المحكم والمتشابه في اللغة والاصطلاح
المؤلف:
الشيخ عارف هنديجاني فرد
المصدر:
علوم القرآن عند العلامة آية الله السّيّد محمد حسين الطّباطبائيّ (قده) «دراسة مقارنة»
الجزء والصفحة:
ص 274 - 278 .
13-11-2020
7085
يقول ابن منظور : «حكم» الله تعالى أحكم الحاكمين ، وهو الحكيم له الحُكمُ ، وهي من صفات الله تعالى : الحكم والحكيم والحاكم ، ومعاني هذه الأسماء متقاربة ، والله أعلم بما أراد بها ، وعلينا الإيمان بأنها من أسمائه . و«حكم» معناها الشيء الذي أحكم أصله ومنع منعاً «أُحكِمت آياته» ، بحيث لا يمكن نفوذ شيء إليه ، حتى يفصّله ، «ثم فصلّت» ، وفي الحديث صفة القرآن ، وهو الذكر الحكيم ، أو هو المحكم الذي لا اختلاف فيه ، وفي حديث ابن عباس : قرأت المحكم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يريد المفصّل من القرآن ، لأنه لم يُنسخ منه شيء . وقيل : هو ما لم يكُن متشابهاً ، لأنه أحكم بيانُهُ بنفسه ، ولم يفتقر لغيره ، والعرب تقول : حكمت وأحكمْت وحكّمت بمعنى منعت ورَدَدتُ . قال الأصمعي : أصل الحكومة رد الرجل عن الظلم ، ومنه سميت حكمة اللجام ، لأنها ترد الدابة . وكل هذه المعاني تفضي إلى الإتقان وتدل عليه . . . (1) .
أما المتشابه ، فهو من شبه ، فيقال ، الشِّبهُ والشَّبهُ والشبيهُ : المِثلُ ، والجمع أشباه ، وأشبه الشيء الشيء ماثلهُ . . . والمتشابهات من الأمور المشكلات ، والمتشابهات : المتماثلاتُ .
والشُّبهة : الإلتباس . وأمور مُشتبهةُ ومُشبِّهة : مشكلةُ يُشبهُ بعضُها بعضاً . . . وشبّه عليه : خلط عليه الأمر حتى اشتبه بغيره ، وفي التنزيل العزيز : ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ . قيل : معناه يشبه بعضها بعضاً . . . (2) .
وقال الراغب الأصفهاني : «الحقيقة هي في المماثلة من جهة الكيفية كاللون والطعم وكالعدالة والظلم ، والشُبهة هو أن لا يتميز أحد الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه عيناً أو معنى . قال وأتُوا به متشابهاً ، أي يشبه بعضه بعضاً لوناً لا طعماً وحقيقة ، وقيل متماثلاً في الكمال والجودة . . . والمتشابه في القرآن ما أُشكل تفسيره لمشابهته بغيره ، إما من حيث اللفظ ، أو من حيث المعنى ، فقال الفقهاء : المتشابه ما لا يُنبىء ظاهره عن مراده . . .» (3) .
إذاً المحكم ، ما لم يكن متشابهاً ، لأنه أحكم بنفسه ، ولم يفتقر لغيره والمتشابه هو ما اشتبه بعضه ببعض واحتاج إلى غيره لبيانه وتفسيره ، وقد فصّل القرآن معنى الإحكام دون تفصيل ، باعتبار أن الكتاب كله محكماً ، كما أوضح في المتشابه ، فقال الله تعالى : ﴿ مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ﴾ (4) ، هذا من حيث وصف الكتاب كل الكتاب . أما من حيث الآيات ، فجاء البعض محكماً ، والآخر متشابهاً ، كما قال الله تعالى : ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [آل عمران : 7] ، يقول الطباطبائي : «إنه تعالى وصف كتابه بأحكام الآيات ، لكن اشتمال الآية ، ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ . على ذكر التفصيل بعد الإحكام دليل على أن المراد بالإحكام حال من الحالات التي كان عليها الكتاب قبل النزول ، وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزؤ والتبعض بعد بتكثر آياته ، فهو إتقان قبل وجود التكثر ، بخلاف وصف الإحكام والإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد . . .» (5) .
لقد أكثر أهل اللغة من استعمال الأحاديث في التدليل على المحكم والمتشابه ، ولعل أكثرهم اجتهد في ذلك من خارج دلالة النصوص ، يقول ابن منظور : «وفي الحديث عن صفة القرآن : آمنوا بمتشابهه ، واعملوا بمحكمه ، المتشابه : ما لم يُتلقَّ معناه من لفظه ، وهو على ضربين : أحدهما إذا رد إلى المحكم عُرف معناه ، والآخر ما لا سبيل إلى معرفته . فالمتتبع له مبتغ للفتنة ، لأنه لا يكاد ينتهي إلى شيء تسكن نفسه إليه» (6) . وهكذا ، فعل الراغب أيضاً في مفرداته ، إذ هو قسّم الآيات إلى محكم على الإطلاق ، ومتشابه على الإطلاق ، ومحكم من وجه متشابه من وجه (7) .
ولا شك في أن أهل اللغة أيضاً قد خلطوا بين اللغة والإصطلاح ، وأفردوا بحوثاً في معنى المحكم والمتشابه ، لا ليستدلوا على المراد اللغوي ، وإنما للإفادة في مجال التأويل والتفسير ، كما فعل الراغب وابن منظور وغيرهم ، في حين أن الآية القرآنية محكمة ، وترشد إلى أن المحكم والمتشابه يفسّر بعضه بعضاً ، فلا يبقى اشتباه في التمييز ، كما قال الراغب ، ولا يكون متشابه لا سبيل إليه كما ذهب ابن منظور ، لأن «أم الكتاب» كفيلةٌ بأن لا يبقى متشابهاً فيما لو لم يرد ابتغاء التأويل ابتغاء الفتنة . فإذا ما رد المتشابه إلى المحكم ، فتصير المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة ، والآية المحكمة محكمة بنفسها ، وكما يقول الطباطبائي : «إن هذا ما يتحصّل من معنى المحكم والمتشابه ، ويتلقاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ ، فإن الآية محكمة بلا شك ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابهاً» (8) .
كما بين أهل اللغة أيضاً أن التشابه إنما هو تماثل وتوافق أشياء مختلفة واتحادها في بعض الأوصاف ، كما قال ابن منظور : وأشبه الشيء بالشيء ماثله ، وهذا ما وصف الله تعالى به كتابه ، بقوله تعالى : ﴿ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ﴾ ، فيكون المؤدى ، هو أن التماثل له اعتبار في سياق الكتاب كله ، أما من حيث هو متشابه مع غيره ، فذلك ما تقابل مع الإحكام ، فيكون المحكم هو المعبر عنه ، فلما كل هذه الضروب التي عرض لها الراغب في مفرداته (9) ؟ طالما أن المحكم والمتشابه يجري على القرآن بأكمله بخلاف المعنى الإصطلاحي المتداول بين المتكلمين والمفسرين ، الذين يفصلون بين الآيات ، ويجعلون للمتشابه منها تأويلاً خاصاً ، في حين أن لهذه الآيات مرجعاً ترجع إليه وتستبين من خلاله ، ولعلّ ما ذكره ابن منظور معبراً عن هذا المعنى فيما رواه عن الضحاك أنه قال : المحكمات ما لم يُنسخ ، والمتشابهات ما قد نسخ (10) ، وهذا يكشف ، كما سنبين لاحقاً ، كيف أن كثيراً من المفسرين قد فصلوا بين المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، رغم أن الآيات القرآنية لا تتحدث عن هذا الانفصال ، وإنما تتحدث عن آيات هي أم آيات أُخر ، وبالرجوع إليها يعود القرآن كله محكماً ، كما يرى الطباطبائي (11) .
وعموماً يمكن القول : إن معنى المحكم والمتشابه في اللغة والإصطلاح متداخل إلى حد أن أهل اللغة قد استفادوا من الآيات القرآنية فيما أسّسوا له من مفردات مبيّنة ، كما هو الحال في لسان العرب ، فقالوا : «وأما قوله تعالى : ﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ ، فإن أهل اللغة قالوا معنى متشابهاً يشبه بعضُه بعضاً في الجَودة والحُسن ، وقال المفسرون : متشابهاً يُشبه بعضه بعضاً في الصورة ، ويختلف في الطعم ، ودليل المفسرين قوله تعالى : ﴿ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ﴾ ، لأن صورته الصورة الأُولى ، ولكنّ اختلاف الطعم مع اتفاق الصورة أبلغ وأغرب عند الخلق ، لو رأيت تفاحاً فيه طعم كل الفاكهة لكان نهاية في العجب . . .» (12) .
إذن ، ليس هناك كبير فرق فيما اصطلح عليه في المحكم والمتشابه ، فالأول أُحكمت آياته من جهة إتقانه قبل تفصيله في أم الكتاب ، ثم أحكمت على نحو التفصيل في عالم التنزيل ، فكانت بإزاء آيات أخر متشابهات وممتنعة عن التشابه في المراد ، وكذلك الحال في ما هو متشابه مثاني متماثل في آياته من حيث البلاغة والإعجاز والنظم وغير ذلك مما يمنع من المفاضلة بين أجزائه ، ولكن بعض آياته قد تشابه في المراد منه فترجع إلى أم الكتاب لتكون محكمة ، ولعله هذا هو سر المقابلة في قوله تعالى : ﴿ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ ، أن يكون الإحكام غاية المراد ، بحيث يشهد الكتاب بعضه على بعض ، ويُفسر بعضه بعضاً ، وقد بين ابن منظور في لسان العرب هذا المعنى في الآيات التي نزلت في ذكر يوم القيامة ، فقال : «فهذا الذي تشابه عليهم ، فأعلمهم الله الوجه الذي ينبغي أن يستدلوا به على أن هذا المتشابه عليهم كالظاهر لو تدبّروه ، قال الله تعالى : ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس : 78-79] ، أي إذا كنتم أقررتم بالإنشاء والإبتداء فلما تنكرون البعث والنشور . . .؟ » (13) .
_____________________________________
- ابن منظور ، لسان العرب ، م .س ، ج2 ، مادة «حكم» ، ص952 .
- م .ع ، ج4 ، مادة : «شبه» ، ص2190 .
- الراغب الأصفهاني ، معجم مفردات ألفاظ القرآن ، م .س ، ص260 .
- سمي القرآن «مثاني» لأنه تثنى فيه القصص والأخبار والمواعظ والأحكام ، ويثنى أيضاً في التلاوة فلا يمل لحسن مسموعه .
- الطباطبائي ، الميزان ، م .س ، ج3 ، ص22 ـ 23 .
- ابن منظور ، لسان العرب ، م .س ، ج4 ، ص2190 .
- الراغب الأصفهاني ، المعجم ، م .س ، ص261 .
- الطباطبائي ، الميزان ، م .س ، ج4 ، ص24 .
- لقد عرض الراغب لضروب من المحكم والمتشابه ، وهي : المتشابه في الجملة ثلاثة أضرب : متشابه من جهة اللفظ ومتشابه من جهة المعنى فقط ، ومتشابه من جهتهما . والمتشابه من جهة اللفظ ضربان : أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة ، وذلك إما من جهة غرابته نحو الأبِّ وَيَزفُّون ، وإما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين ، والثاني : يرجعُ إلى جُملة الكلام المركب ، وذلك ثلاثة أضرب ، ضرب لاختصار الكلام ، نحو : ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ ﴾ ، وضرب لبسط الكلام ، نحو : ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ ، لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع ، وضرب لنظم الكلام ، نحو : ﴿ . . . . أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَاً (1) قَيِّماً ﴾ تقديره ، الكتاب قيّماً ولم يجعل له عوجاً . . . والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعاً خمسة أضرب ، من جهة الكميّة كالعموم والخصوص نحو : ﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ، والثاني من جهة الكيفيّة ، كالوجوب والندب ، والثالث من جهة الزمان ، كالناسخ والمنسوخ ، والرابع من جهة المكان ، نحو : ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ﴾ ، والخامس من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلاة . . . وهذه الجملة إذا تصورت عُلِم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم . . . را : المعجم ، م .س ، ص261 .
- ابن منظور ، لسان العرب ، م .س ، ج4 ، ص2190 .
- الطباطبائي ، الميزان ، م .س ، ج4 ، ص23 .
- ابن منظور ، لسان العرب ، م .ع ، ص .ن .
- ابن منظور ، لسان العرب ، م .س ، ص .ن .
الاكثر قراءة في المحكم والمتشابه
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة