نبذة عن النقل البحري
المؤلف:
د. محمد خميس الزوكة
المصدر:
جغرافية النقل
الجزء والصفحة:
ص 175 ـ 181
2025-11-06
37
لم يقدم الانسان على ركوب البحر في العصور القديمة وهي عملية تشكل مغامرة غير محمودة العواقب لجهله بخصائصه وامتداده اللانهائي لذا وقف عقبة في طريق تنقلات الانسان انذاك - الا بعد أن اكتسب الخبرة اللازمة وأمن الوسيلة الملائمة وتوافر الحافز والمبرر الكافي ، والمؤكد أن استخدام الانسان للانهار كطرق للنقل يسبق استخدامه للبحار للأسباب السابق الاشارة اليها عند دراسة النقل النهرى فى الفصل السابق ، وبعد ان اكتسب الانسان المبادئ الاولية لفنون الملاحة من ركوبه المسطحات المائية الممتدة فوق اليابس انتقل الى المرحلة التالية ممثلة في ركوب المسطحات البحرية الضحلة المتاخمة للكتل الارضية وهو مادرج على تسميته بالملاحة الساحلية والتي مكنته بعد ذلك من اتقان فنون البحرية التي أهلته للانتقال الى مرحلة الخروج الى عرض البحار وخاصة بعد أن توافر للإنسان كل من الخبرة الكافية لبناء القوارب البحرية والحافز لركوب المسطحات البحرية ممثلا في التجارة وتبادل السلع.
ويرجح معظم الباحثين أن الانسان ركب البحر وكسر حاجزه كعقبة في طريق تنقلاته وبالتالي انتصر على هذا التحدى لتبدأ مرحلة جديدة من الحضارة الانسانية والعلاقات المتبادلة القائمة على النشاط البحري منذ نحو سبعة آلاف سنة تقريبا . ويشكل البحر المتوسط والبحر الاحمر وخليج عدن وخليج عمان والخليج العربي وبحار اليابان وشرق الصين وجنوب الصين والمحيط الهندى والبحر البلطي وشمالي الاطلسي النطاقات البحرية التي شهدت التجارب الاولى والرحلات الرائدة في مجال ركوب البحار واكتساب فنون الملاحة البحرية ، ولا غرابة في ذلك فهذه المسطحات البحرية تطل عليها أوطان الحضارات البشرية القديمة ممثلة أساسا في مصر والصين وفينيقيا وبلاد الفايكنج والاغريق والرومان واهتم المصريون القدماء منذ عصور ما قبل الاسرات بجلب بعض المنتجات وخاصة الاحجار الكريمة والزجاج الطبيعي من بعض جزر البحر المتوسط والتي تأتي كريت فى مقدمتها مما يعنى وجود علاقات بحرية بين مصر ومثل هذه الجزر منذ حوالي عام 5500 ق.م ، ومع بداية عهد الأسرة الفرعونية الرابعة ( 2650 - 2500 ق.م) أرسل الملك سنفرو (2650 - 2599 ق .م) نحو أربعين سفينة بحرية كبيرة إلى الساحل الشرقي للبحر المتوسط (لبنان) وعادت هذه السفن بعد ذلك الى مصر محملة بالأخشاب اللازمة لتصنيع بعض المنتجات الخشبية وخاصة السفن البحرية والأثاث الملكي الفاخر وأرسل الملك ساحورع خلال عهد الأسرة الفرعونية الخامسة (2500 - 2350 ق.م) حملة بحرية الى ساحل فينيقيا ، وعادت السفن المصرية محملة بالعديد من منتجات الساحل الشرقي للبحر المتوسط والتي يأتي في مقدمتها الزيوت والاخشاب ، ولم يقتصر النشاط البحري في عهد الدولة القديمة على البحر المتوسط وانما امتد أيضا إلى البحر الاحمر حيث حرصت مصر على علاقاتها التجارية مع بلاد بونت (الواقعة على ساحل شرق افريقيا) والتي جلبوا منها الاخشاب والعطور والاحجار الكريمة وريش النعام والعاج وليس من شك فى أن المصريين القدماء قد برعوا في ركوب البحر وادراك خصائصه وتحديد اتجاهات الرياح وخاصة اذا وضع في الاعتبار مخاطر الملاحة في البحر الاحمر والتي تأتي الشعاب والحواجز المرجانية في مقدمتها ، ومع ذلك فقد كانت السفن المصرية تقطعه بين الشمال والجنوب بنجاح وأمان تام ويذكر أحد موظفو الدولة خلال الاسرة الفرعونية السادسة (2350 - 2200 ق.م) أنه ركب كل من البحر المتوسط للوصول الى بيبلوس (جبيل) والبحر الاحمر للوصول الى بلاد بونت نحو أحدى عشرة مرة مما يعكس كثافة الرحلات البحرية المصرية التي تقطع البحرين المتوسط والأحمر ومهارة البحارة المصريين وبلغ النشاط البحري نصر الفرعونية اقصاه خلال الدولة الحديثة وخاصة بعد أن برع المصريون في بناء السفن البحرية وهو ما أكده هيرودوت المؤرخ الاغريقي الشهير مما مكنهم من الدوران حول القارة (663 - 525 ق.م)، فقد أرسل الملك نخاو (600 ق.م) رحلة بحرية بدأت من البحر الأحمر واتجهت جنوبا ونجحت في الدوران حول افريقيا و دخول البحر المتوسط عن طريق مضيق جبل طارق والوصول الى الساحل المصري بعد نحو ثلاث سنوات من بدء الرحلة وبعد نحو مائة عام أى في حوالي عام 500 ق.م نجح ملاح من قرطاجنة يدعى هانو Hanno في اختراق البحر المتوسط صوب الغرب وبعد عبوره أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق) اتجه صوب الجنوب بمحاذاة ساحل غرب أفريقيا حتى منطقة مصب نهر السنغال وربما حتى موقع سيرالبون الحالية ونجح أهل الصين القدماء أيضا في ركوب البحر على نطاق واسع منذ عام 770 ق .م وخاصة عندما نجحوا في صناعة بناء السفن البحرية المتطورة نسبيا ، الا أن الطفرة الكبرى كانت في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي عندما استخدموا البوصلة البحرية فى الملاحة ، لذا وصلت السفن البحرية الصينية حتى الساحل الشرقي لقارة افريقيا ونجح ملاح صيني يدعى تشنغ خه فى القيام بسبع رحلات بحرية الى الاقاليم الواقعة غربي بحر جنوب الصين في قارتي آسيا وأفريقيا وذلك خلال الفترة الممتدة بين عامي - 1405 - 1433.
ومن الشعوب القديمة التي برعت في ركوب البحر نذكر الفينيقيين الذين جابوا كل بقاع البحر المتوسط بدءا من موطنهم على ساحله الشرقي حتى مدخله في الغرب عند بوغاز جبل طارق الذي كان يعرف قديما باسم أعمدة هرقل ، وقد أسسوا عددا من المستعمرات الفينيقية في شكل مناطق ساحلية وخاصة فى شمالى أفريقيا ، اذ أسسوا مدينة قرطاجنة الشهيرة ، الى جانب جزر قبرص ، صقلية ، سردينيا ، السواحل الجنوبية لكل من فرنسا وأيبيريا وعبر الفينيقيون مضيق أعمدة هرقل واتجهت رحلاتهم البحرية شمالا بمحاذاة السواحل الغربية لقارة أوربا حتى الجزر البريطانية ، لذا يعد أهل فينيقيا من أجرا الشعوب القديمة التي ركبت البحر وملكت فنون الملاحة لاهتمامهم بشئون التجارة البحرية وانتقلت خبرة الملاحة البحرية وفنونها من الفينيقيين الى سكان بحرايجه الذين أسمتهم النصوص المصرية القديمة الشماليون الذين في جزرهم ، وقد ساعدت الطبيعة الجزرية لبلاد اليونان ، بالاضافة الى ضعف الموارد الطبيعية وتناثر النطاقات السهلية وتباعدها عن بعضها البعض اذ يفضل فيما بينها نطاقات جبلية وعرة على اهتمام الاغريق بالملاحة البحرية وفنونها مما ساعدهم بعد تجميع دويلاتهم في التكتل الذي عرف بالملف الهيليني على امتداد الامبراطورية الاغريقية في اتجاه الشرق وبسط نفوذها على طول سواحل البحر المتوسط ، وأصبح النقل البحرى يشكل أساس ترابط الإمبراطورية وتماسك اقاليمها ، كما قام اليونانيون بعدة رحلات بحرية في البحر الاحمر والمحيط الهندي.
وظهرت الامبراطورية الرومانية بعد ذلك وامتدت حدودها إلى أبعد من اقليم البحر المتوسط الذي أصبح يكون خلال هذه المرحلة التاريخية وحدة سياسية ذات قيادة مركزية موحدة لأول مرة في التاريخ ، مما نشط حركة الملاحة البحرية فى البحر المتوسط وكثفها بشكل كبير ، بالاضافة الى النشاط البحري الروماني في العديد من المسطحات البحرية المتاخمة للعالم القديم وخاصة البحر الأحمر والمحيط الهندى بعد سيطرة روما على أرض مصر عام 30 ق.م اذ نشطت الرحلات البحرية الرومانية في محاولة لإيجاد طرق بحرية مع الهند، ومن أهم هذه الرحلات رحلة هيبالوس Hippala التي كان من أهم نتائجها معرفة اتجاهات الرياح الموسمية واستخدامها في الوصول الى ساحل الهند دون الحاجة الى تتبع الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية ، وتم هذا الكشف فى حوالي عام 50 ميلادية ، كما نجح الرومان في الوصول الى الصين بحرا في حوالي عام 166 ميلادية ومن الشعوب القديمة التي اشتهرت بركوب البحر شعب الفايكنج وموطنه شبه جزيرة إسكندناوه فى شمالي اوربا ، وقد ساعدهم على ذلك توافر الاخشاب اللازمة لبناء السفن في موطنهم، بالاضافة الى فقر بيئتهم الطبيعية مما دفعهم الى الخروج من بلادهم ومحاولة اقامة مستعمرات أو نقاط ارتكاز لهم خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين ، وامتد النشاط البحري للفايكنج في المسطحات البحرية المجاورة لشمالي وغربي أوربا ، بالاضافة الى النطاق الشمالي للمحيط الاطلسي اذ استخدموا الجزر الواقعة شمالي المحيط الاطلسي فى النطاق الممتد بين قارتي أوربا وأمريكا الشمالية (جزر) شتلند ، فارو ، أيسلندا ، جرينلاند ، بفن ، شبه جزيرة لبرادور كنقاط وثب للوصول الى قارة أمريكا الشمالية وبرع العرب في علم الفلك ومعرفة النجوم التي اهتدوا بها في رحلاتهم البحرية ، كما برعوا فى بناء السفن ورسم الخرائط ومعرفة اتجاه الرياح مما مكنهم من السيطرة على البحار المحيطة بأراضيهم وخاصة بعد انتصار الاسطول العربي على الاسطول البيزنطي خلال القرن السابع الميلادي ، وامتد نشاط العرب البحري ليشمل البحار المعقدة الى الشرق من قارة افريقيا وحتى جزيرة مدغشقر جنوبا ، والبحار الممتدة أيضا الى الجنوب والشرق من قارة آسيا وحتى شيلا (كوريا) ، واق (اليابان) ، ويذكر بعض الباحثين أن نشاط العرب البحري امتد حتى المحيط الاطلسي (بحر الظلمات ) خلال القرن الحادي عشر الميلادي ويمثل استخدام البوصلة فى الملاحة البحرية بالاضافة الى تطور صناعة بناء السفن ، وفى مرحلة تالية من الملاحة الشرعية الى السفن البخارية نقط تحول هامة فى قصة ركوب البحر واستخدامه في النقل على نطاق تدرج بشكل بطيء منذ بداية القرن الخامس عشر الميلادي حتى بلغ مستواه الحالي من حيث الحجم والكثافة والمدى والتأثير ، وقد ساهم في هذا الانجاز البشرى عدة دول يأتى فى مقدمتها هولندا ، البرتغال ، أسبانيا فرنسا ، المملكة المتحدة ورغم تأخر استخدام البخار فى النقل البحرى بالقياس الى طرق النقل الاخرى ، الا أنه يتصدر حاليا وسائل النقل التي يستخدمها الانسان من حيث ضخامة القدرة على الحمل حتى أنه يعرف بأنه أثقل وسائل النقل واكثرها قدرة على الحمل وأسبقها من حيث الاستخدام على المستوى الاقتصادي المربح وأرخصها تكلفة ، مما أسهم في تزايد دور النقل البحري في مجال النقل والتبادل التجارى بين دول العالم مهما بعدت المسافة الفاصلة بينها ، اذا أصبح من الممكن فى الوقت الحاضر وعن طريق النقل البحري وعلى المستوى الاقتصادي نقل خامات الحديد من البرازيل وكندا الى اليابان ، ونقل الماشية الحية من استراليا أو نيوزيلندا الى دول الشرق الأوسط ، ونقل المركبات الهندسية من اليابان وكوريا الجنوبية إلى دول غربى أوربا وأمريكا اللاتينية ، ونقل الاخشاب وبعض خاماتها من شمالي أوربا وأمريكا الشمالية الى دول جنوبي أوربا ومصر، ومعنى ذلك أن النقل البحري يسهم في تبادل السلع سواء كانت منتجات أو خامات ، مما أكسب هذه الوسيلة أهمية بالغة في عالمنا المعاصر حتى أنه يمكن تشبيه الخطوط البحرية بالشرايين التي تنقل أساسيات الحياة ممثلة في محاصيل الغذاء ومنتجاتها ، بالاضافة الى مستلزمات الانتاج ومتطلباته الرئيسية وخاصة مصادر الطاقة الى جانب منتجاتها المصنعة بين دل العالم ، مما أكسب الدول البحرية والدول التي تتحكم في المنافذ البحرية الرئيسية مثل قناة السويس والدول التي تمتلك أساطيل بحرية كبيرة أهمية خاصة بين باقي دول العالم .
ويتسم النقل البحري بعدة خصائص تميزه عن غيره من أنماط النقل الاخرى ، يأتي في مقدمتها ما يأتي :
1ـ عدم وجود طرق محددة المسار تلتزم بها السفن البحرية يستثنى من ذلك الممرات الملاحية المؤدية الى الموانئ البحرية والتي يحدد مسارها عادة مورفولوجية القاع وعمق المياه.
2ـ عدم حاجة الطرق البحرية الى اعداد وتجهيز ، كما أنها لا تحتاج الى اصلاح أو ترميم.
3ـ مجانية المرور في المسطحات البحرية سواء كانت دولية أو اقليمية يستثنى من ذلك المرور فى الممرات البحرية ذات التجهيزات الخاصة كقناتي السويس وبنما.
4ـ القدرة على حمل ونقل بضائع بكميات كبيرة في الرحلة الواحدة بحيث تفوق الكميات التي تنقلها أي وسيلة أخرى للنقل بما في ذلك السكك الحديدية.
5ـ القدرة على النقل لمسافات طويلة تفوق المسافات التي تستطيع أن تقطعها أي وسيلة أخرى للنقل وبتكلفة اقتصادية.
6ـ انخفاض تكلفة النقل ، حيث يعد النقل البحرى أقل أنماط النقل من حيث التكلفة ، وسبق أن أشرنا إلى أسباب ذلك في الفصل الثاني والتي تتلخص في انخفاض نفقات القوى المحركة فى مجال النقال المائي ، بالاضافة الى القدرة الكبيرة لوحدات النقل المائئ على الحمل ، لذلك ينافس النقل البحري انماط النقل الاخرى فى مجال نقل السلع منخفضة القيمة ، كبيرة الحجم كخامات المعادن الحديد الخام ، الفحم ، الفوسفات ، البوكسيت، والاخشاب الى جانب الحيوانات الحية والمحاصيل الزراعية التي تأتي الحبوب فى مقدمتها من حيث الاعتماد على النقل البحري في تبادلها بين دول العالم ، وأسهم في ذلك ضخامة أحجام السفن البحرية والتي لا يحددها سوى عاملى عمق المياه في الموانى وسعة ممراتها الملاحية ، واتساع الممرات البحرية ومواصفاتها الملاحية وليس من شك فى أن ضخامة أحجام السفن البحرية تلبي احتياجات التجارة الدولية الأخذة في النمو والتزايد.
الاكثر قراءة في جغرافية النقل
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة