أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-3-2016
3434
التاريخ: 23-2-2019
2995
التاريخ: 22-10-2015
3315
التاريخ: 29-01-2015
3548
|
حلّلنا في فصل (الوعظ) من كتابنا (دراسات في نهج البلاغة)(1) مواعظ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة على ضوء الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والنفسيّة الّتي كانت تسيطر وتوجّه مجتمع العراق بوجه خاص في أيام خلافة الإمام (عليه السّلام).
وكشفنا النّقاب هناك عن أنّ الإمام لم يكن في مواعظه داعياً إلى مذهب زُهْدِي، يقف موقفاً سلبيّاً من الحياة الدنيا والعمل لها والاستمتاع بها، وإنّما كان في مواعظه وتوجيهه الفكري بوجه عام يدعو إلى مواجهة الحياة بواقعيّة وصدق، محذِّراً من اللّهاث المجنون وراء الآمال الخادعة والأحلام الكاذبة، الّتي ليس لها في واقع الحياة سند ولا أساس.
وكشفْنا النّقاب أيضاً عن أنّ النّظرة الشّائعة إلى مواعظ الإمام في نهج البلاغة قد تأثّرت بالتّيَّار الزُهْدِي السّلبي، الّذي طبع المجتمع الإسلامي بطابعه في عصور الانحطاط، وهو دخيل على الفكر الإسلامي وعلى أخلاقيّات الإسلام وتشريعه، ولذا فإنّ هذه النظرة خاطئة لا تمثِّل مقاصد الإمام وأهدافه من المواعظ الّتي كان يوجّهها إلى مجتمعه.
والمواعظ الّتي استخدم الإمام فيها عنصر التّاريخ كغيرها من مواعظه في أنّه لا يدعو فيها إلى مذهب زهدي سلبي من الحياة الدنيا، وإنّما يعالج بها حالة خاصّة في مجتمعه الّذي بدا غافِلاً عن مصيره التَعِس، مُهْمِلاً لواجباته في جهاد النفس وجهاد العدو، مُتلهِّفاً على المُتَع والثراء اللّذَين لا يستحقّهما إلاّ مجتمع مستقر، أحكم وضعه الأمني والسّياسي والاجتماعي، وقطع دابر الطامعين فيه المتآمرين عليه، وهذا ما لم يَكُنْه مجتمع العراق في عهد الإمام (عليه السلام) بل كان مُجْتَمَعاً قلِقاً يعاني من اضطراب أَمْنِهِ الخارجي وتدهور أَمْنه الداخلي، كما يُعاني من التمزّق السياسي، وكان - نتيجةً لذلك - يؤجّج مطامع الحكم الأموي في الشام ويدفع به نحو التآمر عليه.
ونقدّم فيما يلي نموذجاً من النّصوص الوعظيّة الّتي يكون التاريخ عنصراً بارزاً وأساسيّاً فيها:
قال (عليه السّلام): أمّا بَعْدُ، فَإنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإنَّهَا حُلوَة خَضِرَة، حُفَّتْ بِالشَّهواتَ، وَتحبَّبتْ بِالعاجِلةِ، وراقت بِالقليلِ، وتحلَّتْ بِالآمالِ، وتزيَّنتْ بِالغُرُور، لا تدُومُ حَبرتُها(2)، ولا تُؤمَنُ فجعتُها، غرَّارة ضرَّارة، حائِلة(3) زائِلة نافِدة(4) بائِدة، أكَّالة غوَّالة (5)، لا تعدُو إذا تناهتْ إلى أُمنيَّةِ أهلِ الرَّغبةِ فِيها والرِّضاءِ بِها أَنْ تكُون كما قالَ اللهُ تعالى سُبحانهُ: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45] ، لم يكُنِ امرُؤ مِنها فِي حَبرةٍ إلاّ أعقبتهُ بعدها عبرةً، ولم يلقَ فِي سرَّائها بطناً إلا منحتهُ مِن ضرَّائَها ظهراً(6)، ولم تطُلَّهُ فيها دِيمة(7) رخاءٍ إِلاّ هتنتْ(8) عليهِ مُزنةُ بلاءٍ. وحرِيّ إذا أَصبحتْ لهُ مُنتصرةً أن تُمسِيَ لهُ مُتنكِرةً، وإنْ جانِب مِنها اعذوذبَ واحلولى أَمرَّ مِنها جانِب فأَوبى(9) لا ينالُ امرُؤ مَن غضاريها رغباً(10) إلاّ أرهقتْهُ مِن نوائبِها تَعَبَاً، ولا يُمسِي مِنها في جناحِ أَمْنٍ إلاّ أصبحَ على قوادِمِ خوفٍ(11)، غرَّارةُ ما فِيها، فانية، فانٍ مَن عليها، لا خيرَ فِي شيءٍ مِن أزوادِها إلاّ التقوى.
مَن أقلَّ مِنها استكثرَ مِمَّا يُؤمِنُهُ، ومَنِ استكثرَ مِنها استكثرَ مِمّا يُوبِقُهُ(12)، وزال عمَّا قلِيلٍ عنهُ .
كم مِن واثقٍ بِها قد فجعتْهُ، وذِي طُمَأنِينَةٍ إليها قد صرعتْهُ، وذِي أُبهةٍ قد جعلتْهُ حقِيراً(13)، وذِي نخْوةٍ قد ردَّتْهُ ذلِيلاً(14).
سُلطانُها دُوَّل(15) وعيشُها ريق(16)، وعذبُها أُجاج(17)، وحُلوها صَبِر(18)، وغِذاؤُها سِمام(19) وأسبابُها رِمام(20).
حيُّها بِعرضِ موتٍ، وصحِيحُها بِعرضِ سُقمٍ، وموفُورُها منكُوبٍ(21) وجارُها محرُوب(22).
ألستُم فِي مساكِنِ مَن كان قبلكُم أطولَ أعماراً وأبقى آثاراً، وأبعدَ آمالاً، وأعدَّ عدِيداً. وأكثف جُنُداً؟ تعبَّدُوا لِلدُّنيا أيَّ تعبُّدٍ، وآثرُوها أيَّ إيثارٍ، ثُمَّ ظعنُوا عنها بِغيرِ زادٍ مُبلغٍ، ولا ظهرٍ قاطِعٍ(23) .
فهل بَلَغَكُم أنَّ الدُّنيا سختْ لهُم نفساً بِفِديةٍ(24) أو أعانتْهُم بِمَعُونةٍ، أو أحسنت إليهِم صُحبَةً..؟ بل أرهقتْهُم بالقوادِحِ(25) و أوهقتْهُم بِالقوارِعِ(26) وضَعْضَعَتْهُم بِالنَّوائبِ(27)، وعفَّرتْهُم لِلمناخِرِ(28)، ووطِئتْهُم بِالمناسِمِ(29)، وأعانتْ عليهِم ريبَ المنُون .
فقد رأيتُم تنكُّرَها لِمَن دان لها(30) وآثرها وأَخْلَدَ إليها(31) حِين ظعنُوا عنها لِفِراقِ الأبدِ... أفهذِهِ تُؤثِرون؟ أَمْ إِلَيْهَا تطمئنُّونَ؟ أَمْ عليها تَحرِصُون؟ فبِئستِ الدَّارُ لِمَنْ لم يتَّهِمها، ولم يكُن على وجلٍ مِنه .
فاعلمُوا - وأنتُم تعلمُون - بِأنكُم تارِكُوها وظاعِنُون عنها، واتَّعِظُوا فِيها بِالَّذِين قالُوا {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] حُمِلُوا إلى قُبُورِهِم فلا يُدعَون رُكباناً(32)، وأُنزِلُوا الأجداث فلا يُدعَونَ ضِيفاناً(33)، وجُعِل لهُم مِنَ الصَّفِيحِ(34) أجنانُ(35) ومِن التُّرابِ أكفان...
استبدَلُوا بِظهرِ الأرِضِ بطناً، وبِالسَّعةِ ضِيقاً، وبِالأهلِ غُربةً، وبِالنُّورِ ظُلمَةً... (36).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - (محمّد مهدي شمس الدّين): دراسات في نهج البلاغة (الطّبعة الثّالثة) بيروت ص 247.
2 - الحبرة: بالفتح - النّعمة.
3 - حائلة: متغيِّرة.
4 - نافدة: فانية.
5 - غوّالة: مُهْلِكَة.
6 - البطن: كناية عن إقبال الدّنيا، والظّهر: كناية عن الإدبار.
7 - الطلّ: المطر الخفيف. والدّيمة: مطر يدوم في سكون لا يرافقه رعد وبرق.
8 - هتنتْ: انصبّت.
9 - أوبَى: صار كثير الوباء.
10 - الغضارة: النّعمة، والرّغَب: الرغبة، والمرغوب فيه.
11 - القوادِم: جمع قادِمة، ريش في مقدم جناح الطائر.
12 - يُوبِقهُ: يُهلكهُ.
13 - أبّهة: عظمة.
14 - النّخوة: الافتخار.
15 - دُوَّل - بضم الدال - المنحول.
16 - الريق: الكدر.
17 - أُجاج: شديد الملوحة.
18 - الصّبر: عصارة الشّجر المرّ.
19 - سمام: جمع سم، وهو مثلث السين.
20 - الرُّمام: جمع رُمّة - بالضم - القطعة البالية من الحبل، ومنه (ذُو الرّمّة).
21 - موفورها: مَن كان عنده وفر (كثرة) من الدنيا معرض للمصائب والنّكبات.
22 - محروب: المحروب مَن سلب مالُه.
23 - ظهر قاطع: وسيلة تقطع براكبها الطريق بأمان وتبلغه غايته.
24 - لم تدفع عنهم الدّنيا بلاء الموت.
25 - أرهقتْهم: أتْعَبَتْهُم. والقوادِح: جمع قادح، مرض يصيب الأسنان والشجر. أراد به هنا المصائب والنكبات.
26 - الوهق: حبل تُصطاد به الفريسة، والقوارع: المحن. أراد أنّهم أسرى مشاكلهم المادِّيَّة والاجتماعيّة.
27 - ضَعْضَعَتْهُم: جعلتهم قلقين، وحرمتهم الاستقرار وطنب العيش.
28 - عَفّرَتْهم: العفر التراب، مرّغتْ آنافهم بالتّراب، كناية عن إذلالِهم.
29 - المنسم: خف البعير، كناية عن إذلالهم.
30 - دَانَ: خضع.
31 - أَخْلَدَ: اطمأنّ.
32 - لا يُدعَونَ رُكباناً؛ لأنّهم مقهُوُرون ولم يُحمَلُوا مختارين، ولا يُدعون ضيفاناً؛ لأنّهم يُقيمون في قبورهم.
33 - الأجداث: القبور.
34 - الصَفِيْح: الوجه من كلّ شيء له مساحة، والمراد هنا الأرض.
35 - أَجْنَان: جمع جَنَن - بالفتح - القبر.
36 - نهج البلاغة: رقم الخطبة: 111.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
خدمات متعددة يقدمها قسم الشؤون الخدمية للزائرين
|
|
|