تنزيه إبراهيم (عليه السلام) عن القول بخلق الله للأفعال
المؤلف:
أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي (الشريف المرتضى)
المصدر:
تنزيه الانبياء
الجزء والصفحة:
38 - 41
10-12-2017
1159
(مسألة) : إن قيل أليس قد حكى الله تعالى عن ابراهيم (عليه السلام) قوله إذ قال لقومه : {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96] وظاهر هذا القول يقتضي انه تعالى خلق اعمال العباد ، فما الوجه فيما وما عذر ابراهيم عليه السلام في اطلاقه؟
(الجواب) : قلنا من تأمل هذه الآية حق التأمل ، علم ان معناها بخلاف ما يظنه المجبرة ، لان قوله تعالى خبر عن ابراهيم (عليه السلام) بأنه غير قومه بعبادة الاصنام واتخاذها آلهة من دون الله تعالى ، بقوله (اتعبدون ما تنحتون) ، وانما اراد منحوت وما حمله النحت دون عملهم الذي هو النحت لان القوم لم يكونوا يعبدون النحت الذي هو فعلهم في الاجسام ، وإنما كانوا يعبدون الاجسام انفسها.
ثم قال : (والله خلقكم وما تعملون) وهذا الكلام لابد من ان يكون متعلقا بالاول ومتضمنا لما يقتضي المنع من عباده الاصنام ، ولا يكون بهذه الصفة الا والمراد بقوله : وما تعملون الاصنام التي كانوا ينحتونها. فكأنه تعالى قال : كيف تعبدون ما خلقه الله تعالى كما خلقكم. وليس لهم ان يقولوا ان الكلام الثاني قد يتعلق بالكلام الاول على خلاف ما قدرتموه ، لانه إذا أراد ان الله خلقكم وخلق اعمالكم ، فقد تعلق الثاني بالاول ، لان من خلقه الله لا يجوز ان يعبد غيره. وذلك أنه لو اراد ما ظنوه ، لكفى ان يقول الله تعالى : والله خلقكم. ويصير ما ضمنه إلى ذلك من قوله: (وما تعملون) لغوا ولا فائدة فيه ، ولا تعلق له بالاول ولا تأثير له في المنع من عبادة الاصنام. فصح أنه أراد ما ذكرناه من المعمول فيه ، ليطابق قوله : (اتعبدون ما تنحتون). فإن قالوا هذا عدول عن الظاهر ، لقوله تعالى : (وما تعملون) لان هذه اللفظة لا تستعمل على سبيل الحقيقة إلا في العمل دون المعمول فيه. ولهذا يقولون : اعجبني ما تعمل وما تفعل ، مكان قولهم: اعجبني عملك وفعلك.
قيل لهم : ليس نسلم لكم ان الظاهر ما ادعيتموه ، لان هذه اللفظة قد تستعمل في المعمول فيه ، والعمل عل حد واحد. بل استعمالها في المعمول فيه اظهر واكثر. ألا ترى انه تعالى قال في العصا { تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117] وفي آية اخرى : {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه: 69] ومعلوم أنه لم يرد أنها تلقف اعمالهم التي هي الحركات واعتمادات ، وإنما أراد انها تلقف الحبال وغيرها مما حله الافك و قد قال تنبيه قد وقع في ص 36 س 9 هكذا (مجاوريهم) و صوابه (بناويهم) ... وههنا مواضع لا يستعمل فيها (ما) مع الفعل الا والمراد بها الاجسام دون الاعراض التي هي فعلنا. لان القائل إذا قال : اعجبني ما تأكل وما تشرب وما تلبس ، لم يجز حمله إلا على المأكول والمشروب والملبوس دون الاكل والشرب واللبس.
فصح ان لفظة (ما) فيما ذكرناه أشبه بأن تكون حقيقة ، وفيما ذكروه اشبه بأن تكون مجازا. ولو لم يثبت فيها إلا انها مشتركة بين الامرين ، وحقيقة فيهما ، لكان كافيا في اخراج الظاهر من ايديهم ، وابطال ما تعلقوا به. وليس لهم ان يقولوا أن كل موضع استعملت فيه لفظة (ما) مع الفعل ، واريد بها المفعول فيه ، إنما علم بدليل ، والظاهر بخلافه. وذلك أنه لا فرق بينهم في هذه الدعوى وبين من عكسها ، فادعى ان لفظة (ما) إذا استعملت مع الفعل واريد بها المصدر دون المفعول فيه كانت محمولة على ذلك بالدليل ، وعلى سبيل المجاز. والظاهر بخلافه ، على ان التعليل وتعلق الكلام الثاني بالأول على ما بيناه ايضا ظاهر ، فيجب ان يكون مراعى. وقد بينا ايضا انه متى حمل الكلام على ما ظنوه لم يكن الثاني متعلقا بالأول ولا تعليلا فيه ، والظاهر يقتضي ذلك. فقد صار فيما ادعوه عدول عن الظاهر الذي ذكرناه في معنى الآية ، فلو سلم ما ادعوه من الظاهر في معنى اللفظة معه لتعارضتا ، فكيف وقد بينا أنه غير سليم ولا صحيح؟
وبعد : فإن قوله : (وما تعملون) لا يستقل بالفائدة بنفسه ، ولابد من أن يقدر محذوف ، ويرجع إلى (ما) التي بمعنى (الذي) ، وليس لهم ان يقدروا الهاء ليسلم ما ادعوه بأولى منا إذا قدرنا لفظة فيه ، لان كلا الامرين محذوف ، وليس تقدير احدهما بأولى من الآخر ، إلا بدليل هذا.
على انا قد بينا ان مع تقدير الهاء يكون الكلام محتملا لما ذكرناه ، كاحتماله لما ذكروه. ومع تقديرنا الذي بيناه يكون الكلام مختصا غير مشترك ، فصرنا بالظاهر اولى منهم ، وصار للمعنى الذي ذهبنا إليه الرجحان على معناهم. على أن معنى الآية والمقصود منها يدلان على ما ذكرناه ، حتى أنا لو قدرنا ما ظنه المخالف لكان ناقضا للغرض في الآية ومبطلا لفايدتها ، لأنه تعالى خبر عن إبراهيم (عليه السلام) بأنه قرعهم ووبخهم بعبادة الاصنام ، واحتج عليهم بما يقتضي العدول عن عبادته. ولو كان مراده بالآية ما ظنوه من انه تعالى خلقهم وخلق اعمالهم ، وقد علمنا ان عبادتهم للأصنام من جملة اعمالهم ، فكأنه قال الله تعالى : والله خلقكم وخلق عبادة اصنامكم. لوجب ان يكون عاذرا لهم ومزيلا للوم عنهم ، لان الانسان لا يذم على ما خلق فيه ولا يعاتب ولا يوبخ.
وبعد فلو حملنا الآية على ما توهموه لكان الكلام متناقضا من وجه آخر ، لأنه قد أضاف العمل إليهم بقوله (وما تعملون). وذلك يمنع من كونه خلقا لله تعالى ، لان العامل للشيء هو من احدثه واخرجه من العدم إلى الوجود. والخلق في هذا الوجه لا يفيد إلا هذا المعنى ، فكيف يكون خالقا ومحدثا لما احدثه غيره وعمله؟ على ان الخلق إذا كان هو التقدير في اللغة ، فقد يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا كان مقدرا له ومدبرا.
ولهذا يقولون خلق الاديم فيمن قدره ودبره ، وإن كان ما احدث الاديم نفسه فلو حملنا قوله: (وما تعملون) على افعالهم دون ما فعلوا فيه من الاجسام ، لكان الكلام على هذا الوجه صحيحا. ويكون المعنى : والله دبركم ودبر أعمالكم. وان لم يكن محدثا لها وفاعلا. وكل هذه الوجوه واضح لا إشكال فيه بحمد الله تعالى ومنه.
الاكثر قراءة في الانبياء
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة