التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
مصر تحت حكم الاجانب
المؤلف: محمد أبو المحاسن عصفور
المصدر: معالم تاريخ الشرق الأدني القديم
الجزء والصفحة: ص205- 220
12-1-2017
1747
الأسرة الثانية والعشرون:
كانوا الليبيين يهددون الحدود المصرية في عهد الدولة الحديثة وأن آخر من انتصر عليهم كان رعمسيس الثالث الذي سمح لهم بعد ذلك بالهجرة إلى مصر مسالمين(1)، وقد وفد منهم عدد كبير ودخلوا في خدمة الجيش المصري كجنود مرتزقة، ومن بين هؤلاء الوافدين أسرة قوية كان يتزعمها "يويوواوا" وقد استقرت هذه الأسرة في إهناسيا "هرقليوبوليس" ونعمت بشيء كبير من النفوذ والسلطان؛ إذ تولى بعض أفرادها مناصب مختلفة ومنهم من تولى وظيفة كاهن معبد إهناسيا وقائد حرس المدينة في نفس الوقت, ثم أصبحت هاتان الوظيفتان وراثيتين في أسرته من بعده.
وتطور أمر هذه الأسرة وأصبحت من القوة والنفوذ؛ بحيث كانت تتصل بالملك رأسًا(2)، وبينما كانت الأسرة الحادية والعشرون تتداعى وفي طريقها إلى الانهيار أخذت هذه الأسرة الليبية تقوى وتشتد حتى تمكن أحدها ويدعى شيشنق من أن يستولي على العرش وجعل مقر ملكه في بوبسطة "تل بسطة الحالية قرب الزقازيق" ومن المرجح أنه لم يجد الفرصة المواتية لاتخاذ هذه الخطوة إلا بعد وفاة آخر ملوك الأسرة الحادية والعشرين وانقراض ذريته, كما يحتمل أنه كان قد زوج ولده من ابنة هذا الملك فاكتسب بذلك شيئًا من الحق في اعتلاء العرش بعد وفاة صهره، ويبدو أن كهنة آمون في طيبة كانوا أقل قبولًا لحكمه من أهل الدلتا وإن لم يستطيعوا إنكار حقه في العرش؛ إذ إنهم لم يعلنوا عن رضاهم ولم يعترفوا له بالملكية مباشرة ودارت بينه وبينهم مفاوضات حول اعترافهم به، ويخيل إلينا أن هذه المفاوضات تعثرت في أول الأمر؛ لأنهم على الأرجح رغبوا في الحصول على المزيد من السلطة وتجريد الملك من بعض الحقوق التي كان يحتفظ بها، ومما يؤكد هذا الرأي أن لوحة في الكرنك عليها نص مؤرخ في السنة الثانية من عهد رئيس الماشواش(3) الأكبر "شيشنق" بينما نجد على نفس اللوحة نصًّا آخر مؤرخًا بالسنة الثالثة عشرة من عهد الملك شيشنق, أي أنه في النص الأول كان يعتبر رئيسًا لليبيين فحسب؛ بينما اعترف به في النص الثاني كملك.
ومن المؤرخين من يرى أن طائفة من كهنة آمون لم تقبل الاعتراف بحكمه وفرت إلى بلاد النوبة؛ حيث احتمت في منطقة نباتا وجعلت منها عاصمة للمملكة التي أقاموها هناك؛ ولذا يرجح هؤلاء المؤرخون أن أصل الأسرة النباتية(4) يرجع إلى هؤلاء الكهنة ويستندون في ذلك إلى شدة ورع ملوك نباتا وإخلاصهم وتفانيهم في عبادة آمون وإلى أن بعض هؤلاء الملوك كانوا يحملون أسماء مصرية، كما يستنتجون عدم قبول حكم شيشنق أيضًا من قيام ثورة بالواحات الخارجية في السنة التاسعة عشرة من عهده؛ ولكن لا يمكن الأخذ بهذه الآراء؛ إذ ليس هناك ما يؤكد زيادة سلطان أولئك الكهنة في نباتا أو أنهم تمكنوا من الوصول إلى الحكم وتكوين أسرة مالكة فيها، كما أن تشابه أسماء بعض الملوك في نباتا مع الأسماء المصرية قد يرجع إلى أن بلاد النوبة كانت قد تأثرت بالحضارة المصرية منذ وقت طويل واصطبغت بها، كذلك يغلب على الظن أن ثورة الواحات الخارجية ترجع إلى كثرة وجود العناصر الثائرة بها؛ لأنها كانت تعتبر منفى للمجرمين وهؤلاء كثيرًا ما كانوا يرغبون في التخلص من منفاهم.
ورغم ما يبدو -لأول وهلة- من عدم تحسن الأمور في مصر؛ فإن سياسة شيشنق الأول الخارجية تدل على أنه كان موفقًا إلى حد كبير؛ فحينما تولى العرش كان سليمان ما زال يحكم في فلسطين وكان النبي أشعيا قد تنبأ ليريعام وهو أحد أمراء إسرائيل المناوئين لسليمان بأنه سيحكم إسرائيل، ولما حاول سليمان القضاء على يريعام هرب هذا إلى مصر؛ حيث لجأ إلى شيشنق(5) ، وبالرغم من أن المصريين كانوا يحرصون على علاقات الود مع ملوك العبرانيين الأقوياء؛ إلا أنهم لم يضيعوا أية فرصة تسنح لهم يتمكنون فيها من إضعافهم وأمعنوا في التدخل في شئون فلسطين أملًا في إعادة نفوذهم إليها، وعلى هذا نجد شيشنق يعمل بما نصح له به يريعام -الذي يرجح أنه تزوج بابنة شيشنق- من إعداد العدة لمهاجمة فلسطين، وكان العبرانيون قد ضاقوا ذرعًا بحكم سليمان الذي طعن في السن وأثقل كاهلهم بالضرائب الفادحة؛ فلما مات انقسموا على أنفسهم وانتهز شيشنق فرصة انقسامهم إلى مملكتين(6) متنافستين وتقدم بجيشه حوالي سنة 920 ق. م. إلى مملكة يهودا التي كان يحكمها رحبعام بن سليمان, واستولى على خزائن الرب في أورشليم، وربما كان سبب عدم مقاومة رحبعام لشيشنق وحليفه يريعام "ملك إسرائيل" يرجع إلى أن النبي أشعيا كان قد تنبأ بتمزق مملكة العبرانيين, وأن يريعام سيحكم على عشر قبائل من قبائلها الاثنتي عشرة.
واستمر شيشنق في غزواته؛ حيث امتلك بعض المدائن في فلسطين لمدة قصيرة ثم رجع إلى مصر، وقد نقش شيشنق أخبار الجزية التي وصلته من فلسطين ومن النوبة على جدران معبد الكرنك، وربما كان الباعث الذي دفع شيشنق إلى هذا النشاط هو رغبته في البحث عن مورد للثروة؛ لأن البلاد كانت في حالة اقتصادية سيئة, ووجد أنه من المتعذر فرض ضرائب جديدة؛ لأن حكمه لم يكن مقبولًا تمامًا، وعلى ذلك اتبع سياسة ملوك مصر التقليدية في القيام بحملات خارجية لزيادة دخلهم، ولا شك في أنه أفاد من ذلك أيضًا في شغل أذهان الناس عن ولايته للعرش والشئون الداخلية؛ ليتمكن من تثبيت أقدامه في الحكم.
وقد تفرغ شيشنق بعد عودته من حروبه في فلسطين للشئون العمرانية في داخل البلاد؛ حيث شيد وأصلح كثيرًا من المباني، ولما مات خلفه ولده "أسركون الأول" الذي كان والده قد زوجه من ابنة بسوسنس الثاني في حين كان ابنه الثاني "يوبت" كاهنًا في طيبة، ولم ينجب هذا الأخير أبناء فاتفق مع شقيقه "أسركون الأول"؛ على أن يكون ابن هذا الأخير خليفة لعمه في رئاسة كهنوت طيبة؛ إلا أن هذا الابن مات وخلفه ابنه "حرسا إيسي" حفيد "أسركون"، وقد مات هذا الأخير أيضًا فتبعه ولدان من أبناء أسركون ثم تبعهما الابن الرابع لأسركون ويدعى شيشنق، وفي تلك الأثناء توفي أسركون وتبعه على العرش "تكلوت الأول" "ثكرتي" ومن ذلك نتبين أن أربعة من أبناء أسركون الأول تتابعوا في رئاسة كهنوت طيبة واعتلى ابنه الخامس العرش من بعده.
والظاهر أن طول مدة حكم أسركون الأول نسبيًّا وتتابع أفراد أسرته في رئاسة الكهنوت في طيبة مما زاد الحالة تعقيدًا في البلاد؛ إذ من المحتمل أن ما تمتع به هؤلاء من نفوذ وسلطان كان يدفعهم دائمًا إلى إثارة المتاعب أو محاولة الاستحواذ على مزيد من السلطة، وربما دأب أسركون على تغييرهم من أجل ذلك؛ لأننا لا ندري كيف انتهت خدمات بعض أبنائه في رئاسة الكهنة.
ومهما يكن من أمر؛ فقد بدأ الصراع واضحًا بين الشمال والجنوب في نهاية عصر أسركون الأول وبداية عصر "تكلوت الأول" ثم اشتد النزاع بين هذا الأخير وشقيقه الكاهن شيشنق؛ لأن هذا الأخير حينما شعر بقوة نفوذه في طيبة انتحل الألقاب الملكية، وحينما تولى أسركون الثاني بعد والده تكلوت الأول وجد أن نفوذ عمه يهدد سلطانه وخاصة في أجزاء مصر الجنوبية؛ ولذا عمد إلى الاحتفاظ بهيبة الملكية في تلك الجهات وقام بإصلاح بعض التلف الذي أصاب معابد طيبة باسمه وخاصة في معبد الأقصر الذي أثر فيه الفيضان، ومع هذا يبدو أن الخطر ظل يتهدد نفوذ الملك من نواحٍ متعددة كما يتبين ذلك من تمثال للملك "أسركون الثاني" عثر عليه في تانيس؛ إذ نقشت عليه دعوات يطلب فيها الملك من المعبود أن يخلد أبناءه في الحكم, وأن يمنحهم السلطة على رؤساء الكهنة وعلى رؤساء "ماشواش" العظام وعلى كهنة هرقليوبوليس، ومما جاء في هذه الدعوات أيضًا: "اجعل أولادي في الوظائف التي عينتهم بها, ولا تجعل قلب أحدهم يكبر أو يعظم على قلب أخيه"(7).
فمن هذه الدعوات يمكن أن نتبين سوء الحالة في البلاد في عهد هذه الأسرة بصفة عامة؛ إذ كانت هناك بضع قوى متنافرة كل منها تعارض سلطان الملك, وهذه القوى تتمثل في الكهنة ورؤساء الماشواش "المرتزقة الليبيين" الذين أصبحت لهم سطوة كبيرة باعتبارهم يمتون بصلة للبيت المالك، وربما أصبح معظم أمراء الأقاليم من هؤلاء الليبيين، ولا شك أن كل طائفة من هذه الطوائف كانت تعمل لمصلحتها الخاصة؛ مما أضعف سلطان الملوك وتراخت قبضتهم عن الأقاليم؛ فحظي أمراؤها بشيء من الاستقلال والسيادة وإن لم يتعد نفوذهم عواصم أقاليمهم إلا قليلًا.
والخلاصة التي يمكن أن نستنتجها هي أن البلاد كانت سائرة في طريقها إلى الانحلال, وأن تنازع السلطات بلغ من الخطورة حدًّا جعل الملوك لا يأمنون على عروشهم؛ فهناك ما يشير إلى أن "أسركون الثاني" قبل أن يعتلي العرش كان مشتركًا في الحكم مع والده الذي اتخذ هذه الخطوة لكي يضمن لولده ولاية العهد، وقد اتبع "أسركون الثاني" نفس هذه السياسة مع ولده "شيشنق الثاني" الذي مات في حياته, فأشرك معه ابنه الآخر "تكلوت الثاني" الذي استمر معه في الحكم سبعة أعوام ثم انفرد بالعرش بعد وفاته.
وأخذت هذه بعد ذلك تنحدر نحو الاضمحلال حتى إن ابن تكلوت الثاني -وكان يدعى أسركون- قد جرؤ في السنة الحادية عشرة من حكم والده على تقديم بعض الهدايا إلى معبد آمون باسمه الخاص مع أنه لم يكن إلا رئيسًا للكهنة، وبالرغم من تقديمه لتلك الهدايا فإن رئاسته للكهنة كانت في أغلب الظن غير مقبولة؛ إذ إن أهالي طيبة قاموا بثورة ضده فاضطر إلى الهرب، وبعد نحو عشرة أعوام عاد إلى طيبة بمعاونة بعض أعوان والده، ويبدو أنه استلهم وحي الإله آمون حينئذٍ فأصدر هذا عفوه عن الثائرين؛ ولكن ذلك العفو كان مؤقتًا في نظر أهل طيبة على الأقل؛ لأنهم أعادوا الثورة فاضطر أسركون للهرب ثانية بعد نحو ستة أعوام من عودته، وظل مختفيًا في هذه المرة نحو ثلاثة عشر عامًا، وفي كل مرة كان يختفي فيها تولى رئاسة الكهنوت في مكانه أحد أفراد الأسرة ويدعى "حرسا إيسي".
ومن النقوش التي ترجع إلى أواخر عصر هذه الأسرة يتبين لنا أن عهود آخر ثلاثة ملوك فيها كانت تسودها الاضطرابات وقد تلفت فيها آثار كثيرة ولم تنجُ عاصمتهم "بوبسطة" من التخريب, كما أنها تعرضت بعد ذلك للنهب والتدمير؛ ولذلك كانت معلوماتنا عن هذه الأسرة بصفة عامة ضئيلة للغاية، ولا نجد فيما لدينا من نصوص بعد عهد مؤسسها شيشنق ما يشير إلى فلسطين؛ مما يدل على أن نفوذ مصر قد انعدم فيها من بعده.
ويحتمل أن ظهور مملكة آشور في ذلك الحين جعل بعض الدويلات الآسيوية في شرق حوض البحر المتوسط تتجمع في شكل اتحاد ضدها، ووجد "تكلوت الثاني" أن في ظهور هذه المملكة الفتية خطرًا يهدد مصر؛ فأرسل عددًا من المقاتلين كمدد لذلك الاتحاد الذي هزمه شلمنصر الثالث ملك أشور حينئذ، وأثار ذلك انتباه هذه الدولة الفتية إلى الدور الذي تقوم به مصر فتحفزت للاصطدام معها.
وفي أواخر عهد "شيشنق الثالث" أي: في أثناء تولي "حرسا إيسي" لرئاسة الكهنوت من جديد, نشأت أسرة ملكية "بدأها "بادي باست"" في طيبة هي الأسرة الثالثة والعشرون، أي أنها كانت تعاصر الأسرة الثانية والعشرين وخاصة في الفترة الأخيرة منها؛ ولكننا لا نعرف كيف نشأت هذه الأسرة؟ وما هي العلاقة بينها وبين الأسرة السابقة؟ بل ولا نعرف شيئًا عن الدور الذي قام به "حرسا إيسي" عند تعاصر الأسرتين، وكل ما يمكن أن نقوله هو أن الأحوال الخارجية والداخلية بصفة عامة لم تكن واضحة تمامًا.
ومما تجدر ملاحظته أن الأسرة الثالثة والعشرين قد مرت في نهايتها بنفس التجربة؛ إذ ظهرت في الشمال أسرة جديدة "وإن لم تعمر هذه الأسرة طويلًا" كما شاهدت كذلك دخول النبتاويين إلى مصر؛ حيث أسسوا الأسرة الخامسة والعشرين.
الأسرة الثالثة والعشرون:
تمكن ثلاثة الملوك الأخيرون في الأسرة الثانية والعشرين من الاحتفاظ بسلطتهم على قسمي المملكة الشمالي والجنوبي فيما عدا الفترة التي حكم فيها "يادي باست" في طيبة "كما أشرنا" حيث انتزع السلطة من ملوك بوبسطة، ويرى مانيثون أنه مؤسس الأسرة الثالثة والعشرين؛ ولكن يبدو -حسب ما يفهم من بردية في فينا- أن بعض الاضطرابات حدثت في السنة الرابعة عشرة من حكمه, وأنه اضطر إلى أن يقتسم السلطة مع أحد أمراء شرق الدلتا.
ولا ندري على وجه التحديد هل كان "بادي باست" من سلالة كهنة طيبة وتمكن من أن ينتزع السلطان من أمراء بوبسطة ثم تمكن أحد هؤلاء من أن يقتسم معه السلطة على أثر ثورة قام بها، أم أن "بادي باست" كان مغتصبًا لا علاقة له ببيت الكهنة ولا بالبيت المالك في الشمال، وحينما سنحت الفرصة ثار عليه أحد أمراء الشمال واضطره إلى اقتسام السلطة معه؟.
وعندما اعتلى العرش شيشنق الرابع خليفة بادي باست نجح في توحيد البلاد من جديد؛ ولكن يبدو أن ذلك لم يكن إلا ظاهريًّا فقط؛ لأن منافسات شديدة قامت بين أمراء الأقاليم الذين كانوا يشعرون بأنهم من القوة بحيث يستطيعون الخروج على سلطان الملك وعلى ذلك حدثت اضطرابات مختلفة؛ فمن ذلك مثلًا ما حدث عند اشتداد المنافسات بين أمير تمي الأمديد وأمير عين شمس إذ انضم إلى كل منهما فريق من الأمراء ونشبت بسبب ذلك حروب عجز فيها "بادي باست" وخليفته "شيشنق الرابع" عن حقن الدماء.
وما أن تولى "أسركون الثالث" بن "شيشنق الرابع" حتى كانت البلاد قد انقسمت إلى إمارات صغيرة تتشاحن فيما بينها، وكانت الإمارات التي تمتد من الوجه البحري إلى الأشمونين تتقاتل فيما بينها بصورة تشبه إلى حد كبير ما كان يحدث في عصور ما قبل الأسرات، وقد وصلنا نحو ثمانية عشر اسمًا لأمراء من هؤلاء المتنازعين، وفي خضم هذه الاضطرابات التي كانت تعاني منها البلاد والتي جعلت من ملكها أشبه بحاكم على إقليم العاصمة "بوبسطة" ولا يتعدى نفوذه كثيرًا حدود هذا الإقليم, كانت إسرائيل في صراع مع دولة أشور؛ فلم تتمكن مصر من تقديم المساعدة لها، بل كانت مصر بالنسبة لظروفها الخاصة تعد فريسة سهلة لكل من يطمع فيها من جيرانها, ولكن لم يغامر أحد بالإغارة عليها في ذلك الوقت، واستمر بعض خلفاء "أسركون الثالث" يحكمون فترة وجيزة إلى أن ظهر أمير قوي في "سايس" "في غرب الدلتا" هو "تفنخت" الذي حاول أن يخضع كل أمراء الدلتا لسلطانه. وفي نفس الوقت كانت أسرة حاكمة قد تكونت في نباتا, واستطاعت أن تبسط سلطانها على كل السودان الشمالي وبلاد النوبة ومصر العليا حتى طيبة.
وأول من سمعنا عنه من ملوك هذه الأسرة النبتاوية في النصوص المصرية هو "كاشتا" ثم تلاه "بمنخى" الذي أخضع البلاد كلها لسلطانه؛ ولذا يعتبره بعض المؤرخين مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين، كما يطلق فريق من المؤرخين على هؤلاء النبتاويين اسم "الأسرة الأثيوبية"؛ لكن نظرًا لاختلاف مدلولات أثيوبيا والنوبة باختلاف العصور، وعدم دلالة أيهما على كل الأجزاء التي ارتبطت بمصر أيام الفراعنة، ولعدم تأكدنا من أصل هذه الأسرة حتى الآن؛ فإننا نفضل الإشارة إلى هذه بالاسم المشتق من اسم عاصمتها نبتة أو نباتا أي: "الأسرة النبتاوية".
الأسرتان الرابعة والعشرون والخامسة والعشرون:
ما زال المؤرخون يختلفون في أصل الأسرة النباتية, وما زلنا نجهل كيف استطاع أحد ملوك هذه الأسرة وهو "كاشتا" أن يفرض سلطانه على مصر العليا حتى طيبة، وبذلك أصبح يحكم مملكة تمتد -على الأقل- من الشلال الرابع جنوبًا إلى طيبة شمالًا أي: إنه يحكم في إقليم النوبة الغنية فضلًا عما كانت مملكته تنعم به من وحدة متماسكة، على عكس الحال في مصر التي فقدت أملاكها في آسيا كما تنازع فيها الأمراء ورجال الدين على السلطة؛ إذ وجدوا في ضعف الملوك خير مشجع لهم على التمادي في محاولة الاستئثار بها، وقد تطورت الأمور بعد ذلك سريعًا في مصر لأن "تفنخت" أخذ يمد نفوذه على بقية الأمراء في الدلتا محاولًا أن يعيد الوحدة إلى البلاد؛ فبعد أن قهر أمراء غرب الدلتا سار جنوبًا حيث استولى على شمال الوجه القبلي ثم عاد فبسط نفوذه على شرق الدلتا ووسطها أي أنه أصبح ملكًا بالفعل على الوجه البحري وشمال الوجه القبلي إلى بني حسن ولم تقاومه إلا إهناسيا عاصمة إقليم الأشمونين، وفي تلك الأثناء كان "بعنخي" قد تولى الملك في النوبة بعد "كاشتا"، ولم يهتم بادئ الأمر لنجاح تفنخت في بسط نفوذه على بقية أمراء الدلتا؛ ولكنه شعر بالخطر الذي يهدد نفوذه عندما عاد تفنخت إلى التقدم في الصعيد وانزعج حينما علم بأن "نمرود" أمير الأشمونيين استسلم له في النهاية بل وانضم إليه أيضًا، وعلى ذلك أمر بعنخي قواته بالتقدم شمالًا نحو تفنخت لوقف تقدمه إلى الجنوب، ومن المحتمل أن القوات النبتاوية لم تصادف نجاحًا كبيرًا في أول الأمر فاضطر بعنخي أن يتقدم بنفسه نحو الشمال، وما أن وصل إلى طيبة حتى استراح بها وقدم الهدايا لآمون, ثم واصل سيره شمالًا مخضعًا كل الأقاليم التي كانت في طريقه إلى أن وصل الأشمونين حيث دارت معركة بين أسطوله وبين الأسطول المصري هزم فيها هذا الأخير، وفر تفنخت شمالًا ليعيد تنظيم قواته ويقوي من تحصيناته.
أما نمرود فقد تحصن في الأشمونين ودافع عنها, ولكنه -إزاء حصار بعنخي- أجبر على التسليم وأرسل زوجته للتوسط له عند حريم بعنخي، وقد استولى بعنخي على كثير من نفائس المدينة ثم تقدم شمالًا نحو منف التي احتمى بها تفنخت، وفي أثناء حصار بعنخي لها فر تفنخت قبل أن تسقط في يده، وما أن استولى عليها حتى ذهب إلى معبد عين شمس حيث اعترف به ملكًا على مصر، وهنا وفد عليه "أوسركون الثالث" الذي كان يحكم في بوبسطة وقدم له الخضوع والولاء، وبعدئذٍ توجه يعنخي إلى "أتريب"؛ حيث أقبل عليه أمراء الدلتا معلنين ولاءهم كذلك، وفي تلك الأثناء كانت تفنخت قد وصل في فراره إلى بلدة صغيرة مجهولة تعرف باسم "مسد"؛ فأرسل بعنخي قوة فتكت بحاميتها واضطر تفنخت أن يلجأ إلى جزيرة صغيرة في شمال الدلتا تحيط بها المستنقعات, ومن هناك أرسل الهدايا إلى بعنخي راجيًا منه أن يرسل من قبله رسولًا إلى معبد مجاور كي يقسم أمامه يمين الطاعة والولاء له، وقد تم ذلك فعلًا، وعندئذ قدم بقية الأمراء ولاءهم له أيضًا؛ فأصبح بعنخي حاكم مصر المطلق، أي: إن ملكه امتد من نباتا "أو أبعد منها قليلًا إلى الجنوب" إلى أقصى شمال الدلتا، ومعنى هذا أنه كان يحكم مملكة لا تقل عن الإمبراطورية المصرية في أوج عظمتها باستثناء الأجزاء الشمالية الشرقية في سورية وفلسطين.
وٍيدهشنا أن بعنخي لم يستمر طويلًا في مصر؛ بل عاد مسرعًا إلى نباتا وما زلنا نجهل الأسباب التي دعته إلى ذلك؛ إذ إن عودته السريعة جعلت بعض المؤرخين يشبهون حملته بمغامرة ليس لها غد إذ لم تكن ذات نتائج حاسمة، ومما هو جدير بالذكر أيضًا أن الفترة التي غزا فيها بعنخي مصر هي الفترة الوحيدة التي أمسك فيها تفنخت عن ادعاء حكم مصر؛ حيث يبدو أنه ما أن رجع بعنخي إلى عاصمة ملكه في النوبة إلا وعاد نفنخت إلى ادعاء حكمه لمصر بأكملها، وإن كنا نرجح أن ملكه لم يكن ليتجاوز "منف" جنوبًا؛ بل وكانت بقايا الأسرة الثالثة والعشرين تحكم في بوبسطة في نفس الوقت أيضًا، ويبين الجدول بالصفحة التالية كيف حكم مصر ملوك يمثلون أسرات مختلفة في نفس العصر.
فإذا اعتبرنا أن ملوك نباتا هم ملوك الأسرة الخامسة والعشرين في مصر؛ فإننا في هذه الفترة نجد مثالًا آخر لمعاصرة بعض الأسرات المصرية(8) للبعض الآخر؛ فبينما تحكم الأسرة الثالثة والعشرون في بوبسطة يسيطر ملوك الأسرة الخامسة والعشرين على مصر بالفعل أو على الأقل يتحكمون في الصعيد ويسيطر تفنخت الذي يعتبر مؤسسًا للأسرة الرابعة والعشرين على معظم الدلتا وكانت عاصمته سايس؛ هذا وقد ظلت نبتة تسيطر على الصعيد حتى بعد أن عاد تفنخت إلى اتخاذ الألقاب الملكية وربما كان السبب في خروج أمراء الوجه البحري على نفوذ نبتة يرجع إلى أنهم كانوا أقرب إلى الاتفاق مع تفنخت من أمراء الصعيد، وفي نفس الوقت كان نفوذ "كبيرة محظيات آمون في طيبة"(9) عاملًا أساسيًّا في نفوذ مملكة نباتا في الصعيد؛ لأننا نعرف أن ابنة أسركون الثالث التي كانت كبيرة محظيات هذا الإله قد تبنت شقيقة بعنخي.
ولما توفي تفنخت تبعه ولده "بخورس" في الحكم في سايس، وقد رأى هذا الأخير أن نفوذ أشور قد ازداد إلى درجة كبيرة؛ فلم يجد بدًّا من إرسال هدية إلى "سرجون الثاني" ملك أشور "721-705 ق. م"، وربما كان بخورس يرمي من وراء ذلك إلى توطيد علاقاته مع ملك أشور أو أنه كان يهدف إلى اكتساب عطفه إذا ما أراد أن يعارض نفوذ نباتا، وقد اعتبر سرجون الثاني هذه الهدية بمثابة الجزية وادعى خضوع مصر لسلطانه.
__________
(1) انظر أعلاه ص197.
(2) كان رئيس الأسرة الليبية القوية التي استقرت في إهناسيا يدعى شيشنق, وقد توفي ولده نمرود فدفنه في أبيدوس، وحينما اعتدي على قبر هذا الأخير لم يذهب الأب ليشكو لرئيس الكهنة في طيبة؛ بل ذهب إلى الملك الذي صحبه رأسًا إلى طيبة ليستفتي وحي آمون، ولما صدر حكم آمون على الجناة أرسل الملك تمثالًا لنمرود؛ ليوضع في أبيدوس على سبيل التعويض.
(3) الماشواش هم المرتزقة الليبيون, انظر 198.
(4) نسبة إلى نبتة أو نباتا بالقرب من جبل البرقل عند الشلال الرابع في إقليم مروى بالسودان الشمالي.
(5) سفر الملوك, الإصحاح 11 آية 40.
(6) بعد موت سليمان لم يقبل ولده رحبعام تخفيف الضرائب على العبرانيين؛ فلم تعترف عشر قبائل من قبائلهم الاثنتي عشرة به ملكًا, ونادت بيريعام الذي عاد من مصر ملكًا عليها مكونة مملكة إسرائيل, أما القبيلتان الباقيتان؛ فقد بقيتا تحت حكم رحبعام وكونتا مملكة يهودا.
(7) JEA 46, pp. 12 ff "especially p. 17".
(8) انظر الأسرات 8 و9 و10 و11 و13 و14 و17 الهكسوسية و17 المصرية 128-133، 148-150، 154-156.
(9) يبدو أن الملوك حينما شعروا بضعفهم أسندوا وظيفة كبيرة محظيات آمون إلى سيدات من البيت المالك؛ ولكن لا توجد إلا إشارات ضئيلة من هؤلاء في الأسرتين 21 و22 ولا تعرف سلسلة المحظيات إلا ابتداء من عهد أوسركون الثالث "ثالث ملوك الأسرة 22" الذي عين ابنته في هذه الوظيفة ليحد من نفوذ كهنة آمون على الأرجح، ولما وصل نفوذ كاشتا إلى مصر العليا أجبر شبن وبت الأولى ابنة أوسركون على أن تتبنى ابنته، ومن ذلك الوقت ظهرت سلسلة من التبني حيث كانت كبيرة المحظيات تتبنى ابنة الملك الحاكم أو أخته, انظر:
Jean Leclant, Enquétes sur les Sacerdoces et les Sanctuaires Egyptiens, "Le Caire 198".