تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
تفسير آية (142-145) من سورة الأعراف
المؤلف: المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
المصدر: تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة: ......
20-6-2019
6129
قال تعالى : {وواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وقالَ مُوسى لأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأَصْلِحْ ولا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) ولَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ولكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وكَتَبْنا لَهُ فِي الأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ} [الأعراف : 142-145] .
قال تعالى : {وواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وقالَ مُوسى لأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأَصْلِحْ ولا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف : 142] .
ثم بين سبحانه تمام نعمته على بني إسرائيل ، فقال : {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} ولم يقل أربعين ليلة ، كما قاله في سورة البقرة ، لفائدة زائدة ذكر فيها وجوه أحدها : إن العدة كانت ذا القعدة ، وعشر ذي الحجة ، ولو قال أربعين ليلة ، لم يعلم أنه كان الابتداء أول الشهر ، ولا أن الأيام كانت متوالية ، ولا أن الشهر شهر بعينه ، قاله الفراء ، وهو معنى قول مجاهد ، وابن عباس ، وابن جريج ، ومسروق ، وأكثر المفسرين وثانيها : إنه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة ، ليصوم فيها ، ويتقرب بالعبادة ، ثم أتمت بعشر إلى وقت المناجاة .
وقيل : هي العشر التي نزلت التوراة فيها ، ولذلك أفردت بالذكر وثالثها : إن موسى عليه السلام قال لقومه : إني أتأخر عنكم ثلاثين يوما ، ليتسهل عليهم ، ثم زاد عليهم عشرا ، وليس في ذلك خلف ، لأنه إذا تأخر عنهم أربعين ليلة ، فقد تأخر ثلاثين ليلة قبلها ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام ، وقريب منه ما روي عن الحسن أن الموعد كان أربعين ليلة في الأصل ، فأجمل هناك ، وفصل ههنا على وجه التأكيد .
{فتم ميقات ربه أربعين ليلة} إنما قال هذا مع أن ما تقدمه دل على هذه العدة ، للبيان والتفصيل الذي تسميه الكتاب الفذلكة ، ولو لم يذكره لجاز أن يتوهم أنه أتم الثلاثين بعشر منها على معنى كملنا الثلاثين بعشر ، حتى كملت ثلاثين ، كما يقال : كملت العشرة بدرهمين . وقد مر معنى المواعدة والوعد في سورة البقرة ، وقلنا إن أربعين هنا منصوب على الحال ، وتقديره معدودة أربعين ليلة .
{وقال موسى} وقت خروجه إلى الميقات {لأخيه هارون أخلفني} أي : كن خليفتي {في قومي وأصلح} فيما بينهم ، واجر على طريقتك في الصلاح . وقيل :
معناه وأصلح فاسدهم في حال غيبتي . وقيل : أصلحهم أي : احملهم على الطاعة {ولا تتبع سبيل المفسدين} أي : لا تسلك طريقة العاصين ، ولا تكن عونا للظالمين ، وإنما أراد بذلك إصلاح قومه ، وإن كان المخاطب . به أخاه ، وإنما أمر موسى عليه السلام أخاه هارون بأن يخلفه ، وينوب عنه ، في قومه ، مع أن هارون كان نبيا مرسلا ، لأن الرئاسة كانت لموسى عليه السلام عليه ، وعلى أمته ، ولم يكن يجوز أن يقول هارون لموسى مثل ذلك . وفي هذا دلالة على أن منزلة الإمامة ، منفصلة من النبوة ، وغير داخلة فيها ، وإنما اجتمع الأمر ان لأنبياء مخصوصين ، لأن هارون لو كان له القيام بأمر الأمة ، من حيث كان نبيا ، لما احتاج فيه إلى استخلاف موسى إياه ، وإقامته مقامه .
± {ولَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ولكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 143] .
ثم ذكر سبحانه حديث الميقات ، فقال : {ولما جاء موسى لميقاتنا} معناه : ولما انتهى موسى إلى المكان الذي وقتناه له ، وأمرناه بالمصير إليه ، لنكلمه ، وننزل عليه التوراة . ويمكن أن يكون المراد بالميقات : الزمان الذي وقته الله تعالى له ، أن يأتي ذلك المكان فيه ، فإن لفظ الميقات كما يقع على الزمان ، يقع على المكان ، كمواقيت الإحرام ، فإنها للأمكنة التي لا يجوز مجاوزتها لأهل الآفاق ، إلا وهم محرمون .
{وكلمه ربه} من غير سفير أو وحي ، كما كان يكلم الأنبياء على ألسنة الملائكة ، ولم يذكر من أي موضع أسمعه كلامه ، وذكر في موضع آخر أنه أسمعه كلامه من الشجرة ، فجعل الشجرة محلا للكلام ، لأن الكلام عرض لا يقوم الا بجسم . وقيل : إنه في هذا الموضع أسمعه كلامه من الغمام {قال رب أرني أنظر إليك} أي : أرني نفسك أنظر إليك ، اختلف العلماء في وجه مسألته عليه السلام الرؤية ، مع علمه بأنه سبحانه لا يدرك بالحواس ، على أقوال : أحدها : ما قاله الجمهور ، وهو الأقوى : إنه لم يسأل الرؤية لنفسه ، وإنما سألها لقومه ، حين قالوا له : {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} ولذلك قال عليه السلام لما أخذتهم الرجفة : {تهلكنا بما فعل السفهاء منا} فأضاف ذلك إلى السفهاء .
ويسأل على هذا فيقال : لو جاز أن يسأل الرؤية لقومه مع علمه باستحالة الرؤية عليه تعالى ، لجاز أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه من كونه جسما ، وما أشبه ذلك ، متى شكوا فيه ؟ والجواب : إنما صح السؤال في الرؤية ، لأن الشك في جواز الرؤية التي تقتضي كونه جسما ، يمكن معه معرفة السمع ، وانه سبحانه حكيم صادق في اخباره ، فيصح أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكوا في صحته ، وجوازه ، ومع الشك في كونه جسما لا يصح معرفة السمع من حيث إن الجسم لا يجوز أن يكون غنيا ، ولا عالما بجميع المعلومات ، لا بد في العلم بصحة السمع من ذلك ، فلا يقع بجوابه انتفاع ولا علم .
وقال بعض العلماء : إنه كان يجوز أن يسأل موسى لقومه ما يعلم استحالته أيضا ، وإن كان دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متى كان في المعلوم أن في ذلك صلاحا للمكلفين في دينهم ، غير أنه شرط أن يبين النبي في مسألته ذلك علمه باستحالة ما سأل عنه ، وأن غرضه في السؤال ورود الجواب ، ليكون لطفا وثانيها :
إنه عليه السلام لم يسأل الرؤية بالبصر ، ولكن سأله أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة التي تضطره إلى المعرفة ، فتزول عنه الدواعي والشكوك ، ويستغني عن الاستدلال ، فخفف المحنة عليه بذلك ، كما سأل إبراهيم عليه السلام : {رب أرني كيف تحيي الموتى} طلبا لتخفيف المحنة ، وقد كان عرف ذلك بالاستدلال . والسؤال وإن وقع بلفظ الرؤية ، فإن الرؤية تفيد العلم ، كما يفيد العلم الإدراك بالبصر ، فبين الله سبحانه له أن ذلك لا يكون في الدنيا ، عن أبي القاسم البلخي وثالثها : إنه سأله الرؤية بالبصر على غير وجه التشبيه عن الحسن ، والربيع ، والسدي ، وذلك لأن معرفة التوحيد تصح مع الجهل بمسألة الرؤية ، ومعرفة السمع تصح أيضا معه ، وهذا ضعيف ، لأن الأمر ، وإن كان على ما ذكروه ، فإن الأنبياء لا يجوز أن يخفى عليهم مثل هذا ، مع جلالة رتبتهم ، وعلو درجتهم .
{قال لن تراني} : هذا جواب من الله تعالى ، ومعناه : لا تراني أبدا ، لأن {لن} ينفي على وجه التأبيد ، كما قال : {ولن يتمنوه أبدا} وقال : {لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} علق رؤيته باستقرار الجبل الذي علمنا أنه لم يستقر ، وهذه طريقة معروفة في استبعاد الشئ ، لأنهم يعلقونه مما يعلم أنه لا يكون ، ومتى قيل : إنه لو كان الغرض بذلك التبعيد ، لعلقه سبحانه بأمر يستحيل ، كما علق دخول الجنة بأمر مستحيل ، ومن ولوج الجمل في سم الخياط؟ فجوابه : إنه سبحانه علق جواز الرؤية باستقرار الجبل في تلك الحال التي جعله فيها دكا ، وذلك مستحيل لما فيه من اجتماع الضدين .
{فلما تجلى ربه للجبل} أي : ظهر أمر ربه لأهل الجبل ، فحذف ، والمعنى أنه سبحانه أظهر من الآيات ما استدل به من كان عند الجبل ، على أن رؤيته غير جائزة . وقيل : معناه ظهر ربه بآياته التي أحدثها في الجبل لأهل الجبل ، كما يقال : {الحمد لله الذي تجلى لنا بقدرته} ، فكل آية يجددها الله سبحانه ، فكأنه يتجلى للعباد بها ، فلما أظهر الآية العجيبة في الجبل ، صار كأنه ظهر لأهله . وقيل : إن تجلى بمعنى جلى ، كقولهم حدث وتحدث ، وتقديره : جلى ربه أمره للجبل ، أي : أبرز في ملكوته للجبل ما تدكك به ، ويؤيده ما جاء في الخبر : {إن الله تعالى أبرز من العرش مقدار الخنصر ، فتدكدك به الجبل} . وقال ابن عباس : معناه ظهر نور ربه للجبل ، وقال الحسن : لما ظهر وحي ربه للجبل {جعله دكا} أي : مستويا بالأرض . وقيل : ترابا ، عن ابن عباس . وقيل : ساخ في الأرض حتى فني عن الحسن . وقيل : تقطع أربع قطع : قطعة ذهبت نحو المشرق ، وقطعة ذهبت نحو المغرب ، وقطعة سقطت في البحر ، وقطعة صارت رملا . وقيل : صار الجبل ستة أجبل ، وقعت ثلاثة بالمدينة ، وثلاثة بمكة ، فالتي بالمدينة : أحد ، وورقان ، ورضوى . والتي بمكة : ثور ، وثبير ، وحراء ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
{وخر موسى صعقا} أي : سقط مغشيا عليه ، عن ابن عباس ، والحسن ، وابن زيد ، ولم يمت بدلالة قوله : {فلما أفاق} ولا يقال أفاق الميت ، وإنما (2) عاش أو حيي . وأما السبعون الذين كانوا معه فقد ماتوا كلهم ، لقوله : {ثم بعثناكم من بعد موتكم} وروي عن ابن عباس أنه قال : أخذته الغشية عشية الخميس يوم عرفة ، وأفاق عشية يوم الجمعة ، وفيه نزلت عليه التوراة . وقيل : معناه خر ميتا ، عن قتادة .
{فلما أفاق} من صعقته ، ورجع إليه عقله {قال سبحانك} أي : تنزيها لك عن أن يجوز عليك ما لا يليق بك . وقيل : تنزيها لك من أن تأخذني بما فعل السفهاء من سؤال الرؤية {تبت إليك} من التقدم في المسألة قبل الإذن فيها ، وقيل : إنه قاله على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه كما يذكر التسبيح ، والتهليل ، ونحو ذلك من الألفاظ عند ظهور الأمور الجليلة .
{وأنا أول المؤمنين} بأنه لا يراك أحد من خلقك ، عن ابن عباس ، والحسن ، وروي مثله عن أبي عبد الله عليه السلام قال : معناه أنا أول من آمن وصدق ، بأنك لا ترى . وقيل : معناه أنا أول المؤمنين من قومي باستعظام سؤال الرؤية ، عن الجبائي . وقيل : أول المؤمنين بك من بني إسرائيل ، عن مجاهد ، والسدي .
± {قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وكَتَبْنا لَهُ فِي الأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ} [الأعراف : 144-145] .
ثم أخبر سبحانه عن عظيم نعمته على موسى بالاصطفاء ، وإجلال القدر ، وأمره إياه بالشكر بقوله {قال} أي : قال الله سبحانه {يا موسى إني اصطفيتك} أي : اخترتك واتخذتك صفوة ، وفضلتك على الناس {برسالاتي} من غير كلام {وبكلامي} من غير رسالة ، وخص الناس لأنه كلم الملائكة ، ولم يكلم أحدا من الناس بلا واسطة ، سوى موسى عليه السلام . وقيل : إنه سبحانه كلم موسى على الطور ، وكلم نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عند سدرة المنتهى .
{فخذ ما آتيتك} أي : تناول ما أعطيتك من التوراة ، وتمسك بما أمرتك {وكن من الشاكرين} أي : من المعترفين بنعمتي ، القائمين بشكرها على حسب مرتبتها ، فكلما كانت النعمة أعظم وأجل ، وجب أن تقابل من الشكر بما يكون أتم وأكمل . والوجه في تشريف موسى عليه السلام بالإختصاص بالكلام أن ذلك نعمة عظيمة ومنة جسيمة ، منه تعالى عليه ، لأنه كلمه ، وعلمه الحكمة ، من غير واسطة بينه وبينه ، ومن أخذ العلم من العالم المعظم ، كان أجل رتبة ممن أخذه ممن هو دونه .
{وكتبنا له} يعني لموسى عليه السلام ، {في الألواح} يريد : ألواح التوراة ، عن ابن عباس . وقيل : كانت من خشب نزلت من السماء ، عن الحسن . وقيل : كانت من زمرد ، وطولها عشرة أذرع ، عن ابن جريج . وقيل : كانت من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء (3) ، عن الكلبي . وقيل : إنهما كانا لوحين . قال الزجاج : ويجوز في اللغة أن يقال للوحين ألواح ، ويجوز أن يكون ألواح ، ويجوز أن يكون ألواحا جمع أكثر من اثنين .
{من كل شيء} قال الزجاج : أعلم الله سبحانه أنه أعطاه من كل شئ يحتاج إليه من أمر الدين ، مع ما أراه من الآيات {موعظة} هذا تفسير لقوله {كل شئ} ، وبيان لبعض ما دخل تحته {وتفصيلا لكل شيء} يحتاج إليه في الدين من الأوامر والنواهي ، والحلال والحرام ، وذكر الجنة والنار ، وغير ذلك من العبر والأخبار ، وتفصيلا أيضا تفسير لقوله : {كل شيء} .
{فخذها بقوة} أي : بجد واجتهاد . وقيل : بصحة عزيمة ، وقوة قلب {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} أي : بما فيها من أحسن المحاسن ، وهي الفرائض والنوافل ، فإنها أحسن من المباحات . وقيل : معناه يأخذ بالناسخ دون المنسوخ ، عن الجبائي ، وهذا ضعيف لأن المنسوخ قد خرج من أن يكون حسنا . وقيل : إن المراد بالأحسن الحسن ، وكلها حسن ، كقوله سبحانه : {وهو أهون عليك} ، وكقوله : {ولذكر الله أكبر} ، عن قطرب .
{سأريكم دار الفاسقين} يعني سأريكم جهنم ، عن الحسن ، ومجاهد ، والجبائي . والمراد فليكن منكم على ذكر لتحذروا أن تكونوا منهم ، وهذا تهديد لمن خالف أمر الله . وقيل : يريد ديار فرعون بمصر عن عطية العوفي . وقيل : معناه سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية ، ممن خالفوا أمر الله ، لتعتبروا بها ، عن قتادة . وفي تفسير علي بن إبراهيم : (إن معناه : يجيئكم قوم فساق ، يكون الدولة لهم) .
_______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 349-355 .
2 . (يقال) .
3 . وفي بعض النسخ (أو ياقوتة حمراء) .
{وواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} .
طلب موسى (عليه السلام) من ربه أن ينزل عليه كتابا يهدي الناس به إلى ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ، فوعده سبحانه أن ينزل عليه الكتاب بعد ثلاثين ليلة ، ويستمر إنزاله عشر ليال ، فيكون المجموع من أمد الوعد وأمد الانزال أربعين ليلة ، فصّلها هنا ، وأجملها في الآية 51 من سورة البقرة ، حيث قال : {وإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} . {وقالَ مُوسى لأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأَصْلِحْ ولا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} .
لما ذهب موسى (عليه السلام) استخلف أخاه هارون على بني إسرائيل ، ونصحه أن يقوم على شؤونهم ويصلح أمورهم ، وحذره من طبيعتهم التي هي إلى الفساد أميل ، فبالأمس القريب اشرأبت نفوسهم إلى عبادة الأوثان ، وقال لهم موسى : انكم قوم تجهلون كما سبق في الآية 138 . فتقبل هارون النصيحة عن طيب خاطر ، كما يتقبلها المرؤس المخلص من رئيسه الناصح الأمين .
{ولَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا} الذي وقّته سبحانه لاعطاء التوراة {وكَلَّمَهُ رَبُّهُ} من وراء حجاب : {وما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى - 51] {قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} . قال بعض العلماء : ان موسى لم يسأل رؤية اللَّه من أجل نفسه ، وإنما سألها من أجل قومه .
وهذا القول يتنافى مع قول موسى : {سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} . ومهما يكن ، فان موسى قد طلب الرؤية ، سواء أكان من أجله أم من أجلهم . . ونحن لا نرى أي بأس في هذا الطلب ، فان نفس الإنسان تتشوف إلى ما يكون وإلى ما لا يكون ، بخاصة إلى الرؤية التي تزيد النفس اطمئنانا وتأكيدا ، وقد طلب إبراهيم ( عليه السلام ) ما يشبه ذلك : {وإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَولَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة - 260] .
{قالَ لَنْ تَرانِي} . لأن رؤية اللَّه بالبصر محال ، وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 51 من سورة البقرة ج 1 ص 102 فقرة رؤية اللَّه {ولكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي} . تلفت موسى إلى الجبل ليرى اللَّه فإذا به قد غار في الأرض ، ولم يبق له عين ولا أثر . وقد أراد اللَّه بهذا أن يفهم موسى ( عليه السلام ) ان رؤية اللَّه ممتنعة عليه وعلى غيره . . علق سبحانه إمكان رؤيته على استقرار الجبل ، والمفروض انه لم يستقر ، إذن ، فالرؤية ممتنعة وغير ممكنة . . وهذا الأسلوب من باب افعل هذا إذا شاب الغراب ، وإذا دخل الجمل في سم الخياط .
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} . أي فلما ظهر أمر ربه ، تماما كقوله تعالى : {وجاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} أي جاء أمر ربك {وخَرَّ مُوسى صَعِقاً} . غاب عن وعيه لهول المفاجأة ، فلطف اللَّه به وشمله برحمته ، فأفاق من غشيته {فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} من سؤالي رؤيتك {وأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بأنك أعظم من أن ترى بالعيان . وليس المراد انه أول المسلمين بحسب الزمان ، وإنما المراد الثبات والتأكيد على الإسلام .
{قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . بعد أن تضرع موسى ( عليه السلام ) إلى خالقه ذكّره اللَّه بنعمه وأعظمها النبوة والتكليم ، والمراد بالناس ناس زمانه بدليل قوله : {بِرِسالاتِي} فان اللَّه قد اختار رسلا كثيرين قبل موسى وبعده ، أما تخصيصه بالتكليم فلا دلالة فيه على الأفضلية ، وان دل على الفضل ، فان إرسال الروح الأمين إلى خاتم الرسل وسيد النبيين هو أعلى المراتب وأفضلها على الإطلاق .
{وكَتَبْنا لَهُ فِي الأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . المراد بالألواح التوراة لأنها هي التي أنزلها على موسى ، وفيها الموعظة وتفصيل الأحكام .
وكل شيء لفظ عام ، والمراد به خاص ، وهو ما يتعلق بموضوع الرسالة من المواعظ والحكم ، وأصول العقيدة كالإيمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر ، والأحكام الشرعية كالحلال والحرام ، فقوله : {مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا} هو بيان وتفسير لقوله : {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} لأن المراد بالتفصيل بيان الأحكام الشرعية . {فَخُذْها بِقُوَّةٍ} أي حافظ على التوراة ، واعمل بها بنية صادقة .
{وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها} . كل ما أنزل اللَّه في كتابه فهو حسن ، ولكن منه الأحسن ، قال تعالى : {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ} - ثم قال – {وأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهً يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} - 194 البقرة . وقال : {والْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة - 45] . أي من تصدق بالقصاص .
{سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ} . أي على الفاسق والباغي تدور الدوائر . هذا ما فهمته من هذه الجملة قبل أن أرجع إلى التفاسير ، وبعد الرجوع إليها وجدت أقوالا في تفسيرها ، ومنها ان اللَّه سيريهم دار فرعون وقومه بعد إهلاكهم .
ومنها انه سيريهم أرض الشام التي كانت في ذاك الزمان بقبضة الوثنيين .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 390-392 .
قوله تعالى : {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف : 141] إلى آخر الآية .
سامه العذاب يسومه أي حمله ذلك على طريق الإذلال ، والتقتيل الإكثار في القتل والاستحياء الاستبقاء للخدمة وقد تقدم ، والظاهر أن قوله : {وَفِي ذَلِكُمْ} إشارة إلى ما ذكر من سوء تعذيب آل فرعون لهم .
والآية خطاب امتناني للموجودين من أخلافهم حين النزول يمتن الله فيها عليهم بما من به على آبائهم في زمن فرعون كما قيل ، والأنسب بالسياق أن يكون خطابا لأصحاب موسى بعينهم مسوقا سوق التعجب إذا نسوا عظيم نعمة الله عليهم إذ أنجاهم من تلك البلية العظيمة ، ونظيره في الغيبة قوله تعالى فيما سيأتي : {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف : 148] .
قوله تعالى : {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف : 142] إلى آخر الآية .
الميقات قريب المعنى من الوقت ، قال في المجمع ، الفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الأعمال ، والوقت وقت الشيء وقدره ، ولذلك قيل : مواقيت الحج وهي المواضع التي قدرت للإحرام فيها .
وقد ذكر الله سبحانه المواعدة وأخذ أصلها ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ليال أخر ثم ذكر الفذلكة وهي أربعون ، وأما الذي ذكره في موضع آخر إذ قال : {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة : 51] فهو المجموع المتحصل من المواعدتين أعني أن آية البقرة تدل على أن مجموع الأربعين كان عن مواعدة ، وآية الأعراف على أن ما في آية البقرة مجموع المواعدتين .
وبالجملة يعود المعنى إلى أنه تعالى وعده ثلاثين ليلة للتقريب والتكليم ثم وعده عشرا آخر لإتمام ذلك فتم ميقات ربه أربعين ليلة ، ولعله ذكر الليالي دون الأيام - مع أن موسى مكث في الطور الأربعين بأيامها ولياليها ، والمتعارف في ذكر المواقيت والأزمنة ذكر الأيام دون الليالي - لأن الميقات كان للتقرب إلى الله سبحانه ومناجاته وذكره ، وذلك أخص بالليل وأنسب لما فيه من اجتماع الحواس عن التفرق وزيادة تهيؤ النفس للأنس وقد كان من بركات هذا الميقات نزول التوراة .
وهذا كما يشير إلى مثله قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا - الى أن قال - إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل : 1 - 7] ، وقوله تعالى : {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف : 142] إنما قاله حين ما كان يفارقهم للميقات ، والدليل على ذلك قوله : ﴿ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾ فإن الاستخلاف لا يكون إلا في غيبة .
وإنما عبر بلفظ ﴿قومي﴾ دون بني إسرائيل لتجري القصة على سياق سائر القصص المذكورة في هذه السورة فقد حكي فيها عن لفظ نوح وهود وصالح وغيرهم : يا قوم يا قوم ، وعلى ذلك أجريت هذه القصة فعبر فيها عن بني إسرائيل في بضعة مواضع بلفظ القوم ، وقد عبر عنهم في سورة طه ببني إسرائيل .
وأما قوله لأخيه ثانيا : {وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف : 142] فهو أمر له بالإصلاح وأن لا يتبع سبيل أهل الفساد ، وهارون نبي مرسل معصوم لا تصدر عنه المعصية ، ولا يتأتى منه اتباع أهل الفساد في دينهم ، وموسى (عليه السلام) أعلم بحال أخيه فليس مراده نهيه عن الكفر والمعصية بل أن لا يتبع في إدارة أمور قومه ما يشير إليه ويستصوبه المفسدون من القوم أيام خلافته ما دام موسى غائبا .
ومن الدليل عليه قوله : ﴿وأصلح﴾ فإنه يدل على أن المراد بقوله : {وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف : 142] أن يصلح أمرهم ولا يسير فيهم سيرة هي سبيل المفسدين الذي يستحسنونه ويشيرون إليه بذلك .
ومن هنا يتأيد أنه كان في قومه يومئذ جمع من المفسدين يفسدون ويقلبون عليه الأمور ويتربصون به الدوائر فنهى موسى أخاه أن يتبع سبيلهم فيشوشوا عليه الأمر ويكيدوا ويمكروا به فيتفرق جمع بني إسرائيل ويتشتت شملهم بعد تلك المحن والأذايا التي كابدها في إحياء كلمة الاتحاد بينهم .
قوله تعالى : {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف : 143] الآية التجلي مطاوعة التجلية من الجلاء بمعنى الظهور ، والدك هو أشد الدق ، وجعله دكا أي مدكوكا والخرور هو السقوط ، والصعقة هي الموت أو الغشية بجمود الحواس وبطلان إدراكها ، والإفاقة الرجوع إلى حال سلامة العقل والحواس يقال : أفاق من غشيته أي رجع إلى حال استقامة الشعور والإدراك .
ومعنى الآية على ما يستفاد من ظاهر نظمها أنه {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} الذي وقتناه له ﴿وكلمه ربه﴾ بكلامه ﴿قال﴾ أي موسى ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ أي أرني نفسك أنظر إليك أي مكني من النظر إليك حتى أنظر إليك وأراك فإن الرؤية فرع النظر ، والنظر فرع التمكين من الرؤية والتمكن منها ، ﴿قال﴾ الله تعالى لموسى ﴿لن تراني﴾ أبدا ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ وكان جبلا بحياله مشهودا له أشير إليه بلام العهد الحضوري {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف : 143] أي لن تطيق رؤيتي فانظر إلى الجبل فإني أظهر له فإن استقر مكانه وأطاق رؤيتي فاعلم أنك تطيق النظر إلي ورؤيتي ﴿فلما تجلى﴾ وظهر {رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ} بتجليه ﴿دكا﴾ مدكوكا متلاشيا في الجو أو سائحا ﴿وخر موسى صعقا﴾ ميتا أو مغشيا عليه من هول ما رأى {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف : 143] رجعت إليك مما اقترحته عليك ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بأنك لا ترى .
هذا ظاهر ألفاظ الآية .
والذي يعطيه التدبر فيها أن حديث الرؤية والنظر الذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامي المتعارف حمله على رؤية العين ونظر الأبصار ، ولا نشك ولن نشك أن الرؤية والإبصار يحتاج إلى عمل طبيعي في جهاز الأبصار يهيىء للباصر صورة مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله ولونه .
وبالجملة هذا الذي نسميه الإبصار الطبيعي يحتاج إلى مادة جسمية في المبصر والباصر جميعا ، وهذا لا شك فيه .
والتعليم القرآني يعطي إعطاء ضروريا أن الله تعالى لا يماثله شيء بوجه من الوجوه البتة فليس بجسم ولا جسماني ، ولا يحيط به مكان ولا زمان ، ولا تحويه جهة ولا توجد صورة مماثلة أو مشابهة له بوجه من الوجوه في خارج ولا ذهن البتة .
وما هذا شأنه لا يتعلق به الإبصار بالمعنى الذي نجده من أنفسنا البتة ، ولا تنطبق عليه صورة ذهنية لا في الدنيا ولا في الآخرة ضرورة ، ولا أن موسى ذاك النبي العظيم أحد الخمسة أولي العزم وسادة الأنبياء (عليهم السلام) ممن يليق بمقامه الرفيع وموقفه الخطير أن يجهل ذلك ، ولا أن يمني نفسه بأن الله سبحانه أن يقوي بصر الإنسان على أن يراه ويشاهده سبحانه منزها عن وصمة الحركة والزمان ، والجهة والمكان ، وألواث المادة الجسمية وأعراضها فإنه قول أشبه بغير الجد منه بالجد فما محصل القول : أن من الجائز في قدرة الله أن يقوي سببا ماديا أن يعلق عمله الطبيعي المادي - مع حفظ حقيقة السبب وهوية أثره - بأمر هو خارج عن المادة وآثارها متعال عن القدر والنهاية؟ فهذا الإبصار الذي عندنا وهو خاصة مادية من المستحيل أن يتعلق بما لا أثر عنده من المادة الجسمية وخواصها فإن كان موسى يسأل الرؤية فإنما سأل غير هذه الرؤية البصرية ، وبالملازمة ما ينفيه الله سبحانه في جوابه فإنما ينفي غير هذه الرؤية البصرية فأما هي فبديهية الانتفاء لم يتعلق بها سؤال ولا جواب ، وقد أطلق الله الرؤية وما يقرب منها معنى في موارد من كلامه وأثبتها كقوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة : 22 ، 23] ، وقوله : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم : 11] ، وقوله : {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت : 5] ، وقوله : {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت : 53 ، 54] ، وقوله : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف : 110] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المثبتة للرؤية وما في معناه قبال الآيات النافية لها كما في هذه الآية : {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف : 143] ، وقوله : {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام : 103] وغير ذلك .
فهل المراد بالرؤية حصول العلم الضروري سمي بها لمبالغة في الظهور ونحوها كما قيل .
لا ريب أن الآيات تثبت علما ما ضروريا لكن الشأن في تشخيص حقيقة هذا العلم الضروري فإنا لا نسمي كل علم ضروري رؤية وما في معناه من اللقاء ونحوه كما نعلم بوجود إبراهيم الخليل وإسكندر وكسرى فيما مضى ولم نرهم ، ونعلم علما ضروريا بوجود لندن وشيكاغو ومسكو ولم نرها ، ولا نسميه رؤية وإن بالغنا ، فأنت تقول : أعلم بوجود إبراهيم (عليه السلام) وإسكندر وكسرى كأني رأيتهم ، ولا تقول رأيتهم أو أراهم ، وتقول : أعلم بوجود لندن وشيكاغو ومسكو ، ولا تقول : رأيتها أو أراها .
وأوضح من ذلك علمنا الضروري بالبديهيات الأولية التي هي لكليتها غير مادية ولا محسوسة مثل قولنا : الواحد نصف الاثنين والأربعة زوج والإضافة قائمة بطرفين فإنها علوم ضرورية يصح إطلاق العلم عليها ولا يصح إطلاق الرؤية البتة .
ونظير ذلك جميع التصديقات العقلية الفكرية ، وكذا المعاني الوهمية وبالجملة ما نسميها بالعلوم الحصولية لا نسميها رؤية وإن أطلقنا عليها العلم فنقول علمناها ولا نقول : رأيناها إلا بمعنى القضاء والحكم لا بمعنى المشاهدة والوجدان .
لكن بين معلوماتنا ما لا نتوقف في إطلاق الرؤية عليه واستعمالها فيه ، نقول : أرى أني أنا وأراني أريد كذا وأكره كذا ، وأحب كذا وأبغض كذا وأرجو كذا وأتمنى كذا أي أجد ذاتي وأشاهدها بنفسها من غير أن أحتجب عنها بحاجب ، وأجد وأشاهد إرادتي الباطنة التي ليست بمحسوسة ولا فكرية ، وأجد في باطن ذاتي كراهة وحبا وبغضا ورجاء وتمنيا وهكذا .
وهذا غير قول القائل : رأيتك تحب كذا وتبغض كذا وغير ذلك فإن معنى كلامه أبصرتك في هيئة استدللت بها على أن فيك حبا وبغضا ونحو ذلك ، وأما حكاية الإنسان عن نفسه أنه يراه يريد ويكره ويحب ويبغض فإنه يريد به أنه يجد هذه الأمور بنفسها وواقعيتها لا أنه يستدل عليها فيقضي بوجودها من طريق الاستدلال بل يجدها من نفسه من غير حاجب يحجبها ولا توسل بوسيلة تدل عليها البتة .
وتسمية هذا القسم من العلم الذي يجد فيه الإنسان نفس المعلوم بواقعيته الخارجية رؤية مطردة ، وهي علم الإنسان بذاته وقواه الباطنة وأوصاف ذاته وأحواله الداخلية وليس فيها مداخلة جهة أو مكان أو زمان أو حالة جسمانية أخرى غيرها فافهم ذلك وأجد التدبر فيه .
والله سبحانه فيما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيات ويضم إليها ضمائم يدلنا ذلك على أن المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الذي نسميه فيما عندنا أيضا رؤية كما في قوله : {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت : 53 ، 54] الآية .
حيث أثبت أولا أنه على كل شيء حاضر أو مشهود لا يختص بجهة دون جهة وبمكان دون مكان وبشيء دون شيء بل شهيد على كل شيء محيط بكل شيء فلو وجده شيء لوجده على ظاهر كل شيء وباطنه وعلى نفس وجدانه وعلى نفسه ، وعلى هذه السمة لقاؤه لو كان هناك لقاء لا على نحو اللقاء الحسي الذي لا يتأتى البتة إلا بمواجهة جسمانية وتعين جهة ومكان وزمان ، وبهذا يشعر ما في قوله : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم : 11] من نسبة الرؤية إلى الفؤاد الذي لا شبهة في كون المراد به هو النفس الإنسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري المعلق على يسار الصدر داخلا .
ونظير ذلك قوله تعالى : {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين : 14 ، 15] ، دل على أن الذي يجبهم عنه تعالى رين المعاصي والذنوب التي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم وبين ربهم فحجبهم عن تشريف المشاهدة ، ولو رأوه لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لا بأبصارهم وأحداقهم .
وقد أثبت الله سبحانه في موارد من كلامه قسما آخر من الرؤية وراء رؤية الجارحة كقوله تعالى : {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر : 5 - 7] ، وقوله : {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام : 75] ، وقد تقدم تفسير الآية في الجزء السابع من الكتاب ، وبينا هناك أن الملكوت هو باطن الأشياء لا ظاهرها الحسوس .
فبهذه الوجوه يظهر أنه تعالى يثبت في كلامه قسما من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية ، وهي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية ، وأن للإنسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل بل يجده وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب ، ولا يجره إلى الغفلة عنه إلا اشتغاله بنفسه وبمعاصيه التي اكتسبها ، وهي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود لا زوال علم بالكلية ومن أصله فليس في كلامه تعالى ما يشعر بذلك البتة بل عبر عن هذا الجهل بالغفلة وهي زوال العلم بالعلم لا زوال أصل العلم .
فهذا ما بينه كلامه سبحانه ، ويؤيده العقل بساطع براهينه ، وكذا ما ورد من الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على ما سننقلها ونبحث عنها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى .
والذي ينجلي من كلامه تعالى أن هذا العلم المسمى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة : 22 ، 23] ، فهناك موطن التشرف بهذا التشريف ، وأما في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه ، ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية ، وهو سالك لطريق اللقاء والعلم الضروري بآيات ربه ، كادح إلى ربه كدحا ليلاقيه فهو بعد في طريق هذا العلم لن يتم له حق يلاقي ربه ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق : 6] ، وفي معناه آيات كثيرة أخرى تدل على أنه تعالى إليه المرجع والمصير والمنتهى ، وإليه يرجعون وإليه يقلبون .
فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالى لنفسه وسماه رؤية ولقاء ، ولا يهمنا البحث عن أنها على نحو الحقيقة أو المجاز فإن القرائن كما عرفت قائمة على إرادة ذلك فإن كانت حقيقة كانت قرائن معينة ، وإن كانت مجازا كانت صارفة ، والقرآن الكريم أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع ، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله وتخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصرا في علم الشيء بنفسه حتى كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنة في تنقيح المعارف الإلهية .
ولنرجع إلى الآية المبحوث عنها : فقوله : {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف : 143] سؤال منه (عليه السلام) للرؤية بمعنى العلم الضروري على ما تقدم من معناه فإن الله سبحانه لما خصه بما حباه من العلم به من جهة النظر في آياته ثم زاد على ذلك أن اصطفاه برسالاته وبتكليمه وهو العلم بالله من جهة السمع رجا (عليه السلام) أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية وهو كمال العلم الضروري بالله ، والله خير مرجو ومأمول .
فهذا هو المسئول دون الرؤية بمعنى الإبصار بالتحديق الذي يجل موسى (عليه السلام) ذاك النبي الكريم أن يجهل بامتناعه عليه تعالى وتقدس .
وقوله .
﴿قال لن تراني﴾ نفي مؤبد للرؤية ، وإذ أثبت الله سبحانه الرؤية بمعنى العلم الضروري في الآخرة كان تأبيد النفي راجعا إلى تحقق ذلك في الدنيا ما دام للإنسان اشتغال بتدبير بدنه ، وعلاج ما نزل به من أنواع الحوائج الضرورية ، والانقطاع إليه تعالى بتمام معنى الكلمة لا يتم إلا بقطع الرابطة عن كل شيء حتى البدن وتوابعه وهو الموت .
فيئول المعنى إلى أنك لن تقدر على رؤيتي والعلم الضروري بي في الدنيا حتى تلاقيني فتعلم بي علما اضطراريا تريده ، والتعبير في قوله : ﴿لن تراني﴾ ب ﴿لن﴾ الظاهر في تأبيد النفي لا ينافي ثبوت هذا العلم الضروري في الآخرة فالانتفاء في الدنيا يقبل التأبيد أيضا كما في قوله تعالى : {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء : 37] ، وقوله : {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف : 67] .
ولو سلم أنه ظاهر في تأبيد النفي للدنيا والآخرة جميعا فإنه لا يأبى التقييد كقوله تعالى : {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة : 120] ، فلم لا يجوز أن تكون أمثال قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة : 22 ، 23] مقيدة لهذه الآية مبينة لمعنى التأبيد المستفاد منها .
والذي ذكرناه من رجوع نفي الرؤية في قوله : ﴿لن تراني﴾ إلى نفي الطاقة والاستطاعة يؤيده قوله بعده : {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف : 143] فإن فيه تنظير إراءة نفسه لموسى (عليه السلام) بتجليه للجبل ، والمراد أن ظهوري وتجليي للجبل مثل ظهوري لك فإن استقر الجبل مكانه أي بقي على ما هو عليه وهو جبل عظيم في الخلقة قوي في الطاقة فإنك أيضا يرجى أن تطيق تجلي ربك وظهوره .
فقوله : {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف : 143] ليس باستدلال على استحالة التجلي كيف وقد تجلى له؟ بل إشهاد وتعريف لعدم استطاعته وإطاقته للتجلي وعدم استقراره مكانه أي بطلان وجوده لو وقع التجلي كما بطل الجبل بالدك .
وقد دل عليه قوله : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف : 143] وبصيرورة الجبل دكا أي مدكوكا متحولا إلى ذرات ترابية صغار بطلت هويته وذهبت جبليته وقضى أجله .
وقوله : {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} ظاهر السياق أن الذي أصعقه هو هول ما رأى وشاهد غير أنه يجب أن يتذكر أنه هو الذي ألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين تلقف الألوف من الثعابين والحيات ، وفلق البحر فأغرق الألوف ثم الألوف من آل فرعون في لحظة ورفع الجبل فوق رءوس بني إسرائيل كأنه ظلة ، وأتى بآيات هائلة أخرى وهي أهول من اندكاك جبل ، وأعظم ، ولم يصعقه شيء من ذلك ولم يدهشه .
واندكاك الجبل أهون من ذلك ، وهو بحسب الظاهر في أمن من أن يصيبه في ذلك خطر فإن الله إنما دكه ليشهده كيفية الأمر! .
فهذا كله يشهد أن الذي أصعقه إنما هو ما تمثل له من معنى ما سأله وعظمة القهر الإلهي الذي أشرف أن يشاهده ولم يشاهده هو وإنما شاهده الجبل فآل أمره إلى ذاك الاندكاك العجيب الذي لم يستقر معه مكانه ولا طرفة عين ، ويشهد بذلك أيضا توبته (عليه السلام) بعد الإفاقة كما سيأتي .
وقوله : {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 143] توبة ورجوع منه (عليه السلام) بعد الإفاقة إذ تبين له أن الذي سأله وقع في غير موقعه فأخذته العناية الإلهية بتعريفه ذلك وتعليمه عيانا بإشهاده دك الجبل بالتجلي أنه غير ممكن .
فبدأ بتنزيهه تعالى وتقديسه عما كان يرى من إمكان ذلك ثم عقبه بالتوبة عما أقدم عليه وهو يطمع في أن يتوب عليه ، وليس من الواجب في التوبة أن تكون دائما عن معصية وجرم بل هو الرجوع إليه تعالى لشائبة بعد كيف كان كما تقدم البحث فيه في الجزء الرابع من الكتاب .
ثم عقب (عليه السلام) ذلك بالإقرار والشهادة بقوله : ﴿وأنا أول المؤمنين﴾ أي أول المؤمنين من قومي بأنك لا ترى .
هذا ما يدل عليه المقام ، وإن كان من المحتمل أن يكون المراد وأنا أول المؤمنين من بين قومي بما آتيتني وهديتني إليه آمنت بك قبل أن يؤمنوا فحقيق بي أن أتوب إليك إذا علق بي تقصير أو قصور .
لكنه معنى بعيد .
قوله تعالى : {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف : 144] المراد بالاصطفاء الاختيار على وجه التصفية ، ولذلك عدي إلى الناس بعلى ، والمراد بالرسالات هو ما حمل من الأوامر والنواهي الإلهية من المعارف والحكم والشرائع ليبلغه الناس سواء كان التحميل بواسطة ملك أو بتكليم بلا واسطة ملك فهي غير الكلام وإن حملت بكلام فإن الكلام أمر ، والمعاني التي يتلقاها السامع منه أمر آخر .
والمراد بالكلام هو ما شافه به الله سبحانه من غير واسطة ملك وبعبارة أخرى هو ما يكشف به عن مكنون الغيب ، وأما أن يكون من نوع الكلام الدائر بيننا معاشر الإنسان فلا فإن الكلام عندنا هو أنا نصطلح ونتعهد فيما بيننا على تخصيص صوت مخصوص من الأصوات لمعنى من المعاني لينتقل ذهن السامع إلى ذلك المعنى ثم نتوسل عند إرادة تفهيمه إلى إيجاد تموج خاص في الهواء يبتدي منا وينتهي إلى السامع لننقل به ما في ضميرنا إلى ضمير السامع المخاطب والتكلم بهذا الوجه يستلزم التجسم في المتكلم والله سبحانه منزه عنه ، ومجرد إيجاد الصوت وتمويج الهواء بإيجاد أسباب الصوت في مكان لا يدل على كون المعاني التي ينتقل إليها الذهن مقصودة لله سبحانه ما لم تكشف الإرادة بأمر آخر وراء نفس الصوت كما أن من أوجد منا بدق أو ضرب أو نحوهما صوتا يدل على معنى لم نحكم بإرادته ذلك ما لم يكشف من حاله أو مقاله قبلا أنه قاصد لمعنى ما يوجده من الأصوات .
وما كلم به الله سبحانه موسى (عليه السلام) مما حكاه القرآن الشريف خال عن سؤال الدليل على كونه كلامه ، وعلى كونه تعالى مريدا لمعناه فلم يسأل موسى ربه حين سمع النداء من جانب الطور الأيمن من الشجرة : هل هذا منك يا رب؟ وهل أنت مريد معناه؟ بل أيقن بذلك إيقانا ، ونظير الكلام جار في سائر أقسام الوحي غير الكلام .
وهذا يكشف كشفا قطعيا عن ارتباط خاص من السامع بإرادة مصدر الكلام والوحي يوجب الانتقال إلى المعنى المقصود وإلا فمجرد صدور صوت له معنى مفهوم في اللغة منه تعالى لا يستلزم صحة الانتساب إليه تعالى ولا كونه كلامه كيف؟ وجميع الألفاظ الصادرة من المتكلمين بما أنها أصوات تنتهي إليه تعالى وليست كلاما له تعالى بل المتكلم بها غيره ، وكثيرا ما يحدث من تصادم الأجسام المختلفة أصوات ذوات معان في اللغة ولا نعده كلاما له تعالى .
وبالجملة تكليمه تعالى هو إيجاده اتصالا وارتباطا خاصا بين مخاطبه وبين الغيب ينتقل به بمشاهدة بعض مخلوقاته إلى معنى مراد ، ولا نمنع مقارنة ذلك بأصوات يوجدها الله تعالى في خارج أو سمع أو غير ذلك ، وقد تقدم بعض الكلام في الكلام فيما تقدم .
وسيأتي منه تتمة في تفسير سورة الشورى إن شاء الله تعالى .
وكيف كان فقوله تعالى : {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} [الأعراف : 144] الآية .
وارد في مورد الامتنان وموعظة لموسى (عليه السلام) أن يكتفي بما اصطفاه الله به من رسالاته وكلامه ويشكره ولا يستزيد .
قوله تعالى : {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف : 145] الآية .
اللوح صحيفة معدة للكتابة فيه لأنه يلوح ويظهر بما فيه من الخط وأصله من لاح البرق إذا لمع .
وقوله : ﴿ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من فيه للتبعيض كما يؤيده السياق اللاحق ، وقوله : ﴿مَوْعِظَةً﴾ الظاهر أنه بيان لكل شيء ، ويعطف عليه قوله : ﴿وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ وتنكير قوله : ﴿تفصيلا﴾ لإفادة الإبهام والتبعيض ، ويئول المعنى إلى مثل قولنا : وكتبنا لموسى في الألواح وهي التوراة النازلة مختارات من كل شيء ونعني بذلك أنا كتبنا له موعظة وتفصيلا ما وتشريحا ما لكل شيء حسب ما يحتاج إليها قومه في الاعتقاد والعمل .
ففي الكلام دلالة على أن التوراة لم تستكمل جميع ما تمس به حاجة البشر من المعارف والشرائع ، وهو كذلك كما يدل عليه أيضا قوله تعالى بعد ذكر التوراة والإنجيل {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة : 48] ، وقد تقدم تفسيره .
وقوله : {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف : 145] عطف تفريع على قوله : {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} [الأعراف : 145] الآية لأنه مشعر بمعنى القول ، والتقدير : وقلنا إنا كتبنا لك في الألواح من كل شيء فخذها بقوة .
والأخذ بالقوة كناية عن الأخذ بالجد والحزم فإن من يجد ويحزم في أمر يستعمل ما عنده من القوة فيه حذرا أن يفوته فالأخذ بالقوة لازم الأخذ بالجد والحزم كنى به عنه .
وقوله : {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف : 145] الظاهر أن الضمير في ﴿بأحسنها﴾ راجع إلى الأشياء المدلول عليها بقوله قبلا : ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من المواعظ وتفاصيل الآداب والشرائع والأخذ بالأحسن كناية عن ملازمة الحسن في الأمور واتباعه واختياره فإن من يهم بأمر الحسن في الأمور إذا وجد سيئا وحسنا اختار الحسن الجميل ، وإذا وجد حسنا وأحسن منه اضطره حب الجمال إلى اختيار الأحسن وتقديمه على الحسن فالأخذ بأحسن الأمور لازم حب الجمال وملازمة الحسن فكنى به عنه ، والمعنى : وأمر قومك يجتنبوا السيئات ويلازموا ما تهدي إليه التوراة من الحسنات ، ونظير الآية في التكنية قوله تعالى : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر : 18].
وقوله : ﴿سأوريكم دار الفاسقين﴾ ظاهر السياق أن المراد بهؤلاء الفاسقين هم الذين يفسقون بعدم ائتمار قوله : {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف : 145] على ما تقدم من معناه من ملازمة طريق الإحسان في الأمور واتباع الحق والرشد فإن من فسق عن الطريق صرفه الله عن الصراط المستقيم إلى تتبع السيئات والميل عن الرشد إلى الغي كما يفصله في الآية التالية فكانت عاقبة أمره خسرانا وآل أمره إلى الهلاك .
وعلى هذا فما في الآية التالية : {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} [الأعراف : 146] الآية تفسير أو كالتفسير لقوله : {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف : 145] وقيل المراد بدار الفاسقين جهنم ، وفي الكلام تهديد وتحذير ، وقيل المراد بها منازل فرعون وقومه بمصر ، وقيل : منازل عاد وثمود ، وقيل المراد دار العمالقة وغيرهم بالشام وأن الله سيدخلهم فيها فيرونها ، وقيل : المراد سيجيئكم قوم فساق تكون الدولة لهم عليكم .
_________________________
1 . تفسير الميزان ، ج8 ، ص 240-252 .
قال تعالى : {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف : 142] .
الميعاد الكبير :
في هذا الآية إشارة إلى مشهد من مشاهد حياة بني إسرائيل ، ومشكلة موسى عليه السلام معهم ، وذلك هو قصّة ذهاب موسى إلى ميقات ربّه ، وتلقي أحكام التّوراة عن طريق الوحي وكلامه مع الله ، واصطحاب جماعة من كبار بني إسرائيل وشخصياتهم إلى الميقات لمشاهدة هذه الحادثة وإثبات أنّ الله لا يمكن أن يدرك بالأبصار ، والتي ذكرت بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل وانحرافهم عن مسير التوحيد ، وضجّة السامريّ العجيبة.
يقول تعالى أوّلا : {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} .
وكلمة «الميقات» مشتقّة من مادة «الوقت» بمعنى الموعد المضروب للقيام بعمل ما ، ويطلق عادة على الزمان ، ولكنه قد يطلق على المكان الذي يجب أن يتم العمل فيه ، مثل " ميقات الحج " يعني المكان الذي لا يجوز أن يجتازه أحد إلا محرماً .
بعمل ما ، ويطلق عادة على الزمان ، ولكنّه قد يطلق على المكان الذي يجب أن يتمّ العمل فيه ، مثل «ميقات الحج» يعني المكان الذي لا يجوز أن يجتازه أحد إلّا محرما.
ثمّ ذكرت الآية أنّ موسى استخلف هارون وأمره بالإصلاح في قومه ، وأن لا يتبع سبيل المفسدين : {وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} .
- {وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 143] .
المطالبة برؤية الله :
في هذه الآيات والآيات اللاحقة يشير سبحانه إلى مشهد مثير آخر من مشاهد حياة بني إسرائيل ، وذلك عند ما طلب جماعة من بني إسرائيل من موسى عليه السلام ـ بإلحاح وإصرار ـ أن يروا الله سبحانه ، وأنّهم لن يؤمنوا به إذا لم يشاهدوه ، فاختار موسى سبعين رجلا من قومه واصطحبهم معه إلى ميقات ربّه ، وهناك رفع طلبهم إلى الله سبحانه ، فسمع جوابا أوضح لبني إسرائيل كل شيء في هذا الصعيد .
وقد جاء قسم من هذه القصّة في سورة البقرة الآية (55) و (56) ، وقسم آخر منه في سورة النساء الآية (153) ، وقسم ثالث في الآيات المبحوثة هنا في الآية (155) من هذه السورة.
ففي الآيات الحاضرة يقول أوّلا : {وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} .
ولكن سرعان ما سمع الجواب من جانب المقام الرّبوبي : كلا ، لن تراني أبدا {قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} . (2)
فلمّا رأى موسى هذا المشهد الرهيب تملكه الرعب إلى درجة أنّه سقط على الأرض مغمى عليه {وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً} .
وعند ما أفاق قال : ربّاه سبحانك ، أنبت إليك ، وأنا أوّل من آمن بك {فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} .
- {قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ} [الأعراف : 144-145] .
ألواح التوراة :
وفي النهاية أنزل الله شرائع وقوانين دينه على موسى عليه السلام .
ففي البداية : {قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي} .
فإذا كان الأمر كذلك {فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .
فهل يستفاد من هذه الآية أن التكلم مع الله كان من امتيازات موسى الخاصّة به دون بقية الأنبياء ، يعني اصطفيتك لمثل هذا الأمر من بين الأنبياء ؟
الحق أنّ هذه الآية ليست بصدد إثبات مثل هذا الأمر ، بل إن هدف الآية ـ بقرينة ذكر الرسالات التي كانت لجميع الأنبياء ـ هو بيان امتيازين كبيرين لموسى على الناس : أحدهما تلقي رسالات الله وتحمّلها ، والآخر التكلّم مع الله ، وكلا هذين الأمرين من شأنهما تقوية مقام قيادته بين أمته.
ثمّ أضاف تعالى واصفا محتويات الألواح التي أنزلها على موسى عليه السلام بقوله : {وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} .
ثمّ أمره بأن يأخذ هذه التعاليم والأوامر مأخذ الجد ، ويحرص عليها بقوة {فَخُذْها بِقُوَّةٍ} .
وأن يأمر قومه أيضا بأن يختاروا من هذه التعاليم أحسنها {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها} .
كما يحذرهم بأن مخالفة هذه الأوامر والتعاليم والفرار من المسؤوليات والوظائف تستتبع نتائج مؤلمة ، وأن عاقبتها هي جهنم وسوف يرى الفاسقون مكانهم {سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ} .
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 490-506 .
2. تفسير نور الثقلين ، ج2 ، ص 64 .