أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-11-2017
4287
التاريخ: 28-3-2021
4123
التاريخ: 14-6-2021
9954
التاريخ: 28-3-2021
3047
|
قال تعالى : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 125 - 127] .
قال تعالى : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام : 125] .
لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين ، بين عقبه ما يفعله سبحانه بكل من القبيلتين فقال : {فمن يرد الله أن يهديه} قد ذكر في تأويل الآية وجوه أحدها : إن معناه {فمن يرد الله أن يهديه} إلى الثواب ، وطريق الجنة {يشرح صدره} في الدنيا {للإسلام} بأن يثبت عزمه عليه ، ويقوي دواعيه على التمسك به ، ويزيل عن قلبه وساوس الشيطان ، وما يعرض في القلوب من الخواطر الفاسدة ، وإنما يفعل ذلك لطفا له ، ومنا عليه ، وثوابا على اهتدائه بهدى الله ، وقبوله إياه ، ونظيره قوله سبحانه {والذين اهتدوا زادهم هدى} ، {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} .
{ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} يعني : ومن يرد ان يضله عن ثوابه وكرامته ، يجعل صدره في كفره ضيقا حرجا ، عقوبة له على ترك الإيمان ، من غير أن يكون سبحانه مانعا له عن الإيمان ، وسالبا إياه القدرة عليه ، بل ربما يكون ذلك سببا داعيا له إلى الإيمان ، فإن من ضاق صدره بالشيء ، كان ذلك داعيا له إلى تركه ، والدليل على أن شرح الصدر قد يكون ثوابا قوله سبحانه {ألم نشرح لك صدرك} الآيات ، ومعلوم أن وضع الوزر ورفع الذكر يكون ثوابا على تحمل أعباء الرسالة وكلفها فكذلك ما قرن به من شرح الصدر . والدليل على أن الهدى قد يكون إلى الثواب قوله {والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم} .
ومعلوم أن الهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الثواب ، فليس بعد الموت تكليف ، وقد وردت الرواية الصحيحة أنه لما نزلت هذه الآية ، سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شرح الصدر ما هو؟ فقال : نور يقذفه الله في قلب المؤمن ، فينشرح له صدره ، وينفسح . قالوا : فهل لذلك من إمارة يعرف بها؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : نعم الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت .
وثانيها : إن معنى الآية فمن يرد الله ان يثبته على الهدى ، يشرح صدره من الوجه الذي ذكرناه ، جزاء له على إيمانه واهتدائه ، وقد يطلق لفظ الهدى والمراد به الاستدامة كما قلناه في قوله {إهدنا الصراط المستقيم} .
{ومن يرد أن يضله} أي : يخذله ، ويخلي بينه وبين ما يريده لاختياره الكفر ، وتركه الإيمان {يجعل صدره ضيقا حرجا} بأن يمنعه الألطاف التي يشرح لها صدره لخروجه من قبولها بإقامته على كفره .
فإن قيل : إنا نجد الكافر غير ضيق الصدر ، لما هو فيه ، ونراه طيب القلب على كفره ، فكيف يصح الخلف في خبره سبحانه؟ قلنا إنه سبحانه بين أنه يجعل صدره ضيقا ، ولم يقل في كل حال ، ومعلوم من حاله في أحوال كثيرة ، أنه يضيق صدره بما هو فيه من ورود الشبه والشكوك عليه ، وعندما يجازي الله تعالى المؤمن على استعمال الأدلة الموصلة إلى الإيمان ، وهذا القدر هو الذي يقتضيه الظاهر .
وثالثها : إن معنى الآية من يرد الله أن يهديه زيادة الهدى التي وعدها المؤمن {يشرح صدره} لتلك الزيادة ، لأن من حقها أن تزيد المؤمن بصيرة ، ومن يرد ان يضله عن تلك الزيادة بمعنى يذهبه عنها من حيث أخرج هو نفسه من أن يصح عليه {يجعل صدره ضيقا حرجا} لمكان فقد تلك الزيادة ، لأنها إذا اقتضت في المؤمن ما قلناه ، أوجب في الكافر ما يضاده ، ويكون الفائدة في ذلك الترغيب في الإيمان ، والزجر عن الكفر . وهذا التأويل قريب مما تقدمه .
وقد روي عن ابن عباس أنه قال : {إنما سمى الله قلب الكافر حرجا ، لأنه لا يصل الخير إلى قلبه} وفي رواية أخرى : {لا تصل الحكمة إلى قلبه} . ولا يجوز أن يكون المراد بالإضلال في الآية : الدعاء إلى الضلال ، ولا الأمر به ، ولا الإجبار عليه ، لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يأمر بالضلال ، ولا يدعو إليه ، فكيف يجبر عليه ، والدعاء إليه أهون من الإجبار عليه ، وقد ذم الله تعالى فرعون والسامري على إضلالهما عن دين الهدى في قوله {وأضل فرعون قومه وما هدى} وقوله {فأضلهم السامري} .
ولا خلاف في أن إضلالهما إضلال أمر ، وإجبار ، ودعاء ، وقد ذمهما الله تعالى عليه مطلقا ، فكيف يتمدح بما ذم عليه غيره ؟ .
قوله {كأنما يصعد في السماء} فيه وجوه أحدها . إن معناه كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الاسلام ، من ضيق صدره عنه ، أو كأن قلبه يصعد في السماء نبوا (2) عن الاسلام والحكمة ، عن الزجاج وثانيها : إن معنى {يصعد} كأنه يتكلف مشقة في ارتقاء صعود ، وعلى هذا قيل عقبة عنوت وكؤود ، عن أبي علي الفارسي قال : ولا يكون السماء في هذا القول المظلة للأرض ، ولكن كما قال سيبويه القيدود : الطويل في غير سماء أي : في غير ارتفاع صعدا . وقريب منه ما روي عن سعيد بن جبير أن معناه كأنه لا يجد مسلكا إلا صعدا وثالثها : إن معناه كأنما ينزع قلبه إلى السماء ، لشدة المشقة عليه في مفارقة مذهبه .
{كذلك يجعل الله الرجس} أي : العذاب عن ابن زيد ، وغيره من أهل اللغة .
وقيل : هو ما لا خير فيه ، عن مجاهد {على الذين لا يؤمنون} وفي هذا دلالة على صحة التأويل الأول ، لأنه تعالى بين أن الإضلال المذكور في الآية كان على وجه العقوبة على الكفر ، ولو كان المراد به الإجبار على الكفر ، لقال : كذلك لا يؤمن من جعل الله الرجس على قلبه ، ووجه التشبيه في قوله {كذلك يجعل الله الرجس} أنه يجعل الرجس على هؤلاء ، كما يجعل ضيق الصدر في قلوب أولئك ، وأن كل ذلك على وجه الاستحقاق . وروى العياشي بإسناده ، عن أبي بصير ، عن خيثمة ، قال :
سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : {إن القلب يتقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ، ما لم يصب الحق ، فإذا أصاب الحق قر ، ثم قرأ هذه الآية} .
- {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام : 126 - 127] .
ثم أشار تعالى إلى ما تقدم من البيان فقال : {وهذا صراط ربك} أي : طريق ربك ، وهو القرآن ، عن ابن مسعود ، والإسلام ، عن ابن عباس ، وإنما أضافة إلى نفسه لأنه تعالى هو الذي دل عليه ، وأرشد إليه {مستقيما} لا اعوجاج فيه ، وإنما انتصب على الحال . وإنما وصف الصراط الذي هو أدلة الحق بالاستقامة مع اختلاف وجوه الأدلة ، لأنها مع اختلافها تؤدي إلى الحق ، فكأنها طريق واحد لسلامة جميعها من التناقض والفساد {قد فصلنا الآيات} أي : بيناها وميزناها .
{لقوم يذكرون} وأصله يتذكرون خص المتذكرين بذلك لأنهم المنتفعون بالحجج ، كما قال : {هدى للمتقين} .
{لهم دار السلام} أي : للذين تذكروا وتدبروا ، وعرفوا الحق وتبعوه ، دار السلامة الدائمة الخالصة ، من كل آفة وبلية ، مما يلقاه أهل النار ، عن الزجاج ، والجبائي . وقيل : إن السلام هو الله تعالى ، ودار الجنة ، عن الحسن ، والسدي {عند ربهم} أي : هي مضمونة لهم عند ربهم ، يوصلهم إليها لا محالة ، كما يقول الرجل لغيره : لك عندي هذا المال أي : في ضماني . وقيل : معناه لهم دار السلام في الآخرة ، يعطيهم إياها {وهو وليهم} يعني الله يتولى إيصال المنافع إليهم ، ودفع المضار عنهم . وقيل : وليهم ناصرهم على أعدائهم . وقيل : يتولاهم في الدنيا بالتوفيق ، وفي الآخرة بالجزاء {بما كانوا يعملون} المراد جزاء بما كانوا يعملون من الطاعات ، فحذف لظهور المعنى ، فإن من المعلوم أن ما لا يكون طاعة من الأعمال ، فلا ثواب عليه .
______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 157-160 .
2 . نبا نبوا : تجافى وتباعد .
{ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ } . قال الرازي : تمسك أصحابنا - يريد السنة الأشاعرة - بهذه الآية في بيان ان الضلال والهداية من اللَّه تعالى .
أما أصحابنا فيقولون : لو كان الضلال والهداية من اللَّه لسقط التكليف ، وبطل الحساب والجزاء ، لأنه تعالى أعدل من أن يفعل الشيء ، ويحاسب غيره عليه ، كيف ؟ . وهو القائل : ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أما الآية التي نحن في صدد تفسيرها فلا تدل على دعوى الرازي وأصحابه ، لأنها لم ترد لبيان مصدر الضلال والهداية ، وانه من اللَّه أو من غيره ، وانما وردت لبيان ان الناس فريقان :
الفريق الأول : تتسع صدورهم للحق ، ويتفاعلون معه ، ويطمئنون إليه ، لوعيهم وتجردهم عن الأغراض والأهداف الشخصية ، وتحررهم من التقاليد والأهواء ، وهؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبابِ} [الزمر - 18] . فقوله هم أولو الألباب يشعر بأن اللَّه هداهم لأنهم من أولي الألباب ، وانه تعالى يمد العبد بهدايته لحكمة في ذات العبد نفسه . . وأيضا هم المعنيون بقوله {وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ} [الجن - 13] . وقوله : {رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران - 193] . ولما علم سبحانه الخير من هذا الفريق زادهم اللَّه هدى ، وأمدهم بتوفيقه وعنايته ، قال تعالى : {ويَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} [مريم - 76] . وقال : {والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وآتاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد - 17] . وهكذا يهتم الأستاذ بتلميذه ويشجعه إذا علم منه الذكاء والنشاط .
الفريق الثاني : لا تتسع صدورهم للحق لجهلهم وضيق أفقهم ، أو لتناقضه مع منافعهم وأرباحهم ، أو عاداتهم وتقاليدهم ، وهؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى : فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ - 22 الزمر . وقوله : {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء - 2] . وقوله : {ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ ولَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال - 23] .
فاللَّه سبحانه يعرض عن العبد ، ويوكله إلى نفسه إذا لم يعلم الخير منه ، كما يهمل الأستاذ تلميذه بعد اليأس من نجاحه . انظر تفسير الآية 88 من النساء ، فقرة : الإضلال من اللَّه سلبي لا ايجابي ج 2 ص 399 .
{ كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ } . كان الناس فيما مضى يضربون المثل للممتنع بالصعود إلى السماء ، حيث لا وسيلة إليه بحال ، والتشبيه في الآية يتفق مع العصر الذي نزلت فيه ، والقصد منه ان فريقا من الناس - وهم الفريق الثاني الذي أشرنا إليه - يجدون الضيق والعسر لو كلفوا باتباع الحق ، تماما كما لو أمروا بالصعود إلى السماء { كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } .
المراد بالرجس هنا العذاب ، لأنه جزاء الكافرين ، والمعنى ان الذين وقعوا في الضيق والحرج من اتباع الحق في الدنيا كذلك غدا يقعون في العذاب الذي هو أشد وأعظم عليهم ضيقا وحرجا من اتباع الحق : {وقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة - 81] .
{ وهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } . هذا إشارة إلى الإسلام الذي تنشرح له وتستريح به صدور الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، والإسلام هو الصراط الذي لا وعورة فيه ولا اعوجاج { قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } . أي أقمنا الدلائل والحجج الواضحة الكافية على صحة الإسلام وصدقه في القرآن وآياته ، وبها ينتفع الذين يعرفون دلائل الحق وبه يعملون { لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ } .
والذين يقيمون في دار اللَّه هذه لا يمسهم السوء ، ولا هم يحزنون ، لأن اللَّه كافلهم {وهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ } من الخيرات والطاعات .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 261-263 .
قوله تعالى : {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} الشرح هو البسط وقد ذكر الراغب في مفرداته ، أن أصله بسط اللحم ونحوه ، وشرح الصدر الذي يعد في الكلام وعاء للعلم والعرفان هو التوسعة فيه بحيث يسع ما يصادفه من المعارف الحقة ولا يدفع كلمة الحق إذا ألقيت إليه كما يدل عليه ما ذكر في وصف الإضلال بالمقابلة وهو قوله : {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} إلخ . فمن شرح الله صدره للإسلام وهو التسليم لله سبحانه فقد بسط صدره ووسعه لتسليم ما يستقبله من قبله تعالى من اعتقاد حق أو عمل ديني صالح فلا يلقي إليه قول حق إلا وعاه ولا عمل صالح إلا أخذ به وليس إلا أن لعين بصيرته نورا يقع على الاعتقاد الحق فينوره أو العمل الصالح فيشرقه خلاف من عميت عين قلبه فلا يميز حقا من باطل ولا صدقا من كذب قال تعالى : {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج : 46] .
وقد بين تعالى شرح الصدر بهذا البيان في قوله {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ} فوصفه فعرفه بأن صاحبه راكب نور من الله يشرق قدامه في مسيره ثم عرفه بالمقابلة بلينة في القلب يقبل به ذكر الله ولا يدفعه لقسوة ثم قال : {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} [الزمر : 23] فذكر لين القلب إلى ذكر الله وطوعه للحق وأفاد أن ذلك هو الهدى الإلهي الذي يهدي به من يشاء ، وعند ذلك يرجع الآيتان أعني آية الزمر والآية التي نحن فيها إلى معنى واحد وهو أن الله سبحانه عند هدايته عبدا من عباده يبسط صدره فيسع كل اعتقاد حق وعمل صالح ويقبله بلين ولا يدفعه بقسوة وهو نوع من النور المعنوي الذي ينور القول الحق والعمل الصالح وينصر صاحبه فيمسك بما نوره فهذا معرف يعرف به الهداية الإلهية .
ومن هنا يظهر أن الآية أعني قوله : {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} بمنزلة بيان آخر لقوله : {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} والتفريع الذي في قوله . {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ} إلخ . من قبيل تفريع أحد البيانين على الآخر بدعوى أنه نتيجته كأن التصادق بين البيانين يجعل أحدهما نتيجة مترتبة وفرعا متفرعا على الآخر ، وهو عناية لطيفة .
والمعنى : فإذا كان من أحياه الله بعد ما كان ميتا على هذه الصفة وهي أنه على نور من ربه يستضيء به له واجب الاعتقاد والعمل فيأخذ به فمن يرد الله أن يهديه يوسع صدره لأن يسلم لربه ولا يستنكف عن عبادته فالإسلام نور من الله ، والمسلمون لربهم على نور من ربهم .
قوله تعالى : {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً} إلى آخر الآية ، الإضلال مقابل الهداية ، ولذا كان أثره مقابلا لأثرها وهو التضييق المقابل للشرح والتوسعة وأثره أن لا يسع ما يتوجه إليه من الحق والصدق ، ويتحرج عن دخولهما فيه ، ولذا أردف كون الصدر ضيقا بكونه حرجا .
والحرج على ما في المجمع ، أضيق الضيق ، وقال في المفردات : ، أصل الحرج والحراج مجتمع الشيء وتصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج وللإثم حرج . انتهى .
فقوله : {حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} في محل التفسير لقوله : {ضَيِّقاً} وإشارة إلى أن ذلك نوع من الضيق يناظر بوجه التضيق والتحرج الذي يشاهد من الظروف والأوعية إذا أريد إدخال ما هو أعظم منها ووضعه فيها .
وقوله : {كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} إعطاء ضابط كلي في إضلال الذين لا يؤمنون أنهم يفقدون حال التسليم لله والانقياد للحق ، وقد أطلق عدم الإيمان وإن كان مورد الآيات عدم الإيمان بالله سبحانه وهو الشرك به لكن الذي سبق من البيان في الآية يشمل عدم الإيمان بالله وهو الشرك ، وعدم الإيمان بآيات الله وهو رد بعض ما أنزله الله من المعارف والأحكام فقد دل على ذلك كله بقوله : {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} إلخ ، وبقوله سابقا : {وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ} إلخ ، وقوله : {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} إلخ ، وبقوله سابقا : {فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها} .
وقد سمي في الآية الضلال الذي يساوق عدم الإيمان رجسا والرجس هو القذر غير أنه اعتبر فيه نوعا من الاستعلاء الدال عليه قوله : {عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} كأن الرجس يعلوهم ويحيط بهم فيحول بينهم وبين غيرهم فيتنفر منهم الطباع كما يتنفر من الغذاء الملطخ بالقذر .
وقد استدل بالآية على أن الهدى والضلال من الله لا صنع فيهما لغيره تعالى وهو خطأ فإن الآية ـ كما عرفت ـ في مقام بيان حقيقة الهدى والضلال اللذين من الله ونوع تعريف لهما وتحديد لا في مقام بيان انحصارهما فيه وانتفائهما عن غيره كما هو المدعى وهو ظاهر .
ونظير ذلك ما ذكره بعضهم : أن الآية كما تدل بلفظها على قولنا : إن الهداية والضلال من الله ، كذلك تدل بلفظها على الدليل العقلي القاطع في هذه المسألة .
بيانه : أن العبد قادر على الإيمان والكفر معا على حد سواء فيمتنع صدور أحدهما عنه بدلا من الآخر إلا إذا اقترن بمرجح يستدعي صدور ما يرجح به وهو الداعي القلبي الذي ليس إلا العلم أو الاعتقاد أو الظن بكون الفعل مشتملا على مصلحة زائدة ومنفعة راجحة من غير ضرر زائد أو مفسدة راجحة ، وقد بينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي في القلب إنما يكون من الله تعالى ، وأن مجموع القدرة والداعي يوجب العمل .
إذا ثبت هذا فنقول : يستحيل صدور الإيمان من العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد رجحان الإيمان ، ومعه يحصل من القلب ميل إليه ومن النفس رغبة فيه وهذا هو انشراح الصدر ، ويمتنع الكفر إلا بخلقه ما يقابل ذلك في القلب ، ويحصل حينئذ النفرة عنه والاشمئزاز منه وهو المراد بجعل القلب ضيقا حرجا فصار تقدير الآية : أن من أراد الله منه الإيمان قوي دواعيه إليه ، ومن أراد منه الكفر قوي صوارفه عن الإيمان وقوي دواعيه إلى الكفر ، ولما ثبت بالدليل العقلي أن الأمر كذلك ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية . انتهى ملخصا .
وفيه أولا : أن انتساب الشيء إليه تعالى من جهة خلقه أسباب وجوده ومقدماته لا يوجب انتفاء نسبته إلى غيره تعالى وإلا أوجب ذلك بطلان قانون العلية العام وببطلانه يبطل القضاء العقلي من رأس فمن الممكن أن تستند الهداية والضلال إلى غيره تعالى استنادا حقيقيا في حين أنهما يستندان إليه تعالى استنادا حقيقيا من غير تناقض .
وثانيا : أن الذي ذكرته الآية من صنعه تعالى في موردي هدايته وإضلاله هو سعة القلب وضيقه ، وهما غير رغبة النفس ونفرته البتة فالآية أجنبية عما ذكره أصلا ، ومجرد استلزام إرادة الفعل من العبد رغبته وكراهته نفرته منه لا يوجب أن يكون المراد من سعة القلب وضيقه الإرادة والكراهة بالنسبة إلى الأعمال ، ففيه مغالطة من باب أخذ أحد المقارنين مكان الآخر ومن عجيب الكلام قوله : إن انطباق الدليل العقلي الذي أقامه بزعمه على الآية يوجب دلالة لفظ الآية عليه .
وثالثا : أنك عرفت أن الآية إنما هي في مقام تعريف ما يصنع الله بعبده إذا أراد هدايته أو ضلالته ، وأما أن كل هداية أو ضلالة فهي من الله تعالى دون غيره فذلك أمر أجنبي عن غرض الآية فالآية لا دلالة لها على أن الهداية والضلال من الله سبحانه وإن كان ذلك هو الحق .
قوله تعالى : {وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} إلى آخر الآية ، الإشارة إلى ما تقدم بيانه في الآية السابقة من صنعه عند الهداية والإضلال وقد تقدم معنى الصراط واستقامته ، وقد بين تعالى في الآية أن ما ذكره من شرح الصدر للإسلام إذا أراد الهداية ومن جعل الصدر ضيقا حرجا عند إرادة الإضلال هو صراطه المستقيم وسنته الجارية التي لا تختلف ولا تتخلف فما من مؤمن إلا وهو منشرح الصدر للإسلام بالله وغير المؤمن بالعكس من ذلك .
فقوله : {وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} بيان ثان وتأكيد لكون المعرف المذكور في الآية السابقة معرفا جامعا مانعا للهداية والضلالة ثم أكد سبحانه البيان بقوله : {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي إن القول حق بين عند من تذكر ورجع إلى ما أودعه الله في نفسه من المعارف الفطرية والعقائد الأولية التي بتذكرها يهتدي الإنسان إلى معرفة كل حق وتمييزه من الباطل ، والبيان مع ذلك لله سبحانه فإنه هو الذي يهدي الإنسان إلى النتيجة بعد هدايته إلى الحجة .
قوله تعالى : {لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} المراد بالسلام هو معناه اللغوي ـ على ما يعطيه ظاهر السياق ـ وهو التعري من الآفات الظاهرة والباطنة ، ودار السلام هي المحل الذي لا آفة تهدد من حل فيه من موت وعاهة ومرض وفقر وأي عدم وفقد آخر وغم وحزن ، وهذه هي الجنة الموعودة ولا سيما بالنظر إلى تقييده بقوله : {عِنْدَ رَبِّهِمْ} .
نعم أولياء الله تعالى يجدون في هذه النشأة ما وعدهم الله من إسكانهم دار السلام لأنهم يرون الملك لله فلا يملكون شيئا حتى يخافوا فقده أو يحزنوا لفقده قال تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس : 62] وهم لا شغل لهم إلا بربهم خلوا به في حياتهم فلهم دار السلام عند ربهم ـ وهم قاطنون في هذه الدنيا ـ وهو وليهم بما كانوا يعملون وهو سيرهم في الحياة بنور الهداية الإلهية الذي جعله في قلوبهم ، ونور به أبصارهم وبصائرهم .
وربما قيل : المراد بالسلام هو الله ، وداره الجنة ، والسياق يأباه وضمائر الجمع في الآية راجعة إلى القوم في قوله : {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} ـ على ما قيل ـ لأنه أقرب المراجع لرجوعها إليها غير أن التدبر في الآيات يؤيد رجوعها إلى المهتدين بالهداية المذكورة بما أن الكلام فيهم والآيات مسوقة لبيان حسن صنع الله بهم فالوعد الحسن المذكور يجب أن يعود إليهم ، وأما القوم المتذكرون فإنما ذكروا ودخلوا في غرض الكلام بالتبع .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج7 ، ص 290-293 .
الإمدادات الإلهية :
تعقيبا على الآيات السابقة التي دارت حول المؤمنين الصادقين والكافرين المعاندين تشرح هذه الآية النعم الإلهية الكبيرة التي تنتظر الفريق الأوّل ، والشقاء الذي سيصيب الفريق الثاني ، فتقرر أنّ الله ينعم بالهداية على من يشاء ، وذلك بأن يفتح صدره لتقبل الإسلام ، أمّا الذي لا يريد الله أن يوفقه لذلك ـ لسوء أعماله ـ يضيق صدره بحيث يجعله وكأنّه يريد أن يصعد إلى السماء . {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} .
______________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 212 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|