وَرَدَ فِي بَعضِ المَقَاتِلِ أنَّ أمِيرَ المُؤمِنِينَ كَانَ جَالِسَاً وَإلَى جَنبِهِ الحَسَنُ وَالحُسَينُ (عليهما السلام) وإلى جَنبِهِم أبُو الفَضلِ (عليه السلام) فَعَطِشَ الحُسَينُ وَاحتَاجَ إلى المَاءِ وَأبُو الفَضلِ العَبَّاس لا تَخفَى عَلَيهِ مِثلُ هَكذَا مَواقِف، التَفَتَ وَأدرَكَ أنَّ الإمَامَ الحُسَينَ عَطشَانٌ فَقَامَ وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ وَأقبَلَ إلى أمِّهِ أمِّ البَنِينِ فَقَالَ: يَا أمَّاه إنَّ سَيِّدِي الحُسَينَ عَطشَانٌ فَهَل لِي إلى إيصَالِ شَربَةٍ مِنَ المَاءِ العَذبِ إليهِ مِن سبِيل فَقَالَت لَهُ أُمُّهُ بِشَغَفٍ وَشَفَقَةٍ: نَعَم يَا وَلَدِي، فَقَامَت مُسرِعَةً وَأخذَت مَعَهَا قَدَحَاً وَمَلأتهُ بِالمَاءِ العَذبِ لكن لاحِظُوا الأدبَ فَقد وَضَعَت المَاءَ على رَأسِهِ وَقَالَت لَهُ: اذهَب بِهِ إلى سَيِّدِكَ وَمَولاكَ الحُسَين، فَأقَبَلَ العَبَّاسُ (عليه السلام) بِالمَاءِ نَحوَ الإمَامِ (عليه السلام) وَالمَاءُ يَتَصَبَّبُ على كَتِفِهِ؛ لأنَّهُ صَغِيرٌ، فَوَقَعَ عَلَيهِ نَظَرُ أبِيِهِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) وَهُوَ بِتِلكَ الحَالَةِ فَتَذَكَّرَ الإمامُ (عليه السلام) فاجعةَ كربلاء، هذهِ الفاجعة التي ما كانَت تُفَارِقُهُم مُنذُ أن أخبَرَهُم بِهَا رسولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله).
فقالَ وَهُوَ يُخَاطِبُهُ وَدُمُوعُهُ تَقطُرُ على وَجنَتَيهِ: وَلدي عبَّاس أنتَ سَاقِي عَطَاشَى كَربَلاء، وَمُنذُ ذلكَ الحِين أخَذَ سِمَةَ (السَّقَّاء)، وهي شَرَفٌ عَظِيمٌ؛ حَيثُ يَسقِي رَحلَ آلِ مُحَمَّدٍ بِالمَاءِ الذي بِهِ حَيَاةُ الأبدَانِ.
ولَمَّا حَمِيَ الوَطِيسُ فِي عَاشُورَاءَ أبدى العَبَّاسُ (عليه السلام) مَوقِفاً كانَ مَدرسةً فِي الشَّهَامَةِ وَفِي الغَيرَةِ فَبَعدَ أن قَدَّمَ إخوَتَهُ الثَّلاثَةَ للهِ (عزّ وجلّ) جَاءَ إلى الحُسَينِ يَطلُبُ الرُّخصَةَ فِي القِتَالِ وَقَالَ كَلامَاً لا يَفهَمُهُ إلا أصحَابُ القُلُوبِ قَالَ: يا أخي لَقَد ضَاقَ صَدرِي وَسَئِمتُ الحياةَ وَأريدُ أن أطلُبَ ثَأري مِن هؤلاءِ.
فَأوكَلَ إليهِ مُهِمَّةً كانَت أصعَبَ مِنَ القِتَالِ؛ لأنَّ القِتَالَ بِالنِّسبَةِ إليهِ لا شيء؛ فهوَ فَارِسٌ مِغوَارٌ لا يَهمّهُ جَندَلَةُ السّيوف، وكانت المهمّة أن يَأتِي (عليه السلام) بِالمَاءِ إلى الأطفَالِ وَالعِيَالِ، وَالأعداءُ قد وَضَعُوا أربعةَ آلافِ مُقَاتِلٍ يَمنَعُونَ المَاءَ عن جيشِ الحُسينِ.
لِذَا قَالَ الحُسَينُ: "اطلُب لِهؤلاءِ الأطفالِ قليلاً منَ الماءِ".
لاحظوا الحكمةَ فِي التّصرّفِ فَهَذَا الرجلُ الغَيُورُ يُغيثُ كُلَّ مَن يَستَغِيثُ بِهِ، وقد حرَّكَ سيّدُ الشُّهَدَاءِ (عليه السَّلام) هذا الشُّعُورَ عِندَ العَبَّاسِ (عليه السلام) بقوله: "اطلُب لِهؤلاءِ الأطفالِ قليلاً منَ الماءِ" فهو يعلمُ أنَّ العبَّاسَ لَو تَفَرَّغَ لِلقِتَالِ حَطَّمَ هذا الجيشَ الذي أمَامَهُ وهم كانوا يعلمون بهذا.
وعندما وصَلَ (عليه السلام) إلى الماءِ كانَ قلبُهُ كَصَالِيَةِ الجَمرِ، وهنا ظهَرَت مَدرَسَةٌ أخرَى لِلقِيَمِ فقد غَرَفَ (عليه السلام) مِنَ الماءِ وَأدنَاهُ لِفَمِهِ لكي يَشرَبَ لكنّه رَمَى الماءَ مِن يدِهِ وقالَ الأبياتَ المَعرُوفَةَ، وهي مَدرَسَةٌ فِي المَعرِفَةِ وَالبَصِيرَةِ وَالفِدَاءِ وَالوَفَاءِ:
يا نَفْسُ من بعدِ الحسينِ هُوني وبعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني
هذا حسينٌ واردُ المَـــــــــنون وتَشْربينَ بارِدَ المَــــعينِ
تاللهِ ما هذا فِـــــــــــعالُ دِيني ولا فِعَالُ صَـادِقِ اليقينِ
"بذلُوا مُهَجَهُم دُونَ الحُسَينِ (عليه السلام)" هُنَا تَتَوَقَّفُ العُقُولُ لا يمكن فَهمُهَا إلّا بِالقُلُوبِ؛ لأنَّ الانسانَ الذي قلبه كصاليةِ الجمرِ مِنَ الظمأ لا يتحمّلُ ولا يصبرُ على الماءِ وبُرُودَتِهِ، وَالعَبَّاسُ (عليه السلام) يَأخذُ الماءَ بيدِهِ ولا يشربُ، ونفسُهُ تُنَازِعُهُ إلى الماءِ، والعقولُ تقولُ: لو شربَ (عليه السلام) الماءَ لَكَانَ لَهُ قُدرَةُ المُصَارَعَةِ وَكَسرِ الجَيشِ لَكنَّ العبَّاسَ (عليه السَّلام) يَحسِبُ المَسألَةَ مَسأَلَةَ عِشقٍ وَذَوَبَانٍ فِي المَشرُوعِ الإلهيِّ المُتَمَثِّلِ بِإمَامِ زَمَانِهِ، إنَّه مَدرَسَةٌ عَظيمَةٌ فِي الفَهمِ وَالبَصِيرَةِ.
ولَمَّا ملأ القِربَةَ لِيُوصِلَهَا إلى الخِيَامِ احتَوَشُوهُ مِن كُلِّ جَانِبٍ وَقَطَّعُوهُ بِالسّيوفِ وَلِذَا الإمامُ الحُسَينُ (عليه السلام) لم يَحمِلهُ إلى الخِيَامِ فَمَا يَحمِلُ مِنهُ جَانِب إلا وسَقَطَ الجَانِبُ الآخَرُ، وبهذا واسَى سيِّدَ الشُّهَدَاءِ بَطَرِيقَةِ الشَّهَادَةِ.







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN