بـسـم الله الـرحـمن الـرحـيـم
قوله تعالى (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ)
إنّ القرآن الكريم لا يقتصر في خطابه على الجانب العقدي أو التشريعي فحسب، بل يتعمق في بناء النفس الإنسانية وتزكيتها، فيكشف خفاياها النفسية وطبائعها في المواقف الوجودية الحرجة. وتعدّ الآية الكريمة من سورة الأنعام:
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ
من أبرز الآيات التي تجمع بين العقيدة والتربية النفسية.
إذ تُبرز هذه الآية طبيعة الإنسان حين يتعرّض للأزمات، وكيف تتبدّل حالاته النفسية بين الخوف واليقين، وبين النجاة والنسيان. وهي تكشف عن صراعٍ داخليٍّ بين الفطرة التي تهفو إلى الله، والغفلة التي تُعيده إلى الشرك بعد الخلاص.
من هنا تنبع أهمية هذا البحث، الذي يسعى إلى تحليل هذه الظاهرة من منظور علم النفس الإسلامي، وبيان علاقتها بمفهوم التوكل والاعتماد الوجودي على الله، في ضوء القرآن وروايات أهل البيت عليهم السلام.
يُعتمد في هذا البحث المنهج التحليلي المقارن من خلال:
1. تحليل النص القرآني في ضوء اللغة والسياق النفسي.
2. دراسة الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام التي تفسّر الآية أو ترتبط بمضمونها.
3. مقارنة التحليل النفسي القرآني بالمفاهيم المعاصرة في علم النفس حول الخوف والنجاة والثقة.
4. استخراج النتائج النفسية والتربوية التي تُسهم في بناء الشخصية الإيمانية المستقرة.
التحليل العلمي النفسي تبدأ الآية بالأمر الإلهي: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم، وهو خطاب يهدف إلى تحويل مركز الوعي النفسي من الخطر إلى المنقذ ، ومن الأسباب إلى مسبب الأسباب.
فالفعل "يُنَجِّيكم" يحمل في ذاته معنى التحرير النفسي
لا الإنقاذ المادي فحسب. فالنجاة في المفهوم القرآني ليست الخروج من الكرب فقط، بل الانعتاق من التعلق المَرَضي بالأسباب الظاهرة.
إنّ الإنسان عند الكرب كما يصفه القرآن في مواضع أخرى مثل قوله تعالى:
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (العنكبوت: 65)
يعود إلى فطرته الأولى فيتوجّه إلى الله وحده، لأن كل قناعٍ نفسي يسقط عند الخوف الوجودي.
وهذه الحالة تمثل من الناحية النفسية الانكشاف الفطري للإيمان ، إذ يتجلى الوعي العميق بالعجز البشري أمام القدرة المطلقة.
لكن بعد النجاة، تتبدّل الحالة الداخلية للنفس؛ فتنقلب من الخضوع إلى الغفلة، ومن التوحيد إلى الشرك النفسي. وهذا ما تشير إليه الجملة الختامية: "ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ"
من منظور علم النفس الإسلامي، يمثل هذا الانقلاب نموذجًا لما يُعرف بـ النسيان الدفاعي؛ أي آلية نفسية تُسقط من الوعي التجربة المؤلمة أو الصادمة بمجرد زوال الخطر. فالإنسان ينسى ما شعر به من فقرٍ وافتقارٍ إلى الله، فيعود إلى وهم الاستقلال الذاتي.
وقد فسّر الإمام الصادق عليه السلام هذا المعنى بقوله:
ما من عبدٍ دعا الله في كربٍ إلا نجّاه، ثم يعاود الذنب كأن لم يكن ما كان، وذلك من ضعف يقين القلب.
فالإمام يشير إلى أنّ السبب النفسي في عودة الإنسان إلى الشرك هو ضعف اليقين أي عدم ترسخ التجربة الإيمانية في أعماق النفس.
من هنا، يمكن القول إنّ الآية تكشف عن آليةٍ نفسيةٍ متكررةٍ في الإنسان:أزمة خوف توجّه إلى الله نجاة نسيان شرك.
وهذه الدورة تُظهر أنّ الشرك ليس مجرد عبادة صنم، بل اعتماد نفسي على غير الله ، وهو ما عبّر عنه الإمام علي عليه السلام بقوله:اصل الشرك الخوف على الرزق والرجاء فيما بأيدي الناس.
فالشرك في أصله اضطراب نفسي في محور الثقة، أي أن الإنسان ينقل مركز اعتماده من الله إلى الناس أو إلى الأسباب المادية، فيعيش قلقًا دائمًا، لأنه ربط طمأنينته بما هو زائل ومتغير.
النتائج
1. إنّ النجاة في الآية ليست مادية فقط، بل هي تحرير نفسي روحي من التعلق بالأسباب.
2. تُبرز الآية قانونًا نفسيًا قرآنيًا: الإنسان يعود إلى الله في الكرب، وينساه في الرخاء، ما لم يكن إيمانه نابعًا من يقينٍ راسخٍ لا من انفعالٍ مؤقت.
3. يظهر في الآية مفهوم التوكل كعلاج نفسي وروحي، يربط الطمأنينة بالاعتماد على الله، لا على المظاهر المتغيرة.
4. الشرك بعد النجاة يُعبّر عن خلل في البنية الإيمانية للنفس، وهو شكل من أشكال الاضطراب الوجودي الناتج عن الغفلة.
5. القرآن وروايات أهل البيت عليهم السلام يؤسسان لنظريةٍ علاجيةٍ نفسية قائمة على التوحيد الوجداني، حيث التوكل واليقين هما أدوات الاستقرار الداخلي.
الخاتمة
يتضح من خلال التحليل أن قوله تعالى قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ هو بيانٌ لنظامٍ نفسيٍّ إلهيٍّ يعالج جوهر الاضطراب الإنساني: الانفصال عن الله بعد التجربة الوجودية .
فالنجاة الإلهية في المفهوم القرآني ليست حدثًا خارجيًا، بل تحوّلًا داخليًا في وعي الإنسان بذاته وربّه . وكل نجاةٍ من كربٍ خارجي هي في حقيقتها دعوةٌ للنجاة من كربٍ باطنيٍّ أعمق، هو كرب الغفلة عن الله.
أما التوكل، فهو الامتداد النفسي الطبيعي لتجربة النجاة، إذ يحوّل لحظة الوعي المؤقتة بالله إلى حالةٍ دائمةٍ من الاطمئنان الوجودي. ومن هنا جاء قول الإمام علي عليه السلام:
التوكل على الله نجاة من كل سوء وحرز من كل عدو
لأنّ المتوكل يعيش ضمن نظامٍ نفسيٍّ مغلقٍ على الطمأنينة، لا يخترقه الخوف ولا القلق، إذ يرى الله وراء كل حدثٍ وسبب.
وهكذا تلتقي الآية الكريمة مع علم النفس الإسلامي لتؤسس مفهومًا شاملًا لـ العلاج بالتوحيد حيث النجاة لا تُقاس بالخروج من الأزمة، بل بالثبات على وعي التوحيد بعدها. ومن يحقق هذا المستوى من التوكل يكون قد تحرّر من كل كربٍ، لأنّ الكرب الحقيقي هو الغفلة، والنجاة الكبرى هي حضور الله في القلب حضورًا لا يغيب.
واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN