تنوعت أساليب المرجعية الشيعية في المقاومة السياسية. فمن المضابط إلى المجالس الأقرب للمهرجانات إلى التجمعات الجامعة إلى المندوبين إلى المظاهرات التي أظهر الميرزا الشيرازي وعياً ناضجاً للغاية وهو يتمسك بالحفاظ على سلميتها وتجنّب الانجرار لأي استفزازات أو مصادمات - إلى محاولة تدويل القضية العراقية التي يروّج لها باستخدام العلاقات الإقليمية سواء في العمق العربي الشريف (حسين) و(الأمير فيصل) أو العمق الإيراني (حكومة الشاه) ضارباً على وتر الحقوق السياسية في الاستقلال والحرية وحق تقرير المصير والمقاومة السلمية والمحافظة على حقوق الأقليات، إذ لم تبق أياً من أساليب المعارضة السياسية لم تستنفدها المرجعية الشيعية مع قناعتها بحتمية الخيار العسكري الذي كانت تحضر له بموازاة كل تلك الجهود السياسية. وقد أمعنت المرجعية الشيعية خلال سنوات التحضير للثورة في استنفاد المفاوضات السياسية والقانونية الممكنة كافة؛ فبعد أن استنزفت الحوزات والمجتمعات الشيعية تماماً في مقارعة الاحتلال بشراسة طيلة سنتين ونصف انقلبت المرجعية إلى مدّ العلاقة مع سلطات الاحتلال فور سقوط بغداد ۱۹۱۷ إدراكاً منها للواقع الجديد وكرّست هدنة باردة لغاية انتهاء الحرب لتنتقل بعدها بهدوء حذر إلى المطالبة بالاستقلال التي تصاعدت مع إعلان استفتاء ولسن نهاية ۱۹۱۸ وبداية ۱۹۱۹ قبيل مؤتمر الصلح لتشتعل جذوة المقاومة السياسية بحركة المضابط الأقرب لنظام المجمعات الانتخابية والتي تصدت للإفصاح (رسمياً) عن الأمة العراقية ومطالبها في مملكة مستقلة، وملك معين للشعب المعين بالحدود الجغرافية المعينة، وهويته النابعة من أغلبيته والتصدّي لمحاولات تزوير إرادة الشعب. وقد تمكنت مرجعية الميرزا الشيرازي تحديداً من بلورة (أمة عراقية) بتنسيقها لحركة المجمعات هذه والمضابط التي نجحت بالتعبير عن الأمة وإرادتها وكسرت بها إرادة الاستفتاء.
كما استخدمت المرجعية الشيعية بالأثناء تكتيكاتها الخاصة، ففي أزمة نفي الوطنيين الأربعة في صيف ۱۹۱۹ هدد الميرزا الشيرازي بالهجرة مرفقاً ذلك بتصعيد إعلامي وتحشيد لهذه الخطوة من قبل باقي الحوزات والزعماء حتى وصل الأمر من الخطورة إلى أن يبرق رئيس وزراء إيران يستفسر من الميرزا عن استيائه ويعرض عليه تنفيذ طلباته. وقد تكون حركة رئيس الوزراء استجابة لوسطاء من قبل الحوزة أو بإشارة من الإنكليز للتهدئة، إلا أن النتيجة بالنهاية كانت الإفراج عن المنفيين وإعادتهم إلى كربلاء بعد حوالي أربعة شهور، تحسّست فيها القيادة البريطانية مغبة تهور ضباط الاحتلال ببغداد واصطدامهم بالميرزا الذي تمتع من جانبه بالمرونة الفائقة التي حملته على تجنّب التصعيد بعد، فيبرق لولسن بمناسبة الإفراج ليحمل الأخير على إجابته بمودة فالمرجعية الشيعية تتقن باحتراف لعبة شدة الحبل وإرخائه.
في اثناء ذلك، كانت مرجعية الميرزا الشيرازي قد انهمكت في الاعداد للثورة المسلحة ومخاطبة زعماء العشائر على امتداد الفرات الأوسط والاسفل وصولاً إلى دجلة لتهيئتهم للانضمام للثورة التي كان الميرزا ينظر لها من بعيد، وهو في خضم صراعه السياسي مع سلطة الاحتلال. ثم بدأ الميرزا الشيرازي في بدايات 1920 بمحاولة التصعيد السياسي للالتفاف على محاولات التسويف والمماطلة من قبل بريطانيا، وبدأ بتنظيم التجمعات الجامعة (الجماهيرية) في عتبات كربلاء والنجف كتقليد (ديمقراطي) للحوزات الشيعية منذ أيام حركة الجهاد او تحت ستار المناسبات الدينية (المواليد النبوية والمجالس الحسينية) في بغداد، حيث تختلط الطائفتان الشيعية والسنية لتحشيد رأي عام وطني ضاغط.
وقد تمكن عبر هذه التجمعات من توحيد النخب السياسية والاجتماعية مع تنضيج مطالب الحركة الوطنية بنقاط محددة ومباشرة. وقد كانت إستراتيجية الحركة الوطنية هي التأكيد على الوحدة الوطنية بين الشيعة والسنة على أساس (الجامعة الإسلامية) ويحفظ حقوق الأقليات ثانيا من (الكتابيين الداخلين في ذمة الإسلام)، ومحاولة تشكيل موقف وطني موحد قوي في قبال سلطات الاحتلال من اجل القضية الجامعة، وهي الاستقلال، وهو ما تجلى في الزيارات المتبادلة بين حوزة الكاظمية والبطاركة والحاخامات.
وقد بدأ التنسيق بين الطائفتين المسلمتين مبكراً وتاماً – على خلفية انفصال اجتماعي تام طيلة قرون - نجده مباشراً في التعاون المتكامل لوفد بغداد والكاظمية الموحد) لمقابلة ولسن، ومضبطتهم حول استفتائه كما نجده في علاقات الميرزا الشيرازي التي تمتد إلى العديد من علماء وأعيان السنة ببغداد.
وفي الواقع فإن العلاقات التي نسجها الميرزا الشيرازي مبكراً مع أفندية بغداد قبل قدومه للكاظمية مذ كان في سامراء، ثم التنسيق معهم من قبل استفتاء ولسن مع ما يمثله هؤلاء الأفندية من النخبة، ومع الوزن الذي تمثله بغداد كعاصمة للقرار السياسي، هي التي أكسبت الثورة العراقية صفتها الوطنية الجامعة وهي التي حولتها من انتفاضة عشائرية إلى حركة تحرر واستقلال وطني.
وقد ابتدع الميرزا الشيرازي بهذا الصدد حركة المندوبين التي كان يخطط لها لتتحول إلى مؤتمر وطني تأسيسي يفرضه أمراً واقعاً على سلطات الاحتلال ويشرعن» المطالب الوطنية التي كان حريصاً على توافقها الكامل مع شرعية القانون الدولي للمجادلة بها لتدويل القضية العراقية بدءاً من محاولاته في مؤتمر الصلح وتفويض الأمير فيصل وصولاً إلى رسائله لقادة العالم والدول العظمى في حينها. وقد حافظ ببصيرة وقادة في كل ذلك على سلمية المقاومة السياسية رغم أنه كان وبنفس الوقت يحشد للتعبئة الكاملة تمهيداً لنار الثورة الشاملة (الكبرى) التي كانت تغلي تحت الرماد، بعد أن وضع لمساته الأخيرة بالاتفاق مع الزعماء على قرار الثورة في اجتماع النصف من شعبان (٥/٤/ ۱۹۲۰) حيث منح الإذن بالقيام بالثورة والتي يدخر وسعاً لدعمها . ومَنْ يمعن النظر في مجمل نهضة الميرزا الشيرازي يجد أنه قلما يستعمل سلاحه الديني (الفتوى كمرجع بل اعتمد مختلف التكتيكات والآليات كأي زعيم سياسي، ولم تبدر منه أية لمحة طائفية أو نزعة مذهبية، بل كان زعيماً وطنياً بحق استهدف قضية محورية لم يحد عنها وهي استقلال العراق وتأسيس الدولة العراقية التي تعبر عن هوية الأمة العراقية.
إن الثورة العراقية الكبرى كانت عصارة تحشيد وتنسيق مكثف ومستمر امتد السنوات على امتداد بغداد وجنوب العراق للتهيئة والتحضير لثورة (وطنية) شاملة، إذ نجد مثلاً في وثائق الثورة تنسيقاً مع أبعد العشائر في الغراف وفي العمارة لضمهم للثورة قبل حوالي سنة من انطلاقتها، بالإضافة للتنسيق بين جبهات القتال التي لم يكن من رابط بين زعمائها سوى المرجعية ووكلائها، ناهيك عن الدور التقليدي في إطفاء نزاعات العشائر فيما بينها وحنّها على تجاوزها وتوحيد صفوفها من أجل القضية الأساسية وقد بذلت المرجعيات الشيعية جهوداً جبارة في الثورة العراقية كما في حركة الجهاد بالبيانات والخطابة من قبل المرجع الأعلى بنفسه) وإرسال المبعوثين والوفود من فضلاء الحوزة أو أعيان العشائر وإرسال البرقيات والمكاتيب لمختلف طبقات شيوخ العشائر وعلى امتداد الريف العراقي؛ وهذه ليست مجرد قيادة سياسية تقتصر على بيانات تاريخية أو زعامة كاريزمية لشخصية المرجع بل إدارة ميدانية يومية لكامل جهاز المرجعية الشيعية وأدواتها من فضلاء المجتهدين وأعيان الحوزة ناهيك عن طلبتها.
وقد تم تشكيل «مجالس قيادة الثورة»: (المجلس العلمي) في كربلاء و(الهيأة العلمية الدينية العليا في النجف من أركان مرجعيتي الميرزا الشيرازي وشيخ الشريعة الأصفهاني (فيما عدا المجالس الإدارية للمدينتين).
كما تم اختيار فضلاء حوزات كربلاء والنجف والكاظمية ضمن ممثلي الأمة العراقية فنجد في مندوبي بغداد السيد محمد الصدر عن حوزة الكاظمية وسامراء، والذي قاد الثورة بعد ذلك ميدانياً في لواء ديالى والسيد أبي القاسم الكاشاني الذي جمع مع ذلك تفويض زعماء الفرات الأوسط في مفاوضة سلطات الاحتلال سياسياً وقانونياً فضلاً عن كونه من أركان مرجعية الميرزا الشيرازي بكربلاء. ونجد في مندوبي كربلاء الميرزا عبد الحسين نجل آية الله الشيرازي والشيخ محمد نجل آية الله الخالصي، وهما بالطبع من أركان مرجعية الميرزا الشيرازي، بالإضافة للسيد محمد علي الطباطبائي وفي قمة ذلك نجد الميرزا محمد رضا نجل الميرزا الشيرازي وساعده الأيمن وقائد الثورة الميداني على الصعيد السياسي، وهو يرأس مندوبي كربلاء وينسق لاجتماع المندوبين ببغداد، ونجد في مندوبي النجف والشامية الشيخ جواد الجواهري والشيخ عبد الكريم الجزائري، وهما بحق قائدا الثورة ميدانياً على جبهة العشائر والميرزا أحمد نجل الآخوند الخراساني والشيخ عبد الرضا آل الشيخ راضي من مجتهدي وفضلاء حوزة النجف. ولا أدل على دور المرجعية من نفي واعتقال أركانها وفضلائها بدءاً من أنجال المراجع العليا الميرزا محمد رضا الشيرازي والشيخ حسن فتح الأصفهاني نجل شيخ الشريعة) والشيخ محمد جواد الجواهري والميرزا أحمد الخراساني ثم السيد هبة الدين الشهرستاني والسيد أبي القاسم الكاشاني والسيد محمد الكشميري والسيد حسين القزويني والشيخ محمد الخالصي والشيخ محمد حسن أبي المحاسن والسيد محمد رضا الصافي والسيد عزيز الله. وفي الواقع فقد جسدت المرجعية الشيعية القيادة السياسية للثورة وعلاقاتها الخارجية بالإضافة إلى كونها تمثل رئاسة أركان الثورة وإدارتها للحركات والتعبئة اللوجستية والجهاز الإعلامي والدعائي، ولولاها لكانت الثورة مجرد عصيان عشائري موسع، فهي التي منحت الشرعية السياسية لها وحولتها من انتفاضة خارجة على القانون إلى حركة تحرر، وطنية كما إنها نسقت حركات الثوار لتكون ثورة شاملة لم يشهد العراق في تاريخه ثورة وطنية بهذه الدرجة من الشمولية.
ما ورد في خطبة الجمعة لممثل المرجعية الدينية العليا في كربلاء المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في (14/ شعبان /1435هـ) الموافق ( 13/6/2014م )
قال الشيخ الكربلائي في خطبة صلاة الجمعة الثانية من الصحن الحسيني الشريف ما يأتي :
إن العراق وشعبه يواجه تحدياً كبيراً وخطراً عظيماً وإن الارهابيين لا يهدفون إلى السيطرة على بعض المحافظات كنينوى وصلاح الدين فقط بل صرحوا بأنهم يستهدفون جميع المحافظات ولا سيما بغداد وكربلاء المقدسة والنجف الأشرف ، فهم يستهدفون كل العراقيين وفي جميع مناطقهم ، ومن هنا فإن مسؤولية التصدي لهم ومقاتلتهم هي مسؤولية الجميع ولا يختص بطائفةٍ دون أخرى أو بطرفٍ دون آخر.
وأكد الكربلائي : إن التحدي وإن كان كبيراً إلاّ أن الشعب العراقي الذي عرف عنه الشجاعة والإقدام وتحمّل المسؤولية الوطنية والشرعية في الظروف الصعبة أكبر من هذه التحديات والمخاطر .
المزيد