1

المرجع الالكتروني للمعلوماتية

النبي الأعظم محمد بن عبد الله

أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)

آبائه

زوجاته واولاده

الولادة والنشأة

حاله قبل البعثة

حاله بعد البعثة

حاله بعد الهجرة

شهادة النبي وآخر الأيام

التراث النبوي الشريف

معجزاته

قضايا عامة

الإمام علي بن أبي طالب

الولادة والنشأة

مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)

حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله

حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)

حياته في عهد الخلفاء الثلاثة

بيعته و ماجرى في حكمه

أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته

شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة

التراث العلوي الشريف

قضايا عامة

السيدة فاطمة الزهراء

الولادة والنشأة

مناقبها

شهادتها والأيام الأخيرة

التراث الفاطمي الشريف

قضايا عامة

الإمام الحسن بن علي المجتبى

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)

التراث الحسني الشريف

صلح الامام الحسن (عليه السّلام)

أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته

شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة

قضايا عامة

الإمام الحسين بن علي الشهيد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)

الأحداث ما قبل عاشوراء

استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء

الأحداث ما بعد عاشوراء

التراث الحسينيّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن الحسين السجّاد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)

شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)

التراث السجّاديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن علي الباقر

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)

شهادة الامام الباقر (عليه السلام)

التراث الباقريّ الشريف

قضايا عامة

الإمام جعفر بن محمد الصادق

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)

شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)

التراث الصادقيّ الشريف

قضايا عامة

الإمام موسى بن جعفر الكاظم

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)

شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)

التراث الكاظميّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن موسى الرّضا

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)

موقفه السياسي وولاية العهد

شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة

التراث الرضوي الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن علي الجواد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)

شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)

التراث الجواديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن محمد الهادي

الولادة والنشأة

مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)

شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)

التراث الهاديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام الحسن بن علي العسكري

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)

شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)

التراث العسكري الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن الحسن المهدي

الولادة والنشأة

خصائصه ومناقبه

الغيبة الصغرى

السفراء الاربعة

الغيبة الكبرى

علامات الظهور

تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى

مشاهدة الإمام المهدي (ع)

الدولة المهدوية

قضايا عامة

سيرة الرسول وآله : الإمام محمد بن علي الجواد : قضايا عامة :

الإمام الجواد "ع" في عصر المأمون

المؤلف:  الشيخ علي الكوراني

المصدر:  الإمام محمد الجواد "ع" شبيه عيسى ويحيى وسليمان "ع"

الجزء والصفحة:  ص59-154

2024-11-25

439

( 1 ) الإمام الرضا ( عليه السلام ) والمأمون

كان هارون ( الرشيد ) أوصى بالخلافة إلى ابنه الأمين بن زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور ، ثم إلى المأمون ، وأمه فارسية من هراة . ومات هارون في خراسان ، حيث كان في جولة في إيران ومعه المأمون ، ودفن في طوس .

وبايع العباسيون في بغداد ولي عهده الأمين فصار الخليفة ، وكان المفروض أن يجعل أخاه المأمون ولي عهده حسب وصية أبيه ، لكنه عزله وجعل مكانه ابنه موسى ، فثارت ثائرة المأمون ، وشجعه قادة الفرس فأعلن نفسه خليفة وعزل الأمين ، وقادوا له جيشاً ، وكانت بينه وبين أخيه الأمين حروب ، حتى انتصر ودخل جيشه بغداد ، وقتل أخاه الأمين وحملوا اليه رأسه , فبايعه العباسيون .

وبقي المأمون في خراسان ، وأخذ يرتب وضع الأمبراطورية إدارياً وسياسياً . وانتقم من العباسيين ، فجعل ولاية عهده للإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) مظهراً بذلك أنه نقل الخلافة منهم إلى العلويين !

وكان غرضه أيضاً أن يتألف العلويين ويُسَكِّت ثوراتهم ، التي كانت تظهر في هذا البلد وذاك .

وكان الإمام الرضا ( عليه السلام ) يعرف هدف المأمون فرفض ولاية عهده ، حتى هدده وأجبره على ذلك ، فشرط عليه ، أن لا ينصب أحداً ولا يعزل ، ولا يتدخل في شئ من أمر الدولة ، فقبل المأمون .

وذات مرة قال له المأمون : ( يا أبا الحسن أنظر بعض من تثق به نوليه هذه البلدان التي قد فسدت علينا ، فقلت له : تفي لي وأوفي لك ، فإني إنما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى ، ولا أعزل ، ولا أولي ، ولا أشير ، حتى يقدمني الله قبلك . فوالله إن الخلافة لشئ ما حدثت به نفسي ، ولقد كنت بالمدينة أتردد في طرقها على دابتي ، وإن أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم ، فيصيرون كالأعمام لي ، وإن كتبي لنافذة في الأمصار ، وما زدتني من نعمة ، هي علي من ربي . فقال له : أفي لك ) . ( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 177 ) .

وبقي الإمام ( عليه السلام ) في ولاية عهد المأمون نحو سنتين ، وفي هذه المدة القصيرة ظهرت منه علوم ومعجزات . راجع : كتاب عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) للصدوق .

ولم يستسلم العباسيون للمأمون رغم أنهم بايعوه مجبرين ، فخلعوه وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي ، وكان أسود مغنياً ، وواصلوا حربهم لجيش المأمون .

وكان حاكم العراق الفضل بن سهل يستر على المأمون وضع بغداد ، خوفاً من أن يعزله ويعين غيره ! فأخبر الإمام الرضا ( عليه السلام ) المأمون بمؤامرة الفضل ونصحه بأن يرجع إلى بغداد ويرضي العباسيين .

قال الطبري ( 7 / 147 ) : ( ذكر أن علي بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي ، أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قُتل أخوه ، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من الأخبار ، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء ، وأنهم يقولون إنه مسحور مجنون ، وأنهم لما رأوا ذلك بايعوا لعمه إبراهيم بن المهدى بالخلافة ، فقال المأمون إنهم لم يبايعوا له بالخلافة ، وإنما صيروه أميراً يقوم بأمرهم على ما أخبره به الفضل ، فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه ، وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بن سهل ، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك !

فقال ومن يعلم هذا من أهل عسكري ؟ فقال له : يحيى بن معاذ ، وعبد العزيز بن عمران وعدة من وجوه أهل العسكر ، فقال له أدخلهم عليَّ حتى أسائلهم عما ذكرت ، فأدخلهم عليه ، وهم يحيى بن معاذ ، وعبد العزيز بن عمران ، وموسى وعلي بن أبي سعيد ، وهو ابن أخت الفضل ، وخلف المصري . فسألهم عما أخبره فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل ألا يعرض لهم فضمن ذلك لهم وكتب لكل رجل منهم كتاباً بخطه ودفعه إليهم ، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن ، وبينوا ذلك له وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة ، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة ، وأن هرثمة إنما جاء لينصحه وليبين له ما يعمل عليه . . . )

وعندما تأكد المأمون من خطورة الوضع في العراق وأنه كما أخبره الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، قرر أن يتخلص من وزيره الفضل بن سهل ، فقتله ثم قتل قاتليه وبكي عليه !

ثم قام بسُمِّ الإمام الرضا ( عليه السلام ) وأقام عليه العزاء وبكى عليه ، ورجع إلى بغداد ، فاسترضى بني العباس !

روى في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 2 / 265 ) عن أحمد بن علي الأنصاري ، قال : ( سألت أبا الصلت الهروي فقلت له : كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا ( عليه السلام ) مع إكرامه ومحبته له وما جعل له من ولاية العهد بعده ؟

فقال : إن المأمون إنما كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله ، وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنه راغب في الدنيا فيسقط محله من نفوسهم ، فلما لم يظهر منه في ذلك للناس إلاّ ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً في نفوسهم ، جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعاً في أن يقطعه واحد منهم ، فيسقط محله عند العلماء بسببهم ، ويشتهر نقصه عند العامة . فكان لا يكلمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية ، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلا قطعه وألزمه الحجة . وكان الناس يقولون : والله إنه أولى بالخلافة من المأمون !

وكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه ، فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده له ، وكان الرضا ( عليه السلام ) لا يحابي المأمون في حق وكان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله ، فيغيظه ذلك ويحقده عليه ولا يظهره له ، فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله ، فقتله بالسُّم ) !

( 2 ) كان المأمون يعرف الإمام الجواد ( عليه السلام ) جيداً

كان المأمون يعرف أن الإمام الرضا ( عليه السلام ) إمامٌ رباني منصوص عليه من جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وأنه نص على إمامة ابنه محمد الجواد ( عليه السلام ) من بعده , وأنه يراسله بتعظيم ، وتظهر له كرامات رغم صغر سنه !

وقد زوج المأمون أخته للإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وسمى ابنته لولده الإمام الجواد ( عليه السلام ) ورويَ أن المأمون راسل الإمام الجواد ( عليه السلام ) من طوس .

وقد يكون المأمون راسله معزياً بأبيه الرضا ( عليهما السلام ) ، لأنه بالغ في إظهار الجزع وكرر مدائحه للإمام الرضا ( عليه السلام ) ، ليبعد عن نفسه جريمة قتله !

وكان ( المخبرون ) يوصلون إلى المأمون أخبار الإمام الجواد ( عليه السلام ) وتوافد علماء الشيعة وزعمائهم إلى المدينة ولقائهم به ، ومشاهدتهم علمه ومعجزاته ، وإجماعهم على إمامته ، وهو في السابعة من عمره .

وعندما رجع المأمون إلى بغداد سنة 204 ، أي بعد أن قتل الإمام الرضا ( عليه السلام ) بسنتين ، كان عمر الإمام الجواد ( عليه السلام ) نحو تسع سنين .

وقد أحضره المأمون إلى بغداد وهو في سن التاسعة ، كما روى الريان بن شبيب ( رحمه الله ) وليس في سن السادسة عشرة ، كما ذكرت رواية أخرى .

وهذا يتناسب مع حاجة المأمون الفورية لأن يتحدى به العباسيين ، ويعلن أنه صهره ويعقد له على ابنته ، ليهددهم بنقل الخلافة منهم إلى آل علي ( عليه السلام ) .

( 3 ) تزويج المأمون ابنته للإمام الجواد ( عليه السلام )

وقد استفاضت رواية مجلس العقد التاريخي ، ففي الصحيح عن الريان بن شبيب ( الإرشاد : 2 / 281 ) قال : ( روى الحسن بن محمد بن سليمان ، عن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن الريان بن شبيب قال : لما أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي ( عليهما السلام ) بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم واستكبروه ، وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا ( عليه السلام ) فخاضوا في ذلك ، واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه فقالوا له : ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنا نخاف أن يخرج به عنا أمرٌ قد ملكناه الله ، ويُنزع منا عزٌّ قد ألبسناه الله ، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم ، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت حتى كفانا الله المهم من ذلك ، فالله الله أن تردنا إلى غم قد انحسر عنا ، واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره .

فقال لهم المأمون : أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم ، وأما ما كان يفعله من كان قبلي بهم ، فقد كان قاطعاً للرحم ، أعوذ بالله من ذلك ، ووالله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا ، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه عن نفسي فأبى ، وكان أمر الله قدراً مقدوراً . وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنه ، والأعجوبة فيه بذلك .

وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فيعلموا أن الرأي ما رأيت فيه . فقالوا : إن هذا الصبي وإن راقك منه هديه ، فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه ، فأمهله ليتأدب ويتفقه في الدين ، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك .

فقال لهم : ويحكم إنني أعرف بهذا الفتى منكم ، وإن هذا من أهل بيتٍ علمهم من الله ومواده وإلهامه ، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين به ما وصفت من حاله .

قالوا له : قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه ، فخل بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شئ من فقه الشريعة ، فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره ، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين ، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه .

فقال لهم المأمون : شأنكم وذاك متى أردتم .

فخرجوا من عنده وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم ، وهو يومئذ قاضي القضاة ، على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها ، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك ، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع ، فأجابهم إلى ذلك .

واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه ، وحضر معهم يحيى بن أكثم وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر ( عليه السلام ) دست ( مثل المنصة ) وتجعل له فيه مسورتان ( متكآن ) ففعلوا ذلك ، وخرج أبو جعفر ( عليه السلام ) وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر ، فجلس بين المسورتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه ، وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر ( عليه السلام ) .

فقال يحيى بن أكثم للمأمون : يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر ؟

فقال له المأمون : استأذنه في ذلك ، فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟ فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : سل إن شئت .

قال يحيى : ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً ؟

فقال له أبو جعفر : قتله في حل أو حرم ؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً ؟ قتله عمداً أو خطأ ؟ حراً كان المحرم أم عبداً ؟ صغيراً كان أم كبيراً ؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً ؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ من صغار الصيد كان أم كبارها ؟ مصراً على ما فعل أو نادماً ؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهاراً ؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً ؟

فتحير يحيى بن أكثم ، وبان في وجهه العجز والانقطاع ، ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره !

فقال المأمون : الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي . ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ! ثم أقبل على أبي جعفر ( عليه السلام ) فقال له : أتخطب يا أبا جعفر ؟

قال : نعم يا أمير المؤمنين ، فقال له المأمون : أخطب ، جعلت فداك لنفسك ، فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي ، وإن رغم قوم لذلك .

فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : الحمد لله إقراراً بنعمته ، ولا إله إلا الله إخلاصاً لوحدانيته وصلى الله على محمد سيد بريته ، والأصفياء من عترته .

أما بعد : فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام ، فقال سبحانه : وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) وهو خمس مائة درهم جياداً ، فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور ؟

قال المأمون : نعم ، قد زوجتك أبا جعفر أم الفضل ابنتي على هذا الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح ؟ قال أبو جعفر : قد قبلت ذلك ورضيت به .

فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصة والعامة . قال الريان : ولم نلبث أن سمعنا أصواتاً تشبه أصوات الملاحين في محاوراتهم ، فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضة ، مشدودة بالحبال من الإبريسم ، على عجل مملوءة من الغالية ( العطر ) فأمر المأمون أن تخضب لحى الخاصة من تلك الغالية ، ثم مدت إلى دار العامة فطيبوا منها ، ووضعت الموائد فأكل الناس ، وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدرهم .

فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي ، قال المأمون لأبي جعفر : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الفقه فيما فصلته من وجوه قتل المحرم الصيد ، لنعلمه ونستفيده . فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : نعم ، إن المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير ، وكان من كبارها فعليه شاة ، فإن كان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً ، وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن ، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ .

وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، وإن كان نعامة فعليه بدنة ، وإن كان ظبياً فعليه شاة ، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم

فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة ، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحج نحره بمنى ، وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكة .

وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء ، وفي العمد له المأثم ، وهو موضوع عنه في الخطأ ، والكفارة على الحر في نفسه ، وعلى السيد في عبده ، والصغير لا كفارة عليه ، وهي على الكبير واجبة ، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة ، والمصرُّ يجب عليه العقاب في الآخرة .

فقال له المأمون : أحسنت أبا جعفر أحسن الله إليك ، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك . فقال أبو جعفر ليحيى : أسألك ؟ قال : ذلك إليك جعلت فداك ، فإن عرفت جواب ما تسألني عنه ، وإلا استفدته منك .

فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : خبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلما ارتفع النهار حلت له ، فلما زالت الشمس حرمت عليه ، فلما كان وقت العصر حلت له ، فلما غربت الشمس حرمت عليه ، فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلت له ، فلما كان انتصاف الليل حرمت عليه ، فلما طلع الفجر حلت له ، ما حال هذه المرأة وبماذا حلت له وحرمت عليه ؟

فقال له يحيى بن أكثم : لا والله ما أهتدي إلى جواب هذا السؤال ، ولا أعرف الوجه فيه ، فإن رأيت أن تفيدناه .

فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له ، فلما كان الظهر أعتقها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له ، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلت له ، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه ، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له .

قال : فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم : هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب ، أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟ !

قالوا : لا والله ، إن أمير المؤمنين أعلم وما رأى .

فقال لهم : ويحكم ، إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل ، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال .

أما علمتم أن رسول الله افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الإسلام وحكم له به ، ولم يَدْعُ أحداً في سنه غيره . وبايع الحسن والحسين وهما ابنا دون الست سنين ، ولم يبايع صبياً غيرهما ، أفلا تعلمون الآن ما اختص الله به هؤلاء القوم ، وأنهم ذرية بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم ؟ ! قالوا : صدقت يا أمير المؤمنين ثم نهض القوم .

فلما كان من الغد أحضر الناس وحضر أبو جعفر ( عليه السلام ) ، وصار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وأبي جعفر ( عليه السلام ) ، فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة فيها بنادق مسك ، وزعفران معجون ، في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية وإقطاعات ، فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته ، فكان كل من وقع في يده بندقة ، أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق له . ووضعت البدر ، فنثر ما فيها على القواد وغيرهم ، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا . وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المساكين . ولم يزل مكرماً لأبي جعفر ( عليه السلام ) معظماً لقدره مدة حياته ، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته ) .

ورواه المفيد في الإختصاص / 98 ، ورواه تفسير القمي ( 1 / 182 ) , بتفاوت يسير ، وفيه : ( فأمر المأمون أن يكتب ذلك ، ثم دعا أهل بيته فقرأ عليهم ذلك وقال لهم : هل فيكم أحد يجيب بمثل هذا الجواب ، قالوا : لا والله ، ولا القاضي !

ثم قال : ويحكم إن أهل هذا البيت خِلْوٌ ( غير ) من هذا الخلق ! أوَمَا علمتم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بايع الحسن والحسين ( عليهما السلام ) وهما صبيان غير بالغين ، ولم يبايع طفلاً غيرهما ! أوما علمتم أن علياً آمن بالنبي وهو ابن عشر سنين ، فقبل الله ورسوله منه إيمانه ، ولم يقبل من طفل غيره ، ولا دعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) طفلاً غيره إلى الإيمان ! أوَمَا علمتم أنها ذرية بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم !

قال : ثم أمر المأمون أن ينثر على أبي جعفر ( عليه السلام ) ثلاثة أطباق بنادق زعفران ومسك معجون بماء الورد في جوفهما رقاع . على طَبَقٍ رقاع عمالات ، والثاني ضِياع ، طُعْمَةٌ لمن أخذها ، والثالث فيه بِدَر ( جمع بدرة ، أي : صُرَر ) ثم أمر أن يفرق طَبق العمالات على بني هاشم خاصة ، والذي عليه ضياع طعمة على الوزراء ، والذي عليه البدر على القواد . وما زال مكرماً لأبي جعفر ( عليه السلام ) أيام حياته ، حتى كان يقدمه على ولده ) .

( 4 ) ملاحظات على هذه الرواية

1 . يتعجب الإنسان من المأمون كيف يعتقد بإمامة علي والأئمة ( عليهم السلام ) إمامةً ربانية ، ويحتج في هذا المجلس وغيره ، على بني العباس وكبار الفقهاء والعلماء ، ويشهد بحقهم وأنهم أهل وصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأهل الحق الإلهي في إمامة الأمة وحكمها .

ثم يغصب حقهم ويجلس في مجلسهم ؟ ثم يعاديهم ويقتلهم ؟ !

وقد اعترف المأمون على أبيه بذلك أيضاً ، فقال يوماً :

( أتدرون من علمني التشيع ؟ فقال القوم : لا والله ما نعلم ذلك . قال : علمنيه الرشيد ! قيل له : وكيف ذلك ، والرشيد يقتل أهل البيت ؟ ! قال : كان الرشيد يقتلهم على الملك ، لأن الملك عقيم ، ثم قال : إنه دخل موسى بن جعفر عليهما السلام على الرشيد يوماً فقام إليه ، واستقبله وأجلسه في الصدر وقعد بين يديه ، وجرى بينهما أشياء ، ثم قال موسى بن جعفر ( عليه السلام ) لأبي : يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد فرض على الولاة عهده : أن ينعشوا فقراء هذه الأمة ، ويقضوا عن الغارمين ، ويؤدوا عن المثقل ، ويكسوا العاري ويحسنوا إلى العاني ، وأنت أولى من يفعل ذلك . فقال : أفعل يا أبا الحسن . ثم قام فقام الرشيد لقيامه ، وقبل بين عينيه ووجهه ، ثم أقبل علي وعلى الأمين والمؤتمن فقال : يا عبد الله ! ويا محمد ! ويا إبراهيم ! امشوا بين يدي ابن عمكم وسيدكم ، خذوا بركابه وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله ، فأقبل إلي أبو الحسن موسى بن جعفر سراً بيني وبينه فبشرني بالخلافة . وقال لي : إذا ملكت هذا الأمر فأحسن إلى ولدي .

ثم انصرفنا وكنت أجرأ ولد أبي عليه ، فلما خلا المجلس قلت : يا أمير المؤمنين ومن هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته ، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته ، وأقعدته في صدر المجلس ، وجلست دونه ، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له ؟

قال : هذا إمام الناس ، وحجة الله على خلقه ، وخليفته على عباده .

فقلت : يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك ؟

فقال : أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر ، وموسى بن جعفر إمام حق ، والله يا بني أنه لأحق بمقام رسول الله مني ومن الخلق جميعاً ، ووالله لو نازعتني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك ، لأن الملك عقيم .

فلما أراد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار ، ثم أقبل على الفضل فقال له : إذهب إلى موسى بن جعفر وقل له : يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيقة وسيأتيك برنا بعد هذا الوقت . فقمت في وجهه فقلت : يا أمير المؤمنين ! تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم ومن لا تعرف حسبه ونسبه : خمسة آلاف دينار إلى ما دونها . وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار ، وأخس عطية أعطيتها أحداً من الناس ؟

فقال : أسكت لا أم لك ! فإني لو أعطيته هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه . فَقْرُ هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وإغنائهم ) . ( الإحتجاج : 2 / 165 ) .

2 . كل عصبية لا بد أن تنتهي إلى حب الذات وعبادتها ! فالمأمون يتعصب لعشيرته العباسيين ضد بني هاشم . ويتعصب لأبناء هارون ضد غيرهم من العباسيين . ويتعصب لنفسه ضد إخوته أبناء هارون ، حتى أنه حارب أخاه الأمين وقتله شر قتله . وذلك من أجل نفسه ، وتسلطه وشهوته !

3 . هدف المأمون من تزويج الإمام الجواد ( عليه السلام ) أن يهدد بني العباس بنقل الخلافة عنهم إلى أبناء علي ( عليه السلام ) فيقبلوا جعل ابنه ولي عهده ، ويقبلوا تغييراته في مذهب بني العباس .

وهدفه من جهة أخرى أن يخضع الإمام الجواد ( عليه السلام ) لرقابته وسيطرته ، ويفصله عن جمهور الناس ، حتى لا يثور عليه يوماً ما .

4 . عندما أقدم المأمون على جريمة سم الإمام الرضا حذره الإمام ( عليه السلام ) من قتل ولده الجواد ( عليه السلام ) ، وقال له حافظ على حياته لأن عمرك ينتهي مع عمره !

ففي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 2 / 270 ) : ( وجاء المأمون حافياً حاسراً يضرب على رأسه ويقبض على لحيته ويتأسف ويبكي وتسيل دموعه على خديه فوقف على الرضا ( عليه السلام ) وقد أفاق فقال : يا سيدي والله ما أدري أي المصيبتين أعظم علي ؟ فقدي لك وفراقي إياك ؟ أو تهمة الناس لي إني اغتلتك وقتلتك ! قال : فرفع طرفه إليه ، ثم قال : أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر ، فإن عمرك وعمره هكذا . وجمع بين سبابتيه ) !

والظاهر أن المأمون اكتفى بدم الإمام الرضا ( عليه السلام ) فلم يقتل الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، وكان مرناً معه ، فسمح له أن يسكن في المدينة ، ويترك زوجته بنت المأمون في بغداد .

وسيأتي أن المأمون حاول وهو سكران أن يقتل الإمام الجواد ( عليه السلام ) وندم على ذلك .

( 5 ) الإمام الجواد ( عليه السلام ) يكره حياة قصور الخلافة

صرح الإمام ( عليه السلام ) بأنه يكره حياة قصور الخلافة ، وأنه كان مجبراً على البقاء فيها . ففي الخرائج / 383 : ( عن الحسين المكاري قال : دخلت على أبي جعفر ببغداد وهو على ما كان من أمره ، فقلت في نفسي : هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً ، وما أعرف مطعمه . قال : فأطرق رأسه ، ثم رفعه وقد اصفر لونه فقال : يا حسين خبز شعير ، وملح جريش في حرم جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحب إلي مما تراني فيه ) .

وقد دعاه أحد أعوان المعتصم يوماً : ( فأبى أن يجيبه وقال : قد علمت أني لا أحضر مجالسكم . فقال : إني إنما أدعوك إلى الطعام ، وأحب أن تطأ ثيابي ، وتدخل منزلي فأتبرك بذلك ) . ( تفسير العياشي : 1 / 320 ) .

أما زوجته أم الفضل فكانت كبقية نساء القصور العباسية ، المعروفة بالترف .

كان الإمام ( عليه السلام ) في التاسعة من عمره عندما عُقد زواجه على بنت المأمون ، وقد يكون التقى بها يومها لكنه لم يدخل بها وعاد إلى المدينة وبقي فيها .

وفي السادسة عشرة من عمره تزوج الإمام ( عليه السلام ) بجارية مغربية هي السيدة سمانة رضي الله عنها ، وبعد سنة ، أي سنة 212 ، رزقه الله منها ابنه الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) . ثم رزق بابنه موسى وبثلاث بنات : خديجة وحكيمة وأم كلثوم . ( دلائل الإمامة / 397 ) .

وقد يكون زار بغداد أو أحضره المأمون بعد عقد زواجه مرة أو مرات ، لكن المؤكد أنه لم يدخل على أم الفضل إلى سنة 215 ، عندما توجه المأمون إلى بلاد الشام والروم ، فقد نص المؤرخون ، ومنهم الطبري ، والذهبي ، وابن كثير ، أنه لقي المأمون بتكريت ، وأمره المأمون أن يدخل بزوجته أم الفضل .

( 6 ) زفوا له بنت المأمون ولعله لم يمسها !

قال الطبري ( 7 / 189 ) : ( ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين . . شَخَص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم ، وذلك يوم السبت فيما قيل لثلاث بقين من المحرم وقيل كان ارتحاله من الشماسية إلى البردان يوم الخميس بعد صلاة الظهر لِسِتٍّ بقين من المحرم سنة 215 ، واستخلف حين رحل عن مدينة السلام عليها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب ، وولى مع ذلك السواد وحلوان وكور دجلة ، فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة ولقيه بها ، فأجازه وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل وكان زَوَّجَهَا منه ، فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي على شاطئ دجلة فأقام بها ، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة ، ثم أتى منزله بالمدينة فأقام بها ) .

وقال ابن كثير في النهاية ( 10 / 295 ) : ( فلما كان بتكريت تلقاه محمد بن علي بن موسى بن جعفر . . من المدينة النبوية ، فأذن له المأمون في الدخول على ابنته أم الفضل بنت المأمون . وكان معقود العقد عليها في حياة أبيه علي بن موسى ، فدخل بها وأخذها معه إلى بلاد الحجاز ) .

وهذا يعني أن الإمام ( عليه السلام ) في تلك المدة ترك زوجته أم الفضل ولم يدخل بها ، وتزوج غيرها ورزق بأولاد ، ثم جاء بعد بضع عشرة سنة ، فأمره المأمون أن يدخل بزوجته !

وقد يكون السبب أن الإمام لا يرتضي سلوك زوجته وينتظر أن تطلب منه الطلاق .

أو أنها كانت من صغرها مصابة بسرطان في موضع حساس ، فقد قال لها عندما سمته ، كما في عيون المعجزات / 118 : ( والله ليضربنك الله بفقر لا ينجبر ، وبلاء لا ينستر ! فماتت بعلة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناصوراً ، فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلة حتى احتاجت إلى الإسترفاد . وروي أن الناصور كان في فرجها ) .

لكنهم قالوا إن عرس الإمام ( عليه السلام ) كان طبيعياً ، فقد وصف علي بن محمد الحسني زيارته للإمام الجواد ( عليه السلام ) صبيحة عرسه ، فقال كما في الخرائج ( 1 / 379 ) : ( دخلت على أبي جعفر صبيحة عرسه بأم الفضل بنت المأمون ، وكنت تناولت من الليل دواء فقعدت إليه فأصابني العطش فكرهت أن أدعو بالماء ، فنظر أبو جعفر في وجهي وقال : أراك عطشاناً ، قلت : أجل . قال : يا غلام إسقنا ماء . قلت في نفسي الساعة يأتون بماء مسموم واغتممت لذلك ! فأقبل الغلام ومعه الماء .

فتبسم أبو جعفر في وجهي ، ثم قال للغلام : ناولني الماء ، فتناوله فشرب ظاهراً ثم ناولني فشربت . وأطلت المقام والجلوس عنده ، فعطشت فدعا بالماء ، ففعل كما فعل في الأول فشرب ثم ناولني وتبسم . قال محمد بن حمزة : قال لي محمد بن علي الهاشمي : والله إني أظن أن أبا جعفر يعلم ما في النفوس كما تقول الرافضة ) !

وفي الهداية الكبرى / 301 : ( دخلت على أبي جعفر في صبيحة عرسه بأم الفضل بنت المأمون ، وكنت أول من دخل عليه في ذلك اليوم ، فدنوت منه وقعدت فوجدت عطشاً شديداً فجللته أن أطلب الماء ، فنظر إليَّ وقال يا علي : شربت الدواء بالليل وتغديت على بكرة فأصبت العطش ، واستحييت تطلب الماء مني ! فقلت : والله يا سيدي هذه صفتي ، ما غادرت منها حرفاً ، فصاح في نفسه : يا غلام تسقيني . فقلت في نفسي : يا ليت لا يسقى الماء ، واغتممت . فأقبل الغلام ومعه الماء ، فنظر إلى الماء والي وتبسم ، وأخذ الماء وشرب منه وسقاني . فمكث قليلاً وعاودني العطش ، فاستحييت أن أطلب الماء فصاح بالخادم وقال : تسقيني ماءً ، فقلت في نفسي مثل ذلك القول الأول ، وأقبل الخادم بالماء ، فأخذه وشرب منه وسقاني ، فقلت : لا إله إلا الله أي دليل أدلُّ على إمامته من علمه ما أُسِرُّه في نفسي ، فقال : يا علي والله نحن كما قال تعالى : أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ . فقمت وقلت لمن كان معي : هذه ثلاث براهين رأيتها من أبي جعفر في مجلسي هذا ، فقال : من لا علم له بفضله : إني لأحسب هذا الهاشمي كما يقال إنه يعلم الغيب ، فنظرت إليه وحمدت الله على معرفة سيدي لجهل الرجل به ) .

وتدل الروايتان على الجو المحيط بالإمام ( عليه السلام ) وأن زائره الحسني غير الشيعي كان يتخوف عليه من أن يسموه بماء الشرب في قصر ابن يوسف !

كما تدل على أن إكرام الله للإمام ( عليه السلام ) بالاطلاع على بعض غيبه ، كان مشهوراً عند الناس . فكان خصومه يقولون إن إمام الرافضة يعلم الغيب .

وذكرت المصادر أن الإمام ( عليه السلام ) بقي في قصر ابن يوسف شهوراً ، إلى موسم الحج .

ففي الثاقب لابن حمزة / 518 : ( حدثني بعض المدينيين أنهم كانوا يدخلون على أبي جعفر ( عليه السلام ) وهو نازل في قصر أحمد بن يوسف ، يقولون له : يا أبا جعفر ، جعلنا فداك ، قد تهيأنا وتجهزنا ولا نراك تهم بذلك ! قال لهم : لستم بخارجين حتى تغترفوا الماء بأيديكم من هذه الأبواب التي ترونها ! فتعجبوا من ذلك أن يأتي الماء من تلك المكثرة ، فما خرجوا حتى اغترفوا بأيديهم منها ) .

ورووا أن الإمام ( عليه السلام ) عندما عاد إلى المدينة بزوجته بنت المأمون ، وكان الناس في وداعه رأوا منه معجزة ، فعندما حان وقت الصلاة دخل إلى مسجد المسيب وتوضأ عند سدرة يابسة ، فاخضرت وأثمرت وأكل الناس من ثمرها ، كما يأتي !

كما ذكرت الرواية أن الإمام ( عليه السلام ) جاء إلى بغداد لاستقبال المأمون من عودته من الشام ، فقد تكون عودته من سفرته تلك .

ففي الهداية الكبرى / 300 : ( عن صالح بن محمد بن داود اليعقوبي ، قال : لما توجه أبو جعفر ( عليه السلام ) لاستقبال المأمون ، وقد أقبل من نواحي الشام ، وأمر أن يُعقد ذنب دابته وذلك في يومٍ صائف شديد الحر وطريقٍ لا يوجد فيه الماء ! فقال بعض من كان معنا : لاعهد له بركوب الدواب ! فإن موضع عقد ذنب البرذون غير هذا . فما سرنا إلا يسيراً حتى وردنا أرض ماء ووحل كثير ، وفسدت ثيابنا وما معنا ، ولم يصبه شئ من ذلك !

قال صالح : وقال لنا يوماً ونحن في ذلك الوجه : إعلموا أنكم ستضلون عن الطريق قبل المنزل الأول الذي يلقاكم الليلة ، وترجعون إليه في المنزل بعدما يذهب من الليل سبع ساعات ! فقال بعض من فينا : لا عهد له بهذه الطريق ولا يعرفه ولم يسلكه قط ! قال صالح : فضللنا عن الطريق قبل المنزل الذي كان يلقانا ، وسرنا بالليل حتى تنصف وهو يسير بين أيدينا ونحن نتبعه حتى صرنا في المنزل الثاني على الطريق ، فقال أنظروا كم ساعة مضى من الليل ، فإنها سبع ساعات ! فنظرنا فإذا هي كما قال ) !

وبعد مشاركته في استقبال المأمون ، تخلص الإمام ( عليه السلام ) منه كعادته ، وعاد إلى المدينة .

والظاهر أن هذه ذلك كان سنة 216 ، ففي الطبري ( 7 / 191 ) أن المأمون ( لم يزل مقيماً فيها ( أرض الروم ) إلى النصف من شعبان ) .

( 7 ) المأمون يناظر الفقهاء والعلماء لإثبات التشيع !

روى الصدوق في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 2 / 199 ) بسنده عن إسحاق بن حماد ، قال : ( كان المأمون يعقد مجالس النظر ، ويجمع المخالفين لأهل البيت ، ويكلمهم في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وتفضيله على جميع الصحابة ، تقرباً إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا .

وكان الرضا يقول لأصحابه الذين يثق بهم : لا تغتروا منه بقوله ، فما يقتلني والله غيره ، ولكنه لا بد لي من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله ) .

أقول : المأمون شخص متناقض ، فهو يعقد مجالس المناظرة في قصره ، لإثبات إمامة علي ( عليه السلام ) والأئمة من أبنائه ، ثم يرتكب جريمة قتلهم !

وقد وصفه حديث اللوح الذي جاء به جبرئيل من الله تعالى هدية للزهراء ( عليها السلام ) وفيه أسماء الأئمة من أبنائها ، فقال عن الثامن منهم : ( يقتله عفريت مستكبر ، يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح ( ذو القرنين ) إلى جنب شر خلقي . حق القول مني لأسرنه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه ) . ( الكافي : 1 / 527 ) .

ويظهر أن المأمون بقي كل عمره يناظر في إثبات مذهب التشيع ! فقد ورد أن بعض المناظرات كانت على أثر تزويجه ابنته للإمام الجواد ( عليه السلام ) سنة 204 ، وكان عمر الإمام ( عليه السلام ) نحو تسع سنوات . وجاء في بعض المناظرات أن الفقهاء لم يروا المأمون بعدها حتى مات ، ومعناه أن وقتها كان قريباً من موت المأمون سنة 218 .

وذكر بعضها أنه خاطب الفضل بن سهل ، وقد قتله المأمون سنة 202 . وقد يكون اسمه تصحيفاً بأخيه الحسن بن سهل ، الذي تزوج المأمون ابنته بوران سنة 210 .

روى في الإحتجاج ( 2 / 245 ) : ( أن المأمون بعدما زوج ابنته أم الفضل أبا جعفر كان في مجلس ، وعنده أبو جعفر ( عليه السلام ) ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة .

فقال له يحيى بن أكثم : ما تقول يا ابن رسول الله في الخبر الذي روي : أنه نزل جبرئيل على رسول الله وقال : يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ، ويقول لك : سل أبا بكر هل هو عني راض فإني عنه راض .

فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : لست بمنكر فضل أبي بكر ( لست في مقام ذلك ) ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حجة الوداع : قد كثرت عليَّ الكذابة وستكثر بعدي ، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي ، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به . وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله ، قال الله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الآنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ، فالله عز وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره ، هذا مستحيل في العقول !

ثم قال يحيى بن أكثم : وقد روي أن مَثَل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل ( عليهما السلام ) في السماء .

فقال : وهذا أيضاً يجب أن ينظر فيه ، لأن جبرئيل وميكائيل ملكان مقربان لم يعصيا الله قط ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، وهما قد أشركا بالله عز وجل وإن أسلما بعد الشرك . فكان أكثر أيامهما الشرك بالله ، فمحال أن يشبههما بهما .

قال يحيى : وقد روي أيضاً أنهما سيدا كهول أهل الجنة ، فما تقول فيه ؟

فقال ( عليه السلام ) : وهذا الخبر محال أيضاً ، لأن أهل الجنة كلهم يكونون شباباً ، ولا يكون فيهم كهل ، وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الحسن والحسين ( عليهما السلام ) إنهما سيدا شباب أهل الجنة .

فقال يحيى بن أكثم : وروي أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة .

فقال ( عليه السلام ) : وهذا أيضاً محال ، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين ، وآدم ، ومحمد ، وجميع الأنبياء والمرسلين ( عليهم السلام ) ، لا تضئ الجنة بأنوارهم حتى تضئ بنور عمر !

فقال يحيى : وقد روي أن السكينة تنطق على لسان عمر .

فقال ( عليه السلام ) : لست بمنكر فضل عمر ( لست في مقام ذلك ) ولكن أبا بكر أفضل من عمر ، وقال على رأس المنبر إن لي شيطاناً يعتريني ، فإذا ملتُ فسددوني .

فقال يحيى : وقد روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : لو لم أبعث لبعث عمر .

فقال ( عليه السلام ) : كتاب الله أصدق من هذا الحديث ، يقول الله في كتابه : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ .

فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه . وكل الأنبياء ( عليهم السلام ) لم يشركوا بالله طرفة عين ، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك ، وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : نبئت وآدم بين الروح والجسد .

فقال يحيى بن أكثم : وقد روي أيضاً أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : ما احتبس عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب .

فقال ( عليه السلام ) : وهذا محال أيضاً ، لأنه لا يجوز أن يشك النبي ( صلى الله عليه وآله ) في نبوته .

قال الله تعالى : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ . فكيف يمكن أن ينقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به .

قال يحيى : روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : لو نزل العذاب لما نجا منه إلا عمر .

فقال ( عليه السلام ) : وهذا محال أيضاً ، لأن الله تعالى يقول : وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحداً ما دام فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وما داموا يستغفرون ) .

أقول : لا بد أن أسئلة قاضي القضاة كانت بأمر المأمون ، خاصة أنه طرحها في حضوره ، وهي أسئلة مقصودة لكشف المكذوبات في فضائل أبي بكر وعمر !

وقد صحت الرواية بأن المأمون ناظر العلماء مرات في فضل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأنه خليفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) المنصوص عليه بنصوص لا تقبل التأويل .

كما ناظرهم في إبطال ما ادعي من فضائل لأبي بكر وعمر ! واشتهر منها مجلس رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد ، ورواه بنحو أدق الصدوق في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) .

قال في العقد الفريد ( 2 / 240 ) : ( احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي . . إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد قال : بعث إليَّ يحيى بن أكثم وإلى عدة من أصحابي ، وهو يومئذ قاضيِ القضاة ، فقال : إن أميرَ المؤمنين أمرني أن أحضر معي غداً مع الفجر أربعين رجلاً كلهم فقيه ، يَفْقَه ما يُقال له ويُحسن الجواب ، فسمُّوا من تَظنونه يَصلُح لما يطلبُ أمير المؤمنين .

فسمَّينا له عِدة وذكر هو عِدة حتى تمَّ العددُ الذي أراد ، وكتب تسمية القوم ، وأمر بالبُكور في السَّحر ، وبعث إلى من لم يحضرُ فأمره بذلك ، فغدونا عليه قبلَ طلوع الفجر ، فوجدناه قد لبس ثيابَه وهو جالس ينتظرنا ، فركب وركبنا معه حتى صرنا إلى الباب فإذا بخادم واقف ، فلما نَظر إلينا قال : يا أبا محمد ، أمير المؤمنين يَنتظرك . فأدخلنا فأَمرنا بالصلاة فأخذنا فيها فلم نستتمها حتى خرج الرسول فقال : أدخلوا فدَخلنا ، فإذا أميرُ المؤمنين جالس على فراشه وعليه سَوادُه وطَيلسانه والطويلة وعمامته ، فوقفنا وسلمنا فرد السلام وأمرنا بالجلوس فلما استقر بنا المجلسُ تحدر عن فراشه ونَزع عمامته وطيلسانه ووضع قَلنسوته ، ثم أقبل علينا فقال : إنما فعلتُ ما رأيتم لتفعلوا مثلَ ذلك ، وأما الخُف فما مِن خَلْعه علة ، من قد عرفها منكم فقد عَرفها ومن لم يَعْرِفها فسأعرِّفُه بها ومد رجلَه ثم قال : انزعوا قَلانسكم وخفافكم وطَيالسكم .

قال : فأمسكنا ، فقال لنا يحيى : إنتهوا إلى ما أمركم به أميرُ المؤمنين . فتعجبنا فنزعنا أخفافنا وطيالسنا وقلانسنا ورجعنا .

فلما استقر بنا المجلس قال : إنما بعثتُ إليكم معشَر القوم في المُناظرة ، فمن كان به شئ من الأخْبثين لم ينتفع بنفسه ولم يَفقه ما يقول : فمن أراد منكم الخلاءَ فهناك وأشار بيده ، فدعونا له .

ثم ألقى مسألة من الفقه فقال : يا أبا محمد ، قل ولْيقل القومُ من بعدك . فأجابه يحيى ثم الذي يلي يحيى ثم الذي يليه ، حتى أجاب آخرُنا في العلَة وعلة العلة ، وهو مُطرق لا يتكلم . حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال : يا أبا محمد ، أصبتَ الجواب وتركت الصواب في العِلَّة . ثم لم يزل يَرد على كل واحد منا مقالتَه ويخطئ بعضنا ويصوّب بعضنا حتى أتى على آخرنا .

ثم قال : إني لم أبعث فيكم لهذا ، ولكنني أحببتُ أن أًنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مُناظرتكم في مَذهبه الذي هو عليه ، ودينه الذي يَدين الله به .

قلنا : فليَفعل أمير المؤمنين وفقه الله . فقال : إن أمير المؤمنين يَدين الله على أن عليّ بن أبي طالب خيرُ خلق الله بعد رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وأولى الناس بالخلافة .

قال إسحاق : قلت : يا أمير المؤمنين إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في عليّ ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمُناظرة .

فقال : يا إسحاق ، اختر إن شئت أن أسألك وإن شئت أن تسأل .

قال إسحاق : فاغتنمتها منه ، فقلت : بل أسألك يا أمير المؤمنين . قال : سَل . قلت : من أين قال أَميرُ المؤمنين إن عليَّ بن أبي طالب أفضلُ الناس بعد رسول الله وأحقُّهم بالخلافة بعده ؟

قال : يا إسحاق ، خبِّرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يُقال فلان أفضل من فلان ؟ قلت : بالأعمال الصالحة . قال : صدقت . قال : فأخبرني عمَّن فَضُلَ صاحبَه على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم إن المفضول عَمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول اللّه ، أَيَلحق به ؟

قال : فأطرقت . فقال لي : يا إسحاق لا تقل نعم ، فإنك إن قلتَ نعم أوجدتك في دهرنا هذا مَن هو أكثر منه جهاداً وحجاً وصياماً وصلاة وصَدقة .

قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، لا يلحق المفضولُ على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الفاضلَ أبداً .

قال : يا إسحاق : فانظر ما رواه لك أصحابُك ومَن أخذتَ عنهم دينك وجعلتَهم قُدوتك ، من فضائل علي بن أبي طالب ، فقِسْ عليها ما أَتوك به من فضائل أبي بكر ، فإن رأيتَ فضائل أبي بكر تُشاكل فضائلَ عليٍّ ، فقل إنه أفضل منه . لا ، والله . ولكن فقِسْ إلى فضائله ما رُوي لك من فضائل أبي بكر وعمر ، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعليٍّ وحدَه فقُل إنهما أفضلُ منه . لا ، والله . ولكن قِسْ إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن وجدتَها مثل فضائل عليّ فقُل إنهم أفضل منه . لا ، والله . ولكن قِس إلى فضائله فضائلَ العشرة الذين شَهد لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالجنة فإِن وجدتها تُشاكل فضائلَه فقل إنهم أفضل منه .

ثم قال : يا إسحاق ، أي الأعمال كانت أفضلَ يوم بَعث الله رسولَه ( صلى الله عليه وآله ) ؟

قلت : الإخلاص بالشهادة كانت أفضلَ يوم بَعث الله رسولَه ( صلى الله عليه وآله ) ؟

قال : أليس السَّبْق إلى الإسلام ؟ قلت : نعم . قال : إقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول : والسَّابقون السَّابقون أُولئك المُقَرّبون . إنما عنىَ مَن سَبق إلى الإسلام ، فهل علمتَ أحداً سَبق علياً إلى الإسلام ؟

قلت : يا أمير المؤمنين ، إن علياً أسلم وهو حَدث السن لا يجوز عليه الحُكم ، وأبو بكر أسلم وهو مُستكمل يجوز عليه الحكم .

قال : أخبرني أيهما أسلم قبل ؟ ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال .

قلت : علي أسلم قبل أبي بكْر على هذه الشًريطة . فقال : نعم ، فأخبرني عن إسلام عليٍّ حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) دعاه إلى الإسلام أو يكونَ إلهاماً من الله ؟ قال : فأطرقت .

فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل إلهاماً فتُقدمه على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، لأن رسول الله لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن الله تعالى .

قلت : أجل ، بل دعاه رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الإسلام .

قال : يا إسحاق ، فهل يخلو رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تَكلَّف ذلك من نفسه ؟ قال : فأطرقت : فقال : يا إسحاق ، لا تَنسب رسول الله إلى التكلُّف ، فإنّ الله يقول : وما أنا من المُتَكلفِّين !

قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، بل دعاه بأمر الله . قال : فهل من صِفة الجبار جل ذكره أن يُكلِّف رسله دُعاء مَن لا يجوز عليه حُكم ؟

قلت أعوذ بالله ! فقال : أفتُراه في قياس قولك يا إسحاق إن علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحُكم ، وقد كُلِّف رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) دُعاء الصِّبيان إلى ما لا يُطيقونه ، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة ، فلا يجب عليهم في ارتدادهم شئ ، ولا يجوز عليهم حُكم الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أتَرى هذا جائزاً عندك أن تنسْبه إلى الله عز وجلَّ ؟ قلت أعوذ بالله .

قال : يا إسحاق ، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) علياً على هذا الخلق إبانَةً بها منهم ليُعرف مكانه وفضله ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدُعاء الصبيان لدَعاهم كما دعا علياً ؟ قلت : بلى .

قال : فهل بلغك أنّ الرَّسول ( صلى الله عليه وآله ) دعا أحداً من الصبيان من أهله وقرابته ، لئلاّ تقول إن علياً ابنُ عمه ؟ قلت : لا أعلم ، ولا أدري فَعل أو لم يفعل .

قال يا إسحاق ، رأيت ما لم تَدْره ولم تَعلمه هل تُسأل عنه ؟ قلتُ : لا . قال : فدَع ما قد وضعه الله عنا وعنك .

ثم قال : أي الأعمال كانت أفضلَ بعد السَّبق إلى الإِسلام ؟ قلت : الجهاد في سبيل اللهّ . قالت صدقت ، فهل تجد لأحدٍ من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما تجد لعليّ في الجهاد ؟ قلت : في أي وقت ؟ قال ؟ في أي الأوقات شئتَ ؟

قلت : بدر . قال : لا أريد غيرها ، فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعلي يوم بدر ، أخبرني كم قَتْلى بدر ؟ قلت : نَيِّف وستون رجلاً من المشركين .

قال : فكم قَتل عليٌّ وحدَه ؟ قلت : لا أدري . قال : ثلاثة وعشرين ، أو اثنين وعشرين ، والأربعون لسائر الناس .

قلت : يا أمير المؤمنين ، كان أبو بكر مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عَريشه ، قال : يَصنع ماذا ؟ قلت : يدبِّر . قال : ويحك ! يدبر دون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو معه ، شريِكاً أم افتقاراً من رسول الله إلى رأيه ؟ أي الثلاث أحب إليك ؟

قلت : أعوذ بالله أن يدبِّر أبو بكر دون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أو أن يكون معه شريكاً ، أو أن يكون برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) افتقَارٌ إلى رأيه .

قال : فما الفضيلة بالعريش إذ كان الأمر كذلك ؟ أليس من ضَرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضلَ ممن هو جالسه ؟

قلت : يا أمير المؤمنين ، كل الجيش كان مجاهداً . قال صدقتَ كلٌّ مجاهد ، ولكنَّ الضارب بالسيف المحامي عنِ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعن الجالس أفضلُ من الجالس ، أما قرأتَ في كتاب الله : لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا . قلت : وكان أبو بكر وعمر مُجاهدين . قال : فهل كان لأبي بكر وعُمر فضلٌ على من لم يَشهد ذلك المشهد ؟ قلت : نعم .

قال : فكذلك سَبق الباذل نفسه فَضل أبي بكر وعمر . قلت : أجل .

قال : يا إسحاق ، هل تقرأ القرآن ؟ قلت : نعم . قال : إقرأ عليَّ : هَلْ أَتَى عَلَى الآنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا . فقرأت منها حتى بلغت :

يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا إلى قوله : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . قال : على رِسْلك ، فيمن أنزلت هذه الآيات ؟ قلتُ : في علي . قال : فهل بلغك أن علياً حين أطعم المسكين واليتيم والأسير قال : إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ؟ قلت : أجل . قال : وهل سمعتَ الله وصفَ في كتابه أحداً بمثل ما وصفَ به عليّاً ؟ قلت : لا . قال : صدقت لأن اللَه جلَّ ثناؤه عرف سريرته .

يا إسحاق ، ألستَ تَشهد أن العَشرة في الجنة ؟ قلت : بلى يا أمير المؤمنين . قال : أرأيت لو أن رجلاً قال : والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا ؟ ولا أدري إن كان رسولُ الله قاله أم لم يقُله ، أكان عندك كافراً ؟

قلت : أعوذ بالله . قال : أرأيت لو أنه قال : ما أدري هذه السُّورة من كتاب الله أم لا ، أكان كافراً ؟ قلت : نعم . قال : يا إسحاق ، أرى بينهما فرقاً .

يا إسحاقَ ، أتروي الحديث ؟ قلت : نعم . قال : فهل تعرف حديث الطير ؟ قلت : نعم . قال : فحدثني به . قال : حدثته الحديث . فقال : يا إسحاق ، إني كنتُ أكلمك وأنا أظنك غيرَ معاند للحقِّ ، فأما الآن فقد بان لي عنادُك ، إنك تُوافق على أنَّ هذا الحديث صحيح ؟ قلت : نعم ، رواه من لا يُمكنني ردُّه .

قال : أفرأيتَ أنَّ مَن أيقن أن هذا الحديث صحيح ، ثم زعم أن أحداً أفضلُ من عليٍّ ، لا يخلو من إحدى ثلاثة : مِن أن تكون دعوة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عنده مردودة عليه ، أو أن يقول : إن الله عز وجل عرف الفاضلَ من خَلقه وكان المَفضولُ أحب إليه ، أو أن يقول : إن الله عزَّ وجلَّ لم يعرف الفاضلَ من المَفضول !

فأي الثلاثة أحبُّ إليك أن تقول ؟ فأطرقت .

ثم قال : يا إسحاق ، لا تقل منها شيئاً ، فإنك إن قلتَ منها شيئاً استتبتُك ، وإن كان للحديث عندك تأويل غيرُ هذه الثلاثة الأوجه فقُله .

قلت لا أعلم ، وإنَّ لأبي بكر فضلاً .

قال : أجل ، لولا أن له فضلاً لما قيل إن علياً أفضلُ منه ، فما فضلُه الذي قصدتَ إليه الساعة ؟ قلت : قول الله عزِّ وجل : ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ، فنَسبه إلى صحبته .

قال : يا إِسحاق ، أمَا إني لا أحملك على الوَعر من طريقك ، إني وجدتُ الله تعالى نَسب إلى صُحبة مَن رَضيه ورَضي عنه كافراً ، وهو قوله : قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَاكَ رَجُلاً . لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّى وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا .

قلت : إن ذلك صاحب كان كافراً ، وأبو بكر مؤمن .

قال : فإذا جاز أن يَنسب إلى صُحبة نبيه مُؤمناً ، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث ، قلت : يا أمير المؤمنين ، إن قَدْر الآية عظيم ، إن الله يقول : ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا .

قال : يا إسحاق ، تأبَى الآن إلا أن أُخرجَك إلى الإستقصاءِ عليك ، أَخبرني عن حُزن أبي بكر أكان رِضاً أم سُخطاً ؟ قلت : إن أبا بكر إنما حَزن من أجل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خوفاً عليه ، وغماً أن يصل إلى رسول الله شئ من المكروه .

قال : ليس هذا جَوابي ، إنما كان جوابي أن تقول : رضى أم سُخط ؟ قلت : بل رضاً لله . قال : فكأن الله جلَّ ذكرُه بَعث إلينا رسولاً ينهى عن رضا الله عز وجل وعن طاعته . قلت : أعوذ بالله . قال : أوَلَيس قد زعمتَ أن حزن أبي بكر رضا لله ؟ قُلت : بلى . قال أوَلَم تَجد أنَّ القرآن يشهد أن رسولَ الله ( صلى الله عليه وآله ) قال له : لا تحزن نهياً له عن الحزن . قلت : أعوذ بالله .

قال : يا إسحاق ، إنَّ مذهبي الرفقُ بك لعلَّ الله يردّك إلى الحق ، ويَعْدِل بك عن الباطل لكثرة ما تستعيذ به . وحدِّثني عن قول الله : فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ، مَن عنى بذلك : رسولَ الله أم أبا بكر ؟ قلت : بل رسول الله . قال : صدقْت . قال : فحدِّثني عن قول الله عزِّ وجل : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ . أتعلم مَن المُؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع ؟ قلت : لا أدري يا أمير المؤمنين . قال : الناس جميعاً انهزموا يومَ حُنين ، فلم يبق مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا سبعةُ نفر من بني هاشم : عليٌّ يضرب بسيفه بين يدي رسول الله ، والعبَّاس أخذٌ بِلجام بغلة رسول الله ، والخمسة مُحدقون به خوفاً من أن يناله من جراح القوم شئ ، حتى أعطى الله لرسوله الظفرَ ، فالمؤمنون في هذا الموضع عليٌّ خاصة ، ثم من حَضره من بني هاشم .

قلت : لا أدري يا أمير المؤمنين .

قال : فمن أفضلُ : من كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ذلك الوقت ، أم مَن انهزم عنه ولم يَره الله موضعاً لينزلَها عليه ؟ قلت : بل من أنزلت عليه السكينةُ ؟

قال : يا إسحاق ، من أفضل : مَن كان معه في الغار أو من نام على فِراشه ووقاه بنفسه ، حتى تمَّ لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما أراد من الهجرة ؟

إن الله تبارك وتعالى أمر رسولَه أن يأمر عليّاً بالنوم على فِراشه وأن يقي رسولَ الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ، فأمره رسولُ الله بذلك ، فبكى عليٌّ رضي الله عنه فقال له رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما يُبكيك يا عليّ أجَزَعاً من الموت ؟ قال : لا ، والذي بعثك بالحق يا رسول الله ولكن خوفاً عليك ، أَفتَسْلم يا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : سمعاً وطاعة وطيِّبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله ، ثم أتى مضجَعه واضطجع وتسجَّى بثوبه ، وجاء المشركون من قُريش فحفّوا به لا يشكّون أنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد أجمعوا أن يضربَه من كل بَطن من بُطون قريش رجلٌ ضربة بالسيف لئلا يَطلبَ الهاشميون من البطون بطناً بدمه ، وعليٌّ يسمع ما القوم فيه مِن تَلَف نفسه ، ولم يَدْعه ذلك إلى الجَزع كما جَزع صاحبُه في الغار ، ولم يَزل عليٌّ صابراً مُحتسباً ، فبعث الله ملائكتَه فمنعته من مُشركي قريش حتى أصبح ، فلما أصبحِ قام فنظر القومُ إليه فقالوا : أين محمد ؟ قال : وما عِلْمي بمحمد أين هو ؟ قالوا : فلا نراك إلا كُنت مُغررِّاً بنفسك منذ ليلتنا ، فلم يَزل عليٌّ أفضلُ ما بدأ به يزيدُ ولا يَنقص حتى قبضه الله إليه .

يا إسحاق ، هل تروي حديث الولاية ؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين . قال : إروِه . ففعلتُ . قال : يا إسحاق ، أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمَر ما لم يُوجب لهما عليه ؟ قلت : إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشئ جَرى بينه وبين علي ، وأنكر ولاء علي فقال رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) : من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهم وال مَن ولاه ، وعاد من عاداه .

قال : وفي أي موضع قال هذا ؟ أليس بعد مُنصرفه من حِجِّة الوداع ؟

قلت : أجل . قال : فإن قَتْل زيد بن حارثة قبل الغَدير ! كيف رضيت لنفسك بهذا ؟ أخبرني لو رأيتَ ابناً لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول : مولاي مولى ابن عمي ، أيها الناس فاعلموا ذلك . أكنتَ مُنكراً عليه تعريفَه الناس ما لا يُنكرون ولا يَجهلون ؟

فقلتُ : اللهم نعم . قال : يا إسحاق ، أفتنزه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! ويُحْكم ! لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم ، إن الله جَل ذكره قال في كتابه : إِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ . ولم يصلُّوا لهم ولا صاموا ولا زَعموا أنهم أرباب ، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرَهم .

يا إسحاق ، أتروي حديث : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ؟

قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قد سمعتهُ وسمعتُ من صحَّحَهَ وجَحده .

قال : فمن أوثق عندك : مَن سمعتَ منه فصححه ، أو مَن جحده ؟ قلت : مَن صحَحه . قال : فهل يمكن أن يكون الرسولُ ( صلى الله عليه وآله ) مزح بهذا القول ؟

قلت : أعوذ بالله . قال : فقال قولاً لا معنى له فلا يُوقف عليه ؟

قلت : أعوذ بالله . قال : أفما تعلم أن هارون كان أخَ موسى لأبيه وأمه ؟

قلت : بلى . قال : فعليٌّ أخو رسول الله لأبيه وأمه ؟ قلت : لا .

قال : أوليس هارون كان نبياً وعليٌّ غير نبيّ ؟ قلت : بلى .

قال : فهذان الحالان مَعدومان في عليّ وقد كانا في هارون ، فما معنى قوله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ؟ قلت له : إنما أراد أن يُطيِّب بذلك نفسَ عليّ لما قال المنافقون إنه خلَّفه استثقالاً له .

قال : فأراد أن يُطيب نفسه بقول لا معنى له ؟ قال : فأطرقتُ .

قال : يا إسحاق ، له معنى في كتاب الله بيِّن . قلت : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : قولُه عزَ وجل حكايةً عن موسى إنه قال لأخيه هارون : أُخْلُفْنِى فِي قَوْميى وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ .

قلت : يا أمير المؤمنين إِن موسى خَلَّف هارون في قومه وهو حيٌّ ومَضى إلى ربه ، وإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خَلَّف علياً كذلك حين خرج إِلى غَزاته .

قال : كلا ليس كما قلت . أخبِرْني عن موسى حين خَلف هارون ، هل كان معه حين ذَهب إلى ربه أحدٌ من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل ؟ قلت : لا . قال : أوليس استخلفه على جماعتهم ؟ قلت : نعم . قال : فأخبرني عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين خرج إِلى غزاته ، هل خلَّف إِلا الضُعفاء والنساءَ والصبيان ؟ فأنى يكون مثلَ ذلك ؟ وله عندي تأويلِ آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه لا يَقدر أحدٌ أن يحتج فيه ، ولا أعلم أحداً احتج به وأرجو أن يكون توفيقاً من الله . قلت : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : قولُه عز وجل حين حَكى عن موسى قوله : اجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِى . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِى . كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا . وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا . إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا . فأنت مني يا عليُّ بمنزلة هارون من موسى ، وزيري منِ أهلي وأخي أشدُّ به أزري ، وأُشرِكُهُ في أمري ، كي نُسَبِّحَ الله كثيراً ونذكره كثيراً . فهل يقدر أحد أن يُدخل في هذا شيئاً غير هذا ؟ ولم يكن ليبطل قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأن يكون لا معنى له .

قال : فطال المجلسُ وارتفع النهار . فقال يحيى بن أكثم القاضي : يا أمير المؤمنين قد أوضحتَ الحقّ لمن أراد الله به الخير ، وأثبتَّ ما لا يَقدر أحدٌ أن يَدفعه .

قال إسحاق : فأقبل علينا وقال : ما تقولون ؟ فقلنا : كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزَّه الله . فقال : والله لولا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إقبلوا القول من الناس ما كنت لأقبل منكم القول . اللهم قد نصحت لهم القول ، اللهم إني قد أخرجْت الأمر من عُنقِي ، اللهم إني أدينك بالتقرب إليك بحب عليٍّ وولايته ) .

أقول : أورد ابن عبد ربه وأمثاله هذه المناظرة وأمثالها ، ولم يعلقوا عليها !

مناظرة المأمون برواية الصدوق

روى الصدوق ( قدس سره ) هذه المناظرة بسند أصح من سند ابن عبد ربه ، وبتفصيل أكثر عن إسحاق بن حماد بن زيد أيضاً ، ويظهر بمقارنتها أن ابن عبد ربه أخذ قسماً من وسطها ، وحذف من أولها نقد المأمون لأحاديث فضائل أبي بكر وعمر ، وحذف من آخرها نقد المأمون للسقيفة ، وإثباته نص النبي ( صلى الله عليه وآله ) المحكم على إمامة علي ( عليه السلام ) .

قال الصدوق في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ( 2 / 199 ) : ( حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنهما ، قالا : حدثنا محمد بن يحيى العطار وأحمد بن إدريس جميعاً قالا : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري قال : حدثني أبو الحسين صالح بن أبي حماد الرازي ، عن إسحاق بن حماد بن زيد قال : جمعنا يحيى بن أكثم القاضي ، قال أمرني المأمون بإحضار جماعة من أهل الحديث وجماعة من أهل الكلام ، والنظر فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلاً ثم مضيت بهم ، فأمرتهم بالكينونة في مجلس الحاجب لأعلمه بمكانهم ففعلوا ، فأعلمته فأمرني بإدخالهم فدخلوا ، فسلموا فحدثهم ساعة وآنسهم ثم قال :

إني أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي هذا حجة ، فمن كان حاقناً أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته ، وانْبَسٍطُوا وسِلُّوا خفافكم ، وضعوا أرديتكم ، ففعلوا ما أمروا به فقال :

يا أيها القوم إنما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله تعالى ، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم وإمامكم ، ولا يمنعكم جلالتي ومكاني من قول الحق حيث كان ، ورد الباطل على من أتى به ، وأشفقوا على أنفسكم من النار ، وتقربوا إلى الله تعالى برضوانه وإيثار طاعته ، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق إلا سلطه عليه ، فناظروني بجميع عقولكم . إني رجل أزعم أن علياً خير البشر بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإن كنت مصيباً فصوبوا قولي ، وإن كنت مخطئاً فردوا عليَّ .

وهلموا ، فإن شئتم سألتكم وإن شئتم سألتموني . فقال له الذين يقولون بالحديث : بل نسألك ، فقال : هاتوا وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم ، فإذا تكلم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزد ، وإن أتى بخلل فسددوه .

فقال قائل منهم : إنما نحن نزعم أن خير الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبو بكر من قبل أن الرواية المجمع عليها ، جاءت عن الرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر ، فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما علمنا أنه لم يأمر بالاقتداء إلا بخير الناس .

فقال المأمون : الروايات كثيرة ، ولا بد من أن تكون كلها حقاً ، أو كلها باطلاً ، أو بعضها حقاً أو بعضها باطلاً . فلو كانت كلها حقاً كانت كلها باطلاً ، من قبل أن بعضها ينقض بعضاً ، ولو كانت كلها باطلاً ، كان في بطلانها بطلان الدين ودروس الشريعة ، فلما بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار ، وهو بعضها حق وبعضها باطل . فإذا كان كذلك ، فلا بد من دليل على ما يحق منها ليعتقد وينفي خلافه ، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقاً ، كان أولى ما اعتقده وأخذ به . وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحكم الحكماء وأولى الخلق بالصدق ، وأبعد الناس من الأمر بالمحال ، وحمل الناس على التدين بالخلاف ، وذلك أن هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة ، أو مختلفين فإن كانا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم ، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة ، وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما ، وهذا تكليف ما لا يطاق ، لأنك إذا اقتديت لواحد خالفت الآخر .

والدليل على اختلافهما أن أبا بكر سبا أهل الردة وردهم عمر أحراراً ، وأشار إلى أبي بكر بعزل خالد وبقتله بمالك بن نويرة ، فأبى أبو بكر عليه . وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر . ووضع عمر ديوان العطية ولم يفعله أبو بكر . واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر . ولهذا نظائر كثيرة .

قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : في هذا فصل لم يذكره المأمون لخصمه وهو أنهم لم يرووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، وإنما رووا أبو بكر وعمر ، ومنهم من روى أبا بكر وعمر ، فلو كانت الرواية صحيحة لكان معنى قوله بالنصب اقتدوا باللذين من بعدي كتاب الله والعترة يا أبا بكر وعمر . ومعنى قوله بالرفع : اقتدوا أيها الناس وأبو بكر وعمر باللذين من بعدي كتاب الله والعترة .

رجعنا إلى حديث المأمون : فقال آخر من أصحاب الحديث فإن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً .

فقال المأمون : هذا مستحيل من قِبَل أن رواياتكم أنه ( صلى الله عليه وآله ) آخى بين أصحابه وأخر علياً ، فقال له في ذلك ؟ فقال : وما أخرتك إلا لنفسي ! فأي الروايتين ثبتت بطلت الأخرى ؟

قال آخر : إن علياً قال : على المنبر خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر .

قال المأمون : هذا مستحيل من قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) لو علم إنهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ، ومرة أسامة بن زيد !

ومما يكذب هذه الرواية قول علي : لما قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) : وأنا أولى بمجلسه مني بقميصي ، ولكني أشفقت أن يرجع الناس كفاراً .

وقوله : أنى يكونان خيراً مني وقد عبدت الله تعالى قبلهما ، وعبدته بعدهما ؟

قال آخر : فإن أبا بكر أغلق بابه وقال : هل من مستقيل فأقيله ؟ فقال علي : قدمك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فمن ذا يؤخرك ؟

فقال المأمون : هذا باطل من قبل أن علياً قعد عن بيعة أبي بكر ، ورويتم أنه قعد عنها حتى قبضت فاطمة ( عليها السلام ) وأنها أوصت أن تدفن ليلاً لئلا يشهدا جنازتها .

ووجه آخر وهو إنه إن كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) استخلفه ، فكيف كان له أن يستقيل وهو يقول للأنصار : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة .

وقال آخر : إن عمرو بن العاص قال : يا نبي الله ، من أحب الناس إليك من النساء ؟ قال : عائشة . قال : ومن الرجال ؟ فقال : أبوها .

فقال المأمون : هذا باطل من قبل أنكم رويتم : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وُضع بين يديه طائر مشوي فقال : اللهم اتني بأحب خلقك إليك . فكان علياً . فأي روايتكم تقبل ؟

فقال آخر : فإن علياً قال : من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري !

قال المأمون : كيف يجوز أن يقول علي : أجلد الحد على من لا يجب حد عليه فيكون متعدياً لحدود الله عز وجل ، عاملاً بخلاف أمره ، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية ، وقد رويتم عن إمامكم أنه قال : وليتكم ولست بخيركم ، فأي الرجلين أصدق عندكم : أبو بكر على نفسه ، أو علي على أبي بكر !

مع تناقض الحديث في نفسه ؟ ولا بد له في قوله من أن يكون صادقاً أو كاذباً ، فإن كان صادقاً ، فإن عرف ذلك بوحي ؟ فالوحي منقطع أو بالتظني فالمتظني متحير ، أو بالنظر فالنظر مبحث ، وإن كان غير صادق فمن المحال أن يلي أمر المسلمين ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذاب .

قال آخر : جاء أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة .

قال المأمون : هذا الحديث محال لأنه لا يكون في الجنة كهل ويروى أن أشجعيةً كانت عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : لا يدخل الجنة عجوز فبكت ، فقال لها النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله تعالى يقول : إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا . عُرُبًا أَتْرَابًا . فإن زعمتم إن أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة فقد رويتم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال للحسن والحسين : إنهما سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين ، وأبوهما خير منهما .

قال آخر : فقد جاء أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر .

قال المأمون : هذا محال لأن الله تعالى يقول : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ . وقال تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوة مبعوثاً ، ومن أخذ ميثاقه على النبوة مؤخراً ؟ !

قال آخر : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم فقال : إن الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة ، وبعمر خاصة .

فقال المأمون : هذا مستحيل من قبل أن الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه ( صلى الله عليه وآله ) فيكون عمر في الخاصة ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) في العامة ، وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : دخلت الجنة فسمعت خفق نعلين ، فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة . وإنما قالت الشيعة : علي خير من أبي بكر فقلتم عبد أبي بكر خير من الرسول ! لأن السابق أفضل من المسبوق !

وكما رويتم أن الشيطان يفر من ظل عمر . وأنه ألقيَ على لسان نبي الله : وأنهن الغرانيق العلى !

قال آخر : قد قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لو نزل العذاب ما نجا إلا عمر بن الخطاب .

قال المأمون : هذا خلاف الكتاب أيضاً ، لأن الله تعالى يقول لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) : وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ . فجعلتم عمر مثل الرسول !

قال آخر : فقد شهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة .

فقال المأمون : لو كان هذا كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة : نشدتك بالله أمن المنافقين أنا ؟ فإن كان قد قال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنت من أهل الجنة ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة فصدَّق حذيفة ولم يصدق النبي ( صلى الله عليه وآله ) فهذا على غير الإسلام ! وإن كان قد صدق النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلمَ سأل حذيفة ؟

وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما !

قال آخر : قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : وضعت في كفة الميزان ووضعت أمتي في كفة أخرى فرجحت بهم ، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم ، ثم عمر فرجح بهم ، ثم رفع الميزان !

فقال المأمون : هذا محال من قبل أنه لا يخلو من أن يكون أجسامهما ، أو أعمالهما فإن كانت الأجسام ، فلا يخفى على ذي روح أنه محال ، لأنه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة . وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد ، فكيف ترجح بما ليس ! فأخبروني بمَ يتفاضل الناس ؟ فقال بعضهم : بالأعمال الصالحة . قال : فأخبروني فممن فضل صاحبه على عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أيلحق به ؟

فإن قلتم : نعم أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً وحجاً وصوماً وصلاةً وصدقةً ، من أحدهم !

قالوا : صدقت لا يلحق فاضل دهرنا لفاضل عصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) .

قال المأمون : فانظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل علي ، وقيسوا إليها ما رووا في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة ، فإن كانت جزءً من أجزاء كثيرة ، فالقول قولكم .

وإن كانوا قد رووا في فضائل علي أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تعدوه .

قال : فأطرق القوم جميعاً ، فقال المأمون : ما لكم سكتم ؟

قالوا : قد استقصينا .

قال المأمون : فإني أسألكم : خبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قالوا : السبق إلى الإسلام . . . ثم روى الصدوق نحو ما رواه ابن عبد ربه ، وفي روايته دقائق حذفها ابن عبد ربه ، لكن لا نعيدها ، ثم قالت رواية الصدوق :

ثم أقبل على أصحاب النظر والكلام فقال : أسألكم أو تسألوني ؟

فقالوا : بل نسألك . قال : قولوا . فقال قائل منهم : أليست إمامة علي من قبل الله عز وجل ، نقل ذلك عن رسول الله من نقل ، الفرض مثل الظهر أربع ركعات ، وفي مأتي درهم خمسة دراهم ، والحج إلى مكة ؟ فقال : بلى . قال : فما بالهم لم يختلفوا في جميع الفرض ، واختلفوا في خلافة علي وحدها ؟

قال المأمون : لأن جميع الفرض لا يقع فيه من التنافس والرغبة ما يقع في الخلافة .

فقال آخر : ما أنكرت أن يكون النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمرهم باختيار رجل منهم يقوم مقامه رأفة بهم ورقة عليهم ، من غير أن يستخلف هو بنفسه فيُعصى خليفته ، فينزل بهم العذاب ؟

فقال : أنكرتُ ذلك من قِبَل أن الله تعالى أرأف بخلقه من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقد بعث نبيه إليهم وهو يعلم أن فيهم عاص ومطيع ، فلم يمنعه تعالى ذلك من إرساله !

وعلة أخرى : ولو أمرهم باختيار رجل منهم كان لا يخلو من أن يأمرهم كلهم أو بعضهم ، فلو أمر الكل من كان المختار ؟ ولو أمر بعضاً دون بعض كان لا يخلو من أن يكون على هذا البعض علامة ، فإن قلت : الفقهاء ، فلا بد من تحديد الفقيه وسمته .

قال آخر : فقد روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله تعالى حسن ، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح .

فقال : هذا القول لا بد من أن يكون يريد كل المؤمنين ، أو البعض ، فإن أراد الكل فهذا مفقود ، لأن الكل لا يمكن اجتماعهم ، وإن كان البعض فقد روى كل في صاحبه حسناً مثل رواية الشيعة في علي ورواية الحشوية في غيره ، فمتى يثبت ما تريدون من الإمامة ؟ !

قال آخر : فيجوز أن تزعم أن أصحاب محمد أخطأوا .

قال : كيف نزعم أنهم أخطأوا واجتمعوا على ضلالة ، وهم لم يعلموا فرضاً ولا سنة ، لأنك تزعم أن الإمامة لا فرض من الله تعالى ولا سنة من الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، فكيف يكون فيما ليس عندك بفرض ولا سنة خطأ ؟

قال آخر : إن كنت تدعي لعلي من الإمامة دون غيره فهات بينتك على ماتدعي .

فقال : ما أنا بمدع ولكني مقر ، ولا بينة على مقر والمدعي من يزعم أن إليه التولية والعزل ، وأن إليه الاختيار والبينة ! ولا تعرى من أن تكون من شركائه فهم خصماء ، أو تكون من غيرهم والغير معدوم ، فكيف يؤتى بالبينة على هذا ؟

قال آخر : فما كان الواجب على علي بعد مضي رسول الله ؟

قال : ما فعله . قال : أفما وجب عليه أن يعلم الناس إنه إمام ؟

فقال : إن الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه ولا بفعل من الناس فيه من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك ، وإنها يكون بفعل من الله تعالى فيه ، كما قال لإبراهيم ( عليه السلام ) : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا . وكما قال تعالى لداود ( عليه السلام ) : يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ . وكما قال عز وجل للملائكة في آدم : إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . فالإمام إنما يكون إماماً من قبل الله تعالى ، وباختياره إياه في بدء الصنيعة ، والتشريف في النسب ، والطهارة في المنشأ ، والعصمة في المستقبل .

ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقاً للإمامة ، وإذا عمل خلافها اعتزل ، فيكون خليفة من قِبل أفعاله .

قال آخر : فلم أوجبت الإمامة لعلي بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ؟

فقال : لخروجه من الطفولية إلى الإيمان كخروج النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الطفولية إلى الإيمان ، والبراءة من ضلالة قومه عن الحجة ، واجتنابه الشرك كبراءة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الضلالة ، وإجتنابه للشرك ، لأن الشرك ظلم ، ولا يكون الظالم إماماً ، ولا من عبد وثناً . ومن شرك فقد حل من الله تعالى محل أعدائه ، فالحكم فيه الشهادة عليه بما اجتمعت عليه الأمة ، حتى يجئ إجماع آخر مثله .

ولأن من حكم عليه مرة فلا يجوز أن يكون حاكماً ، فيكون الحاكم محكوماً عليه فلا يكون حينئذ فرق بين الحاكم والمحكوم عليه .

قال آخر : فلمَ لم يقاتل علي أبا بكر وعمر ، كما قاتل معاوية ؟

فقال : المسألة محال لأن لمَ اقتضاء ، ولم يفعل نفي والنفي لا يكون له علة ، إنما العلة للإثبات . وإنما يجب أن ينظر في أمر علي ، أمن قبل الله أم من قبل غيره ، فإن صح أنه من قبل الله تعالى ، فالشك في تدبيره كفر لقوله تعالى : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا . فأفعال الفاعل تبعٌ لأصله ، فإن كان قيامه عن الله تعالى ، فأفعاله عنه ، وعلى الناس الرضا والتسليم ، وقد ترك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القتال يوم الحديبية ، يوم صد المشركون هديه عن البيت ، فلما وجد الأعوان وقويَ حارب كما قال الله تعالى في الأول : فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ، ثم قال عز وجل : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ .

قال آخر : إذا زعمت أن إمامة علي من قبل الله تعالى وإنه مفترض الطاعة ، فلمَ لم يجز إلا التبليغ والدعاء للأنبياء ( عليهم السلام ) ، وجاز لعلي أن يترك ما أمر به من دعوة الناس إلى طاعته ؟

فقال : من قبل أنا لم نزعم إن علياً أمر بالتبليغ فيكون رسولاً ، ولكنه وضع عَلَماً بين الله تعالى وبين خلقه ، فمن تبعه كان مطيعاً ، ومن خالفه كان عاصياً ، فإن وجد أعواناً يتقوى بهم جاهد ، وإن لم يجد أعواناً فاللوم عليهم لا عليه ، لأنهم أمروا بطاعته على كل حال ، ولم يؤمر هو بمجاهدتهم إلا بقوة ، وهو بمنزلة البيت على الناس الحج إليه ، فإذا حجوا أدوا ما عليهم ، وإذا لم يفعلوا كانت اللائمة عليهم لا على البيت .

وقال آخر : إذا وجب أنه لا بد من إمام مفترض الطاعة بالاضطرار ، كيف يجب بالاضطرار أنه علي ، دون غيره ؟

فقال : من قبل أن الله تعالى لا يفرض مجهولاً ، ولا يكون المفروض ممتنعاً ، إذ المجهول ممتنع ، فلا بد من دلالة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) على الفرض ليقطع العذر بين الله عز وجل وبين عباده . أرأيت لو فرض الله تعالى على الناس صوم شهر ، فلم يعلم الناس أي شهر هو ؟ ولم يوسم بوسم ، وكان على الناس استخراج ذلك بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد الله تعالى ، فيكون الناس حينئذ مستغنين عن الرسول المبين لهم ، وعن الإمام الناقل خبر الرسول إليهم !

وقال آخر : من أين أوجبت أن علياً كان بالغاً حين دعاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فإن الناس يزعمون إنه كان صبياً حين دُعِيَ ، ولم يكن جاز عليه الحكم ، ولا بلغ مبلغ الرجال .

فقال : من قبل أنه لا يعرى في ذلك الوقت من أن يكون ممن أرسل إليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليدعوه ، فإن كان كذلك فهو محتمل التكليف ، قويٌّ على أداء الفرائض . وإن كان ممن لم يرسل إليه فقد لزم النبي ( صلى الله عليه وآله ) قول الله عز وجل : وَلَوْ تَقَوَلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ . لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . وكان مع ذلك كلف النبي ( صلى الله عليه وآله ) عباد الله ما لا يطيقون عن الله تبارك وتعالى ، وهذا من المحال الذي يمتنع كونه ، ولا يأمر به حكيم ، ولا يدل عليه الرسول .

تعالى الله عن أن يأمر بالمحال ، وجل الرسول من أن يأمر بخلاف ما يمكن كونه في حكمة الحكيم . فسكت القوم عند ذلك جميعاً .

فقال المأمون : قد سألتموني ونقضتم عليَّ ، أفأسألكم ؟

قالوا : نعم ، قال : أليس قد روت الأمة بإجماع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ؟ قالوا : بلى .

قال : ورووا عنه أنه قال : من عصى الله بمعصية صغرت أو كبرت ، ثم اتخذها ديناً ومضى مصرّاً عليها فهو مخلد بين أطباق الجحيم ؟ قالوا : بلى .

قال : فخبروني عن رجل تختاره الأمة فتنصبه خليفة ، هل يجوز أن يقال له خليفة رسول ( صلى الله عليه وآله ) ومن قِبَل الله عز وجل ، ولم يستخلفه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) !

فإن قلتم : نعم ، فقد كابرتم . وإن قلتم : لا ، وجب أن أبا بكر لم يكن خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا كان من قبل الله عز وجل ، وأنكم تكذبون على نبي الله ( صلى الله عليه وآله ) فإنكم متعرضون لأن تكونوا ممن وسمه النبي ( صلى الله عليه وآله ) بدخول النار !

وخبروني في أي قوليكم صدقتم ؟ أفي قولكم مضى رسول الله ولم يستخلف ، أو في قولكم لأبي بكر يا خليفة رسول الله ؟ ! فإن كنتم صدقتم في القولين فهذا ما لا يمكن كونه ، إذ كان متناقضاً ! وإن كنتم صدقتم في أحدهما ، بطل الآخر !

فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم ، ودعوا التقليد ، وتجنبوا الشبهات ، فوالله ما يقبل الله تعالى إلا من عبد لا يأتي إلا بما يعقل ، ولا يدخل إلا فيما يعلم أنه حق . والريب شك ، وإدمان الشك كفر بالله تعالى ، وصاحبه في النار !

وخبروني هل يجوز أن يبتاع أحدكم عبداً ، فإذا ابتاعه صار مولاه ، وصار المشتري عبده ؟ قالوا : لا .

قال : فكيف جاز أن يكون من اجتمعتم عليه أنتم لهواكم ، واستخلفتموه صار خليفة عليكم ، وأنتم وليتموه ؟ ألا كنتم أنتم الخلفاء عليه ! بل تُولون خليفة وتقولون إنه خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم إذا سخطتم عليه قتلتموه ، كما فُعل بعثمان بن عفان ؟

فقال قائل منهم : لأن الإمام وكيل المسلمين ، إذا رضوا عنه ، ولوه وإذا سخطوا عليه عزلوه .

قال : فلمن المسلمون والعباد والبلاد ؟ قالوا : لله تعالى .

قال : فالله أولى أن يوكل على عباده وبلاده من غيره ، لأن من إجماع الأمة أنه من أحدث حدثاً في ملك غيره فهو ضامن وليس له أن يحدث ، فإن فعل فآثم غارم .

ثم قال : خبروني عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) هل استخلف حين مضى أم لا ؟

فقالوا : لم يستخلف . قال : فتركه ذلك هدىً أم ضلال ؟ قالوا : هدى .

قال : فعلى الناس أن يتبعوا الهدى ، ويتركوا الباطل ويتنكبوا الضلال !

قالوا : قد فعلوا ذلك . قال : فلم استخلف الناس بعده وقد تركه هو ؟ فترك فعله ضلال ، ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى ! وإذا كان ترك الاستخلاف هدى ، فلمَ استخلف أبو بكر ولم يفعله النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ولمَ جعل عمر الأمر بعده شورى بين المسلمين خلافاً على صاحبه ؟ لأنكم زعمتم أن النبي لم يستخلف ، وأن أبا بكر استخلف ، وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النبي بزعمكم ، ولم يستخلف كما فعل أبو بكر ، وجاء بمعنى ثالث !

فخبروني أي ذلك ترونه صواباً ؟ فإن رأيتم فعل النبي صواباً ، فقد خطأتم أبا بكر ، وكذلك القول في بقية الأقاويل !

وخبروني أيهما أفضل ما فعله النبي بزعمكم ، من ترك الاستخلاف ، أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف ؟

وخبروني هل يجوز أن يكون تركه من الرسول ( صلى الله عليه وآله ) هدى وفعله من غيره هدى فيكون هدى ضد هدى ؟ فأين الضلال حينئذ ؟

وخبروني هل وليَ أحد بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) باختيار الصحابة ، منذ قبض النبي إلى اليوم ؟ فإن قلتم : لا ، فقد أوجبتم أن الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي ! وإن قلتم : نعم ، كذبتم الأمة ، وأبطل قولكم الوجود الذي لا يدفع !

وخبروني عن قول الله عز وجل : قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ . أصدق هذا أم كذب ؟ قالوا : صدق قال : أفليس ما سوى الله لله ، إذ كان مُحْدِثه ومالكه ؟ قالوا : نعم . قال : ففي هذا بطلان ما أوجبتم اختياركم خليفة ، تفترضون طاعته وتسمونه خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنتم استخلفتموه ، وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه وعمل بخلاف محبتكم ، ومقتول إذا أبى الاعتزال .

ويلكم ! لا تفتروا على الله كذباً ، فتلقوا وبال ذلك غداً إذا قمتم بين يدي الله تعالى ! وإذا وردتم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد كذبتم عليه متعمدين ، وقد قال : من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار !

ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهم إني قد أرشدتهم !

اللهم إني قد أخرجت ما وجب علي إخراجه من عنقي !

اللهم إني لم أدعهم في ريب ولا في شك !

اللهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم علي على الخلق بعد نبيك محمد ، كما أمرنا به رسولك ( صلى الله عليه وآله ) ! قال : ثم افترقنا فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون !

قال محمد بن يحيى بن عمران الأشعري : وفي حديث آخر ، قال : فسكت القوم فقال لهم : لم سكتم ؟ قالوا : لا ندري ما تقول ؟ قال : تكفيني هذه الحجة عليكم . ثم أمر بإخراجهم قال : فخرجنا متحيرين خجلين .

ثم نظر المأمون إلى الفضل بن سهل فقال : هذا أقصى ما عند القوم ، فلا يظن ظان أن جلالتي منعتهم من النقض عليَّ ) .

( 8 ) ملاحظات على مناظرات المأمون

1 . في مناظرات المأمون مباحث عديدة ، ودلالات مهمة ، لكن الإفاضة فيها تخرجنا عن غرض الكتاب . لكن السؤال الملحَّ فيها عن هدف المأمون منها ، وعن صدقه فيها ؟ وقد عرفنا أن هدفه تهديد العباسيين بنقل الخلافة إلى العلويين ، لأنهم أصحابها الشرعيون ، وهو تهديد شكلي وليس حقيقياً ، ليضمن بذلك طاعة العباسيين له ، ولمن يريد أن يجعله ولي عهده . فهو عمل سياسي لغرضٍ داخل العائلة المالكة .

2 . أما صدقه فيها ، فيظهر أن خطته كانت إقامة الحجة على الفقهاء والعلماء ، ليقنعهم بمذهبه فينشروه في الناس , ويتحول الحكم إلى نظام عباسي بمذهب شيعي علوي ! وهو صادقٌ في هذا الهدف ، فقد قام بخطوات عمليه في هذا الاتجاه ، فكتب منشوراً في البراءة من معاوية ، لكنه تراجع عنه خوفاً من العامة ، وبقي المنشور تاريخاً ، حتى نشره الخليفة المعتضد العباسي .

كما طارد المجسمة الذين يقولون إن القرآن جزءٌ من ذات الله تعالى ! لكنه أساء أسلوب تنفيذه ، فقاومه قسم من الفقهاء والعامة ، واستمر خطه هذا في زمن أخيه المعتصم والواثق ، حتى جاء المتوكل فنقضه وقرَّب مجسمة الحنابلة ، وأسس لهم ميليشا تقاوم الشيعة .

3 . على أن الإشكال الأساسي على المأمون ، أنك قبل أن تقيم الحجة على فقهاء دولتك ، وتنصحهم باعتقاد الحق وتحذرهم من عقوبة الآخرة . .

فانصح نفسك ، واخرج من جريمة غصب الحق من أهله ! فأنت تقول إن الخلافة حق إلهي لعلي وأبنائه الأئمة ( عليهم السلام ) ، لأنهم نوعٌ راق من البشر ، فسلم الخلافة لأصحابها . ولعل بعض الفقهاء واجهه بهذه الحجة ولم ينقلها الرواة !

4 . حديث الطير الذي احتج به المأمون على أن علياً ( عليه السلام ) أفضل الخلق بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، رواه الحاكم في المستدرك ( 3 / 131 ) : ( عن أنس بن مالك قال : كنت أخدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقدم لرسول الله فرخ مشوي ، فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير . قال فقلت : اللهم اجعله رجلاً من الأنصار ! فجاء علي رضي الله عنه فقلت : إن رسول الله على حاجة . ثم جاء فقلت : إن رسول الله على حاجة . ثم جاء فقال رسول الله : إفتح ، فدخل فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما حبسك عليَّ ؟ فقال : إن هذه آخر ثلاث كرات ، يردني أنس ، يزعم أنك على حاجة . فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقلت : يا رسول الله سمعت دعاءك ، فأحببت أن يكون رجلاً من قومي ! فقال رسول الله : إن الرجل قد يحب قومه ! هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) .

5 . تفاوتت حالة خلفاء بني العباس في مستواهم الفكري والعلمي ، وفي موقفهم من علي ( عليه السلام ) وأبنائه الأئمة ( عليهم السلام ) . فكان منهم الشيعي نظرياً ، لكنه عدوٌّ لأئمة العترة وشيعتهم عملياً ، كالمأمون .

ومنهم من أعلن تشيعه كاملاً كالناصر لدين الله العباسي ، أحمد بن المستضئ ، الذي دامت خلافته 46 سنة ، وتوفي سنة 622 ، وله أخبار وقصص ، وتجد اسمه على الباب الخشبي في سرداب بيت الإمام المهدي ( عليه السلام ) المسمى سرداب الغيبة .

وقد أعاد الناصر الهيبة المفقودة للخلافة العباسية ، واسترجع في عصره بيت المقدس وما كان أخذه الصليبيون من ساحل لبنان وسوريا .

وقد اهتم بمشاهد الأئمة ( عليهم السلام ) وجعل مشهد الإمام الكاظم ( عليه السلام ) حمىً وملاذاً لمن لجأ اليه فكان يعفو عنهم ، ويصلح بينهم وبين خصومهم . وأعدَّ لنفسه قبراً عند قبر الإمام الكاظم ( عليه السلام ) عند رجليه ، لكن المتعصبين العباسيين غلبوا على جنازته ولم يدفنوه فيه ، فدفن فيه بعد نحو سبعين سنة المرجع نصير الدين الطوسي ( قدس سره ) .

( 9 ) مبالغة رواة السلطة في عطاء المأمون للإمام الجواد ( عليه السلام )

قال ابن الجوزي في المنتظم ( 11 / 62 ) : ( محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم ، ولد سنة مائة وخمس وتسعين ، وقدم من المدينة إلى بغداد وافداً على المعتصم ومعه أم الفضل بنت المأمون ، وكان المأمون قد زوجه إياها وأعطاه مالاً عظيماً ، وكذلك الرشيد كان يجري على علي بن موسى بن جعفر في كل سنة ثلاث مائة ألف درهم ، ولنزله ألف درهم في كل شهر . فقال المأمون لمحمد بن علي بن موسى لأزيدنك على مرتبة جدك ، فأجرى له ذلك ووصله بألف ألف درهم .

وقدم بغداد فتوفي بها يوم الثلاثاء لليال خلون من ذي الحجة في هذه السنة ، وركب هارون بن المعتصم وصلى عليه ، ثم حمل ودفن في مقابر قريش عند جده موسى بن جعفر ، وهو ابن خمس وعشرين سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً .

وحملت امرأته إلى قصر المعتصم فجعلت في جملة الحرم ) .

أقول : يريد علماء السلطة أن يغطوا قتل هارون للإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، وقتل المأمون للإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وقتل المعتصم للإمام الجواد ( عليه السلام ) ، بأنهم كانوا يحترمونهم ويعطونهم الأموال الوفيرة ! وزاد ابن الجوزي مدح الإمام الجواد ( عليه السلام ) بأنه كان سخياً ، وأنه أعطى شخصاً قصراً وبستاناً وجارية !

قال في المنتظم ( 11 / 62 ) : ( وبلغنا عن بعض العلويين أنه قال : كنت أهوى جارية بالمدينة ، وتقصر يدي عن ثمنها ، فشكوت ذلك إلى محمد بن علي بن موسى الرضا ، فبعث فاشتراها سراً ، فلما بلغني أنها بيعت ولم أعلم أنه اشتراها ، زاد قلقي فأتيته فأخبرته ببيعها فقال : من اشتراها ؟ قلت : لا أعلم ، قال : فهل لك في الفرجة ؟ قلت : نعم . فخرجنا إلى قصر له عنده ضيعة فيها نخل وشجر ، وقد قدم ( أرسل ) إليه فرشاً وطعاماً ، فلما صرنا إلى الضيعة أخذ بيدي ودخلنا ، ومنع أصحابه من الدخول وأقبل يقول لي : بيعت فلانة ولا تدري من اشتراها ؟ فأقول : نعم وأبكي ، حتى انتهى إلى بيت على بابه ستر ، وفيه جارية جالسة على فرض له قيمة ، فتراجعت فقال : والله لتدخلن ، فدخلت ، فإذا الجارية التي كنت أحبها بعينها ، فَبُهِتُّ وتحيرتُ فقال : أفتعرفها ؟ قلت : نعم قال : هي لك مع الفرض والقصر والضيعة والغلة والطعام ، وأقم بحياتي معها ، وأبلغ وطرك في التمتع بها ، وخرج إلى أصحابه فقال : أما طعامنا فقد صار لغيرنا فجددوا لنا طعاماً ، ثم دعا الأكار ( الفلاح ) فعوضه عن حقه من الغلة حتى صارت لي تامة ، ثم مضى ) .

أقول : كان الوضع المالي للإمام الجواد ( عليه السلام ) متوسطاً ، ولا أظن أنه يسمح بمثل هذا السخاء على شخص لم يسمه ، خاصة مع وجود فقراء ومستحقين كثيرين في المدينة . وقد يكون غرضها اتهام الإمام الجواد ( عليه السلام ) بالإسراف ، فقد كان معاوية يشيع أن بني هاشم أسخياء لكنهم مسرفون مبذرون !

( 10 ) قصة البازالذي صاد سمكة من الجو

رووا قصة للمأمون مع الإمام الجواد ( عليه السلام ) وهو في عمر التاسعة ، وأن المأمون كان ذاهباً إلى الصيد فمر بأولاد يلعبون بينهم الإمام الجواد ( صلى الله عليه وآله ) فهربوا منه ، وبقي الإمام ( عليه السلام ) فسأله المأمون عن اسمه ولماذا لم يهرب معهم .

ثم صادف المأمون حادثة غريبة ، هي أن الباز الذي كان يصيد به طار في الجو فصاد حية أو سمكة ، فتعجب وسأل الإمام ( عليه السلام ) فأخبره بأنه يوجد بحر في الجو .

وقد رواها في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 494 ) مرسلة ، فقال : ( اجتاز المأمون بابن الرضا ( عليه السلام ) وهو بين صبيان فهربوا سواه فقال : عليَّ به ، فقال له : مالك ما هربت في جملة الصبيان ؟ قال : مالي ذنب فأفر ، ولا الطريق ضيق فأوسعه عليك ، تمر

من حيث شئت . فقال : من تكون ؟ قال : أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، فقال ما تعرف من العلوم ؟

قال : سلني عن اخبار السماوات ، فودعه ومضى وعلى يده باز أشهب يطلب به الصيد ، فلما بعد عنه نهض عن يده الباز ، فنظر يمينه وشماله لم ير صيداً والباز يثب عن يده ، فأرسله وطار يطلب الأفق حتى غاب عن ناظره ساعة ، ثم عاد إليه وقد صاد حية ، فوضع الحية في بيت الطعم ، وقال لأصحابه : قد دنا حتف ذلك الصبي في هذا اليوم على يدي ، ثم عاد وابن الرضا في جمله الصبيان فقال : ما عندك من أخبار السماوات ؟ فقال : نعم يا أمير المؤمنين حدثني أبي عن آبائه عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن جبرئيل عن رب العالمين ، أنه قال : بين السماء والهواء بحر عجاج يتلاطم به الأمواج فيه حَيَّاتٌ خضر البطون رقط الظهور ، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب يمتحن بها العلماء . فقال : صدقت وصدق آباؤك وصدق جدك وصدق ربك ، فأركبه ، ثم زوجه أم الفضل ) .

ورواها ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول في مناقب آل الرسول / 468 ، بصيغة أخرى ، قال : ( لما توفى والده علي الرضا وقدم الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاته بسنة ، اتفق أنه بعد ذلك خرج يوماً يتصيد ، فاجتاز بطرف البلد في طريقه والصبيان يلعبون ومحمد واقف معهم ، وكان عمره يومئذ إحدى عشرة سنة فما حولها ، فلما أقبل الخليفة المأمون انصرف الصبيان هاربين ، ووقف أبو جعفر محمد فلم يبرح مكانه ، فقرب منه الخليفة فنظر إليه ، وكان الله عز وجل قد ألقى عليه مسحة من قبول ، فوقف الخليفة وقال له : يا غلام ما منعك من الانصراف مع الصبيان ؟ فقال له محمد مسرعاً : يا أمير المؤمنين لم يكن بالطريق ضيق لأوسعه عليك بذهابي ، ولم تكن لي جريمة فأخشاها ، وظني بك حسن أنك لا تضر من لا ذنب له ، فوقفت . فأعجبه كلامه ووجهه فقال له : ما اسمك ؟ فقال : محمد . فقال : ابن من أنت ؟ فقال : يا أمير المؤمنين أنا ابن علي . فترحم على أبيه وساق إلى وجهته ، وكان معه بُزَاة ، فلما بعد عن العمارة أخذ بازاً فأرسله على دراجة ، فغاب عن عينه طويلاً ، ثم عاد من الجو وفي منقاره سمكة صغيرة وبها بقايا الحياة ، فأعجب الخليفة من ذلك غاية العجب ، ثم أخذها في يده وعاد إلى داره في الطريق الذي أقبل منه ، فلما وصل إلى ذلك المكان وجد الصبيان على حالهم فانصرفوا كما فعلوا أول مرة ، وأبو جعفر لم ينصرف ووقف كما وقف أولاً فلما قرب منه الخليفة قال له : يا محمد . قال : لبيك يا أمير المؤمنين . قال له : ما في يدي ؟ فألهمه الله عز وجل أن قال : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق بمشيئته في بحر قدرته سمكاً صغاراً ، تصيدها بزاة الملوك والخلفاء ، فيختبرون بها سلالة أهل النبوة . فلما سمع المأمون كلامه عجب وجعل يطيل نظره إليه وقال : أنت ابن الرضا حقاً . وضاعف إحسانه إليه ) .

ورواه بنحوه ابن الصباع المالكي في الفصول المهمة ( 2 / 1040 ) ، وفي آخرها : ( قال : أنت ابن الرضا حقاً ومن بيت المصطفى صدقاً ، وأخذه معه وأحسن إليه ، وقربه وبالغ في إكرامه وإجلاله وإعظامه ، فلم يزل مشغفاً به لما ظهر له أيضاً بعد ذلك من بركاته ومكاشفاته وكراماته وفضله وعلمه ، وكمال عقله وظهور برهانه مع صغر سنه . ولم يزل المأمون متوفراً على تبجيله وإعظامه وإجلاله وإكرامه إلى أن عزم على أن يزوجه ابنته أُم الفضل وصمم على ذلك ، فبلغ ذلك العبّاسيين فغلظ عليهم واستكبروه وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع أبيه الرضا ، فاجتمع الأكابر من العباسيين . . الخ . ) .

( 11 ) ملاحظات على هذه الرواية

1 . يَرِدُ عليها أنها مرسلة ، لكن الإرسال يوجب التوقف فيها ، ولا يوجب ردها .

2 . ويَرِدُ عليها أنها تفرض أن المأمون لم يكن يعرف الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، مع أنه كان يعرفه جيداً ، وقد سمى له ابنته في حياة أبيه وهو طفل ، ثم أحضره إلى بغداد وتحدى به العباسيين وناظرهم ، وأقام له مراسم تاريخية لعقد زواجه .

قال ابن كثير في النهاية ( 10 / 295 ) وهو المتعصب على أهل البيت ( عليهم السلام ) : ( فلما كان ( المأمون ) بتكريت تلقاه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من المدينة النبوية ، فأذن له المأمون في الدخول على ابنته أم الفضل بنت المأمون . وكان معقود العقد عليها في حياة أبيه علي بن موسى ، فدخل بها وأخذها معه إلى بلاد الحجاز ) .

3 . أما صيد البزاة سمكاً حياً وميتاً من الهواء ، فتفسيره أن عواصف الهواء تحمل الماء والسمك من البحر ، وقد تلقيه على بعد مئات الكيلو مترات .

وقد قرأت ذلك في مصادر التاريخ ، وفي عصرنا صوروا عنه أفلاماً ، لاحظ :

http : / / www . uobabylon . edu . iq / uobcoleges / action _ lect . aspx ? fid = 10 ( رحمه الله ) depid = 6 ( رحمه الله ) lcid = 23246

وقد يكون المأمون سأل الإمام الجواد ( عليه السلام ) عن حادثة غريبة حدثت له في الصيد ، فأخبره الإمام بإمكان وجود ماء البحر والسمك في السماء أحياناً .

فكانت كرامة له أنه عرف ما حدث للمأمون وفسره له ، لكن الراوي لم يتقن رواية الحادثة ، أو زاد فيها .

4 . ويَرِد على الرواية أنها نسبت إلى الإمام الجواد ( عليه السلام ) اللعب مع الصبيان ، والمعصوم لا يلعب ولا يلهو . وقد بحثنا ذلك في طفولة الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) .

5 . ذكرت الرواية أن مكان القصة بغداد ، ولعله كان المدينة ، لأن الإمام الجواد لم يسكن في بغداد وهو صبي .

( 12 ) كان المأمون مرناً مع الإمام الجواد ( عليه السلام )

كانت سياسة المأمون لينة الظاهر مع الإمام الجواد ( عليه السلام ) طوال حياته ، ولم يحاول قتله أو التضييق عليه بشكل علني . ولم تكن هذه السياسة بسبب أن المأمون اكتفى بسفك دم أبيه الرضا ( عليه السلام ) ، بل لخوفه أن ينتهي عمره هو ، لأن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال له : ( أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر ، فإن عمرك وعمره هكذا . وجمع بين سبابتيه ) ! ( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 270 ) .

( 13 ) محاولة المأمون تشويه سمعة الإمام ( عليه السلام )

لكن مرونة المأمون لم تمنعه من محاولة أن يجر الإمام الجواد ( عليه السلام ) إلى مجالس الغناء والخمر ليشوه سمعته عند المسلمين عامة ، وشيعته خاصة !

روى في الكافي ( 1 / 495 ) : ( عن محمد بن الريان قال : احتال المأمون على أبي جعفر ( عليه السلام ) بكل حيلة فلم يمكنه فيه شئ ، فلما اعتل وأراد أن يبنى عليه ابنته ، دفع إلى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون ، إلى كل واحدة منهن جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر ( عليه السلام ) إذا قعد في موضع الأخيار ، فلم يلتفت إليهن !

وكان رجل يقال له : مخارق ، صاحب صوت وعود وضرب ، طويل اللحية ، فدعاه المأمون فقال : يا أمير المؤمنين إن كان في شئ من أمر الدنيا ، فأنا أكفيك أمره ، فقعد بين يدي أبي جعفر ( عليه السلام ) فشهق مخارق شهقةً اجتمع عليه أهل الدار وجعل يضرب بعوده ويغني ، فلما فعل ساعة ، وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه لا يميناً ولا شمالاً ، ثم رفع إليه رأسه وقال : إتق الله يا ذا العثنون ( وصف للحيته ) قال : فسقط المضراب من يده والعود ، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات ! قال : فسأله المأمون عن حاله قال : لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أفيق منها أبداً ) .

أقول : لو كانت شخصية المأمون وأهل مجلس سوية ، لخشعوا وخضعوا لهذه الآية ، واستغفروا الله واعتذروا من الإمام ( عليه السلام ) وسلموا له . ولكنهم متكبرون لا تنفعهم الآيات وقد قال الله تعالى : سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً .

( 14 ) حديت أم الفضل عن محاولة أبيها قتل الإمام

روى المؤرخون أن المأمون كان سكراناً فأقدم على قتل الإمام الجواد ( عليه السلام ) فلم يمت ، وظهرت له كرامة من الله تعالى .

وقد روى ذلك في عيون المعجزات / 113 ، عن حكيمة بنت أبي الحسن القرشي ، قالت : ( لما قبض أبو جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، أتيت أم الفضل بنت المأمون أو قالت أم عيسى بنت المأمون ، فعزيتها فوجدتها شديدة الحزن والجزع تقتل بنفسها بالبكاء والعويل ، فخفت عليها تتصدع مرارتها .

فبينما نحن في حديث كرمه ووصف خلقه وما أعطاه الله من العز والإخلاص ، ومنحه من الشرف والكرامة ، إذ قالت زوجته ابنة المأمون : ألا أخبرك عنه بشئ عجيب وأمر جليل فوق الوصف والمقدار ؟ قلت : وما ذاك ؟ قالت : كنت أغار عليه كثيراً وأرقبه أبداً ، وربما كان يُسمعني الكلام فأشكو ذلك إلى أبي فيقول : يا بنته احتمليه فإنه بضعة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فبينما أنا جالسة ذات يوم إذ دخلت علي جارية فسلمت فقلت : من أنت ؟ فقالت : أنا جارية من ولد عمار بن ياسر ، وأنا زوجة أبي جعفر محمد بن علي زوجك ! فدخلني من الغيرة ما لم أقدر على احتماله ، وهممت أن أخرج وأسيح في البلاد ، وكاد الشيطان يحملني على الإسائة بها ، فكظمت غيظي وأحسنت رفدها وكسوتها . فلما خرجت عني لم أتمالك أن نهضت ودخلت على أبي فأخبرته بذلك وكان سكراناً لا يعقل ، فقال : يا غلام عليَّ بالسيف فأتى به ، ثم ركب وقال : والله لأقطعنه ! فلما رأيت ذلك قلت إنا لله وإنا إليه راجعون ، ما صنعت بنفسي وزوجي ! وجعلت ألطم وجهي فدخل عليه أبي وما زال يضربه بالسيف حتى قَطَّعَهُ ! ثم خرج وخرجت هاربة خلفه ، ولم أرقد ليلتي غماً وقلقاً . فلما أصبحت أتيت أبي وقلت له أتدري ما صنعت البارحة ؟ قال : وما صنعت ؟ قلت : قتلت ابن الرضا ! فبرقت عيناه وغُشي عليه ، فلما أفاق من غشوته قال : ويحك ما تقولين ؟ قلت : نعم والله يا أبت ، دخلت عليه ولم تزل تضربه بالسيف حتى قطعته ! فاضطرب من ذلك اضطراباً شديداً ، ثم قال : عليَّ بياسر الخادم ، فلما أُتيَ به قال : ما هذا الذي تقول هذه ؟ قال ياسر : صدقت يا أمير المؤمنين ! فضرب أبي بيده على صدره وخده وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون هلكنا والله ، وأعطبنا وافتضحنا إلى آخر الأبد ! إذهب ويلك وانظر ما القصة وعجل عليَّ بالخبر ، فإن نفسي تكاد تخرج الساعة !

فخرج ياسر وأنا الطم خدي ووجهي ، فما كان بأسرع ما رجع وقال : البشرى يا أمير المؤمنين ! فقال : لك البشرى مالك ؟ قال : دخلت إليه وإذا هو جالس وعليه قميص ، وقد اشتمل بدراج وهو يستاك ، فسلمت عليه وقلت : يا ابن رسول الله أحب أن تهب لي قميصك هذا أصلي فيه وأتبرك به ، وإنما أردت أن أنظر إلى جسده هل فيه جراحة أو أثر سيف . فقال : بل أكسوك خيراً منه . قلت : لست أريد غير هذا القميص فخلعه ، فنظرت إلى جسده ما به أثر سيف !

فبكى المأمون بكاءً شديداً وقال : ما بقي بعد هذا شئ ، إن ذلك والله لعبرة للأولين والآخرين . ثم قال المأمون : يا ياسر أما ركوبي إليه وأخذ السيف والدخول عليه ، فإني ذاكره وخروجي منه وما فعلته فلست أذكر شيئاً منه ، ولا أذكر أيضاً انصرافي إلى مجلسي ، وكيف كان أمري وذهابي . لعن الله هذه الابنة لعناً وبيلاً ! تقدم إليها وقل لها : يقول لك أبوك لئن جئت بعد هذا اليوم وشكوت منه أو خرجت بغير إذنه لأنتقمن له منك ، ثم صر إليه يا ياسر وأبلغه عني السلام واحمل إليه عشرين ألف دينار ، وقُد إليه الشهري الذي ركبته البارحة ، ومر الهاشميين والقواد بأن يركبوا إليه ويسلموا عليه .

قال ياسر : خرجت إلى الهاشميين والقواد فأعلمتهم ذلك ، وحملت المال وقدت الشهري وصرت إليه ، ودخلت عليه وأبلغته السلام ووضعت المال بين يديه وعرضت عليه الشهري فنظر إليه ساعة ثم تبسم وقال : يا ياسر هكذا كان العهد بيني وبينه ! فقلت : يا سيدي دع عنك العتاب فوالله وحق جدك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ما كان يعقل من أمره شيئاً وما علم أين هو في أرض الله ، وقد نذر لله نذراً وحلف أن لا يسكر أبداً . ولا تذكر له شيئا ، ولا تعاتبه على ما كان منه . فقال : هكذا كان عزمي ورأيي .

فقلت إن الجماعة من بني هاشم والقواد بالباب ، بعثهم ليسلموا عليك ويكونوا معك إذا ركبت ، فقال : أدخل بني هاشم والقواد ما خلا عبد الرحمن بن الحسن وحمزة بن الحسن ، فخرجت وأدخلتهم فسلموا وخدموا ، فدعا بالثياب ولبس ونهض وركب معه الناس حتى دخلوا على المأمون ، فلما رآه قام إليه وضمه إلى صدره ورحب به ، ولم يأذن لأحد بالدخول عليه ، ولم يزل يحدثه ويساره .

فلما انقضى ذلك قال له أبو جعفر : يا أمير المؤمنين ، فقال له المأمون : لبيك وسعديك . قال : لك نصيحة فاقبلها . فقال المأمون : فحمداً وشكراً ، فما ذلك ؟ فقال : أحب أن لا تخرج بالليل ، فإني لست آمن عليك من هذا الخلق المنكوس وعندي حرز تحصن به نفسك وتحترز من الشرور والبلايا والمكاره والآفات والعاهات ، كما أنقذني الله منك البارحة ، ولو لقيت به جيوش الروم أو أكثر أو اجتمع عليك وعلى غلبتك أهل الأرض جميعاً ، ما تهيأ لهم فيك شئ بقدرة الله تعالى وجبروته . ومن مردة الشياطين الجن والإنس .

فإن أحببت بعثت به إليك تحرز به نفسك من جميع ما ذكرته وما تحذره ، مجرب فوق الحد والمقدار من التجربة .

فقال المأمون : تكتب ذلك بخطك وتبعث به إلي لأنتهي فيه إلى ما ذكرته .

فقال : حباً وكرامة . فقال له المأمون : فداك عمك ، إن كنت تجد عليَّ شيئاً مما قد رصد مني فاعف واصفح . فقال : لا أجد شيئاً ولم يكن إلا خيراً .

فقال المأمون : والله لأتقربن إلى الله تعالى بخراج الشرق والغرب ولأغدون غداً وأنفق فيه ما أملك ، كفارةً لما سلف .

ثم قال : يا غلام الوضوء والغداء ، وأدخل بني هاشم ، فدخلوا وأكلوا معه وأمر لهم بالخلع والجوائز على الأقدار . ثم قال لأبي جعفر : انصرف في كلاءة الله عز اسمه وحفظه ، فإذا كان في الغد فابعث إليَّ بالحرز .

فقام وركب وأمر القواد أن يركبوا معه حتى يأتي منزله .

قال ياسر الخادم : فلما أصبح أبو جعفر بعث إلي ودعاني ودعا بجلد ظبي من رق ثم كتب فيه بخطه الحرز ( وهو معروف ونسخته عند أكثر الشيعة وليس هذا موضعه وكنت أثبته ) .

ثم قال ( عليه السلام ) : يا ياسر إحمله إلى أمير المؤمنين وقل له يصنع له قصبة من فضة ، فإذا أراد شده في عضده الأيمن فيتوضأ وضوءً حسناً سابغاً ، وليصل أربع ركعات يقرؤ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسبع مرات آية الكرسي وسبع مرات : شهد الله . وسبع مرات والشمس ، وسبع مرات والليل . وسبع مرات : قل هو الله . ثم يشده على عضده عند النوائب يسلم بحول الله وقوته من كل شئ يخافه ويحذره ) . ورواها ابن حمزة في الثاقب في المناقب / 219 .

ورواها في كشف الغمة ( 3 / 157 ) بتفاوت : ( عن حكيمة بنت الرضا ( عليه السلام ) قالت : لما توفي أخي محمد بن الرضا ( عليه السلام ) صرت يوماً إلى امرأته أم الفضل لسبب احتجت إليها فيه ، قالت : فبينا نحن نتذاكر فضل محمد وكرمه وما أعطاه الله من العلم والحكمة ، إذ قالت امرأته أم الفضل : أخبرك عن أبي جعفر بعجيبة لم يسمع بمثلها ! قلت : وما ذاك ؟ قالت : إنه ربما كان أغارني مرة بجارية ومرة بتزويج ، فكنت أشكوه إلى المأمون فيقول يا بنية احتملي فإنه ابن رسول الله ، فبينا أنا ذات ليلة جالسة إذ أتت امرأة كأنها قضيب بان أو غصن خيزران فقلت من أنت ؟ فقالت : أنا زوجة أبي جعفر بن الرضا ، وأنا امرأة من ولد عمار بن ياسر . قالت : فدخل عليَّ من الغيرة ما لم أملك نفسي ، فنهضت من ساعتي فدخلت إلى المأمون وكان تملى من الشراب وقد مضى من الليل ساعات فأخبرته بحالي وقلت إنه يشتمك ويشتمني ويشتم العباس وولده !

قالت : وقلت ما لم يكن ، فغاظه ذلك ! فقام وتبعتُه ومعه خادم وجاء إلى أبي جعفر وهو نائم فضربه بالسيف حتى قطعه إرباً إرباً وذبحه وعاد . فلما أصبح عَرَّفناه ما كان بدا منه ، وأنفذ الخادم فوجد أبا جعفر قائماً يصلي ولا أثر فيه ! فأخبره أنه سالم ففرح وأعطى الخادم ألف دينار ، وحمل إليه عشرة آلاف دينار ، واجتمعا واعتذر إليه بالسكر ، وأشار عليه بترك الشراب فقبل ) .

وشكك الإربلي في الرواية لأن الإمام ( عليه السلام ) لم يكن يتسرى في بغداد لتشكوه زوجته .

ورواها الحضيني في الهداية الكبرى / 304 ، بصيغة أخرى ، عن محمد بن موسى النوفلي ، قال : ( دخلت على سيدي أبي جعفر ( عليه السلام ) يوم الجمعة عشياً فوجدت بين يديه أبا هاشم داود بن القاسم الجعفري ، وعينا أبي هاشم تهملان ، ورأيت سيدي أبا جعفر مطرقاً ، فقلت لأبي هاشم : ما يبكيك يا ابن العم ؟ قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : من جرأة هذا الطاغي المأمون على الله وعلى دمائنا ! بالأمس قتل الرضا والآن يريد قتلي ! فبكيت وقلت : يا سيدي هذا مع إظهاره فيك ما يظهره قال : ويحك يا ابن العم الذي أظهره في أبي أكثر .

فقلت : والله يا سيدي إنك لتعلم ما علمه جدك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد علم ما علمه المسيح وسائر النبيين ، وليس لنا حكم ، والحكم والأمر لك ، فإن تستكفي شره فإنه يكفيك . فقال : ويحك يا ابن العم ، فمن يركب إلي الليلة في خَدَمه بالساعة الثامنة من الليل وقد واصل الشرب والطرب إلى ذلك الوقت ، وأظهر شوقه إلى أم الفضل فيركب ويدخل إلي ويقصد إلى ابنته أم الفضل ، وقد وعدها أنها تبات في الحجرة الفلانية بعد مرقدي بحجرة نومي ، فإذا دخل داري عدل إليها ، وعهد إلى الخدم ليدخلوا إلى مرقدي فيقولون إن مولانا المأمون منا ! ويشهروا سيوفهم ويحلفوا أنه لا بد نقتله فأين يهرب منا ، وينظرون إلي ويكون هذا الكلام شعارهم فيضعون سيوفهم على مرقدي ويفعلون كفعل غيلانه في أبي ، فلا يضرني ذلك ولا تصل أيديهم إلي ، ويخيل لهم أنه فعل حق وهو باطل .

ويخرجون مخضبين الثياب قاطرة سيوفهم دماً كذباً ، ويدخلون على المأمون وهو عند ابنته في داري فيقول : ما وراءكم فيروه أسيافهم تقطر دماً وثيابهم وأيديهم مضرجة بالدم ، فتقول أم الفضل : أين قتلتموه ؟ فيقولون لها : في مرقده . فتقول لهم : ما علامة مرقده ، فيصفون لها فتقول : إي والله هو .

فتقوم إلى رأس أبيها فتقبله وتقول : الحمد لله الذي أراحك من هذا الساحر الكذاب ! فيقول لها : يا ابنة لا تعجلي ، فقد كان لأبيه علي بن موسى هذا الفعل فأمرت تفتح الأبواب وقعدت للتعزية ، ولقد قتله خدمي أشد من هذه القتلة ، ثم ثاب إليَّ عقلي ، فبعثت ثقة خدمي صبيح الديلمي فعاد إلي وقال : إنه في محرابه يسبح الله ، فتغلق الأبواب ثم تظهر أنها كانت غشية وفاقت الساعة ، فاصبري يا بنية لا تكون هذه القتلة مثل تلك القتلة !

فقالت : يا أبي هذا يكون ؟ قال : نعم ، فإذا رجعت إلى داري وراق الصبح فابعثي استأذني عليه فان وجدتيه حياً فادخلي عليه وقولي له : إن أمير المؤمنين شغب عليه خدمه ، وأرادوا قتله فهرب منهم إلى أن سكنوا فرجع ، وإن وجدتيه مقتولاً فلا تحدثي أحداً حتى أجيئك .

وينصرف إلى داره ترتقب ابنته الصبح فإذا اعترض تبعث إليَّ خادماً ، فيجدني في الصلاة قائماً فيرجع إليها بالخبر ، فتجئ وتدخل عليَّ وتفعل ما قال أبوها وتقول : ما منعني أن أجيئك بليلتي إلا أمير المؤمنين ، إلى أن أقول : والله الموفق ها هنا من هذا الموضع يقول : انصرف . وتبعث له . وهذا خبر المأمون بالتمام ) .

أقول : من الواضح أن في نسخة الحضيني خللاً ، وأنها تقول إن محاولة قتل المأمون للإمام ( عليه السلام ) كانت خطة عن عمد ، ولم تكن انفعالاً عن سكر .

وهذه الروايات الثلاث تتفق مع نمط تفكير المأمون ، وخططه مع وزرائه وقادته وإخوته . لكن لا يمكن الجزم بهما ، وإن كان يُعتد بها .

كما أن حكيمة التي رويت عنها روايتان في اسمها تفاوت ، ولا يتسع المجال لبحثه .

( 15 ) الوجه الآخر للمأمون

نورد هنا نصوصاً عن الوجه الآخر لشخصية المأمون ، لتكتمل صورته عند القارئ :

قال الطبري في تاريخه ( 7 / 157 ) : ( وكان يحجب المأمون على النبيذ فتح الخادم ، وياسر يتولى الخلع ، وحسين يسقي ، وأبو مريم غلام سعيد الجوهري يختلف في الحوائج . فركب طاهر إلى الدار فدخل فتح فقال : طاهر بالباب . فقال : إنه ليس من أوقاته ، إئذن له . فدخل طاهر فسلم عليه فرد ( عليه السلام ) وقال : إسقوه رطلاً ، فأخذه في يده اليمنى وقال له : أجلس ، فخرج فشربه ثم عاد وقد شرب المأمون رطلاً آخر ، فقال : إسقوه ثانياً ، ففعل كفعله الأول ، ثم دخل فقال له المأمون : أجلس ، فقال : يا أمير المؤمنين ليس لصاحب الشرطة أن يجلس بين يدي سيده ، فقال له المأمون : ذلك في مجلس العامة ، فأما مجلس الخاصة فطِلْق ) .

وفي الأغاني ( 10 / 314 ) : ( عن أبي أحمد بن الرشيد قال : كنت يوماً بحضرة المأمون وهو يشرب ، فدعا بياسر وأدخله فسارَّه بشئ ومضى وعاد . فقام المأمون وقال لي : قم ، فدخل دار الحرم ودخلت معه فسمعت غناء أذهل عقلي ، ولم أقدر أن أتقدم ولا أتأخر . وفطن المأمون لما بي فضحك ثم قال : هذه عمتك عُلَية تطارح عمَّك إبراهيم ) . وعُلَيَّه وإبراهيم أولاد الخليفة المهدي ، وهما مغنيان خماران !

وفي الأغاني ( 10 / 332 ) : ( دخل الحسن بن سهل على المأمون وهو يشرب فقال له : بحياتي وبحقي عليك يا أبا محمد إلَّا شربت معي قدحاً ، وصب له من نبيذه قدحاً ، فأخذه بيده وقال له : من تحبُّ أن يُغَنِّيك ؟ فأومأ إلى إبراهيم بن المهدي فقال له المأمون : غنه يا عم ، فغناه . . ) .

وفي الوافي للصفدي ( 17 / 345 ) : ( وقال محمد بن حبيب : كان عبد الله بن موسى الهادي معربداً ، وكان قد أعضل المأمون مما يعربد عليه إذا شرب معه ، فأمر به أن يجلس في بيته فلا يخرج منه ، وأقعد على بابه حرساً ) .

وفي الأغاني ( 17 / 56 ) : ( وذكر أحمد بن أبي طاهر أن محمد بن علي بن طاهر بن الحسين حدثه أن المأمون كان يوماً قاعداً يشرب وبيده قدح ، إذ غنت بَذْل : ألا لا أرى شيئاً ألذُّ من الوعد . فجعلته : ألا لا أرى شيئاً ألذ من السَّحق ! فوضع المأمون القدح من يده والتفت إليها ، وقال : بلى يا بذل ( . . . . ) ألذُّ من السحق ، فتشورت ( خجلت ) وخافت غضبه فأخذ قدحه ثم قال : أتِمِّي صوتك ) .

وفي الأغاني ( 7 / 215 ) : ( كان سبب موت بذل هذه ، أنها كانت ذات يوم جالسة عند المأمون فغنته ، وكان حاضراً في ذلك المجلس مُوَسْوَس ( مجنون ) يكنى بأبي الكركدن ، من أهل طبرستان ، يضحك منه المأمون ، فعبثوا به فوثب عليهم وهرب الناس من بين يديه فلم يبق أحد حتى هرب المأمون ، وبقيت بذل جالسة والعود في حجرها ، فأخذ العود من يدها وضرب به رأسها فشجها في شابورتها اليمنى فانصرفت وحُمَّت ، وكان سبب موتها ) .

والشابورة كما ذكر اللغويون : كلمة عبرية بمعنى القطعة الطويلة ، لكنها هنا بمعنى جزء من رأسها . ويظهر أنها كانت مستعملة في بغداد في القرن الثالث !

وفي تاريخ دمشق ( 69 / 267 ) : ( عَريب المأمونية : قيل إنها ابنة جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي ، لما انتهت دولة البرامكة سرقت وهي صغيرة وبيعت ، واشتراها الأمين ، ثم اشتراها المأمون ، وكانت شاعرة مجيدة ، ومغنية محسنة ، وقدمت دمشق مع المأمون ) .

وفي الأغاني ( 20 / 380 ) قال اليزيدي : ( دخلت على المأمون وهو يشرب ، وعنده عريب ومحمد بن الحارث بن بسخنر ، يغنيانه ، فقال : أطعموا محمداً شيئاً ، فقلت : قد بدأت بذلك في دار أمير المؤمنين ، فقال : أما ترى كيف عُتِّقَ هذا الشراب حتى لم يبق إلَّا أقلُّه ، ما أحسن ما قيل في قديم الشراب . . . ثم قال : إسقوا محمداً رطلين ، وأعطوه عشرين ألف درهم ) .

وفي نهاية الإرب ( 22 / 224 ) : ( فأخذت العود وغنت فشربنا عليه رطلاً ، ثم ثانياً وثالثاً ، فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال ، ارتاح وطرب ) .

وذكر في الأغاني ( 21 / 46 ) : كيف احتال المأمون لشراء المغنية عَريب ، وأنها كانت أمةً لمراكبي ، أي صاحب سفن وهربت منه إلى محمد بن حامد الخاقاني المعروف بالخشن أحد قواد خراسان ، وكان أشقر أصهب الشعر أزرق . . . فشكى المراكبي للمأمون فأنكر ابن حامد ، فأمر المأمون صاحب الشرطة أن يضرب المراكبي ، فجاءت عريب وهي تصيح : أنا عريب ، إن كنت مملوكة فليبعني ، وإن كنت حرة فلا سبيل له عليَّ ، فأمر المأمون بدفعها إلى محمد بن عمر الواقدي وكان قد ولَّاه القضاء بالجانب الشرقي ، فأخذها من قتيبة بن زياد ، فأمر ببيعها ، فاشتراها المأمون بخمسين ألف درهم ) !

وفي الأغاني ( 21 / 48 ) : ( قال ابن المعتز : فأخبرني ابن عبد الملك البصري أنها لما صارت في دار المأمون احتالت حتى وصلت إلى محمد بن حامد ، وكانت قد عشقته وكاتبته بصوت قالته ، ثم احتالت في الخروج إليه ، وكانت تلقاه في الوقت بعد الوقت ) .

وفي الأغاني ( 21 / 40 ) : ( ما رأيت امرأة أضرب من عُرَيْب ، ولا أحسن صنعة ولا أحسن وجهاً ، ولا أخف روحاً ، ولا أحسن خطاباً ، ولا أسرع جواباً ، ولا ألعب بالشّطرنج والنّرد ، ولا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها . قال حمّاد : فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم في حياة أبي ، فقال : صدق أبو محمد ، هي كذلك ، قلت : أفسمعتها ؟ قال : نعم هناك ، يعني في دار المأمون ) .

وفي الأغاني ( 21 / 49 ) : ( حدثني إبراهيم بن رباح قال : كنت أتولَّى نفقات المأمون فوصف له إسحاق بن إبراهيم الموصلي عريب فأمره أن يشتريها ، فاشتراها بمائة ألف درهم ، فأمرني المأمون بحملها ، وأن أحمل إلى إسحاق مائة ألف درهم أخرى ، ففعلت ذلك ، ولم أدر كيف أثبتها ، فحكيت في الديوان أن المائة الألف خرجت في ثمن جوهرة ، والمائة الألف الأخرى خرجت لصائغها ودلَّالها ، فجاء الفضل بن مروان إلى المأمون ، وقد رأى ذلك فأنكره وسألني عنه ، فقلت : نعم هو ما رأيت ، فسأل المأمون عن ذلك ، وقال : أوجب وهب لدلَّال وصائغ مائة ألف درهم ، وغلَّظ القصة ، فأنكرها المأمون فدعاني ودنوت إليه ، وأخبرته أنه المال الذي خرج في ثمن عريب وصلة إسحاق ، وقلت : أيما أصوب يا أمير المؤمنين : ما فعلت أو أثبت في الديوان أنها خرجت في صلة مغن وثمن مغنية ؟ فضحك المأمون وقال : الذي فعلت أصوب ، ثم قال للفضل بن مروان : يا نبطىّ لا تعترض على كاتبي هذا في شئ ) !

وفي الأغاني ( 21 / 57 ) : ( عتب المأمون على عريب فهجرها أياماً ، ثم اعتلَّت فعادها فقال لها : كيف وجدت طعم الهجر ؟ فقالت : يا أمير المؤمنين ، لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل ، ومن ذم بدء الغضب أحمد عاقبة الرضا ، قال : فخرج المأمون إلى جلسائه ، فحدثهم بالقصة ثم قال : أترى هذا لو كان من كلام النَّظَّام ألم يكن كبيراً ) . والنظَّام من أئمة المعتزلة والفلسفة مات 231 .

وفي الأغاني ( 21 / 48 ) : ( قال ابن المعتز : ولقد حدثني علي بن يحيى المنجم أن المأمون قبل في بعض الأيام رجلها ! قال : فلما مات المأمون بيعت في ميراثه ، ولم يبع له عبد ولا أمة غيرها ، فاشتراها المعتصم بمائة ألف درهم . . .

وفي الأغاني ( 21 / 57 ) : ( قال لي الفضل بن العباس بن المأمون : زارتني عريب يوماً ومعها عدة من جواريها ، فوافتنا ونحن على شرابنا فتحادثنا ساعة . وسألتها أن تقيم عندي ، فأبت وقالت : دعاني جماعة من إخواني من أهل الأدب والظَّرَف ، وهم مجتمعون في جزيرة المؤيد ، فيهم إبراهيم بن المدبر وسعيد بن حميد ، ويحيى بن عيسى بن منارة ، وقد عزمت على المسير إليهم .

فحلفت عليها فأقامت عندنا ، ودعت بدواة وقرطاس فكتبت : بسم الله الرحمن الرحيم وكتبت بعد ذلك في سطر واحد ثلاثة أحرف متفرقة لم تزد عليها وهي : أردت ، ولولا ، ولعلي . ووجهت به إليهم ، فلما وصلت الرقعة عيوا بجوابها ، فأخذ إبراهيم بن المدبر الرقعة فكتب تحت أردت : ليت ، وتحت لولا : ماذا ، وتحت لعلي : أرجو . ووجهوا بالرقعة فصفقت ونعرت وشربت رطلاً وقالت لنا : أأترك هؤلاء وأقعد عندكم ؟ إذا تركني الله من يديه ، ولكني أخلَّف عندكم من جواريَّ من يكفيكم وأقوم إليهم ، ففعلت ذلك وخلَّفت عندنا بعض جواريها ، وأخذت معها بعضهن وانصرفت ) .

وفي الأغاني ( 21 / 60 ) : ( قال ابن المعتز : وحدثني أبو الخطَّاب العباس بن أحمد بن الفرات قال : حدّثني أبي قال : كنا يوماً عند جعفر بن المأمون نشرب ، وعريب حاضرة ، إذ غنى بعض من كان هناك :

يا بدر إنّك قد كُسِيتَ مشابهاً * من وجه ذاك المستنير الَّلائح . . .

فضحكت عريب وصفقت وقالت : ما على وجه الأرض أحد يعرف خبر هذا الصّوت غيري ، فلم يقدم أحد منا على مسألتها عنه غيري ، فسألتها فقالت : أنا أخبركم بقصته ، ولولا أن صاحب القصة قد ماتت لما أخبرتكم ، إن أبا محلَّم قدم بغداد ، فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك ، فاطَّلعت أم محمد ابنة صالح يوماً فرأته يبول فأعجبها متاعه ، وأحبت مواصلته ، فجعلت لذلك علَّة بأن وجهت إليه تقترض منه مالاً ، وتعلمه أنّها في ضيقة ، وأنها ترده إليه بعد جمعة ، فبعث إليها عشرة آلاف درهم ، وحلف أنه لو ملك غيرها لبعث به ، فاستحسنت ذلك وواصلته ، وجعلت القرض سبباً للوصلة ، فكانت تدخله إليها ليلاً ، وكنت أنا أغني لهم ، فشربنا ليلة في القمر وجعل أبو محلَّم ينظر إليه ، ثم دعا بدواة ورقعة ، وكتب فيها قوله :

يا بدر إنك قد كُسِيتَ مشابهاً * من وجه أم محمد ابنةِ صالحِ ) .

أقول : تدل الرواية على عدم خوف عريب من التشهير بزوجة هارون . وتدل على الفساد المفرط في زوجات الخلفاء ونساء القصور ، فأم محمد هي زوجة هارون ، وأبو محلم الشيباني أعرابي يحفظ من شعر العرب وقصصهم . ( الأعلام : 7 / 131 ) .

وفي الأغاني ( 21 / 57 ) عن حمدون قال : ( كنت حاضراً مجلس المأمون ببلاد الروم بعد صلاة العشاء الآخرة في ليلة ظلماء ذات رعود وبروق ، فقال لي المأمون : إركب الساعة فرس النوبة وسر إلى عسكر أبي إسحاق يعني المعتصم ، فأد إليه رسالتي في كيت وكيت ، قال : فركبت ولم تثبت معي شمعة ، وسمعت وقع حافر دابة فرهبت ذلك وجعلت أتوقاه ، حتى صكَّ ركابي ركاب تلك الدابة ، وبرقت بارقة فأضاءت وجه الراكب ، فإذا عريب فقلت : عريب ؟ قالت : نعم ، حمدون ؟ قلت : نعم . ثم قلت : من أين أقبلت في هذا الوقت ؟ قالت : من عند محمد بن حامد ، قلت : وما صنعت عنده ؟ قالت عريب : يا تكش ، عريب تجئ من عند محمد بن حامد في هذا الوقت خارجة من مضرب الخليفة وراجعة إليه ، تقول لها : أي شئ عملت عنده ؟ صلَّيت معه التراويح ! أو قرأت عليه أجزاء من القرآن ، أو دارسته شيئاً من الفقه ! يا أحمق ، تعاتبنا وتحادثنا واصطلحنا ، ولعبنا وشربنا وغنينا ، وتنايكنا ، وانصرفنا ، فأخجلتني وغاظتني ، وافترقنا ، ومضيت فأدّيت الرّسالة ، ثم عدت إلى المأمون وأخذنا في الحديث وتناشد الأشعار ، وهممت واللَّه أن أحدّثه حديثها ، ثم هبته فقلت : أقدّم قبل ذلك تعريضا بشئ من الشعر فأنشدته : ألا حيّ أطلالا لواسعة الحبل . . ) .

وتكش : اسم مغولي . ومعنى كلام عريب : أيها الغلام المغولي الذي لا يعرف !

وفي الأغاني ( 21 / 75 ) قال ابن اليزيدي : ( خرجنا مع المأمون في خروجه إلى بلد الروم ، فرأيت عريب في هودج ، فلما رأتني قالت لي : يا يزيدي أنشدني شعراً قلته حتى أصنع فيه لحناً ، فأنشدتها :

ماذا بقلبي من دوام الخفقِ * إذا رأيتُ لمعانَ البرقِ . .

قال : فتنفست تنفساً ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه ، فقلت : هذا والله تنفس عاشق ، فقالت : أسكت يا عاجز ، أنا أعشق ! والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس ، فادَّعاها من أهل المجلس عشرون رئيساً ، طريقاً ) .

أي غمزت بعينها في مجلسهم ، فتصور عشرون شخصاً ، كل واحد أنها تريده !

وفي الأغاني ( 21 / 52 ) : ( حدثني أبو الحسن عليّ بن محمد بن الفرات قال : كنت يوماً عند أخي أبي العباس ، وعنده عريب جالسة على دست مفرد لها ، وجواريها يُغَنِّينَ بين يدينا وخلف ستارتنا ، فقلت لأخي وقد جرى ذكر الخلفاء : قالت لي عريب : ( كلمة صريحة نزهنا كتابنا عنها ) منهم ثمانية ، ما اشتهيت منهم أحداً إلا المعتز ، فإنه كان يشبه أبا عيسى بن الرشيد ! قال ابن الفرات : فأصغيت إلى بعض بني أخي فقلت له : فكيف ترى شهوتها الساعة ؟ فضحك ، ولمحتْهُ فقالت : أيَّ شئ قلتم ؟ فجحدتها . فقالت لجواريها : أمسكن ففعلن ، فقالت : هنَّ حرائر لئن لم تخبراني بما قلتما لينصرفن جميعاً وهن حرائر ، إن حردتُ ( غضبت ) من شئ جرى ولو أنها تسفيل ! فَصَدَقتها . فقالت : وأي شئ في هذا ؟ أما الشهوة فبحالها ، ولكن الآلة قد بطلت . أو قالت : قد كلَّت . عودوا إلى ما كنتم فيه ) .

أي قالت له : قل ما تحدثتما به ولو كان عليَّ ، وإمائي حرائر إن غضبت منكم !

وكانت عريب تربي مغنيات ، ففي المنتظم لابن الجوزي ( 13 / 152 ) : ( بِدعة : جارية عريب مولاة المأمون : كانت مغنية ، وقد كان إسحاق بن أيوب بذل لمولاتها في ثمنها مائة ألف دينار ، وللسفير بينهما عشرين ألف دينار ، فدعتها فأخبرتها بالحال فلم تؤثر البيع فأعتقتها من وقتها ، وماتت لست بقين من ذي الحجة من هذه السنة وصلى عليها أبو بكر بن المهتدي ، وخلفت مالاً كثيراً وضياعاً ) .

وفي الطبري ( 7 / 222 ) : ( دعا بنا ( المأمون ) فلما أخذ فيه النبيذ قال : غنوني ، فسبقني مخارق فاندفع فغنى صوتاً لا بن سريج ، في شعر جرير . .

الحينُ ساق إلى دمشقَ وما * كانت دمشقُ لأهلها بلداً

فضرب بالقدح الأرض وقال : مالك عليك لعنة الله ! ثم قال : يا غلام أعط مخارقاً ثلاثة آلاف درهم ، وأخذ بيدي فأقمته وعيناه تدمعان ، وهو يقول للمعتصم : هو والله آخر خروج ، ولا أحسبني أن أرى العراق أبداً . قال : فكان والله آخر عهده بالعراق ) .

وفي الأغاني ( 5 / 224 ) : ( قال لي صالح بن الرشيد : كنا أمس عند أمير المؤمنين المأمون وعنده جماعة من المغنّين ، فيهم إسحاق وعَلُّويَه ومخارق وعمرو بن بانة ، فغنى مخارق . . . فقال له المأمون : لمن هذا اللحن ؟ قال : لهذا الهزبر الجالس يعني إسحاق ، فقال المأمون لمخارق : قم فاقعد بين يديَّ وأعد الصوت ، فقام فجلس بين يديه وأعاده فأجاده ، وشرب المأمون عليه رطلاً . ثم التفت إلى إسحاق فقال له : غن هذا الصوت ، فغناه فلم يستحسنه كما استحسنه من مخارق ) .

وفي الأغاني ( 7 / 217 ) : ( سمع علي بن هشام قدام المأمون من قلم جارية زبيدة صوتاً عجيباً ، فرشى لمن أخرجه من دار زبيدة بمائة ألف دينار ، حتى صار إلى داره وطرح الصوت على جواريه . ولو علمت بذلك زبيدة لاشتد عليها ، ولو سألها أن توجه به ما فعلت ) . وعلي بن هشام المروزي نديم المأمون وقائد في جيشه .

( 16 ) عرس المأمون الكسروي على بوران !

أقام المأمون مراسم كسروية لعرسه على بوران بنت الحسن بن سهل ، قبل وفاته بثمان سنوات وأنفق فيه ملايين ، وفي المسلمين من يعيش الجوع والعري ويحتاج إلى الدرهم ! وتقدم أن زبيدة وحدها أنفقت في عرسه بضعة وثلاثين مليون درهم !

وفي مآثر الإنافة في معالم الخلافة ( 3 / 365 ) : ( ولما عملت دعوة المأمون حين تزوج بوران بنت الحسن بن سهل ، أقام أبوها للمأمون ولجميع قواده وأصحابه بفم الصلح ، إنزالهم أربعين يوماً ، واحتفل بما لم ير مثله نفاسة وكثرة .

قال المبرد : سمعت الحسن بن بغا يقول : كنا نجري أيام مقام المأمون عند الحسن على ستة وعشرين ألف ملاح . ولما كانت ليلة البناء وجليت بوران على المأمون فُرش حصير من ذهب ، وجئ بمكتل مرصع فيه درٌّ كبار فنثرت على من حضر من النساء ، وفيهن أم جعفر وحمدونة بنت الرشيد ، فما مس من حضر من الدر شيئاً ، فقال المأمون : شرفن أبا محمد وأكرمنها ، فمدت كل واحدة يدها ، فأخذت درة ، وبقيت سائر الدرر تلوح على حصير الذهب ، فقال المأمون : قاتل الله الحسن بن هانئ ، كأنه قد رأى هذا حيث يقول :

كأن صغرى وكبرى من فواقعها * حصباء در على أرض من الذهب

وكان في المجلس شمعة عنبر فيها مائتا رطل ، فضج المأمون من دخانها فعملت له مُثُلٌ من الشمع ، فكان الليل مدة مقامه مثل النهار .

ولما كانت دعوة القواد نثرت عليهم رقاع فيها أسماء ضياع ، فمن وقعت في يده رقعة بضيعة أشهد له الحسن بها . ويقال إنه أنفق في هذه الدعوة أربعة آلاف ألف دينار ، فلما أراد المأمون أن يصعد أمر له بألف ألف دينار ، وأقطعه الصلح وعتبه على احتفاله ذلك الاحتفال وحمله على نفسه . فقال له يا أمير المؤمنين أيظن ذلك من مال سهل ، والله ما هو إلا مالك رد إليك ، وأردت أن يفضل الله أيامك ونكاحك ، كما فضلك على جميع خلقه ) !

( 17 ) أم الفضل بنت المأمون : اسم كبير وواقع بائس !

عرفت باسم أم الفضل بنت المأمون ، وورد اسمها على لسان زبيدة : أم الخير ، عندما طلبت من الإمام الجواد ( عليه السلام ) الدخول على عروسه ، قالت : ( يا سيدي إني لأحب أن أراك وأم الخير بموضع واحد لتقر عيني وأفرح ، وأُعَرِّف أمير المؤمنين اجتماعكما فيفرح ) . ( الهداية الكبرى / 304 ) .

وورد اسمها أم عيسى في حديث حكيمة المتقدم . وورد اسمها زينب على لسان أبيها المأمون في خطبة العقد ، كما في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 489 ) : ( قد زوجت زينب ابنتي من محمد بن علي بن موسى الرضا ) .

كانت أم الفضل معجبة بزوجها الإمام الجواد صلوات الله عليه ، وفي نفس الوقت كانت تدعو على أبيها أحياناً لأنه زوجها إياه ، وتصفه بأنه ساحر ، لأنه يعلم بكل أسرارها ، ومجالس خمرها ولهوها !

كانت ترى أن زوجها بدل أن يشكر نعمة مصاهرة الخليفة ، ويعيش معها في قصر من قصور الخلافة ، وينعم بما لذ وطاب من الطعام ، ويستمتع بمجالس غناء جاريات أبيها الحسان عريب ومؤنسة وشارية وعلية العباسية . . وكبار أساتذة الغناء واللحن والطرب : مخارق ، وإبراهيم بن المهدي ، وأبو حشيشة . .

ويشارك بحيوية في مجالس الخليفة فيشرب رطلين وثلاثة من ألذ خمور العراق وسوريا وإيران ، ويكون له منصب من أكبر مناصب الدولة الأمبراطورية . .

بدل ذلك تراه يتهرب منها ومن بغداد ، ليسكن في المدينة التي هي قرية متخلفة في نظرها ، ويكون إماماً لشيعة أبيه وأجداده ، يستفتونه في أمور دينهم ، ويحملون اليه أخماساً ، لا تكاد تسد رمق المحتاجين حوله !

وكانت ترى أنه لايحبها ، فقد عقدا زواجهما وعمره نحو عشر سنين ، ورأته وأحبته ورآها ولم يحبها ، وتركها وذهب إلى المدينة .

كانت تفكر أن الإمام الجواد ( عليه السلام ) قد يكون معذوراً يومها بأنه صغير السن ، لكن ما عذره بعد أن صار شاباً ولم يأت إلى بغداد ، ثم تزوج غيرها وأنجب أولاداً ، وكأنه ليس عنده زوجة هي بنت الخليفة العظيم !

قالت أم الفضل : ( كان يشدد عليَّ القول ، وكنت أشكو ذلك إلى والدي فيقول والدي : يا بنية إحتمليه ، فإنه بضعة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ) . ( المناقب ( 3 / 499 ) .

وقال الشيخ المفيد في الإرشاد ( 2 / 288 ) : ( وقد روى الناس : أن أم الفضل كتبت إلى أبيها من المدينة تشكو أبا جعفر ( عليه السلام ) وتقول : إنه يتسرَّى علي ويُغيرني . فكتب إليها المأمون : يا بنية إنا لم نزوجك أبا جعفر لنحرم عليه حلالاً ، فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها ) . وتعبيره بروى الناس ، يشير إلى أنه لم يتأكد من صحة ذلك .

ولا بد أنها عندما طلبت من أبيها إحضاره لإكمال الزواج ، كانت تريد إلزامه بالعيش في بغداد ، فلم ينفع معه وتخلص وعاد إلى المدينة .

ففي سنة 215 ، أراد المأمون أن يذهب إلى غزو الروم فأصرت عليه ، فألزمه بالحضور ، وكان الجواد ( عليه السلام ) في العشرين من عمره وأكثر ، فوافاه وهو في تكريت فأمره كما يقول الطبري أن يدخل بزوجته ، وأرسله إلى بغداد : ( فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( رحمه الله ) من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة ، ولقيه بها فأجازه ، وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل ، وكان زَوَّجَهَا منه ، فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي على شاطئ دجلة ، فأقام بها ، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة ، ثم أتى منزله بالمدينة فأقام بها ) . ( الطبري : 7 / 190 ) .

لكن مما يوجب الشك في أن الإمام ( عليه السلام ) دخل بزوجته أنها قد تكون شكته إلى سيدة القصور زبيدة ، أو كلفها المأمون بأن تجمع بين الإمام الجواد ( عليه السلام ) وزوجته أم الفضل !

فقد روى البرسي في مشارق الأنوار / 152 ، عن أبي جعفر الهاشمي قال : ( كنت عند أبي جعفر الثاني ببغداد فدخل عليه ياسر الخادم يوماً وقال : يا سيدنا إن سيدتنا أم جعفر تستأذنك أن تصير إليها ، فقال للخادم : إرجع فإني في الأثر ، ثم قام وركب البغلة وأقبل حتى قدم الباب ، فخرجت أم جعفر فسلمت عليه ، وسألته الدخول على أم الفضل بنت المأمون ، وقالت : يا سيدي أحب أن أراك مع ابنتي في موضع واحد فتقر عيني ، قال : فدخل والستور تشال بين يديه ، فما لبث أن خرج راجعاً وهو يقول : فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ . قال : ثم جلس !

فخرجت أم جعفر تعثر ذيولها ، فقالت : يا سيدي أنعمت عليَّ بنعمة فلم تتمها ، فقال لها : أتى أمر الله فلا تستعجلوا ، إنه قد حدث ما لم يحسن إعادته ، فارجعي إلى أم الفضل فاستخبريها عنه . فرجعت أم جعفر فعادت عليها ما قال فقالت :

يا عمة وما أعلمه بذاك عني ، ثم قالت : كيف لا أدعو على أبي وقد زوجني ساحراً ، ثم قالت : والله يا عمة إنه لما طلع عليَّ جماله حدث لي ما يحدث للنساء ، فضربت يدي إلى أثوابي فضممتها . فبهتت أم جعفر من قولها ثم خرجت مذعورة وقالت : يا سيدي وما حدث لها ؟ قال : هو من أسرار النساء . فقالت : يا سيدي أتعلم الغيب ؟ قال : لا . قالت : فنزل إليك الوحي ؟ قال : لا . قالت : فمن أين لك علم ما لا يعلمه إلا الله وهي ؟ فقال : وأنا أيضاً أعلمه من علم الله .

قال : فلما رجعت أم جعفر قلتُ له : يا سيدي وما كان إكبار النسوة ؟ قال : هو ما حصل لأم الفضل ) .

ورواه الحضيني في الهداية الكبرى / 303 ، بسنده عن داود بن القاسم الجعفري ، وفيه : ( فأعادت أم جعفر على أم الخير ما قاله ( عليه السلام ) . . فقالت أم الخير : كيف لا أدعو على أبي وقد زوجني ساحراً ! فقالت لها : يا بنية لا تقولي هذا في أبيك ولا فيه ، أريني فما الذي حدث ؟ قالت : يا عمة والله ما هو طلع حقاً ، إلا حدث مني ما يحدث من النساء ، فضربت يدي إلى أثوابي وضممتها !

فخرجت أم جعفر إليه ، وقالت : يا سيدي أنت تعلم الغيب ؟ قال : لا . قالت من أين لك أن تعلم ما حدث من أم الخير مما لا يعلمه إلا الله وهي في الوقت ؟ فقال لها : نحن من علم الله علمنا وعن الله نخبر . قالت له : ينزل عليك الوحي ؟ قال : لا . قالت : من أين لك علم ذلك ، قال : من حيث لا تعلمين ، وسترجعين إلى من تخبرينه بما كان فيقول لك : لا تعجبي فإن فضله وعلمه فوق ما تظنين ) !

أقول : هكذا كانت أم الفضل تنظر إلى الأمور ، وقد أبت أن تفهم الحق والتُّقَى من زوجها الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، رغم أنها تحبه ، فعقليتها مصبوبة بقالب دار الخلافة ، ولا تريد عنه بديلاً ، وهي تحب الإمام ( عليه السلام ) لكن بشرط أن يكون طوع يديها ورغباتها !

وأم جعفر هذه زبيدة ، ويقال لها سيدتنا على الإطلاق ، وقد تصور بعضهم أنها أخت المأمون ، لكن تعبير سيدتنا بأم جعفر على الإطلاق يتبادر إلى زبيدة .

أما الإمام الجواد صلوات الله عليه ، فكان يرى أن الخلافة العباسية لا تختلف في جوهرها عن ملوكية كسرى ، لا في تفكير الخليفة وتجبره على المسلمين ، ولا في قصوره وقضاته ووزرائه ، ولا في أولاده ونسائه ، ومجالس لهوه وخموره !

فقد نسخ المنصور أفكار كسرى وسياسته وقصوره نسخاً ، وبناها في بغداد بيد نفس المهندسين والمعمارين والوزراء الفرس ، وثقافة الملوك الجبابرة !

وعلى نهجه سار خلفاء بني العباس ، ومنهم هارون والمأمون ، فهم برأيه جائرون يحكمون بالظلم والقمع والتجبر الكسروي ، وبالبذخ والإسراف من أقوات المسلمين !

وكل ذلك باسم الإسلام ، وأموال الفقراء ، وغطاء قرابة العباسيين من النبي ( صلى الله عليه وآله ) !

كان الإمام يرى أن حياة قصور الخليفة يبغضها الله تعالى ، لأنها بنيت بمال حرام ، ولأنها مظهر للتجبر ، ولأنها ترتكب فيها مظالم العباد ، وأنواع الفسق والمعاصي ، فالشياطين فيها معششة ، والملائكة عنها بعيدة .

وكان يرى أنه قد أجبر على الزواج ببنت المأمون ، التي هي واحدة من نساء هذه القصور ، وأنه لا يمكن إنقاذها لأنها لا تريد الهداية ، فهي مصرةٌ على اتباع أخيها الشقيق جعفر ، وهو غارق في الخمر والفساد .

( 18 ) قتلت زوجها الإمام ( عليه السلام ) فدعا عليها !

كانت تعيش عالمها في قصور الخلافة ، ولا تحب أن تفهم شيئاً من زوجها ، ولا أن تدخل في أجوائه القدسية ، ولا عرفت قيمته إلا بعد أن قتلته بالسم !

كان ( عليه السلام ) يوجهها لمصلحتها وخير دنياها وآخرتها ، وينهاها عن بعض ما لايناسبها فتقول : إنه يسمعني الكلام ! وكان يخبرها عن بعض أسرارها فتقول : كيف لا أدعو على أبي وقد زوجني ساحراً ! ( مشارق أنوار اليقين / 151 ، والهداية الكبرى / 304 ) .

قال الحسين بن عبد الوهاب في عيون المعجزات / 118 : ( ثم إن المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر ( عليه السلام ) وأشار إلى ابنة المأمون زوجته ، بأنها تسمه لأنه وقف على انحرافها عن أبي جعفر ، وشدة غيرتها عليه ، لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها ، ولأنه لم يرزق منها ولد ، فأجابته إلى ذلك ، وجعلت سماً في عنب رازقي ووضعته بين يديه ( عليه السلام ) ، فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي فقال ( عليه السلام ) ما بكاؤك ! والله ليضربنك الله بفقر لا ينجبر وبلاء لا ينستر ! فماتت بعلة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناصوراً ، فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلة حتى احتاجت إلى الإسترفاد . وروي أن الناصور كان في فرجها ) .

وفي المناقب / 487 : ( قال ابن بابويه : سم المعتصم محمد بن علي . وأولاده : علي الإمام ، وموسى ، وحكيمة ، وخديجة ، وأم كلثوم . وقال أبو عبد الله الحارثي : خلف فاطمة وأمامة فقط ، وقد كان زوجه المأمون ابنته ولم يكن له منها ولد .

وقال الطبري في دلائل الإمامة / 395 : ( وكان سبب وفاته أن أم الفضل بنت المأمون لما تَسَرَّى ورزقه الله الولد من غيرها انحرفت عنه وسَمَّتْهُ في عنب وكان تسعة عشر عنبة ، وكان يحب العنب ، فلما أكله بكت فقال لها : مِمَّ بكاؤك ! والله ليضربنك الله بفقر لاينجبر ، وببلاء لا ينستر ! فبليت بعده بعلة في أغمض المواضع ، أنفقت عليها جميع ملكها حتى احتاجت إلى رفد الناس . ويقال : إنها سمته بمنديل يمسح به عند الملامسة ، فلما أحس بذلك قال لها : أبلاك الله بداءٍ لا دواءَ له . فوقعت الأَكَلة في فرجها ، فكانت تنكشف للطبيب ينظرون إليها ، ويشيرون عليها بالدواء فلا ينفع ذلك شيئاً ، حتى ماتت في علتها ) .

وهكذا كانت بنت المأمون تبكي بعده وتصرخ ، وتمدح الجواد ( عليه السلام ) وتتحدث بمعجزاته ! ولا نظن أن ذلك كان توبة ويقظة ضمير منها ، بقدر ما هو شعور بالخسارة لزوجها ، بعد أن مات أبوها ، وأخذ عمها الخلافة وقتل أخاها ولي العهد ، وأخرجوا من قصور الخلافة .

لقد وجدت نفسها أرملة مريضة بمرض ينفر الأزواج منها ، ثم سمح لها عمها المعتصم بان تسكن في قصره ، لكن النساء تنفر منها !

فعاشت في عقدة مما صنعت بنفسها ، وعاشت ماتت في عذاب ، بما كسبت يدها !

( 19 ) جعفر بن المأمون شريك في قتل الإمام ( عليه السلام )

أولاد المأمون :

في جمهرة أنساب العرب / 24 : ( وَلَدَ المأمون أمير المؤمنين : محمد الأكبر ، والعباس ، قتله عمه المعتصم ، وأحمد ، وهارون الأكبر ، وعيسى ، وهارون الأصغر ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، وعلي ، والحسن ، والحسين ، وجعفر ، لأمهات أولاد ، ومحمد الأصغر ، وعبد الله ، أمهما أم عيسى بنت الهادي .

وبنات ، تزوج إحداهن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب ، ونقلها إلى المدينة ، واسمها أم الفضل ، وأخرى تزوجها الواثق ، وأخرى تزوجها المتوكَّل ) .

وفي المحَبَّر / 61 : ( محمد بن المعتصم ، كانت عنده عائشة بنت المأمون . والواثق هارون بن المعتصم تزوج أسماء بنت المأمون ولم يدخل بها . والمتوكل بن المعتصم كانت عنده نامية بنت المأمون فتوفيت عنده . وعبد الله بن منصور بن المهدي كانت عنده أمينة بنت المأمون . ومحمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، كانت عنده أم الفضل بنت المأمون ) .

وذكر في نهاية الأرب ( 22 / 241 ) أن المأمون كان له عشر بنات .

وفي تاريخ بغداد ( 10 / 187 ) : ( حدثنا أبو الفضل الربعي قال : لما ولد جعفر بن المأمون المعروف بابن بَخَّة ، دخل المهنئون على المأمون فهنوه . . . ) .

وفي الأغاني ( 20 / 388 ) قال اليزيدي : ( كنت عند جعفر بن المأمون مقيماً ، فلما أردت الانصراف منعني فبتُّ عنده ، وزارته لما أصبحنا عريب في جواريها وبتُّ ، فاحتبسها من غد ، فاستطبت المقام أيضاً فأقمت ، فكتب إليَّ عمي إبراهيم بن محمد اليزيدي : شردت يا هذا شرود البعير . وطالت الغيبة عند الأمير . . ) .

وفي الأغاني ( 14 / 395 ) عن ابن حمدون ، قال : ( كنا يوماً مجتمعين في منزل أبي عيسى بن المتوكَّل ، وقد عزمنا على الصبوح ومعنا جعفر بن المأمون ، وسليمان بن وهب وإبراهيم بن المدبر ، وحضرت عريب وشارية وجواريهما ، ونحن في أتم سرور فغنت بدعة جارية عريب . . . وغنَّت عرفان . . . وكان أهل الظَّرف والمتعانون في ذلك الوقت صنفين : عريبية وشاريَّة ، فمال كل حزب إلى من يتعصب له منهما من الاستحسان والطرب والاقتراح ) .

وكان جو المأمون وأولاده سيئاً ، وقد رووا الكثير عن ابنه جعفر كما رأيت ، ورووا عن بنته خديجة ( الأغاني : 16 / 279 ، والوافي : 13 / 184 ) عن مِلَح العطارة قالت : ( غنت شاريَّة يوماً بين يدي المتوكل ، وأنا واقفة مع الجواري :

باللَّه قولوا لي لمن ذا الرشا * المثقل الردف الهضيم الحشا

أظرف ما كان إذا ما صحا * وأملح الناس إذا ما انتشى

وقد بنى برج حمام له * أرسل فيه طائراً مرعشا

يا ليتني كنت حماماً له * أو باشقاً يفعل بي ما يشا

لو لبس القوهيَّ من رقة * أوجعه القوهيُّ أو خَدَّشَا

فطرب المتوكل وقال لشاريَّة : لمن هذا الغناء ؟ فقالت : أخذته من دار المأمون ولا أدري لمن هو . فقلت له أنا أعلم لمن هو . فقال : لمن هو يا ملح ؟ فقلت : أقوله لك سراً . قال : أنا في دار النساء ، وليس يحضرني إلا حرمي فقوليه . فقلت : الشعر والغناء جميعاً لخديجة بنت المأمون ، قالته في خادم لأبيها كانت تهواه ، وغنت فيه هذا اللحن ! فأطرق طويلاً ، ثم قال : لا يسمع هذا منك أحد ) !

أقول : في هذا الجو المتحلل كانت أم الفضل تعيش ، وتفضله على جو التُّقى والعبادة والطهر ، الذي يعيش فيه الإمام الجواد ( عليه السلام ) . وكان لها أخت مثلها في البيت ، لم تزف إلى زوجها .

قال ابن حبيب في المحبر / 61 : ( محمد بن المعتصم كانت عنده عائشة بنت المأمون . والواثق هارون بن المعتصم تزوج أسماء بنت المأمون ، ولم يدخل بها ) .

جعفر بن المأمون دفع أخته لقتل الإمام الجواد ( عليه السلام ) :

قال المسعودي في إثبات الوصية / 227 : ( وبويع للمعتصم أبي إسحاق محمد بن هارون في شعبان سنة ثماني عشرة ومائتين . فلما انصرف أبو جعفر ( عليه السلام ) إلى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبرون ويعملون الحيلة في قتله ، فقال جعفر لأخته أم الفضل وكانت لأمه وأبيه في ذلك ، لأنه وقف على انحرافها عنه وغيرتها عليه ، لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها مع شدة محبتها له ، ولأنها لم ترزق منه ولد ، فأجابت أخاها جعفراً ، وجعلوا سمُاً في شئ من عنب رازقي ، وكان يعجبه العنب الرازقي ، فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي ، فقال لها : ما بكاؤك ؟ والله ليضربنك الله بفقر لا ينجى وبلاء لا ينستر . فبليت بعلة في أغمض المواضع من جوارحها ، صارت ناسوراً ينتقض عليها في كل وقت ، فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلة حتى احتاجت إلى رفد الناس ، ويروى أن الناسور كان في فرجها . وتردى جعفر بن المأمون في بئر فأخرج ميتاً ، وكان سكراناً ) . ( موسوعة الإمام الجواد : 1 / 89 ) .

ولا يبعد أن يكون الإمام الجواد ( عليه السلام ) دعا على الفاسق الخمار جعفر بن المأمون ، كما دعا على أخته أم الفضل ، فوقع في بئر وهو سكران ، فأهلكه الله تعالى .

وقد كانت جريمة سُم الإمام ( عليه السلام ) من المعتصم ، بعد محاولتين معاديتين فاشلتين :

أولاهما : أنه اتهم الإمام الجواد ( عليه السلام ) بأنه يهيئ للثورة على العباسيين .

والثانية : حاول جرَّ الإمام ( عليه السلام ) إلى مجالس شرابهم وخمرهم لإسقاطه في أعين المسلمين ، خاصة من شيعته !

( 20 ) كان قاضي القضاة ابن أكثم يؤمن بالإمام الجواد ( عليه السلام )

فقد أعلن أنه يؤمن بالإمام الجواد ( عليه السلام ) وأنه من أهل بيت يعطيهم الله العلم من لدنه ، فلا يحتاجون إلى معلم . وكان يجلس بين يديه جلسة التلميذ المؤدب الذي يحترم أستاذه ، ويحب أن يتعلم منه !

كان ذلك والإمام الجواد ( عليه السلام ) ابن تسع سنين ، ويحيى بن أكثم قاضي قضاة الأمبراطورية الإسلامية ، وكبير علمائها ، وصاحب الكلام النافذ عند المأمون !

لكن إيمانه بالإمام ( عليه السلام ) كان كإيمان سيده المأمون نظرياً وليس عملياً ، إلا ما ندر !

وقد وصل إلى هذا الإيمان بعد أن اصطدم بالإمام ( عليه السلام ) ورأى منه ما أدهشه !

وقد تقدم أن المأمون لما أراد تزويج ابنته للجواد ( عليه السلام ) عارضه العباسيون ، ثم قبلوا أن يمتحنوه : ( وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم ، وهو يومئذ قاضي القضاة ، على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها ، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك ، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع ، فأجابهم إلى ذلك .

واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه ، وحضر معهم يحيى بن أكثم . . . فقال يحيى بن أكثم للمأمون : يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر ؟

فقال له المأمون : استأذنه في ذلك فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟ فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : سل إن شئت .

قال يحيى : ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً ؟

فقال له أبو جعفر : قتله في حل أو حرم ؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً ؟ قتله عمداً أو خطأ ؟ حراً كان المحرم أم عبداً ؟ صغيراً كان أم كبيراً ؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً ؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ من صغار الصيد كان أم كبارها ؟ مصراً على ما فعل أو نادماً ؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهاراً ؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً ؟ فتحير يحيى بن أكثم ، وبان في وجهه العجز ) !

وفي تحف العقول لابن شعبة الحراني / 454 : ( قال المأمون ليحيى بن أكثم : إطرح على أبي جعفر مسألة تقطعه فيها . فقال : يا أبا جعفر ، ما تقول في رجل نكح امرأة على زنا أيحل أن يتزوجها ؟ فقال ( عليه السلام ) : يدعها حتى يستبرئها من نطفته ونطفة غيره ، إذ لا يؤمن منها أن تكون قد أحدثت مع غيره حدثاً ، كما أحدثت معه . ثم يتزوج بها إن أراد ، فإنما مثلها مثل نخلة أكل رجل منها حراماً ، ثم اشتراها فأكل منها حلالاً . فانقطع يحيى .

فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : يا أبا محمد ، ما تقول في رجل حرمت عليه امرأة بالغداة وحلت له ارتفاع النهار ، وحرمت عليه نصف النهار ، ثم حلت له الظهر ، ثم حرمت عليه العصر ، ثم حلت له المغرب ، ثم حرمت عليه نصف الليل ، ثم حلت له الفجر ، ثم حرمت عليها ارتفاع النهار ، ثم حلت له نصف النهار ؟

فبقي يحيى والفقهاء بُلْساً خُرْساً ! ( أي مبهوتين ساكتين ) .

فقال المأمون : يا أبا جعفر أعزك الله بين لنا هذا . قال ( عليه السلام ) : هذا رجل نظر إلى مملوكة لا تحل له ، ثم اشتراها فحلت له . ثم أعتقها فحرمت عليه ، ثم تزوجها فحلت له ، فظاهرَ منها فحرمت عليه ، فكفر الظهار فحلت له ، ثم طلقها تطليقة فحرمت عليه ، ثم راجعها فحلت له ، فارتد عن الإسلام فحرمت عليه . فتاب ورجع إلى الإسلام فحلت له بالنكاح الأول ، كما أقر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نكاح زينب مع أبي العاص بن الربيع حيث أسلم ، على النكاح الأول ) !

هذا ، وستأتي ترجمة يحيى بن أكثم في الشخصيات التي عاصرها الإمام ( عليه السلام ) .

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي