الفضائل
الاخلاص والتوكل
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة
الايمان واليقين والحب الالهي
التفكر والعلم والعمل
التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
الحب والالفة والتاخي والمداراة
الحلم والرفق والعفو
الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن
الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل
الشجاعة و الغيرة
الشكر والصبر والفقر
الصدق
العفة والورع و التقوى
الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان
بر الوالدين وصلة الرحم
حسن الخلق و الكمال
السلام
العدل و المساواة
اداء الامانة
قضاء الحاجة
فضائل عامة
آداب
اداب النية وآثارها
آداب الصلاة
آداب الصوم و الزكاة و الصدقة
آداب الحج و العمرة و الزيارة
آداب العلم والعبادة
آداب الطعام والشراب
آداب الدعاء
اداب عامة
حقوق
الرذائل وعلاجاتها
الجهل و الذنوب والغفلة
الحسد والطمع والشره
البخل والحرص والخوف وطول الامل
الغيبة و النميمة والبهتان والسباب
الغضب و الحقد والعصبية والقسوة
العجب والتكبر والغرور
الكذب و الرياء واللسان
حب الدنيا والرئاسة والمال
العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين
سوء الخلق والظن
الظلم والبغي و الغدر
السخرية والمزاح والشماتة
رذائل عامة
علاج الرذائل
علاج البخل والحرص والغيبة والكذب
علاج التكبر والرياء وسوء الخلق
علاج العجب
علاج الغضب والحسد والشره
علاجات رذائل عامة
أخلاقيات عامة
أدعية وأذكار
صلوات و زيارات
قصص أخلاقية
قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)
قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم
قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)
قصص من حياة الصحابة والتابعين
قصص من حياة العلماء
قصص اخلاقية عامة
إضاءات أخلاقية
الحرص والقناعة
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المصدر: الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة: ج2/ ص46-62
2024-12-04
274
تنويه :
سبق وأن قرأنا في الفصل السابق الحديث الوارد عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين يذكر فيه أنّ أوّل مصدر للمعصية هو التكبّر حيث تكبّر إبليس ورفض السجود لآدم بسبب تكبره وطغيانه ، ثمّ ذكر الإمام زين العابدين (الحرص) بعنوان انه المصدر الثاني للمعصية حيث ذكر فيه ما صدر من الترك للأولى من قِبل آدم وحواء وأكلهما من الشجرة الممنوعة بدافع من الحرص ، ثمّ ذكر (الحسد) الّذي يتمثل في حسد قابيل لأخيه هابيل وقتله.
إن افرازات الحرص السلبية لم تتجلّى فقط في قصّة آدم بل في قصص الأنبياء وتصدّيهم لسلوكيات أقوامهم المنحرفة طيلة التاريخ البشري ، فنحن نرى في قصص الأقوام البشرية السالفة والمجتمعات المختلفة أنّ الحرص والطمع كان يمثل المصدر للكثير من الجرائم والحروب الدموية والغارات الوحشية وسحق المبادئ الإنسانية والفضائل الأخلاقية في حركة الحياة البشرية والمجتمعات الإنسانية.
والنقطة المقابلة لهذه الرذيلة الأخلاقية هي (القناعة) الّتي تورث الإنسان الطمأنينة والهدوء النفسي ، العدالة ، الصلح ، الاخوة والصفاء في دائرة العلاقات الإجتماعية ، وبالنظر إلى المنهج المتّبع لترتيب الفضائل والرذائل الأخلاقية (المنهج الّذي يبتدئ في دراسة واستعراض حالات الأنبياء من آدم إلى نبيّنا الكريم الواردة في القرآن المجيد) فإنّ ثاني صفة من الصفات الرذيلة هي الحرص المتمثل في قصّة آدم ، وكذلك قصة شعيب وداود وبشكل عام اليهود ، وسنتعرض كذلك ما ورد من الحوادث المتعلقة بالمسلمين والمشركين العرب في عصر النزول أيضاً.
وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة ما ورد في هذا المضمون الأخلاقي :
1 ـ (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى * فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)([1]).
2 ـ (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)([2]).
3 ـ (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ)([3]).
4 ـ (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)([4]).
5 ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)([5]).
6 ـ (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)([6]).
7 ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ* الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)([7])
تفسير واستنتاج :
تتحدّث «الآية الاولى» من الآيات المذكورة آنفاً عن قصة آدم وزوجته حواء وما جرى لهما مع الشيطان الرجيم ، فطبقاً للآيات القرآنية فإنّ الله تعالى قد اسكن آدم وحواء الجنّة ونهاهما عن الاقتراب من الشجرة الممنوعة وحذرهما من إغواء إبليس ووسوسته ، ولكن الشيطان افلح في إغوائه ووسوسته وارتكب آدم ترك الأولى وأكل من الشجرة الممنوعة ، وبذلك طرد من الجنّة وغرق في دوّامة البلايا والمشاكل الدنيوية في هذه الحياة.
الآيات أعلاه تشير إلى هذه الحادثة التاريخية وتقول : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى * فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى).
وفي الواقع فإنّ الشيطان ذكر لآدم عن الشجرة الممنوعة بانّ كلّ من يأكل منها سوف يحظى بطول العمر ويغرق في النعمة والسعادة الخالدة.
ما هو السبب الّذي دفع آدم إلى قبول وسوسة الشيطان والاعتماد على كلماته ووعوده ونسيان الأمر الإلهي ونهيه عن تناول ثمرة الشجرة الممنوعة؟ أليس الحرص والطمع هو الّذي حجبه عن رؤية حقائق الامور؟
وبهذا نرى أنّ حالة التكبّر هي الّتي أدّت إلى ضلال الشيطان وعصيانه لأوامر الله تعالى في بداية الخلقة ، وترتب على ذلك أعظم المفاسد في عالم الوجود ، وهكذا نرى أنّ حالة الحرص والطمع والرغبة في الملّذات المادية والدنيوية هي العامل الآخر لشقاء الإنسان وغرقه في وحل المفاسد والمشاكل الكثيرة في حياته ، ولهذا السبب فقد ورد في النصوص الدينية أنّ اصول الكفر ثلاثة : «التكبّر» الّذي أدّى إلى ضلال إبليس وانحرافه عن طريق الحق ، «الحرص» الّذي تسبب في انحراف آدم وخروجه من الجنّة ، و«الحسد» الّذي تسبب في قتل هابيل على يد أخيه قابيل.
وصحيح أنّ النهي الإلهي المتوجه لآدم لم يكن نهياً تحريمياً ولذلك لم تكن مخالفته معصية مطلقة بل كان من قبيل (الترك للأولى) ، أو بتعبير آخر كان نوعاً من النهي الإرشادي كما في نهي الطبيب للمريض عن تناول بعض الأطعمة غير الملائمة لصحته ومزاجه ولكن على أيّة حال فقد كان المتوقع من آدم أن لا يرتكب هذا الترك الأولى ، لكن صفة الحرص والطمع قد دفعت بآدم إلى هذا المنزلق الخطير ، وبالتالي أوقع نفسه وذريته من البشر في دوّامة من المشاكل والشدائد والمصائب في حركة الحياة.
«الآية الثانية» تتحدّث عن قصّة قوم شعيب الّذين دفعهم الحرص على المزيد من الملذات الدنيوية والطمع في التكاثر في الأموال والثروات المادية أن يديروا ظهورهم عن الحقّ ويتركوا دعوة نبيهم شعيب وإنكار التعليمات السماوية الّتي جاء بها هذا النبي الكريم لتهديدهم وتخليصهم من أدران الشهوات المادية الرخيصة حيث تقول الآية : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
وطبقاً لهذه الآية فإنّ انحراف قوم شعيب كان يتمثل أوّلاً في الشرك وعبادة الأوثان ثمّ التطفيف في الميزان وأكل أموال الناس بالباطل والغش والإفساد في الأرض ، وهكذا نرى أنّ هؤلاء القوم كانوا حريصين على الدنيا إلى درجة أنّهم قالوا لشعيب كما تصرّح الآية (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا ...)([8]).
هذا والحال أن غصب حقوق الناس والتطفيف في الميزان لم يكن ليؤدي إلى عدم زيادة ثرواتهم وأموالهم فحسب ، بل كما أشار القرآن الكريم ادّى إلى فساد المجتمع وإيجاد الخلل والارتباك في مفاصله وزوال الثقة بين الأفراد في عملية التفاعل الإجتماعي واهدار الطاقات واتلاف الأموال وأمثال ذلك ، وعليه فإنّ صفة الحرص أدّت إلى نتائج معكوسة في مسيرتهم الإجتماعية والدنيوية.
«الآية الثالثة» من الآيات محل البحث تستعرض الحادثة الّتي حدثت لداود والّتي تعكس في مضمونها الصفة الذميمة للحرص وابعادها السلبية في حياة الإنسان وعلاقته مع الآخرين ، وتتلخص هذه القصة في أخوين جاءا إلى النبي داود فقال أحدهما (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ)([9]) وهكذا نجد أنّ صاحب التسع وتسعين نعجة طمع في ضم نعجة أخيه الواحدة إلى نعاجه وأصرّ عليه بقبول هذا العرض والطلب ، وعند ما سمع داود هذا الكلام تأثر كثيراً و (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ)([10]) ثمّ ذكر داود لهذين الأخوين أنّ هذه الحالة تكاد تكون طبيعية لدى بني البشر وخاصة في حالة الشركة مع بعضهم فيتحرك بعضهم من موقع الظلم والاجحاد بحقّ البعض الآخر ، باستثناء المؤمنين الّذين يمنعهم إيمانهم من سلوك طريق الباطل وقال لهما (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ).
ونقرأ في ذيل الآية الكريمة (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ)([11]).
ولكن ما ذا حدث لداود في هذه الفتنة وهذا الامتحان الإلهي؟ هناك كلام كثير بين المفسّرين، وأما ما ورد في التوراة المحرّفة الحالية فيتلخص في أنّ داود كان قد طمع في زوجة أحد قادته العسكريين ويدعى «اورياي حتى» والّذي كانت له زوجة جميله جدّاً فعشقها داود واحتال لتحريرها من قيد زوجيتها مع اوريا ليتمكن من الزواج بها مع انه كانت له أزواج عديدة ، وهكذا نرى أنّ هذه القصة المفتعلة لا تتناسب مطلقاً مع قداسة الأنبياء الإلهيين بل لا تتناسب مع الأخلاق الإنسانية لدى أيّ إنسان في المستوى المتوسط من الأخلاق ، فانّ كلّ إنسان يستقبح هذه الحالة في نفسه وفي غيره من البشر.
والمشهور بين المفسّرين الإسلاميين هو أنّ امتحان داود كان يتعلق بمسألة القضاء وانه استعجل في حكمه وقبل أن يسمع حجّة الطرف الآخر حكم بينهما وقضى للأوّل على الثاني ، وبالرغم من أنّ حكمه وقضائه كان مصيباً للحقّ فإنّ الله تعالى وبّخه على تركه للأولى في هذه القضية ، ثمّ إنّ داود التفت إلى ذنبه وتاب منه.
وعلى أيّة حال فمقصودنا من استعراض هذه القصة هو أنّ الإنسان عند ما يستولي عليه الحرص والطمع فإنه يتحرّك من موقع ارتكاب الظلم والجور حتّى بالنسبة إلى أخيه الضعيف والمسكين ولا يأبى عن غصب حقّه وحرمانه من أبسط لوازم الحياة والمعيشة.
أجل فإنّ الحرص على الدنيا وملذاتها لا يعرف حدّاً وحدوداً بل يجرّ الإنسان إلى ارتكاب أشنع الظلم والجور في حقّ الآخرين.
«الآية الرابعة» من الآيات التي جاءت فى البحث وتشير إلى حرص اليهود على الحياة الدنيا، وتنطلق الآية من موقع الذم لهؤلاء فتقول : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا).
هؤلاء حريصون على جمع الأموال والثروات ، حريصون على الملك والتسلط على الدنيا ، حريصون على التمسّك بزمام الامور ، والعجيب أنّهم احرص من المشركين الّذين لا يلتزمون بأيّ دين ولا يعتقدون بأيّة شريعة سماوية في حين أنّ التعليمات السماوية تذم هذه الحالة الأخلاقية السلبية والمفروض بالإنسان الملتزم بالدين والشريعة أن تؤثر فيه هذه التعليمات السماوية وتحدد من حرصه على الدنيا وزخارفها الزائلة ولكننا نجد أنّ اليهود كانوا أحرص من المشركين عليها.
وكما تقول الآية (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ).
فهؤلاء ومن أجل جمع الثروات وبدافع الخوف من العذاب الإلهي الّذي ينتظرهم بسبب ظلمهم وعدوانهم وغصبهم لحقوق الآخرين وسفكهم لدماء الأبرياء فإنّهم كانوا يتمنون هذا العمر الطويل.
والملفت للنظر أنّ حالة اليهود في هذا العصر لم تختلف عنها في العصور السابقة فنراهم يعيشون حالة الحرص الشديد هذه بل وأشد من السابق ، فإنّ التاريخ المعاصر يشهد بأن اليهود لا يمتنعون من ارتكاب أيّة جناية في سبيل المزيد من جمع الثروات والأموال ، فما أكثر الحروب الدامية الّتي أشعلوها بين المجتمعات البشرية ، وما أكثر دماء الأبرياء الّتي سفكوها ، وما أكثر الفتن الّتي أوقدوا نيرانها بين الشعوب ، وما أكثر الأسلحة والمواد المخدّرة الّتي تاجروا بها لإفساد وتدمير العلاقات الإجتماعية بين أبناء البشر ، كلّ ذلك من أجل تحكيم اركان سيطرتهم على مقدّرات الامم والشعوب ، وما أكثر الكذب والدجل والذي يروجونه بين الناس من الإذاعات العالمية الّتي يقف الصهاينة واليهود من ورائها.
إذا أردنا أن نستعرض النتائج السلبية والعواقب الوخيمة لحالة الحرص والطمع وحب الدنيا على الإنسان فينبغي أن نستعرض أعمال هؤلاء على هذا المستوى.
وتعبير «حياة» الّذي جاء في الآية بصورة نكرة لعله إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هؤلاء القوم يريدون ويطلبون الحياة لأجل اللّذة فقط ولكن أيّة حياة؟ هل هي حياة إنسانية ، أو حياة حيوانية ، أو حياة الوحوش في البراري والغابات؟ كلّ ذلك غير مهم في نظر هؤلاء.
وكما قال بعض المفسّرين أنّ هذه الآية لا تتحدّث عن اليهود فقط بل تمثل تحذيراً لجميع أفراد البشر تحذرهم من الحرص وعواقب حبّ الدنيا لكيلا يبتلوا بما ابتُلي به اليهود في حياتهم الدنيوية وسلوكياتهم الأخلاقية.
وقد ورد في الآيات القرآنية والروايات الشريفة عن اليهود أنّهم قتلوا الكثير من الأنبياء الإلهيين لمجرّد مخالفتهم لهم ونهيهم عن سلوكياتهم المنحرفة ورغباتهم اللامشروعة في هذه الحياة ، وكذلك تحريفهم لآيات الله وكتبه السماوية وكلّ ذلك كان بسبب حرصهم وحبهم للدنيا.
«الآية الخامسة» تتحرّك على مستوى استعراض صفات الإنسان وحالاته السلبية من الحرص والجزع والبخل وأمثال ذلك وتقول : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً).
وقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة لكلمة «هلوع» معان كثيرة ، وفي الواقع أكثرها من باب اللازم والملزوم ومتقاربة المعنى ، ومن ذلك ما ذكره صاحب لسان العرب من المعاني الأربعة لهذه الكلمة وهي : الحرص ، الجزع ، الضجر ، وقلة الصبر ، وأورد في «مجمع البيان» أيضاً لمعنى الهلوع : «ضجور» و«شحيح» و«جزع» و«شديد الحرص».
وذهب صاحب كتاب التحقيق أنّ الجذر الأصلي لهذه الكلمة هو رغبة الإنسان في الاستمتاع بالنعم والملذات ، أما الجزع والحرص وقلّة الصبر فكلّها من آثار هذه الكلمة ومعناها الأصلي.
ومن مجموع ما تقدّم يظهر أنّ هذه الكلمة تتضمن ثلاث نقاط سلبية في دائرة الأخلاق وهي : الحرص ، الجزع والبخل.
وفي الواقع فإنّ تفسير كلمة «هلوع» ورد في نفس السورة بعد هذه الآية حيث يمكن استفادة المفهوم الواقعي لها بحيث تتضمن هذه المعاني الثلاثة لأن «جزوع» من مادة «جزع» و«منوع» من مادّة «منع» ، ويدخل في معناها البخل والحرص.
وعلى أيّة حال فإنّ الآيات المذكورة وردت في مقام ذم الأشخاص الّذين يستولي عليهم الحرص والبخل والجزع.
ويمكن القول أنّ «الحرص» هو المصدر الأساس للبخل ، لأن الحريص يريد الاحتفاظ بكلّ شيء لنفسه ومنه ينشأ البخل ، وكذلك فإنّ الحرص أحياناً يسبب الجزع وقلّة الصبر ، لأن الحريص إذا فقد بعض ممتلكاته ومتعلقاته فسوف يتألم كثيراً ويتعامل مع الامور من موقع الجزع والحدّة.
فالآية الشريفة تقرر بأن الإنسان قد خُلق بهذه الصفات ، ولكن قد يُثار في الذهن هذا التساؤل ، وهو أنّ الله تعالى قد خلق الإنسان من أجل السعادة الخالدة ونيل المقامات والكمالات المعنوية ، فكيف يخلقه بهذه النقائص ونقاط الضعف الّتي تحجبه عن سلوك طريق الحقّ وتصدّه عن السير في طريق الكمال والسعادة؟
وقد أجاب البعض على هذا السؤال بأن هذه الصفات السلبية تتعلق بالإنسان الفاقد للإيمان ، فإنّ طبع الإنسان المؤمن يتناغم مع الصبر والمثابرة والكرم وأمثال ذلك ولكن عند ما ينفصل عن دائرة الإيمان ، فمن الطبيعي أن يجزع مقابل أقل مشكلة وأدنى شدّة لأنّه يفتقد السند والدعامة الأساسية في حياته العملية ويجد نفسه وحيداً في مقابل تحدّيات الواقع الصعبة ، فلذلك يتعامل مع الحياة من موقع الحرص والبخل ولا يجد في نفسه اعتماداً وتوكلاً على الله تعالى الّذي بيده مفاتح الغيب وبالتالي لا يطمئن إلى غده وما سيواجهه في المستقبل من حوادث وأزمات.
والشاهد على هذا هو أنّ الآيات الّتي جاءت بعد هذه الآية استثنت المصلين من هذا الحكم العام على الإنسان ، ويحتمل أيضاً أنّ الآيات محل البحث كما هو الحال في كثير من الآيات الشريفة الّتي تصف الإنسان بأنه «ظلوم» و«جهول» و«يؤوس» و«كفور» و«طغى» وأمثال ذلك ، فتشير هذه الآيات إلى وجود بُعدين في كيان الإنسان : البُعد الّذي يأخذ بالإنسان ويصعد به إلى أعلى علّيين ، وهو ما يصطلح عليه بقوس الصعود ، والبُعد الآخر ما يجره إلى أسفل السافلين وهو قوس النزول.
ويرى العلّامة الطباطبائي في «الميزان» رأياً آخر في هذا الصدد ، فيقول بأن الحرص صفة من الصفات الذاتية للإنسان ومتفرعة على حبّ الذات ، وهي في الأصل ليست من الرذائل لأن حبّ الذات الّذي تتولد منه هذه الصفات هو المحور الأساس الّذي يسوق الإنسان إلى الكمال المعنوي ويدفعه نحو طريق السعادة الخالدة ، فهذه الصفات إنّما تكون ذميمة وقبيحة فيما لو لم يستخدمها الإنسان في الطريق الصحيح واللائق ، وفي الحقيقة أنّ هذه الصفات مثل سائر الصفات النفسانية الّتي إذا لزمت حدّ الاعتدال تُعدّ فضيلة وإذا تجاوزت إلى جهة الافراط أو التفريط فإنّها تكون من الرذائل.
وعلى أيّة حال فالآيات أعلاه تبين أنّ القرآن الكريم دعا جميع الناس إلى الإيمان والصلاة والدعاء والإنفاق في سبيل الله لإطفاء نار الحرص والبخل والجزع في وجوده وواقعه النفساني.
«الآية السادسة» تستعرض واقعة من الوقائع الّتي جرت في زمان صدر الإسلام حينما كان المسلمون يعيشون القحط والجوع وغلاء الأسعار ، وهناك وردت قافلة إلى المدينة محملة بالبضائع والمواد الغذائية من الشام وقد صادف دخول هذه القافلة الظهر من يوم الجمعة حيث كان النبي يخطب في الناس خطبتي الجمعة.
وقد كان المتعارف في ذلك الزمان أنّه عند ما تَرد قافلة إلى مدينة معيّنة تُدق الطبول ويُعزف على آلات الموسيقى حتّى يجتمع الناس بسرعة لشراء ما يحتاجونه من هذه القافلة ، وعند ما سمع المصلون صوت القافلة الواردة إلى المدينة ترك بعضهم من الّذين أسلموا حديثاً صلاة الجمعة وتوجّهوا إلى السوق لشراء البضاعة من القافلة في حين لم يكن لذلك ضرورة لازمة وكان من الممكن التوجّه إلى القافلة بعد إتمام صلاه الجمعة ، وعلى أيّة حال فلم يبق في المسجد سوى اثنا عشر رجلاً وامرأة واحدة ، فنزلت الآيات أعلاه تذم هؤلاء الّذين تركوا صلاة الجمعة بدافع الحرص على زخارف الدنيا ، وقد ورد في الحديث الشريف أنّ النبي قال حينها : لو لم يبق هؤلاء النفر لأمطرت السماء حجارة على الناس.
ويُستفاد من سياق الآية أعلاه أنّ التوجّه إلى السوق والقافلة لم يكن بدافع من تأمين الحاجات الضرورية للمعيشة بل بدافع من الهوى وسُماع الألحان الموسيقية لدى البعض ، وقد يكون بدافع من التجارة والربح المادي لدى البعض الآخر.
وعلى أيّ حال فإنّ القرآن الكريم يبين هذه الواقعة بهذه العبارة (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً).
ثمّ يخاطب النبي الكريم بالقول (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
ويُحتمل أنّ البعض ترك الصلاة والنبي الأكرم وتوجّه إلى السوق والقافلة لتأمين حاجاته الضرورية للحياة (بالرغم من وجود الوقت الكافي لتهيئتها بعد الصلاة) ولكن التعبير أعلاه يبين بوضوح أنّ فئة من هؤلاء توجّهوا إلى القافلة بدافع من الحرص على شراء السع والبضائع بقيمة زهيدة ثمّ بيعها بأعلى الأثمان طمعاً في الثروة والمال الكثير ، وجماعة توجّهوا إلى القافلة بوحي الأهواء والنوازع النفسانية وبذلك حرموا أنفسهم من السعادة العظمى في حضور الصلاه مع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
وجاءت الآية السابعة» والأخيرة من الآيات محل البحث لتتحدّث عن الأشخاص الّذين يتحركون في تعاملهم مع الآخرين من موقع السخرية والاستهزاء وذلك بدافع من الغرور لما يعيشونه من حالة الثراء ويتصورون أنّ ذلك يسوّغ لهم الاستهزاء بالمؤمنين الفقراء.
فتقول الآية (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ* الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) فمثل هذا الشخص الّذي يجمع الأموال بدون حساب للحلال والحرام ويتصور أنّ هذه الأموال تؤدي إلى بقائه وخلوده وابتعاد الموت عنه أنّ هذه الثروة تُبيح له السخرية بالآخرين من الفقراء والمُعدمين.
جملة «عَدَّده» الناظرة إلى حساب الأموال من قِبَل أصحاب الثروة تشير إلى شدّة حرصهم وولعهم بهذه الأموال والثروات بحيث إنه كلّما ازدادت أموالهم ازدادوا حبّاً وشغفاً بها ولذلك فهم يعدّدونها دائماً ويجدون في ذلك لذّة كبيرة.
وجملة (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) هي في الواقع بمثابة العلّة للهمز واللمز المذكور في الآية الاولى ، أي أنّ الثروة الدنيوية الطائلة ادّت بهم إلى درجة من الغرور والسكر بحيث إنّهم كانوا ينطلقون من موقع السخرية والاستهزاء بفقراء المؤمنين وكانوا يتصورون انه ليس فقط هذه الأموال والثروات هي الخالدة مدى الدهر بل أصحاب الثروة كذلك.
إنّ دراسة حال أصحاب الدنيا العجيب وتعاملهم الغريب مع الواقع يرشدنا إلى ما يحيّر العقول من عجيب سلوكياتهم ، فترى البعض منهم رغم احاطتهم الوافرة بالعلوم المادية والطبيعية ليس لهم هدف سوى جمع الأموال والثروات ، وعند ما يُسألون هؤلاء عن هدفهم من جمع المال رغم أنّهم لا يمتلكون عائلة ولا ينطلقون في سفرات ترفيهية وسياحية ، فيجيبون بأننا نفرح بإضافة صفر أمام أرقام الأموال الموُدعة لنا في البنوك!
النتيجة النهائية :
من مجموع ما تقدّم من الآيات الشريفة وما ذكر لها من تفسير نستنتج أنّ مسألة الحرص والطمع وحبّ الدنيا والشغف بجمع الأموال والثروات أمر خطير جدّاً في دائرة المفاهيم القرآنية ، وهو مصدر لكثير من أشكال الشر والفساد ويُعد من أقوى الموانع في مسيرة تهذيب النفس وفي خط التكامل الأخلاقي والمعنوي.
الحرص وحبّ الدنيا في الأحاديث الإسلامية :
إن مفردة «الحرص» والكلمات المرادفة لها وردت في الأحاديث الإسلامية بشكل واسع على مستوى أبعادها ودوافعها ونتائجها السلبية حيث نختار منها نماذج معدودة :
1 ـ نقرأ في الحديث الشريف عن النبي الأكرم يخاطب فيه أمير المؤمنين فيقول : «اعْلَم يَا عَلِيُّ! انَّ الْجُبْنَ وَالْبُخْلَ وَالْحِرْصَ غَرِيزَةٌ وَاحِدَةٌ يُجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ» ([12]).
2 ـ وهذا المعنى والمضمون نجده بصورة اخرى في نهج البلاغة في عهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر حيث أوصاه الإمام أن يحذر ويتجنب من استشارة البخلاء والجبناء وأهل الحرص والطمع فقال «انَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزٌ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ» ([13]).
فالشخص الّذي يحسن الظن بالله تعالى وقدرته المطلقة على الوفاء بالعهد وتأمين الرزق للعباد فإنه سوف لا يحرص أبداً على جمع الأموال والثروات.
الإنسان الّذي يعيش حالة التوكّل على الله ويؤمن بألطافه وعناياته فإنه لا يخشى غيره ولا يخاف أيّة قوّة غير قوته المطلقة.
والإنسان الّذي يأمل دائماً برحمة الله تعالى ولطفه فإنه لا يجد في نفسه بخلاً اطلاقاً.
أجل فإنّ المؤمن الكامل في توحيده وإيمانه بالله تعالى وبأسمائه وصفاته الحسنى فإنه لا يمكن أن يتلوث بهذه الخصال الثلاثة القبيحة والرذيلة رغم انها تشترك في الباطل بأصل واحد (ولهذا السبب نجد أحياناً انها تسمّى باسم غريزة واحدة وأحياناً اخرى بأسماء مختلفة لأنها متعدّدة في الظاهر ولكنها متحّدة في الباطن).
3 ـ إنّ الحرص على الدنيا وملذاتها وزخارفها بإمكانه أن يورث الإنسان التعب والشقاء ويورّطه في السعي الدائب لتأمين رغباته الوهمية ، وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين أنّه قال «الْحِرْصُ مَطِيّةُ التَّعَبِ» ([14]).
4 ـ وفي حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين أيضاً أنّه قال : «الْحِرْصُ عَنَاءٌ مُؤَبَّدِ» ([15]).
وعند ما ندرس حالات الّذين يعيشون الحرص والطمع في حركة الحياة نرى مدى التعب والشقاء الّذي يعيشه هؤلاء ليل نهار في سبيل جمع الأموال والزخارف الدنيوية من دون الاستفادة منها ، وهذا شاهد صدق على الحديث المذكور آنفاً.
5 ـ الإنسان الحريص لا يجد طعم الشبع أبداً ، ولهذا السبب فهو دائماً يسعى لجمع الأموال واكتناز الثروات حتّى لو لم ينتفع بها ، ولذلك ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «الْحَرِيصُ فَقِيرٌ وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» ([16]).
6 ـ وقد ورد في الأحاديث الشريفة أنّ الأشخاص الّذين يتخلصون من شراك الحرص ولا يقعون اسرى الطمع هم الّذين يتمتعون بالغنى الباطني ، ومن ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث آخر «اغْنَى الْغِنَي مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحِرْصِ أَسِيراً» ([17]).
7 ـ الحرص على جمع الأموال والماديات يُفضي بالإنسان إلى الوقوع في الهلكة ، وليست الهلكة المعنوية فقط بل في كثير من الأحيان تكون مصحوبة بالهلكة المادية أيضاً ، حيث نقرأ في الحديث الشريف عن رسول الله قوله : «انَّ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ اهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَهُما مُهْلِكَاكُمْ» ([18]).
8 ـ إنّ الإنسان الحريص يُكبّل نفسه بالقيود يوماً بعد آخر إلى أن يوصد أمامه طريق النجاة والفلاح ، كما نقرأ في المثال الّذي ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال : «مَثَلُ الْحَرِيصِ عَلَى الدُّنْيَا مَثَلُ دُودَةِ الْقَزِّ ، كُلَّمَا ازْدَادَتْ مِنَ الْقَزِّ عَلَى نَفْسِهَا لَفّاً كَانَ ابْعَدَ لَهَا مِنَ الْخُرُوجِ! حَتَّى تَمُوتَ غَمّاً!» ([19]).
9 ـ إنّ الحرص والطمع يهدم شخصية الإنسان ويسحق كلّ قيمة له في أنظار الناس كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «الْحِرْصُ يَنْقُصُ قَدْرَ الرَّجُلِ ، فَلَا يُزِيدُ فِي رِزْقِهِ!» ([20]).
10 ـ إنّ الحرص من الامور الّتي تؤدي إلى الكثير من الذنوب والخطايا والقبائح منها عدم مراعاة الحلال والحرام وترك احترام حقوق الآخرين والتلوث بأنواع الظلم والجور والعدوان، ولذلك ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من جملة ما أوصى به مالك الأشتر في عهده المعروف أنّه قال «لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشْوَرَتِكَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ» ([21]).
وعلى هذا الأساس فإنّ عواقب الحرص ونتائجه وخيمة جداً في حياة الإنسان حيث يورثه البعد عن الله تعالى ويهدم مروئته ويكسر شخصيته ويسلب منه الراحة والطمأنينة وبالتالي يُفضي به الحرص إلى الوقوع في وحل الذنوب الكبيرة الاخرى فيبتعد يوماً بعد آخر عن السعادة والكمال المعنوي ويغدو أسيراً وذليلاً في قيود النفس الأمارة وأحابيل الشيطان ، وبكلمة واحدة انه يفقد دينه ودنياه.
1 ـ تعريف الحرص
بالرغم من أنّ معنى ومفهوم (الحرص) واضح للجميع إجمالاً ، ولكن الدقة والتوجه إلى مضمونه العميق يكشف لنا نقاط جديدة في دائرة هذا المفهوم.
يقول الراغب في مفرداته في تعريف الحرص بأنه بمعنى شدّة الرغبة والميل إلى شيء معيّن ، ويرى أنّ هذه الكلمة في الأصل تأتي بمعنى الضغط على اللباس عند غسله بالماء بواسطة ضربه بالخشبة وأمثال ذلك.
وقد ورد عن أمير المؤمنين تعبير جميل جداً في تعريف الحرص عند ما سُئل : ما هو الحرص؟ فقال «هُوَ طَلَبُ الْقَلِيلِ بِإضَاعَةِ الْكَثِيرِ) ([22]) ويرى علماء الأخلاق أنّ الحرص من الرذائل الأخلاقية المتعلّقة بقوّة الشهوة وذكروا في تعريفه (أنّ الحرص صفة من الصفات النفسانية تدفع الإنسان إلى جمع ما هو أكثر من حاجته ، وهو من شُعب حبّ الدنيا ومن الصفات المهلكة والأخلاق الفاسدة) ويمثلون للحرص بأنه كالصحراء المترامية الأطراف وكالأرض الموحشة الّتي لا حدود لها فكلّما سار فيها الحريص لا يصل إلى غايتها ومنتهاها.
(الحريص) يُقال لشخص مبتلياً بمرض ، مثل مرض الاستسقاء حيث كلّما شرب من الماء فإنّ عطشه لا ينطفأ.
إنّ الشخص الحريص لا يقبل أي دليلٍ منطقي على سلوكياته ، فلو قيل له مثلاً إنك بلغت من العمر ثمانين سنة ولم يبق من عمرك إلّا القليل ، فلما ذا هذا الولع والشوق لجمع الأموال والثروات؟ وبالرغم من انه يفتقد الجواب الصحيح لهذا السؤال ولكنه يستمر في سلوكه الطفولي ولا ينتهي منه ، بل على العكس من ذلك حيث نرى أنّ بعض الناس يزداد حرصاً وطمعاً كلّما ازداد سناً وأوغل في مرحلة الشيخوخة ، كما ورد في الحديث المعروف عن النبي الأكرم أنّه قال : «يُشِيبُ بْنُ آدَمَ وَيَشُبُّ فِيهِ خَصْلَتَانِ : الْحِرْصُ وَطُولُ الْامَلِ» ([23]).
2 ـ النتائج السلبية للحرص في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية
رأينا في الآيات والروايات الشريفة المذكورة سابقاً مدى النتائج السلبية والعواقب الوخيمة لحالة الحرص في واقع الإنسان ، ولذلك فإنّ مطالعتها تغنينا عن أي شرح وتفسير آخر في هذا المجال ومن ذلك :
1 ـ إنّ الحريص مُبتلى في التعب المستمر والعسر والحرج في حركة الحياة.
2 ـ إنّ الحريص لا يشبع أبداً ، ولهذا فإنه لو ملك الدنيا بأجمعها فإنه يعيش عيشة الفقراء أيضاً.
3 ـ إنّ الحريص يعيش عيّش الفقراء ويموت موت الفقراء ولكنه يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.
4 ـ إنّ الحرص يفضي بالإنسان إلى الهلكة لأن الإنسان الحريص وبسبب عشقه للدنيا ولزخارفها فانه لا يرى آفاق الخطر المحيطة بها بل يسارع إليها بكلّ عجلة وهلع.
5 ـ إنّ الإنسان الحريص يكبل نفسه بقيود الماديات وأحابيلها ويزداد قربه من هذه القيود يوماً بعد آخر حتّى يوصد أمامه سبيل النجاة.
6 ـ إنّ الحرص يذهب بشرف الإنسان وماء وجهه ويسقط حرمته ومروءته في أنظار الناس ، لأن الحريص ولغرض الحصول على مقصوده لا يلتزم بالاعراف الاجتماعية ولا يتقيد بالقيم والمُثل والسلوكيات المعتبرة في المجتمع الانساني بل يعيش كالأسير المقيد بسلسلة من رقبته يقوده الحرص من هنا إلى هناك.
7 ـ إنّ الحرص يؤدي بالإنسان إلى التلوث بأنواع الذنوب كالكذب ، الخيانة ، الظلم والعدوان وغصب حقوق الآخرين وأمثال ذلك ، لأنّه إذا أراد مراعاة الحلال والحرام فإنه سوف لن يصل إلى مقصوده في حياته الدنيوية.
8 ـ إنّ الحرص يتسبّب في إبعاد الإنسان عن الله تعالى ويورثه الصغار في أنظار عباده ويسلبه الطمأنينة والسكينة والهدوء النفسي فيعيش حياته مع العذاب الروحي والقلق المزمن.
9 ـ إنّ الحريص يجمع الأموال والثروات الّتي يتحمل مسؤوليتها فقط بينما ينتفع بها الآخرون.
10 ـ إنّ الحرص إنّما هو نتيجة من نتائج سوء الظن بالله وفي نفس الوقت يعمق هذه الحالة لدى الإنسان ويؤكد في نفسه سوء الظن هذا.
3 ـ غنى النفس
والملفت للنظر أنّ الإنسان الحريص يطلب الغنى من خارج ذاته ووجوده في حين أنّ أصل الغنى وحقيقته يجب أن يحصل عليها الإنسان من داخله.
وقد سُئل أحد العلماء عن حقيقة الغنى وعدم الحاجة والفقر فقال : أن تقصر من آمالك وترضى بما قسم لك.
وفي الحديث الشريف الوارد عن رسول الله وكذلك عن أمير المؤمنين أيضاً نقرأ هذا المضمون السامي في دائرة القيم الأخلاقية والمعنوية «خَيْرُ الْغِنىَ غِنَى النَّفْسِ» ([24]).
وفي رواية اخرى عن رسول الله أنّه قال : «الْغِنَى فِي الْقَلْبِ ، وَالْفَقْرُ فِي الْقَلْبِ» ([25]).
أجل فإذا كانت روح الإنسان تعيش الجوع المعنوي بسبب الحرص فإنه لو ملك هذا الإنسان الدنيا بحذافيرها فإنه يعيش فقيراً كذلك ، ولو أنّ روحه كانت تعيش الغنى الذاتي ولم يجد في نفسه الحاجة والطمع فإنه لو سُلب منه جميع ما في الدنيا فإنه يعيش الغنى كذلك.
4 ـ الحرص المذموم والممدوح
إنّ مفردة (الحرص) تأتي في الموارد السلبية فعند ما تُطلق هذه الكلمة يراد منها الحرص على الأموال والثروة والمقام وسائر الشهوات المادية والدنيوية ، وذلك بسبب أنّ هذه الكلمة تستعمل غالباً في هذه الموارد المذمومة والقبيحة.
ولكن أحياناً تستخدم هذه الكلمة في موارد إيجابية ونافعة وبذلك تستحق المدح ولا تكون من الأخلاق الرذيلة بل تُعد من الفضائل أيضاً وذلك عند ما تتحكم هذه الصفة في الإنسان في موارد الشوق والرغبة الشديدة في أعمال الخير والصلاح.
ومن جملة ما ذكر القرآن الكريم من فضائل نبي الإسلام هو حرصه على هداية الناس وانقاذهم من الضلال حيث يقول : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)([26]).
ويقول في مكان آخر : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)([27]).
وقد ورد ما يشبه هذا المعنى والمضمون في آيات اخرى من القرآن الكريم أيضاً ([28]).
وطبعاً وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مصاديق سلبية أيضاً.
أما في الروايات الإسلامية فإنّ كلمة «الحرص» وردت في موارد كثيرة إيجابية وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته المعروفة في بيان صفات المتقين مخاطباً لهمّام «فَمِنْ عَلَامَةِ احَدِهِمْ انَّكَ تَرى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ» ([29]).
وورد في الروايات الشريفة موارد متعددة أنّ من علامات المؤمن هو حرصه على التفقه في الدين أو حرصه على الجهاد في سبيل الله أو الحرص على التقوى وأمثال ذلك ([30]).
ونختم هذا البحث بحديث شريف عن الإمام الباقر يقول «لَا حِرْصَ كَالْمُنَافِسَةِ فِي الدَّرَجَاتِ» ([31]).
وعلى هذا فإنّ للحرص مفهوم واسع ويأتي بمعنى شدّة العلاقة والرغبة بشيء معين بحيث يسعى جاهداً لتحصيله ، فلو وقع هذا الشيء في طريق الخير والسعادة والصلاح لكان ممدوحاً ، ولكن إذا وقع في طريق الدنيا وتحصيل المال والثروة والملذات الرخيصة فإنه يكون مذموماً كذلك ، ولكن الغالب في استعمال هذه الكلمة هو في الموارد السلبية والسلوكيات الذميمة.
5 ـ علاج الحرص
من المعلوم أنه وفي علاج الأمراض البدنية لزوم الرجوع إلى الأسباب والجذور ، لأن العلاج بدون قطع جذور المرض لا ينفع على المدى الطويل وستبقى النتائج والآثار السلبية في وجوده ، وحتّى لو تمّ العلاج من خلال استخدام المهدئات والعلاجات المؤقتة فإنّ المرض سوف يتجلّى ويظهر بعد مدّة.
وهكذا الحال في الأمراض الأخلاقية ، فلا بدّ أوّلاً من التوغل لمعرفة جذور المرض ثمّ قطعها من الأساس.
وكما تقدّمت الإشارة إليه ، (وورد في الأحاديث الإسلامية أيضاً) أنّ أحد جذور الحرص هو سوء الظن بالله وعدم التوكل عليه ، وكلّ ذلك يعود إلى اهتزاز اركان التوحيد الأفعالي لدى الإنسان.
فالشخص الّذي يعتقد بأن الله قادر ورازق وأنّ مفتاح الخيرات بيده فقط (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)([32]) فسوف لا يجد في نفسه حالة الحرص على جمع الأموال والنعم المادية الاخرى.
إنّ الشخص الّذي يعيش الإيمان الكامل بوعد الله تعالى وقوله : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ ...)([33]) فبدلاً من الحرص على جمع الأموال فإنه سيحرص على انفاقها في سبيل الله.
وعند ما تهتز أركان الإيمان في وجود الإنسان وخاصّة التوحيد الأفعالي فإنّ الصفات الرذيلة سوف تتجذر في نفس الإنسان وأخطرها الحرص ، وحينئذٍ فلا بدّ من تقوية أركان الإيمان لمنع تفشي هذه الصفة ورسوخ هذه الحالة السلبية في باطن الإنسان.
وأحد الأسباب الاخرى للحرص هو الجهل وعدم الاطلاع على حقائق الامور وما يترتب عليها من نتائج وآثار في الواقع العملي.
فإذا علم الإنسان أنّ الحرص يتسبّب في سلب طمأنينته وهدوئه في حركة الحياة وانه سيوقعه في العسر والشقاء والتعب الدائم ، وأنّ الحرص سوف يُهدم مروءته ويحطّم شخصيّته ويسقطه في أنظار الناس ، وأنّ الحرص يتسبب في أن يعيش عيشة الفقراء بالرغم من غناه الظاهري وأنّ ما جمعه من الأموال والثروات سينتفع به الآخرين ولكنه سيُسأل عنها يوم القيامة بالرغم من أنّ الآخرين هم الّذين ينتفعون بها في الدنيا.
أجل فإنّ الحريص إذا فكر في هذه النتائج والعواقب الوخيمة فإنّ ذلك سيؤثر في نفسه وروحه تأثيراً ايجابياً.
ويقول الفيض الكاشاني في المحجّة البيضاء : إعلم أنّ هذا الدواء مركّب من ثلاثة أركان «الصبر» و«العلم» و«العمل» ومجموع ذلك خمسة امور :
الأوّل وهو العمل : الاقتصاد في المعيشة والرفق في الانفاق ، فإنّ هذا القدر يتيسّر بأدنى جهد ويمكن معه الإجمال في الطلب ، فالاقتصاد في المعيشة هو الأصل في القناعة ونعني به الرّفق في الإنفاق وترك الفرق فيه.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «من اقتصد أغناه الله ، ومن بذّر أفقره الله ، ومن ذكر الله عزوجل أحبّه الله» ([34]).
الثاني : أنّه إذا تيسّر له في الحال ما يكفيه فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل الاستقبال ، ويعينه على ذلك قصر الأمل والتحقّق بأنّ الرّزق الّذي قدّر له لا بدّ وأن يأتيه وإن لم يشتدّ حرصه ، قال تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ)([35]).
الثالث : أن يعرف ما في القناعة من عزّ الاستغناء وما في الطمع والحرص من الذل فإذا تحقّق له ذلك إزدادت رغبته في القناعة لأنّه في الحرص لا يخلو من تعب وفي الطمع لا يخلو من ذل ، قال النبي (صلى الله عليه وآله) : «عزّ المؤمن استغناؤه عن الناس» ([36]).
الرابع : أن يكثر تأمّله في تاريخ بعض اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى ومن لا دين لهم ولا عقل ، ثمّ ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء والصحابة والتابعين ويستمع أحاديثهم ويطالع أحوالهم ويقارن بينهم ويخير عقله بين أن يكون على مشابهة أرذل الخلق أو على الاقتداء بمن هو أعزُّ أصناف الخلق عند الله حتى يهون عليه بذلك الصبر على الضنك والقناعة باليسير.
الخامس : أن يفكر في مخاطر جمع المال والثروة من دون قيد أو شرط ، وكذلك في عواقب هذا العمل في الدنيا والآخرة ، وكذلك عليه أن يفكر في العواقب الحميدة التي تأتي من القناعة.
وعليه أن يفكر دائماً في أمور دنياه وينظر الى ما دونه من الخق ، لا أن ينظر الى من هم أعلى منه في الغنى ، لأن الشيطان يسوّل للانسان دائماً ويدعوه للنظر الى ما فوقه ، ويقول له في وساوسه : ما ذا ينقصك حتى يكون فلاناً أغنى منك؟ لماذا لا تسعى لكي تصل الى ما هم فيه؟ أُنظر الى هؤلاء وقد غرقوا بالخير والنعمة وتمتعوا بلذائذ الدنيا؟! وأنت تفكر فقط في الخوف من الله ، وقد ضيقت على نفسك بالتزامك المستمر بالحلال والحرام ، هل أنت اكثر تدنياً من هؤلاء ام أنت أخوف منهم من الله؟!
قال أبو ذر: «أوصاني خليلي أن أنظر إلى من هو دوني لا إلى من هو فوقي ـ أي في الدنياـ».
6 ـ إجابة عن شبهة
وهنا يمكن أن يتصور البعض أنّ الإسلام ومن خلال هذه الآيات والروايات المذكورة في هذا الباب لا يتلائم مع تطور الحياة المادية والدنيوية للناس أو أنّه ينظر إلى اصول التمدن المادي والتطور العلمي على مستوى الطبيعة بنظرة سلبية ، من خلال دعوته لاتباعه إلى التجرد عن الدنيا وعدم التعلّق بها ، في حين أنّ هذا التصور اشتباه كبير ، فالإسلام يتصدّى لمحاربة الحالات الأخلاقية السلبية في واقع الإنسان الّتي تنطلق من الحرص وحب الدنيا والتضحية بالقيم الأخلاقية والإنسانية من أجل الرفاهية الدنيوية واشباع الملذات الرخيصة ، لا أنّه يقف أمام استخدام الطاقات الفكرية والمواهب الطبيعية في عملية التطور العلمي في خط الكرامة الإنسانية وتوكيد حرية الإنسان من النوازع والأهواء النفسانية وتقوية القيم المعنوية.
وتوضيح ذلك : أنّ المواهب المادية في حد ذاتها هي أدوات ووسائل للوصول إلى المقاصد الاخرى وتحقيق طموحات الإنسان في حركة الحياة وليستفيد منها في الصعود في مدارج الكمال المعنوي والإنساني ، فلو انه استخدمها في غير هذا الغرض وتحرّك معها من موقع الأهواء والشهوات الرخيصة فسوف يبتعد بذلك عن الهدف من الخلقة ويسقط في مهاوي الرذيلة والانحطاط والتسافل الأخلاقي ، وهذه الامور تتقاطع مع التعاليم الإسلامية. ومثلها كمثل الأدوات الصناعية والمنتوجات المادية الّتي يمكن الاستفادة منها بوجهين ، فالطائرة يمكن الاستفادة منها للتنقل السريع وتسهيل وصول الإنسان إلى مقصده والتوسع في العمران وتأمين المعيشة ومساعدة الفقراء والمحتاجين وأمثال ذلك ، كما يمكن الاستفادة منها بطريقة اخرى وذلك بجعلها أداة حربية لقتل البشر وإلقاء القنابل على الأبرياء وتخريب المدن والقرى وإحراق الأخضر واليابس وإتلاف مواهب الطبيعة.
وعليه فلا ينبغي النظر إلى موقف الإسلام السلبي من حالة الحرص والطمع وحبّ الدنيا لدى الإنسان كذريعة لترك النشاطات الاقتصادية والتطور العلمي والصناعي وبالتالي يتحول معها الإنسان إلى شخص خامل وكسول ويتعامل مع الأحداث والمجتمع من موقع الانزواء والعزلة كما نلاحظ ذلك لدى بعض المتصوفة حيث يسلكون هذا المسلك بالتوسل بأمثال هذه المفاهيم الدينية والنصوص الإسلامية.
[1] سورة طه ، الآية 120 و 121.
[2] سورة الأعراف ، الآية 85.
[3] سورة ص ، الآية 33 و 34.
[4] سورة البقرة ، الآية 96.
[5] سورة المعارج ، الآية 19 ـ 21.
[6] سورة الجمعة ، الآية 11.
[7] سورة الهمزة ، الآية ، 1 ـ 3.
[8] سورة هود ، الآية 87.
[9] سورة ص ، الآية 33.
[10] سورة ص ، الآية 34.
[11] سورة ص ، الآية 34.
[12] ميزان الحكمة ، ج 1 ، ص 588 ، رقم 3139.
[13] نهج البلاغة ، الرسالة 53.
[14] غرر الحكم ، ح 820 ، ميزان الحكمة ، ج 1 ، ص 586 ، رقم 3596.
[15] غرر الحكم ، ح 982 ، ميزان الحكمة ، ج 1 ، ص 586 ، رقم 3592.
[16] غرر الحكم ، ح 1753 ، ميزان الحكمة ، ج 1 ، ص 587 ، رقم 3615.
[17] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 316 ، ح 76 ، باب «حبّ الدنيا والحرص عليها».
[18] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 316 ، ح 6 ، باب «حبّ الدنيا والحرص عليها».
[19] غرر الحكم ، ح 1550 ، تصنيف الغرر ، ص 294.
[20] غرر الحكم ، ح 6628.
[21] نهج البلاغة ، الرسالة 53.
[22] سفينة البحار ، مادّة حرص.
[23] بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 22.
[24] الأمالي للصدوق ، ص 394 ؛ غرر الحكم ، ح 4949.
[25] بحار الأنوار ، ج 69 ، ص 68.
[26] سورة التوبة ، الآية 128.
[27] سورة النحل ، الآية 37.
[28] سورة يوسف ، الآية 103 ؛ سورة النساء ، الآية 129.
[29] نهج البلاغة ، الخطبة 193.
[30] بحار الأنوار ، ج 64 ، ص 271 ، ح 3 وص 294 ، ح 18.
[31] ميزان الحكمة ، ج 1 ، ص 589 ، ح 3646.
[32] سورة آل عمران ، الآية 26.
[33] سورة النحل ، الآية 96.
[34] ميزان الحكمة ، ج 3 ص 2557.
[35] سورة البقرة ، الآية 268.
[36] شرح غرر الحكم ، ج 5 ، ص 338.