استشعرت المرجعية الشيعية بحساسية مفرطة الأبعاد (الحضارية) للاستعمار الغربي وأثرها على الهوية الإسلامية للمجتمعات المحتلة فتصدت بفاعلية لقيادة حملات الجهاد ضد الاحتلال الروسي لإيران والإيطالي لليبيا – رغم بعد الأخيرة جغرافياً وثقافياً - وأخيراً البريطاني للعراق وألقت في وقفة تاريخية مشرفة بكل ثقلها في حركتي الجهاد الأولى والثانية ۱۹۱٤ - ۱۹۱۷.
ولكنها وبعد أن أصبح الاحتلال أمراً واقعاً عقب احتلال بغداد نجدها تتواصل مع إدارة الاحتلال مباشرةً باعتبارها السلطة الفعلية كأمرٍ واقع رغم مبادئها بشأن الاحتلال الأجنبي، بيد أنها تصرّفت بواقعية نابعة من مسؤوليتها كزعامة اجتماعية للموازنة بين عقائدها الدينية وبين المصالح الواقعية وهذه الواقعية الملتزمة أو المتزنة كانت السمة الأبرز التي تميّز بها المنهج السياسي للمرجعية الشيعية عبر تاريخها، مع أن الواقعية نفسها أبرز ما تفتقده السياسة العراقية في جميع مراحلها في القرن العشرين خصوصاً بعد مرحلة فيصل الأول التي تأرجحت ما بين الانتهازية والمثالية.
ابتدأت الرسائل بين المرجعية الشيعية وسلطة الاحتلال البريطانية بصورة متوازنة رغم ما فيها من جرأة في انقلاب الموقف السياسي فزعيم حركة الجهاد المرجع الأعلى السيد اليزدي لم يبادر بالتواصل وترك ذلك لمن يليه من مراجع الطبقة الأولى، سواء بالاتفاق الضمني أو بالسكوت لإمضاء ذلك. والميرزا الشيرازي ينتظر المبادرة من السير بيرسي كوكس لتعزيته بوفاة أحد العلماء ليجدها فرصة ملائمة للموافقة على كسر حالة العداء دون هدر لمقامه الديني، ويتنقل في رسالته بين عبارات المجاملة التي تتسم بالمبالغة بحسب الأعراف الأدبية والبروتوكولية في ذلك الوقت وبين التأكيد على حفظ المقدسات الإسلامية) و(حفظ الملة) بينما لا يجد شيخ الشريعة غضاضةً في مراسلة كوكس بشأن بعض الخدمات العامة .
وفي الوقت نفسه، يرفض الميرزا الشيرازي أن يصل التطبيع (الفوري) لاستقبال کوکس مباشرةً للحفاظ على الاتزان في التواصل حتى مع استقبال السيد اليزدي ومراجع الكاظمية لمندوب كوكس (السر رونالد ستورز) بعيد احتلال بغداد بفترة وجيزة، وبعد بضعة أشهر فقط من حركة الجهاد الثانية. ذلك يتصدّى ومع السيد اليزدي بحزم للابتذال في (التطبيع) غير المتوازن مع سلطات الاحتلال من قبل بعض علماء كربلاء ومجتهديها، والذين شدّوا عن باقي الحوزات الشيعية في عدم المشاركة بحركة الجهاد، والذي يصل لدرجة تكفيرهم، وهو ما لم تألفه المرجعية الشيعية سابقاً ولا لاحقاً، ويرفض بإباء ومعه شيخ الشريعة وعلماء النجف الهبات المالية التي حاول البريطانيون استمالتهم وملاينتهم بها، وسيصبح استفتاء السيد اليزدي في ۱۹۱۷ (احتلال المسيحى للعتبات المقدسة) نسخة أولية من استفتاء الميرزا الشيرازي بعد سنة حول إمارة غير المسلم على المسلم. بيد أن السيد اليزدي نفسه سيتخذ على الصعيد العملي موقفاً مغايراً حيال أزمة النجف أو ما عرف تاريخياً بثورة النجف (۱۹۱۸ التي كانت مغامرة آيديولوجية أعقبتها عصبية محلية غير مدروسة حاولت توريط المرجعية الشيعية وجرّها لانتحار المجتمع الشيعي سياسياً ضمن توازنات الواقع الجديد. فقد استغل السيد اليزدي زعامته الدينية غير المنازعة للحفاظ على استمرار التوازن البارد في العلاقة بين المرجعية الشيعية وسلطات الاحتلال فالسيد اليزدي الذي امتاز بدهاء سياسي تمكن من مقايضة الصمت عن الاحتلال مع عدم الإقرار بشرعية الاحتلال (واقعاً لم تكن المقاومة حينها ممكنةً بعد انهيار الجيش العثماني وانسحابه، وبعد إنهاك العشائر في حركة الجهاد الأولى والثانية بذريعة انتظار انتهاء الحرب ومنح الاستقلال أو حق تقرير المصير على الأقل للولايات العثمانية التي كان العراق من ضمنها، مقابل النفوذ الممتاز للمرجعية الشيعية في احترام الهوية الإسلامية للمدن المقدسة، ومنحها استقلالاً محلياً لا يخرج عن الإطار العام لسلطات الاحتلال من جهتها فإن سلطات الاحتلال البريطاني ابتلعت العداء المرير الذي أظهرته المرجعية الشيعية والمجتمع الشيعي في حركة الجهاد تجاهها كاحتلال أجنبي وتجاوزته رغم انتصارها الكاسح لتبريد جبهة العراق وعدم إثارة اضطرابات هي في غنى عنها، ريثما تضع الحرب العالمية ،أوزارها وقدمت السياسة البريطانية التقليدية عربون حسن النية تجاه مرجعية السيد اليزدي الذي كان هو بالذات القائد الأعلى لحركة الجهاد ضدها. بيد أن مغامرة ثورة النجف فصمت هذا التوازن البارد وأجبرت سلطات الاحتلال على كسر هيبة المدن المقدسة (بالقوة)، وقد دفعت المرجعية الشيعية ثمن ذلك غالياً من هيبتها وماء وجهها، ومن ثم نفوذها قبال سلطات الاحتلال ما أثر على موقع السيد اليزدي الذي ضحى بمرجعيته مقابل الحفاظ على شعرة العلاقات معها واستمرار النفوذ الشيعي. وهذا ما يفسر خمود مرجعية السيد اليزدي بعد ثورة النجف لغاية وفاته رغم أن تلك الفترة التي امتدت لعام كامل كانت مليئة بالأحداث الخطيرة، وفي طليعتها استفتاء ولسن والتي انزوى عنها فاسحاً مجال المناورة للميرزا الشيرازي، رغم أن الأخير لا ينتمي وفي الواقع تحمّل السيد اليزدي أوزار ثورة النجف رغم أنه حافظ على رزانة واتزان موقع المرجع الأعلى بالتضحية ببعض أعوانه كوكلاء عنه في التفاوض مع الاحتلال وامتصاص آثار ما خلّفته ثورة النجف كما إنه مثل موقف حوزة النجف بالإجماع، ولم يكن موقفه مغايراً لباقي مراجعها ومجتهديها.
إن هذه المرونة في المناورة في العلاقات مع سلطات الاحتلال أظهرت حرصاً بالغاً على عدم المقاطعة كسلطة الأمر الواقع للحفاظ على مصالح شيعة العراق وموقعهم في النظام القادم وهذا ينقض ما سيصبح لاحقاً وصمةً لازمةً في الوعي الشيعي حول مثالية المرجعية الشيعية واستعدائها العقائدي للسلطات البريطانية، بل إن السيد اليزدي وبسبب حملات الإسلام العقائدي ضده - والذي يمثل البدايات المبكرة للإسلام الأيديولوجي - أضحى هدفاً للتشويه كمهادن لسلطات الاحتلال نصاً يتيماً في مذكرات مس بل)، بل دليلاً دامغاً على (تواطؤه) معهم لولا أن ظهرت في الآونة الأخيرة، وبعد قرابة القرن من وفاته كميات مهولة من الوثائق التي تثبت دوره الفذ في زعامة حركة الجهاد وقيادته لها.
ما ورد في خطبة الجمعة لممثل المرجعية الدينية العليا في كربلاء المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في (14/ شعبان /1435هـ) الموافق ( 13/6/2014م )
قال الشيخ الكربلائي في خطبة صلاة الجمعة الثانية من الصحن الحسيني الشريف ما يأتي :
إن العراق وشعبه يواجه تحدياً كبيراً وخطراً عظيماً وإن الارهابيين لا يهدفون إلى السيطرة على بعض المحافظات كنينوى وصلاح الدين فقط بل صرحوا بأنهم يستهدفون جميع المحافظات ولا سيما بغداد وكربلاء المقدسة والنجف الأشرف ، فهم يستهدفون كل العراقيين وفي جميع مناطقهم ، ومن هنا فإن مسؤولية التصدي لهم ومقاتلتهم هي مسؤولية الجميع ولا يختص بطائفةٍ دون أخرى أو بطرفٍ دون آخر.
وأكد الكربلائي : إن التحدي وإن كان كبيراً إلاّ أن الشعب العراقي الذي عرف عنه الشجاعة والإقدام وتحمّل المسؤولية الوطنية والشرعية في الظروف الصعبة أكبر من هذه التحديات والمخاطر .
المزيد