أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-5-2019
2091
التاريخ: 17-3-2016
5024
التاريخ: 2024-08-24
386
التاريخ: 16-6-2019
1969
|
ما خفَّت لوعة الحسين مع وصول أبيه إلى كرسيِّ الخلافة ، ولكنَّها تحوَّلت فيه إلى غِبطة داخليَّة ، لم يجد لها في نفسه إلاَّ التفسير اللذيذ ، وإنْ تكن غبطة مُتولِّدة مِن هلع ، وهل للهلع في النفس أنْ يغزل قميصاً مِن طمأنينة ؟! لقد تمثَّل له أنَّ جَدَّه الآن يُغمض عينيه في الإغفاءة القريرة ، وها هي رغبته الكبيرة يُحقِّقها التنفيذ ولمَّا ينقل بعد جُثمانه الطاهر إلى مَقرِّه المُشبَّع بنور منه ... إنَّ أباه بالذات ـ بعد أنْ يحمله بذِراعيه ويُكفِّنه بمثواه ـ سيتوجه توَّاً إلى الكرسيِّ المُعدِّ له ، فيجلس ويُتابع تسيير الشؤون الكبيرة ، مِن دون أنْ ينقطع خيط واحد لا مِن سُداها ولا مِن لُحمتها .. هنيئا للأُمَّة العظيمة ! لا يتركها مؤلِّفها وراعيها لحَظةً واحدةً ، لا في العَراء الفاتر ، ولا في هَدأة السكون ، بلْ في العُهَدة المُستمرَّة ، تُغذِّيها لواعج النفس المُطهَّرة تطهيراً ، ويتدبَّرها الإعداد الموزون بالرسالة التي هي حدود الله في الإنسان ، وتحديد الأُمَّة بالإنسان .
لقد ذابت كلُّ فُسحة ضيِّقة مِن بال الحسين ، فلا أبو بكر يتوكَّأ على عَصاه خلف كرسيِّ الخلافة ، ولا سبيل لأيِّ واحد آخر يدُعْى عمر بن الخطاب يتخبَّأ تحت قوائم الكرسيِّ ، بانتظار هبوط دغشة الليل ، ولا أحد مِن بني عثمان يَحرق البيت بفتيلة السراج العتيق ، ولا جُذع واحد مِن بني حرب يتسرَّب إليه اسم مُعاوية ، فيسرق الشام مع الغوطة ويُغرقهما في عِبِّه ...
إنَّ الأُمّة وحدها هي المُنزَّهة بين يدي أبيه مُنذ الساعة الأُولى مِن هدأة الفجر في نحر الفجر .
لقد تهيَّأ كلُّ ذلك في بال ومُخيَّلة الحسين في هذه اللحظة ، التي تمَّ فيها وصول أبيه إلى الحُكم ، فالأُمَّة التي هي جَدُّه في مُهمَّته الرساليَّة ، تناولت الآن محورها واستمرَّت في عمليَّة البثِّ ، هكذا تراءى للحسين المُنطبع انطباعاً مُطلقاً بجَدِّه ، وبرسالة جَدِّه ، والمؤمن إيماناً مُطلقاً بالأُمَّة التي هي تعبير مُطلق عن جَدِّه وقيمة جَدِّه في الوجود الإنساني الرائع ؛ مِن هنا إنَّ كلَّ ما كان يتحضَّر مِن أجل خدمة الأُمّة ورفع سويَّتها ، وكان يُحرِّك لهفة الحسين ، ويُلهب شوقه في الوجود ، ويُحيي فيه استحضاراً بالغ الخشوع لجَدِّه الذي يحيا أبداً في الرسالة ، التي لا تخلد إلاَّ في خلود الأُمَّة التي هي عنوانه الأبهى .
إنَّها الحقيقة في التطوُّر النفسي ـ الروحي ـ الذي كانت تُرتِّبه المُعاناة عند الحسين ، مع كلِّ مرحلة مِن مراحل عُمره بالتدرُّج العقلي إلى الفهم والإدراك والتفتُّح الذهني ، لقد كان واقع الأحداث على الأرض يوسِّع له الاختبار المُلمّ ، ويُكسب طاقاته الفِكريَّة ـ النفسيَّة ـ عُمقاً فلسفيَّاً وجوديَّاً ، راح يَغرق فيه غرقاً ذاتيَّاً محفوفاً بفضاء آخر ، كلُّ صفاته مِن التحديد ، إنَّه جوٌّ مِن التأمُّل المُتحفِّز النائم ـ أبداً ـ في كلِّ خليَّة مِن الخلايا المُنطوية بها حقيقة ذاته .
مِن هذا القبيل كان انتهاؤه إلى الاقتناع ، بأنَّ الرسالة التي حقَّقت أُمَّة هي الأُمّة ذاتها في جوهرها الكونيِّ الإنسانيِّ ، ومِن الحيف أنْ تخيب هذه الأُمّة ، وإلاّ فإنَّ الرسالة هي المُعطَّلة في مؤدَّاها الأصيل ! ولكنَّ مُخيَّلة الحسين شغفت بأنْ تتلهَّى ـ الآن ـ بأنَّ وصول أبيه إلى الحُكم هو في خَطِّه الاستمراري ، ولم يشبَّ بأيِّ انقطاع مع أنَّ وصوله إلى الحُكم هو الوصول الهزيل ، بعد مُرور ثلاثين سنة مِن غياب ، وانقطاع أبْعَدا الخَطَّ عن استمراره الضابط !
ليت الحُكم وصل إلى عليٍّ عندما كان يتمنطق بسيفه ( ذي الفِقار ) ، لقد قصفت القبليَّة سيف عليٍّ بعد أنْ أبعدوه خمساً وعشرين حولاً عن مُتابعة الجهاد ، ولمَّا عادت إليه الساحة كان قد ادلهمَّ الليل بالعَكر المشؤوم .
أمَّا الأُمّة فهي التي تئنُّ الآن وهي تستدعيه لتقديم الغوث ، فما أحوجه إلى عشرة سيوف يهزُّها دُفعة واحدة في وجوه هؤلاء القوم ، وخلف كلِّ واحد منهم قبائل تُنادي : يا للجاهليَّة في ثارات العرب !!!
كَمْ سيفاً قصف المُستعان به في صدر طلحة والزبير في معركة الجمل ، بقيادة أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر التيمي ؟ وكَمْ كلَّفته مِن سيوف مقصوفة ، مَعارك صِفِّين ، بقيادة ذلك الذي وصِف بأدهى الدُّهاة ـ مُعاوية ـ كسرى العرب ؟ وكَمْ أرهقته القبليَّة المُجنَّدة بقيادة عمرو بن العاص ، والمُغيرة بن شعبة ، وزياد المُحلق بأبيه ابن أبي سُفيان ، وأخيه مُعاوية ـ المُكحِّلين بغِبار فراش كانت تتقلَّب عليه امرأة اسمها ( سُميَّة ) ؟!! ، وكَمْ أضنته حِياكة القُمصان المصبوغة بالزعفران ، حملها مع كلِّ أنوالها العتيقة إلى الشام ، بشير بن النعمان ؟ وكَمْ أدمت قلبه وشلَّت مِن هِمَّته وأعصابه ، عنجهيَّة أبي موسى الأشعري ، التي كانت لقاحاً لورمٍ اصفرَّ تزنرت به بطولة مغشوشة ، شقَّت عصا الطاعة ، وضربت بها في معارك النهروان ؟! وكَمْ صعقَته ساعات الحُزن وهو يغرق في تأمُّلاته المليئة بالعِفَّة ، والصدق ، ونقاوة الوجدان ، حتَّى غافله ـ وهو غائص مُستجمُّ بها ـ وغد آخر علَّمه أبو لؤلؤة كيف يضرب بالسيف المسموم صدر المُصلِّي في باحة المسجد !!!
إنَّها الحقيقة الصارمة يجابهها ـ الآن ـ الحسين ، لقد غاب أبوه مِن تحت نظره ، وبقي عظيماً كبيراً ماثلاً في مدى بصيرته ، لقد أخذ عنه ما أخذه عن جَدِّه ، إلاَّ أنَّ الأخذ هنا كان أطول في مَداه ، وكان مكوَّراً بمُعاناة ما زادته فهما حتَّى زيَّنته شعوراً بأنَّ رسالة جَدِّه العظيم ، هي بالحاجة القصوى إلى أنداد مِن طينة أبيه ، حتَّى تُعمَّر الأُمَّة ويستقطبها الوعي المُهذَّب إلى تحقيق ذاتها الإنسانيَّة الصامدة في صدر الحياة يا للمدرسة في أُقنومها الموحَّد ! بسطها جَدُّهُ مُحدَّدة بعليِّ .
و يا لحظِّ أخيه الحسن يتناولها مرسومة ولكنَّها محفوفة بالجُهد الممهور بالدم ! ولكنْ قبل أنْ يتناولنا الإمام الحسن إلى بساطه الأبيض ، يروق لي أنْ أتبيَّن لون المُعاناة التي راحت تغرق فيها كآبة الحسين بعد مَقتل أبيه الإمام ، هلْ هي الحُزن المألوف طَعمه في لحَظة الموت ، ومفارقة الأحباب لأعزِّ الأحباب ؟ أم أنَّها مزيج آخر ، يتولَّد في النفس مِن الإفرازات الأُخرى التي يؤلِّفها الشوق الحميم في تلك النفس ، ويطبعها به على تخصيص وتمييز ؟
ما أسرعني إلى أنْ أُجيب نفسي بنفسي ! مُنذ أنْ امتلأ الحسين بروعة الإدراك ، وبالتمام التمام ، مُنذ أنْ أدرك أنَّ في تربيته المُلوَّنة لغُزاً مَختوماً بأفخم الأختام ، بدأت تشعُّ على نفسه روائع التكوين ، مُنذ هاتيك اللحظات ، ونفسه كالصفحة البيضاء ، تنهال عليها الأزاميل بالحَفر البليغ ، ومُنذ أنْ أدرك أنَّه مدموج بجَدِّه عنصراً مِن عناصر الصيانة لرسالة هي وحدها بُلغة الإنسان ، وهي وحدها سياج الأُمَّة وتكييفها ضمانة لوجود الإنسان ، توسَّعت حدود نفسه لاستيعاب المُهمَّة الوسيعة ، وعمَّقت بها الآفاق بقدر ما لها هي مِن آفاق عميقة وجليلة .
فيما بعد ، عندما راح يُدرك واقع الأحداث على الأرض ، وكيف تمَّت حياكتها وإخراجها ، كأنَّها مسرحيَّة لبست الغَباء وتبدَّت بالهزل ، والكذب والتهريج ، لتنتهي بمأساة ما كانت ضحيَّتها ـ فقط ـ قيمة إنسانيَّة فذَّة ، طلع بها رجل اسمه عليُّ بن ابي طالب ، بلْ كانت ضحيَّتها أُمَّة برُمَّتها ، تحمَّلت أجيالاً طويلة مِن التردِّي والانحطاط ، حتَّى وهبها الله رجلاً منها ، سكب لها مِن نبوَّة الروح قالباً جديداً صاغها به ودفعها قَدماً إلى السلالم .
لقد تعب في بناء المسرحيَّة المؤلِمة عمر بن الخطاب ، في اللحظة التي غفلت بها عين الرسول عن عمليَّة الزجر والنهي عن تحريك الجمر في وادي الشياطين ، ولقد تمَّ تمثيل المسرحيَّة التي أتقن الرقص على خشبتها عثمان بن عفَّان في مسجد المدينة ، ومُعاوية بن أبي سفيان في غَوطة الشام . أيَّة عُقدة لذيذة تألَّفت بها المسرحيَّة ونامت عليها ؟ ولكنَّها لم تكن عُقدة يتمجَّد بها الفنُّ ، بلْ كانت حِقداً ذلَّت به الأُمَّة في مداها الطويل مِن عمرها المهدور ، ونعمت بالعِزِّ والمَجد والكرامة ، في اللحظة التي جعلها نبيُّها العظيم تتحرَّر منه . أمَّا العُقدة المَبنيَّة بحَذقٍ ودهاءٍ فهي التي راحت تتكشَّف عنها الأيَّام ؛ تنفيذاً لمبدأ صرَّح عنه مؤلِّف المسرحيَّة عندما قدَّمها لبعض المُشاهدين : لا تلتقي النبوَّة والرئاسة في بيت واحد .
أمَّا التفسير الجليُّ للذين اعتنقوا المبدأ ، فهو السعي الحثيث للقضاء على كلٍّ مَن هُمْ أهل البيت ، وهكذا يتمُّ اجتثاث الجرثومة التي تُطالب بتوحيد النبوَّة في أهل البيت ..
لقد ابتدأت اللُّعبة كأنَّها زُحام وصولي إلى كرسيِّ مشيخة ، وانتهت إلى صراع آخر فيه كلُّ القصد للاقتلاع والإبادة ، ولقد كانت الهواجس تشتدُّ ويشتدُّ معها التحسُّب وأخذ الحيطة ، إلى أنْ انقلبت عند أهل البيت حِسَّاً بخطر مداهم في كلِّ لحظة .
لقد أُبعد أهل البيت وكلُّ مَن يمُتُّ إليهم بصِلة عن أيِّ مركز مِن المراكز الإداريَّة في دولة الحُكم ، وليس هذا وكفى ، بلْ إنَّ الاضطهاد المُباشر راح يَطال الجميع دون أيَّة هَوادة ، ومَن يقول : إنَّ مَقتل الإمام الآن ـ بسيف ابن مُلجم ـ ليس مدفوعاً بذات الرغبة وذات الإيحاء ؟
عجيبة غريبة هي الأساليب التي اعتمدوها واستعملوها ، وتفنَّنوا بإخراجها في ساحة الصراع ، إنَّ التنوُّع فيها كان يُضيِّع الفئة المُضطهدة في تمتين الحَيطة والتزام التحسُّب ، لأنَّ زمام المُبادرات كان دائماً بأيديهم ، وهو يكون على أقواه مع المُستقوي بالسلطان ، وكلُّ مُقدَّرات الناس في كفَّيه ، وكلُّ نيَّة الشَّرِّ ، والغَدر والبُهتان ، هي المُبيَّتة في صدره .
في هذه اللحظة ـ النازفة بالحُزن والمرارة ـ كانت تتفتَّح في نفس الحسين كآبة ، أوسع ما فيها أنَّها أغرقته في تأمُّل لا شَفة له ولا لسان ، إنَّه الحزين الكئيب ، ليس مُطلقاً على أبيه الذي غاب مثلما غاب جَدُّه وغابت أُمُّه ، بل على القضيَّة التي هي الرسالة ، والتي هي الأُمَّة ، والتي هي المَوئل الكبير الذي يردُّ الغائبين العظام إلى كلِّ واحة هُمْ فجَّروا ماءها ، وأحيوها ، وخلَّدوها في مَدارها الإنساني الرائع المنتسب إليهم ، والمضموم بهم إلى حقيقة خلود الذكر ، وخلود القيمة في استمرار مُجتمع الإنسان .
سيكون لأخيه الحسن أنْ يتناول الخَطَّ ويمشي بعمليَّة الغوث ، أمَّا الحسين فإنَّه الواجف المُنتظر ، وهو غارق في تأمُّله الصامت : أيكون الترقُّب الآن عنصراً آخر في مُعاناته التي لم تنفجر بعد؟!!!
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|