وأتباعه. أما ينابيع المياه فهي بالضرورة نبع الحياة في الامتدادات الصحراوية المقفرة التي لا تعرف الأنهار وقد تمر سنوات متتابعة لا تنزل بها الأمطار، وإذا نزلت فهي تنزل بغير انتظام وتكون قصيرة المدى رغم شدتها التي قد تبلغ مبلغ السيل في بعض الأحيان.
وهذا النوع من العبادة أو التقديس هو ما يعرف باسم "الأرواحية" أو حيوية المادة ANIMISM أي أن يتصور المرء أن هناك روحًا تحل في هذه الأشياء فتعطيها هذه الفائدة الحيوية بالنسبة له. وربما لم يصل الأمر دائما إلى عبادة هذه الأشياء أو على الأقل إلى عبادتها بصفة دائمة، ولكن تقديسها ظل قائما في كل الأحوال، حتى حين انتقل البدوي إلى مرحلة دينية أكثر تطورًا حين بدأ يعتقد في قوى إلهية أكثر شمولا وأكثر تجريدا، كما حدث عندما ظهرت في منطقة الحجاز أو انتقلت إليها عبادات اللات والعزى ومناة وبعل (1).
وهنا نجد "اللات" وهي القوة الإلهية بالدرجة الأولى ويمثلها في الطائف حجر مربع، والعزى "الزهراء التي تقابل فينوس عند الرومان" وهي الآلهة التي يشير اسمها إلى القوة وكانت تمثل عند قريش أقدس القوى الإلهية، كانت تمثلها شجرة في منطقة "نخلة" الواقعة إلى شرقي مكة، وكان محرابها يتكون من ثلاث شجرات، بينما كان القرشيون يقدمون إليها القرابين من الضحايا البشرية في كهف مقدس بالمنطقة يدعى كهف "غَبْغَبْ". و"مناة" الآلهة التي كانت تمثل القدر، كان محرابها أو رمزها الأساسي حجرًا أسودَ في موقع "القديد" على الطريق بين مكة ويثرب. أما الإله "بعل" الذي انتقلت عبادته من المنطقة السورية إلى الحجاز فقد ارتبطت عبادته بالينابيع والمياه الجوفية التي تروي الأشجار، ويشير باحث معاصر إلى أن آثار هذا الارتباط قد ظلت مستمرة حتى تركت أثرها في نظام الضرائب التي كانت تجبى على المزروعات في العصر الإسلامي، إذ كانت قيمة الضريبة تختلف بين زراعة البعل "أي: التي لا تحتاج إلى ري بالطرق المعتادة" وبين الزراعات الأخرى. وشبيه من هذا بئر زمزم التي كانت تعتبر مياهها مقدسة في الفترة السابقة للإسلام على أساس ارتباطها بقصة إسماعيل -عليه السلام- وزوجته هاجر.
أما المرحلة التالية فهي عبادة الكواكب التي عرفتها بوجه خاص العربية الجنوبية، وكان أهم هذه الكواكب هو الثالوث الذي يمثله القمر والشمس والزهراء، وكان الأول بين أركان هذا الثالوث هو القمر الذي عرفه السبئيون باسم "المقه" والمعينيون باسم "ودّ" "ربما تعني الحب أو المحب أو الأب" والحضرميون باسم "سن" والقتبانيون باسم "عم" "أي العم". وكانت زوجته الإلهية هي الشمس التي أطلقت عليها تسمية "ذات حمم" عند السبئيين و"نكرح" عند المعينيين ثم ابنهما الإلهي الذي عرف عند المعينيين باسم "عثتر" وهو كوكب الزهراء (2)
وعبادة هذا الثالوث من الكواكب تمثل في حقيقة الأمر تداخلًا بين مرحتلين من مراحل تطور المجتمع. فعبادة القمر والزهراء هي عبادات مجتمع رعي في المقام الأول، فالانتقال في البادية، حيث يحدث أن تتشابه الاتجاهات وبخاصة في الليل، يكون فيه ضوء القمر وسيلة لتوضيح المعالم والشيء ذاته، بالنسبة لكوكب الزهراء الذي يمكن التعرف على الوقت والاتجاه من خلاله، ولكن ربما كانت القيمة الأساسية هي أن القمر بالذات يرمز إلى فترة الليل حيث تهبط درجة الحرارة وتتكثف الأبخرة الموجودة في الجو لتتحول إلى ندى يبعث الحياة في العشب الذي تتكون منه المراعي، بينما ينظر البدوي إلى الشمس على أنها عدوه الأول حيث تحرق بشواظها الذي ينبعث مع أشعتها النارية هذا العشب، ومن ثم تدمر المقوم الأول للحياة الرعوية. هذا بينما أشعة الشمس بالنسبة للمجتمعات الزراعية هي التي تعطي النماء للزراعة وهي التي تنضج المحصول (3). وقد كانت العربية الجنوبية منطقة زراعية في المقام الأول، ولكنها عرفت شيئًا من الرعي كذلك في بعض مناطقها، وأكثر من ذلك فإن الرعي يمثل مرحلة مبكرة تظهر عادة في المجتمعات قبل مرحلة الزراعة التي تمثل بالضرورة مرحلة أكثر استقرارًا ومن ثم أكثر تطورًا.
ولكن مع ذلك فعبادة القمر قد ظلت في مكان متفوق على عبادة الشمس كما شهدنا في هذا التكوين الكوكبي الثلاثي، وهذا في حد ذاته يمثل نوعًا من دأب العبادات القديمة في الاستمرار حتى بعد أن يكون المجتمع قد تطور إلى مرحلة جديدة، ومن ثم يمثل نوعًا من التداخل الذي يجمع بين عبادات تنتمي إلى مراحل مختلفة من تطور المجتمع. والظاهرة ليست في الواقع غريبة على العالم القديم أو حتى على المنطقة التي وجدت شبه الجزيرة العربية في وسطها، ففي إحدى أساطير وادي الرافدين نجد حوارًا يشير إلى هذا الدأب في الاستمرار بين دوموزي dumuzi "تمّوز" الذين كان إلهًا أو نصف إله للرعي وإنكمدو Enkimdu الذي كان إلها أو نصف إله للزراعة. ورغم أن وادي الرافدين كان قد تحول في الفترة التي تنتمي إليها القصيدة التي تحتوي على هذه الأسطورة "وهي الفترة السومرية التي انتهت حوالي 2400 ق. م" إلى مجتمع زراعي أساسًا إلا أن الحوار الذي يوجد في القصيدة بين هذين الإلهين أو شبه الإلهين على خطب ود الآلهة إنانّا "عشتار" يشير إلى أن دوموزي الذي يمثل الرعي هو الذي كسب الموقف (4).
والمرحلة الثالثة في هذا التطور الديني تمثلها عبادة الشمس "شمش" التي تشير إلى مجتمع مستقر يقوم أساسًا على الزراعة، وهذه نجدها في مملكة الأنباط وفي تدمر (5) وحقيقة إن كلًّا من المنطقتين لم تكن تمثل مجتمعًا زراعيًّا صرفا، فتدمر كانت واحة غنية بنخيلها ولكن المناطق المحيطة بها والتي كانت تعتبر امتدادا لها كانت مناطق صحراوية بدوية، والشيء ذاته يقال عن مملكة الأنباط التي تعتبر شبه واحة توجد فيها الزراعة في وادي موسى حول مدينة البتراء عاصمة المملكة ولكن توجد فيها كذلك مناطق صحراوية لا يجود فيها إلا الرعي. ولكن لنا أن نتصور هنا أن عددًا من العوامل أدى إلى انتصار عبادة الشمس، عبادة المجتمع الزراعي المستقر أساسا، رغم هذا التداخل الرعوي الزراعي. فالقسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية، حيث توجد هاتان المنطقتان، قريب من حضارتين زراعيتين مستقرتين ومتصل بهما وبما يستتبعه هذا من تأثيرات عن طريق طرق المواصلات التجارية، وهما حضارة مصر في الغرب حيث كان "رع" إله الشمس هو الإله الأول، وحضارة وادي الرافدين في الشرق حيث تطور المجتمع إلى مجتمع زراعي كثيف في المراحل اللاحقة للفترة السومرية "وقد عاصرت المملكتان، النبطية والتدمرية، مرحلة من هذه المراحل اللاحقة" حين أصبح "شَمَس" إله الشمس أحد الآلهة الرئيسة في مجمع الآلهة في وادي الرافدين.
كذلك فإن المنطقتين تقعان في القسم الشمالي لشبه الجزيرة العربية حيث تخف درجة الحرارة بشكل ملحوظ عما هو موجود في وسط شبه الجزيرة أو في جنوبها، ومن ثم لا تصبح الشمس عدوًّا يحرق الكلأ بالأشعة النارية. كذلك فإن المجتمع النبطي والمجتمع التدمري بثرائهما التجاري وما ترتب على ذلك من رخاء واستقرار عن طريق تحكمهما في مواقع حيوية على الخطوط التجارية البرية في شبه الجزيرة، كانا بالضرورة مجتمعين تنشط فيهما كافة أنواع المعاملات الخاصة بالتجارة وما يتصل بها من صفقات واتفاقات وأسواق وحسابات وخدمات تجعل الحياة اليومية خلية نشاط في وضح النهار وتصبح فيها الشمس صديقًا للتاجر وليست عدوًّا ينتظر غروبه ليأتي الليل بنسيمه وقمره ونداه الذي يحيي العشب.
وأود في ختام الحديث عن هذه المراحل الثلاث من التطور الديني في شبه الجزيرة، وقبل أن أنتقل إلى المرحلة الرابعة من هذا التطور "وهي مرحلة التوحيد"، أن أشير إلى ظاهرة جديرة بالاهتمام، وهي أن اتجاهًا نحو التوحيد الذي لم يكتمل كان قد بدأ يظهر في مجتمع شبه الجزيرة العربية إلى جانب وجود المعبودات التي عرفها العرب في أثناء وجود هذه المراحل، وهو اتجاه يرجع ظهوره إلى فترة مبكرة. وفي هذا الصدد فقد ظهر معبود تحت اسم "الله" في سورية ثم رفعه السوريون إلى مرتبة الإله الأكبر. وقد انتقلت عبادته إلى اللحيانيين "شمالي الحجاز" بهذه الصفة "صفة كبير الآلهة" عن طريق التعامل التجاري على أرجح تقدير، ثم انتشرت في فترات لاحقة، وبدرجات متفاوتة، في كل أرجاء شبه الجزيرة تقريبا كما يتضح من عدد كبير من النقوش المنتشرة فيها، والتي ترد فيها أسماء مثل: سعد الله، ووهب الله، وزيد الله، وحرم الله، ومرء الله، كما ترد فيها ابتهالات مثل: "يا الله اهدني" و"يا الله مكني من تحقيق الخلاص" و"يا الله امنحه السلام" و"يا الله ارفع عنه ما يسوءه" وهكذا "أ".
والذي يؤكد أن هذه النقوش تشير إلى الاتجاه نحو التوحيد، وإن لم يكن قد اكتمل بعد كما ذكرت من لحظات، هو المضمون الذي تحتوي عليه بعض هذه النقوش، والصفة التي ترد في البعض الآخر لوصف المعبود الله. وعلى سبيل المثال فإن هناك نقشًا لحيانيًّا مبكرًا نقرأ فيه "عبد مناة الصادق، امنحه يا الله العمر الطويل والحظ السعيد" وهو تعبير يشير بوضوح إلى عبادة المعبودة "مناة" من جهة ولكنه يشير من جهة أخرى إلى أن "الله" هو المعبود الرئيسي دون منازع. كذلك فإن هناك نقشين ثموديين ترد فيهما صفة "الأبتر" بعد ذكر المعبود "الله" وهي صفة تشير إلى من لا ولد له وهو المعنى المباشر الذي سار عليه أحد الباحثين المعاصرين، كما أن باحثًا آخر رأى فيها معنى "الوحيد" والصفتان من صفات التوحيد دون شك وتردان في القرآن الكريم بهذا المعنى التوحيدي "ب".
وقد ظهر المعبود "الله" بهذه الصفة التي تمثل خطوة أولى على سبيل التوحيد في نقوش اللحيانيين منذ القرن الخامس ق. م. وعند الثموديين في نقوش ترجع إلى القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد. ولا نعرف متى بدأت عبادة "الله" بهذه الصفة في الحجاز، ولكن على أي الأحوال يبدو أنها كانت قد سادت وتمكنت في قبيلة قريش على الأقل قبل ظهور الدعوة الإسلامية، ودليل ذلك أن الإشارة إليه ترد في القرآن الكريم في عدد من الآيات مثل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} والسؤال هنا موجه إلى الجاهليين من قريش قبل أن يسلموا، ومن ثم يكون المقصود بلفظة "الله" هنا هو المعبود الجاهلي وليس الله سبحانه وتعالى كما يعرفه المسلمون. والصفة الأساسية لهذا المعبود وهي أنه على رأس المعبودات الأخرى عند أهل قريش تظهر من آيات قرآنية أخرى من بينها: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر: 3] ومن الواضح أن "الله" الذي يتحدث عنه القرشيون الجاهليون هو "الله" المعبود الجاهلي الذي كانت عبادته قائمة إلى جانب المعبودات الصغر، وهو ما يتطابق مع النص اللحياني الذي سبقت الإشارة إليه "ج".
ثم نأتي بعد ذلك إلى المرحلة الرابعة التي وجدت جبنا إلى جنب في بعض أقسام شبه الجزيرة مع واحدة أو أخرى من هذه العبادات السابقة. وهذه المرحلة تمثلها عقائد التوحيد وهي المسيحية واليهودية ثم الحنيفية التي كانت نوعًا من عقائد التوحيد التي تبتعد عن تفصيلات هاتين الديانتين لتتبع خطوطًا رئيسة بسيطة ظهرت في عقيدة إبراهيم -عليه السلام- وهنا كذلك نجد أن هذه الأديان الثلاث تجاوزت مع مراحل أخرى من مراحل التطور الديني في عدد من أقسام شبه الجزيرة. ففي العربية الجنوبية تجاورت المسيحية واليهودية مع مرحلة عبادة الكواكب وأصبحت اليهودية في عهد "ذو نواس" "الربع الأول من القرن السادس الميلادي" عقيدة رسمية يدين بها الحاكم. وفي إمارة اللخميين تجاورت المسيحية عند الشعب مع الوثنية عند الأسرة الحاكمة التي لم تشذ عنها إلا في حالة حاكم واحد هو النعمان الثالث أبو قابوس "حوالي 580-602م" الذي اعتنق المسيحية. وفي الحجاز تجاورت العقائد التوحيدية الثلاثة مع المراحل الأولى للتطور الديني حيث عبادة الأحجار والأشجار وتقديس الكهوف والينابيع، وحيث عبادة الكواكب التي كانت قد تحولت إليها في صورة من الصور عبادات اللات والعزى ومناة في الفترة الأخيرة قبل الإسلام، وفي إمارة الغساسنة، كانت الأسرة الحاكمة والرعية قد تحولت إلى المسيحية بعد ظهور هذه الأسرة في عصر الإمبراطورية البيزنطية.
أما الظاهرة الثانية التي نلاحظها على تطور العقائد الدينية في شبه الجزيرة في عصر ما قبل الإسلام، فهي تخص انتشار العقائد التي وجدت في المنطقة. وفي هذا المجال نلمس عددا من التأثيرات الدينية التي تعرضت لها المنطقة والتي أتت من المناطق المجاورة لها، وهي ظاهرة لا تبدو غريبة في العصور القديمة التي عرفت هجرة العقائد الدينية أو التأثيرات والأساطير المرتبطة بها من منطقة إلى منطقة أخرى، "إذ كانت هجرة العقائد الدينية أو انتشار تأثيراتها تقابل انتقال العقائد السياسية وتأثيراتها في العصر الحاضر من منطقة إلى مناطق أخرى" كما حدث في انتقال الأساطير المتصلة بعشتار وتموز "إنانّا ودموزي" من وادي الرافدين لتظهر في أساطير برسيفوني وأدونيس في العقائد الدينية اليونانية، وكما حدث في انتقال عبادة آمون المصرية إلى بلاد اليونان وانتقال عبادة إيزيس المصرية كذلك إلى العالم اليوناني الروماني.
وفي هذا المجال، وفيما يخص شبه الجزيرة العربية، نجد عددا من الأمثلة. ففي دولة الأنباط نجد المعبود "ذو شارة" الذي رأينا أنه كان يتمثل في حجر مكعب كبير أسود، ينظر إليه في العصر المتأغرق "ما بعد الإسكندر الأكبر المقدوني" على أنه إله الكروم التي يرجح أن زراعتها قد وجدت طريقها إلى المنطقة من بلاد اليونان في تلك الفترة، ومن ثم فقد أدخلت على عبادته خصائص من عبادة الإله "ديونيسوس DIONYSOS" أو باخوس BACCHOS وهو أحد أسماء هذا الإله الأخير "الذي كان إلها للكروم عند اليونان". كذلك نجد في مملكة تدمر الإله "بل" وهو بابلي الأصل يأخذ مكانه على قمة المجمع الإلهي التدمري (6) والإله "بعل شامين" "سيد السموات" الذي تشير تسميته ذاتها إلى خصائص الإله آنو الذي عرفته منطقة وادي الرافدين إلهًا للسماء.
أما اليهودية التي وجدت طريقها إلى بعض المناطق في العربية الشمالية مثل: تيماء والحجاز وإلى العربية الجنوبية حيث انتشرت بشكل خاص في ظل المملكة الحميرية الثانية "بعد 300م" ووصل انتشارها إلى أقصاه في الفترة المبكرة من القرن السادس الميلادي كما مر بنا، فقد يرجع انتشارها في شبه الجزيرة في نسبة منه إلى فرار عدد من العبرانيين إلى القسم الشمالي من شبه الجزيرة بوجه خاص على أثر تدمير الوالي الروماني بيتوس لأورشليم "القدس" في 70م. ولكن مع ذلك فهناك دليلان يشيران إلى أن هذا الانتشار لم يكن يشكل هجرة عبرانية واسعة إلى المنطقة بقدر ما كان يشكل تأثيرا دينيا يهوديا عرف طريقه إليها بطريقة ما رغم الطبيعة العنصرية المتقوقعة المعروفة عن هذه الديانة، أحدهما: هي أن أغلب الأسماء التي وصلت إلينا عن يهود شبه الجزيرة العربية ليست أسماء عبرانية، وإنما أسماء عربية أو آرامية لأشخاص يبدو أنهم اتخذوا اليهودية دينًا لهم لسبب أو لآخر (7).
والدليل الآخر هو أن الشاعر الوحيد من بين عدد من الشعراء اليهود الذين تحدث الكتاب العرب عن وجودهم في شبه الجزيرة العربية، والذي ترك لنا قدرا من الشعر يصلح أن يكون ديوانا، وهو السموأل بن عادياء الذي يبدو أنه كان أحد أثرياء تيماء، لا نجد في شعره ما يجعله يختلف في تصوراته أو منطلقات هذه التصرفات عن تصورات العرب الوثنيين ومنطلقاتها (8). الأمر الذي يجعلنا نشك في أنه كان عبرانيًّا، بقدر ما يوحي بأنه كان عربيًّا اتخذ الديانة اليهودية في عمومها التي كانت تهمه "وربما فعل ذلك هو وغيره" حين وجد أن قيم الحياة الوثنية الشائعة في شبه الجزيرة لم تعد تغطي القيم الاجتماعية أو الروحية التي كان يحس بحاجته إليها.
أما عن اليهودية في اليمن خاصة، فأرجح أنها انتشرت هناك للسبب نفسه إلى جانب سبب آخر هو ما وصل إليه رجال الدين في العربية الجنوبية من سطوة تحولوا معها إلى طبقة لها امتيازاتها الواسعة التي كانت تزحف على سلطات الملك ذاته في بعض الأحيان كما رأينا، على سبيل المثال، في حالة المملكة السبئية الثانية حين انتزع رجال الدين الصلاحيات الدينية من سلطان الملك. وقد كانت هذه السطوة التي تمتع بها رجال الدين تساند الطبقة الأرستقراطية من محتكري امتلاك غابات الطيوب والتجارة في نتاجها (10). وأمام التقسيم الطبقي الحاد الذي وجد في المجتمع كان من السهل أن ينتقل قسم من المجتمع إلى عقيدة دينية جديدة يلتف حولها في دفاع طبقي عن نفسه.
أما المسيحية فقد دخلت تأثيراتها من خارج شبه الجزيرة كذلك، ومن المرجح أنها نجحت في الانتشار في العربية الجنوبية للسبب ذاته الذي رأيناه في انتشار اليهودية. وقد بدأت المسيحية في الواقع تتسرب إلى العربية الجنوبية في فترة مبكرة عن طريق بعض رجال الدين المسيحيين الذين فروا أمام الاضطهادات الدينية في سورية في فترات لا نعرف تحديدها. ولكن أول بعثة دينية مسيحية نسمع عنها إلى العربية الجنوبية أرسلها الإمبراطور البيزنطي قسطنطين في 356م تحت قيادة ثيوفيلوس إندوس theophilus indus لأسباب سياسية تتعلق بمحاولة مد النفوذ البيزنطي إلى اليمن في فترة اشتد فيها الصراع البيزنطي الفارسي حول السيطرة على منطقة الشرق الأوسط وتخومه. أما عن المسيحية عند الغساسنة فقد جاءت نتيجة تفاعل بين تأثيرات خارجية ومعطيات محلية، فقد كانت إمارة الغساسنة إمارة تابعة للدولة البيزنطية في فترة كانت هذه الدولة خلالها تعتبر نفسها مسئولة عن المسيحية وانتشارها، والمسيحيين في العالم الشرقي. ومن هنا انتشرت العقيدة المسيحية بين الغساسنة، ولكن الطابع المحلي السوري الذي يتناسب مع اتجاهات المنطقة المحيطة على أكثر من صعيد أعطاها المذهب المونوفيزي أو مذهب أصحاب الطبيعة الواحدة.
وشيء مماثل يمكن أن يقال عن انتشار المسيحية بين بعض طبقات الشعب في الحيرة "وليس على المستوى الحكومي إلا في مثال واحد هو النعمان الثالث" فقد انتشرت المسيحية هناك من مصدر سوري، فإذا وصلنا إلى داخل الجزيرة وجدنا تسربات مسيحية إلى الحجاز من الحيرة ومن سورية ومن بيزنطة التي عرف التجار العرب طريقهم إليها بشكل أو بآخر. يشهد على ذلك بعض الأسماء العربية في المنطقة في الفترة السابقة للإسلام مثل: داود وعيسى وسليمان49. على أننا يجب ألا نبالغ في هذه التأثيرات المسيحية في المنطقة، إذ يبدو أن انتشارها لم يكن واسعًا. وفي هذا المجال فنحن نجد بعض إشارات التوحيد في أشعار الجاهليين الذين ينتمون إلى هذه المنطقة مثل أشعار أمية بن أبي الصلت ونسمع عن اعتناق للمسيحية عند بعض الأفراد البارزين في المجتمع الحجازي مثل ورقة بن نوفل وربما كانوا كذلك ولكن من المحتمل كذلك أن يكونوا من هذه الفئة التي لم تعد الوثنية البدائية تغطي تطلعاتهم نحو قيم اجتماعية وروحية أكثر تطورا وتقدما فعمدوا إلى اعتناق خطوط توحيدية عامة في عقيدة إبراهيم -عليه السلام- وسموا بالحنيفية (11).
ب- الظروف المحيطة بالحياة الدينية:
فإذا تركنا العقائد الدينية ذاتها، سواء فيما يخص تطورها أو انتشارها، وانتقلنا إلى الحديث عن الظروف التي أحاطت بممارستها نجد ظاهرتين واضحتين. وإحدى هاتين الظاهرتين هي المركز القوي أو المؤثر الذي تمتع به رجال الدين في أكثر من قسم من أقسام شبه الجزيرة كما نستطيع أن نستنتج بوضوح سواء من المخلفات الأثرية أو من الكتابات التي تركها لنا الكتاب الكلاسيكيون. وأحد المؤشرات إلى هذا الوضع هو العدد الكبير من المعابد الذي عرفته منطقة العربية الجنوبية على سبيل المثال. لقد كانت كثرة عدد المعابد في مدن هذه المنطقة وبذخها إحدى الظواهر التي شدت انتباه الكتاب الكلاسيكيين أو التجار والجنود والبحارة اليونان والرومان الذين أخذ عنهم هؤلاء الكتاب معلوماتهم في بعض الأحيان.
وهنا نجد الكاتب الروماني بلينيوس يحدثنا عن عدد هائل من المعابد في مدن هذه المنطقة، فمدينة شبوه SABOTA عاصمة حضرموت بها 60 معبدًا، ومدينة تمنع Thomna عاصمة قتبان بها 65 معبدًا. ولم يكن الأمر قاصرا على هذا العدد الهائل من المعابد، بل يبدو أن شيئا غير قليل من البذخ والعناية كان ظاهرا في بناء هذه المعابد، إذ كان هذا يصل في مستواه إلى مستوى ما يبذل في بناء القصور الملكية ذاتها كما نستنتج من حديث الجغرافي اليوناني سترابون الذي يتحدث عن مدن العربية الجنوبية التي "يزينها جمال المعابد والقصور الملكية". ونحن نجد مصداقا لهذا الكلام في آثار معبد المقه، إله القمر عند السبئيين، التي كشفت عنها في أواسط هذا القرن البعثة المصرية برئاسة أحمد فخري ثم استكملت أعمال التنقيب البعثة الأمريكية برئاسة وندل فيليبس (12).
وشيء قريب من هذا نجده في مدينة تدمر التي كان مجمعها الإلهي يزيد على عشرين معبودا، ولا بد أن عددا كبيرا من المعابد التي بنيت على قدر كبير من البذخ كانت تزينها، إذ رغم ما أصابها من تدمير شامل على يد الجيش الروماني بقيادة الإمبراطور أورليانوس aurehanus في 273م لا يزال مستوى البذخ المعماري الذي تميزت به مبانيها يطل علينا من بقاياها الأثرية، كما لا يزال هناك عدد من بقايا معابدها ومبانيها الدينية الأخرى مثل معبد "بل" ومعبد "بعل شمين" والأبراج الجنائزية المضلعة "المربعة"، وعدد من التوابيت التي وجدت في مغارة الجديدة، تزينها مناظر من النحت البارز تشهد بعظمة المستوى الفني وبالعناية الفائقة التي كانت تبذل في المجال الديني (13).
ومثل هذه العناية التي بلغت مبلغ البذخ بالمعابد تشير دون شك إلى مدى القوة التي كان يتمتع بها رجال الدين في تلك المناطق، وهي قوة يبدو أنها كانت موجودة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فعلى الصعيد الاقتصادي كان لرجال الدين حق معلوم من محصول اللبان ابتداء من جمعه ومرورًا بتسويقه وانتهاء بنقله. وهنا يحدثنا الكاتب الروماني بلينيوس عن الالتزام الشديد بالمراسم الدينية التي كانت تصاحب جمع اللبان، كما يذكرنا أن أحمال هذه السلعة المجزية كان لا يسمح لها بأن توضع في سوق شبوه "عاصمة حضرموت" قبل أن يحصل رجال الدين منها على الحصة المخصصة للإله، والشيء ذاته كان يحدث عندما تمر القوافل التجارية بهذه الأحمال في منطقة قتبان، فهنا كذلك كان لرجال الدين حصة من الطيوب لا بد من الوفاء بها (14) ولنا أن نتصور مقدار الثروة التي كان يحصل عليها رجال الدين من "حقهم" في هذه الطيوب إذا أدخلنا في اعتبارنا عاملين: أحدهما هو مستوى البذخ الذي كانت عليه المعابد التي رأينا كيف أنها كانت من نفس مستوى القصور الملكية، والآخر هو الأثمان الباهظة التي كانت تباع بها الطيوب في العصر القديم كما رأينا في مناسبة سابقة، وهكذا قد لا نبتعد كثيرًا عن الصواب إذا قلنا: إن طبقة رجال الدين كانت، إلى جانب ما تحرقه من هذه الطيوب بالضرورة في المعابد، كانت تحصل على دخل كبير من التجارة التي كان لا بد أن تمارسها في هذا المجال.
ولعل هذه القوة الاقتصادية هي التي انعكست على الصعيد السياسي في واحدة على الأقل من هذه الممالك العربية الجنوبية، وهي مملكة سبأ، التي رأينا رجال الدين فيها ينتزعون الصلاحيات الدينية من يد الملوك بعد أقل من قرن ونصف قرن من قيام هذه المملكة، لينفردوا بها "منذ حوالي 610 ق. م" نحو خمسة قرون كاملة (15). وقد كان السلطة المترتبة على الصلاحيات الدينية في العصر القديم هي إحدى السلطات الرئيسة في نظم الحكم في المجتمعات المستقرة.
والمركز الذي كان يتمتع به رجال الدين في ممالك العربية الجنوبية، سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية السياسية، نجد شبيهًا له في العربية الشمالية في مملكة تدمر. فهنا كذلك نجد رجال الدين على قدر كبير من القوة والنفوذ في هاتين الناحيتين. وعلى سبيل المثال فالكهنة الذين كانوا يقومون على معبد الإله بل "كبير الآلهة" وتابعيه الإله يرحبول "إله الشمس في أحد مظاهره" والإله عجلبول "إله القمر" كانوا لا يسمحون لأحد أن يدخل ضمن صفوفهم إلا إذا كان ينتمي إلى الأرستقراطية التجارية في تدمر. كذلك كانت موافقتهم لازمة لتعيين كبار الموظفين في الدولة، وهكذا فإن النصوص التي تشير إلى أن الإله يرحبول قد سمى أحد الأشخاص ليشغل إحدى هذه الوظائف معناها في الحقيقة أن مجموعة هؤلاء الكهنة قد اختاروا هذا الشخص للوظيفة المسماة (16).
أما الظاهرة الأخرى أو الظرف الآخر الذي اتصل بالحياة الدينية في شبه الجزيرة العربية في العصور السابقة للإسلام فهو ظاهرة الارتباط الشديد بين التغييرات الاجتماعية والسياسية من جانب والتغييرات الدينية من جانب آخر، وقد ظهرت شدة هذا الارتباط في كثير من الأحيان في التصدي العنيف الذي كانت تلقاه أية محاولة للتغيير الديني. وليس هذا غريبًا في الواقع في مجتمعات العصر القديم التي كان الدين يقوم فيها بدور أساسي كقاعدة تقوم عليها الأوضاع الاجتماعية والسياسية "سواء في ذلك النظم السياسية أو حتى العلاقات السياسية الخارجية"، ومن هنا فقد كانت أية محاولة للتغيير في العقيدة الدينية معناها في الحقيقة محاولة للتغيير في واقع العلاقات الاجتماعية وما تقوم عليه من علاقات الإنتاج وما تؤدي إليه من نظم سياسية تبلور هذه العلاقات وتعطيها شرعيتها اللازمة لاستقرارها، كما كانت تؤثر كذلك في العلاقات السياسية الخارجية في مجتمع دولي يشتد فيه التوتر والصراع بين القوى الكبرى المتصارعة التي كانت بدورها ترى في الدين عامل اقتراب وتوافق أو عامل ابتعاد وتصادم حسب الظرف المطروح.
وقد مر بنا في هذا الصدد العنيف الذي تعرض له أصحاب الدعوات الدينية في أقوام عاد وثمود ومدين وسبأ. وقد رأينا في هذه الدعوات أن كلًّا من هذه الدعوات كانت تستقطب طبقة من المجتمع الذي ظهرت فيه هي طبقة المستضعفين على حد وصف القرآن الكريم لها في مواجهة طبقة أخرى من المتسلطين الذين كانوا يملكون موارد الثروة في المجتمع. كما رأينا الجدل العنيف الذي كان يقوم بين الطرفين حول الدعوة الدينية التي كان يبشر بها هؤلاء الرسل والأنبياء والتي يبدو واضحًا من سياق وصفها ووصف الجدل الذي أثارته بين طبقتي المجتمع أنها كانت تستهدف تعديل النظام الاجتماعي وإحداث تغيير في توزيع موارد الثروة أو النظم التي كانت تحكم الانتفاع بهذه الموارد بصورة أو بأخرى (17).
ويبدو واضحا أن هذه الأوضاع الاجتماعية كانت متداخلة إلى حد كبير مع الأوضاع الدينية السائدة ومستندة إليها ومتساندة معها لإبقاء الأمور على ما كانت عليه بحيث انتهت الدعوات الدينية المذكورة إلى الإخفاق. والصراع ذاته نجده في حالة الدعوة الإسلامية حيث نجد رسولها محمدًا -صلى الله عليه [وآله] وسلم- وأتباعه يتعرضون لشيء مماثل من الجدل العنيف ومن التضييق والاضطهاد الذي وصل إلى محاولة التصفية الجسدية لصاحب الدعوة. ولا شك أن جانبًا من نجاح الدعوة الإسلامية، يرجع إلى مقابلة الرسول -صلى الله عليه [وآله] وسلم- للخطط بخطط مثلها وتصديه للقوة بقوة مثلها، ومن بين ذلك هجرته هو وأتباعه من مكة إلى يثرب "المدينة المنورة" حيث وجد أنصارًا يتصدون معه لقريش، ومنها تصديه هو وأتباعه لقريش في عدد من الغزوات عند المواقع التي تقطع على القرشيين طرقهم التجارية، ومنها نجاحه في مهادنتهم عند اللزوم في صلح الحديبية ومنها فتحه لمكة التي كانت معقد الخطوط التجارية بين وادي الرافدين من جهة وبين سورية واليمن من جهة أخرى. ولكن بقيت فكرة التصدي للدعوة الدينية التي كانت تستهدف تغيير النظم الداخلية في المجتمع هي الفكرة المسيطرة على مسار الأمور طوال وقت الدعوة وحتى نجاحها "وقد كانت حرب الردة التي نشبت بعد موت الرسول -صلى الله عليه[وآله] وسلم- هي دون شك انتفاضة أخيرة للتصدي للدعوة الدينية الجديدة حتى بعد نجاحها".
ونحن نجد أمثلة أخرى لهذا العنف الذي واكب التغيرات الدينية في شبه الجزيرة العربية في الفترة السابقة لظهور الإسلام. ففي 523م نجد "ذو نواس" الحاكم الحميري اليهودي يتصدى للمسيحيين في نجران ويقدم على إحراق عدد كبير منهم في حادثة الأخدود التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، لسبب ربما كان مرتبطا بالسياسة الوطنية ضد التدخل الحبشي في المنطقة ومن ثم اعتبر ذو نواس المسيحيين من نفس عقيدة الأحباش أو خشي أن ينحازوا إليهم. وبعد ذلك بحوالي نصف قرن، في 570 أو 571م نجد محاولة من الحبشة لهدم الكعبة في عام الفيل المشهور، على أساس أن الكعبة كانت تمثل المركز الأول للعبادات الوثنية في شبه الجزيرة ومن ثم فهناك خطر من جانبها على انتشار أي نفوذ مسيحي يمهد الطريق لنفوذ حبشي في الحجاز بكل ما يعنيه هذا من سيطرة حبشية على طرق التجارة التي كانت مكة هي معقدها كما مر بنا (18).
والشيء ذاته نجده في تفاصيل مختلفة في علاقات الإمبراطورية البيزنطية بإمارة الغساسنة والإمبراطورية الساسانية "الفارسية" باللخميين "المناذرة". ففي حالة الغساسنة نجد أن حكام هذه الإمارة يتبنون المذهب المسيحي المونوفيزي "مذهب الطبيعة الواحدة" وهو مذهب مخالف للمذهب السائد في القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية. وقد قبل الأباطرة البيزنطيون هذا الوضع على شيء من المضض تمشيًا مع قبول الأمر الواقع طالما ظل انتفاعهم مستمرًّا بولاء الغساسنة في مجال التصدي لأية تحرشات من جانب الإمبراطورية الفارسية أو من جانب أمراء الحيرة الداخلية في نفوذها. ولكن حين بدأ حماس الغساسنة لتدعيم مذهبهم الديني المسيحي يظهر بشكل متواتر وملحوظ منذ عهد الحارث "الثاني" بن جبلة "حوالي 529-569م" بدأت الشكوك تساور البيزنطيين، وهكذا أمر الإمبراطور البيزنطي تيبريوس الثاني tiberius II بالقبض على المنذر بن الحارث الذي خلفه على الإمارة في أثناء افتتاحه لكنيسة في "حوارين" بين دمشق وتدمر حوالي 580م، وذلك رغم ما قام به هذا الأمير الغساني من تصدٍّ للأمراء اللخميين وصل إلى حد إحراقهم للحيرة، عاصمتهم، قبل ذلك بقليل في السنة ذاتها، وقد اقتيد المنذر إلى القسطنطينية، ثم سجن في صقلية.
أما في حالة اللخميين من أمراء الحيرة، فنحن نجدهم لا يعتنقون المسيحية ويبقون على وثنيتهم رغم انتشار المسيحية في مجتمع الحيرة ورغم أن إحدى الأميرات وهي هند "أم عمرو بن هند" كانت قد اعتنقت هذه العقيدة، وكان الاستثناء الوحيد بين هؤلاء الحكام هو النعمان الثالث أبو قابوس "حوالي 580-602م". ومن المرجح أن عدم إقدام هؤلاء الأمراء على اعتناق المسيحية هو عدم إثارة شكوك الإمبراطورية الفارسية ضدهم حيث إن المسيحية هي العقيدة الرسمية للإمبراطورية البيزنطية وهي العدو اللدود للفرس.
وحت حين اعتنق النعمان الثالث هذه العقيدة نجد أنه اعتنقها على المذهب النسطوري المونوفيزي "الذي لا تدين به الإمبراطورية البيزنطية" ومن ثم يصبح أقرب المذاهب إلى القبول لدى حكام الإمبراطورية الفارسية.
__________
(1) وجدت هذه العبادات في فترات مبكرة في العربية الشمالية ومن المحتمل أن تكون قد انتقلت إلى الحجاز من هناك. عن وجود اللات في العربية الشمالية انظر HERODOTUS: iii، 83 وترجع الإشارة إلى أواسط القرن الخامس وهو الوقت الذي كتب فيه هيرودوتوس. عن وجود اللات والعزى في مملكة الأنباط راجع dussaud: ذاته، صفحات 44-45، عن وجودهما في تدمر راجع، ذاته: المرجع ذاته، صفحات 102-103، وكذلك اللوحتين 21-22 في الصفحتين ذاتهما، المعبودة مناة في تدمر، ذاته: ذات المرجع، ص90، بعل عند الكنعانيين منذ فترة مبكرة، ذاته: ص195.
(2) جواد علي: ذاته، صفحات 114-115.
(3) hitti: ذاته، صفحات 97-98.
(4) نص القصيدة في ANET، صفحات 41-42.
(5) عن عبادة الشمس في البتراء راجع DUSSAUD: ذاته، صفحات 93، 103، راجع كذلك لوحة 21 في، ذاته ص102. عن وجود عبادة الشمس في شمال الجزيرة العربية عمومًا، ذاته، ص102.
أ- النقوش الأصلية منقولة في:
winnet، F.V. and Reed، W.L: ancient records from north arabia "toronto، 1970"، dedanite and lihyanite inscriptions، 10 11، 14، pp، 127، 129.
winnet، F.V.: allah before islam "the moslem world، XXVIII، 1938"، pp. 241-2.
عن مدى انتشار النقوش التي يرد فيها اسم "الله": يوجد في جنوبي شبه الجزيرة نقشان: أحدهما سبئي والثاني معيني، وفي شمالي شبه الجزيرة 6 نقوش لحيانية مبكرة، 28 نقشا لحيانيا متأخرا، ونقش ثمودي مبكر، و4 نقوش ثمودية متأخرة وحمسة نقوش صفوية وعديد من النقوش النبطية موجودة بكاملها في:
"الجزء الثاني" cantineau: le nabateen.
ب- النقش اللحياني رقمه js 8، والنقشان الثموديان hu 475، 643. إشارة القرآن الكريم في سورة الإخلاص: 1، 3.
ج- راجع نفس المعنى في القرآن الكريم، الزمر: 3، الأنعام: 148، النحل: 35، لقمان: 24. هذا، وتجدر الإشارة هنا إلى أن عبادة "الله" بهذه الصفة قد تسربت إلى شبه الجزيرة العربية من المنطقة السورية، وأنها تركزت في المنطقة أول ما تركزت عند اللحيانيين "شمالي الحجاز" الذين نجد عندهم، كما أسلفت، أولى الإشارات في شبه الجزيرة إلى هذا المعبود. أما عن الثموديين فربما أخذوا هذه العقيدة عن اللحيانيين وربما أخذوها مباشرة عن السوريين وهو الأرجح، إذ إن لفظة "الأبتر" التي ترد في نصوصهم كصفة لهذا المعبود لا توجد في النصوص اللحيانية مما يشير بشكل قوي إلى أنهم أخذوا العبادة من منطقة أخرى غير منطقة اللحيانيين، كذلك يبدو من النصوص التي عثر عليها حتى الآن أن انتشار العبادة في جنوبي شبه الجزيرة لم يكن بنفس الاتساع الذي كان في الشمال، إذ إن هناك نصين فقط ترد فيهما الإشارة إلى "الله" باللغة العربية الجنوبية، وحتى أحد هذين النصين عثر عليه في منطقة العلا "في القسم الشمالي العربي من شبه الجزيرة"، ومن هنا يصبح هناك نص واحد مكتوب باللغة العربية الجنوبية وموجود في جنوبي شبه الجزيرة فعلا، في مقابل النصوص العديدة التي ترد فيها عبادة "الله" في القسم الشمالي من شبه الجزيرة. راجع: winnett، ذاته، صفحات 245-248.
(6) عن "ذو شارة" وديونيسوس: انظر HERODOTUS: III، 8 "ويشير المؤرخ إلى ذي شارة تحت اسم orotait" وتقابل "أعارة" وهو الاسم الذي عرف به قبل مجيء الأنباط. راجع المطابقة بين التسمية المبكرة وتسمية هوميروس والتسمية النبطية في dussaud: ذاته، صفحات 30، 42، 56. عن الأصل البابلي للإله التدمري، dussaud: ذاته، صفحات 93-94.
(7) hitti: ذاته، ص61.
(8) ذاته، المرجع ذاته، ص107.
(9) راجع الحديث عن الوضع السياسي والوضع الاجتماعي أعلاه في هذا الباب.
(10) HITTI ذاته، ص106.
(11) الإشارة إلى الحنيفية في القرآن الكريم، سورة البقرة: 135، آل عمران: 67 و95، النساء: 125، الأنعام: 79 و161، يونس: 105، النحل: 120 و123، الروم: 30، الحج: 31، البينة: 5.
(12) strabo: XVI، 4: 3، plinius: HN، VI، 153. عن معبد المقه راجع: ahmad fakhry: an archaelogical journey to yemen "1952 cairo" راجع كذلك Wendell ph'lips: qataban and sheba صفحات 251 وما بعدها.
(13) عن عدد الآلهة راجع dussaud: ذاته، صفحات 90-91. عن الاثار راجع، kammerer: ذاته، الجزء الثاني الخاص بالأطلس واللوحات، لوحات: 115، 116، 118 "1"، 120 "2".
(14) plinius: HN، XII، 54، 63-4.
(15) راجع الوضع السياسي أعلاه في هذا الباب.
(16) SYRIG: SYRIA، xxii "1941" صفحات 268 وما بعدها.
(17) راجع الباب السادس من هذه الدراسة، صفحات 172-173 وحاشية 17 في الباب ذاته.
(18) يجد القارئ عرضًا موجزًا لهذه الأحداث الموجودة في الفقرات التالية في، hitti: ذاته، صفحات، 62، 64، 79-80، 83.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|