ذكر أهلُ التاريخ أنّ سيّد الشهداء(عليه السلام) أفرد خيمةً في حومة الميدان، وكان يأمرُ بحمل مَن قُتل من صحبه وأهل بيته إليها، وكلّما يؤتى بشهيد يقول (عليه السّلام): «قتلةٌ مثلُ قتلةِ النبيّين وآل النبيّين» إلاّ أخاه أبا الفضل العبّاس(عليه السّلام) تركه في محلّ مصرعه قريباً من شطّ الفرات.
ولمّا ارتحل عمرُ بن سعد بحرم الرسالة إلى الكوفة ترك أُولئك الذين وصفهم أمير المؤمنين(عليه السلام) بأنّهم سادةُ الشهداء في الدنيا والآخرة، لَم يسبقهم سابقٌ ولا يلحقهم لاحق، على وجه الصعيد تصهرهم الشمس ويزورهم وحشُ الفلا. وبينهم سيّدُ شباب أهل الجنّة بحالةٍ تفطّر الصخر الأصم، غير أنّ الأنوار الإلهيّة تسطع من جوانبه، والأرواح العطرة تفوح من نواحيه.
وفي اليوم الثالث عشر من المحرّم أقبل زينُ العابدين(عليه السلام) لدفن أبيه الشهيد(سلام الله عليه)؛ لأنّ الإمام المعصوم لا يلي أمره إلّا إمامٌ معصومٌ مثله.
وتشهد بذلك مناظرةُ الإمام الرضا(عليه السلام) مع علي بن أبي حمزة، فإنّ أبا الحسن الرضا(عليه السلام) قال له: «أخبرْني عن الحسين بن علي، كان إماماً؟» قال: بلى، فقال الرضا(عليه السلام): «فمَن ولي أمره؟» قال ابن أبي حمزة: تولاّه علي بن الحسين السّجاد، فقال الرضا(عليه السلام): «فأين كان علي بن الحسين؟» قال ابن أبي حمزة: كان محبوساً بالكوفة عند ابن زياد، ولكنّه خرج وهم لا يعلمون به حتّى ولي أمر أبيه، ثمّ انصرف إلى السّجن، فقال الرضا(عليه السلام): «إنّ مَن مكّن علي بن الحسين أنْ يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه ثمّ ينصرف، يمكّن صاحب هذا الأمر أنْ يأتي بغداد فيلي أمر أبيه وليس هو في حبس ولا إسار».
ولمّا أقبل السّجاد(عليه السلام) وجد قوماً من بني أسد مجتمعين عند القتلى، متحيّرين لا يدرون ما يصنعون، ولَم يهتدوا إلى معرفتهم؛ وقد فرّق القوم بين رؤوسهم وأبدانهم وربّما يسألون مَنْ أهلُهم وعشيرتُهم، فأخبرهم (عليه السّلام) عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة، وأوقفهم على أسمائهم، كما عرّفهم بالهاشميّين من الأصحاب، فارتفع البكاء والعويل، وسالت الدموع منهم كلّ مسيل، ونشرت الأسديّات الشعور ولطمن الخدود.
ثمّ مشى الإمام زين العابدين(عليه السلام) إلى جسد أبيه واعتنقه وبكى بكاءً عالياً، وأتى إلى موضع القبر، ورفع قليلاً من التراب فبان قبرٌ محفورٌ وضريحٌ مشقوق، فبسط كفيه تحت ظهره وقال: «بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، صدق الله ورسوله، ما شاء الله، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم»، وأنزله وحده، لَم يشاركه بنو أسد فيه، وقال (عليه السلام) لهم: «إنّ معي مَن يعينني». ولمّا أقرّه في لحده، وضع خدّه على منحره الشريف قائلاً: «طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطاهر، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة، أمّا الليل فمسّهد والحزن سرمد، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم، وعليك منّي السّلام يا بن رسول الله ورحمة الله وبركاته»، وكتب على القبر: «هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً».
ثمّ مشى إلى عمّه العبّاس(عليه السّلام) فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السّماء وأبكت الحور في غرف الجنان ووقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلاً: «على الدنيا بعدك العفا يا قمر هاشم، وعليك منّي السّلام من شهيدٍ محتسب ورحمة الله وبركاته»، وشقّ له ضريحاً وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد، وقال لبني أسد: «إنّ معي مَن يعينني».
نعم، ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء، وعيّن لهم موضعين وأمرهم أنْ يحفروا حفرتين، ووضع في الأُولى بني هاشم، وفي الثانية الأصحاب.
وكان أقرب الشهداء إلى الحسين ولده الأكبر(عليه السّلام)، وفي ذلك يقول الإمام الصادق(عليه السلام) لحمّاد البصري: «قُتل أبو عبد الله غريباً بأرض غربة، يبكيه مَن زاره، ويحزن له مَن لم يزره، ويحترق له مَن لَم يشهده، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجلَيه في أرض فلاةٍ ولا حميم قربه، ثمّ منع الحقّ وتوازر عليه أهل الردّة حتّى قتلوه وضيّعوه وعرضوه للسّباع ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب، وضيّعوا حقّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلم) ووصيّته به وبأهل بيته، فأمسى مجفوّاً في حفرته صريعاً بين قرابته وشيعته، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه والمنزل الذي لا يأتيه إلّا مَن امتحن الله قلبه للإيمان وعرف حقّنا».
ولقد حدّثني أبي: أنّه لَم يخلُ مكانه منذ قُتل من مصلٍّ عليه من الملائكة أو من الجنّ والإنس أو من الوحش، وما من أحدٍ إلّا ويغبط زائره ويتمسّح ويرجو في النّظر إليه الخير لنظره إلى قبره. وإنّ الله تعالى لَيباهي الملائكة بزائريه. وأمّا ما له عندنا فالترحّم عليه كلّ صباح ومساء.