أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-10-2017
5329
التاريخ: 31-10-2017
7580
التاريخ: 31-10-2017
14826
|
قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُو جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُو وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُو الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُو الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَو رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُو الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُو فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } [الملك: 20 - 30].
{أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن} هذا استفهام إنكار أي لا جند لكم ينصركم مني ويمنعكم من عذابي إن أردت عذابكم عن ابن عباس ولفظ الجند موحد ولذلك قال {هذا الذي} وكأنه سبحانه يقول للكفار بأي قوة تعصونني أ لكم جند يدفع عنكم عذابي بين بذلك أن الأصنام لا يقدرون على نصرتهم {إن الكافرون إلا في غرور} أي ما الكافرون إلا في غرور من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم وقيل معناه ما هم إلا في أمر لا حقيقة له من عبادة الأوثان يتوهمون أن ذلك ينفعهم والأمر بخلافه.
{أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} أي الذي يرزقكم إن أمسك الله الذي هو رازقكم أسباب رزقه عنكم وهو المطر هاهنا {بل لجوا في عتو ونفور} أي ليسوا يعتبرون فينظرون بل تمادوا واستمروا في اللجاج وجاوزوا الحد في تماديهم ونفورهم عن الحق وتباعدهم عن الإيمان لما كان للمشركين صوارف كثيرة عن عبادة الأوثان وهم كانوا يتقحمون بذلك على العصيان فقد لجوا في عتوهم قال الفراء قوله {من هذا الذي يرزقكم} الآية تعريف حجة ألزمها الله العباد فعرفوا فأقروا بها ولم يردوا لها جوابا فقال سبحانه {بل لجوا في عتو ونفور} .
ثم ضرب سبحانه مثلا للكافر والمؤمن فقال {أ فمن يمشي مكبا على وجهه} أي منكسا رأسه إلى الأرض فهولا يبصر الطريق ولا من يستقبله ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله وهو الكافر المقلد لا يدري أ محق هو أم مبطل هذا {أهدى أم من يمشي سويا} أي مستويا قائما يبصر الطريق وجميع جهاته كلها فيضع قدمه حيث لا يعثر وهو المؤمن الذي سلك طريق الحق وعرفه واستقام عليه وأمكنه دفع المضار عن نفسه وجلب المنافع إليها، {على صراط مستقيم} أي على طريق واضح قيم وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقيل أن هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبا على وجهه يوم القيامة كما قال ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عن قتادة .
{قل} يا محمد لهؤلاء الكفار {هوالذي أنشأكم} بأن أخرجكم من العدم إلى الوجود {وجعل لكم السمع} تسمعون به المسموعات {والأبصار} تبصرون بها المبصرات ،{والأفئدة} يعني القلوب تعقلون بها وتتدبرون فأعطاكم آلات التفكر والتمييز والوصول إلى العلم {قليلا ما تشكرون} أي تشكرون قليلا وقيل معناه قليلا شكركم فتكون ما مصدرية {قل} لهم يا محمد {هو} الله تعالى {الذي ذرأكم} أي خلقكم {في الأرض وإليه تحشرون} منها أي تبعثون إليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم،ثم حكى سبحانه ما كان يقوله الكفار مستبطئين عذاب الله مستهزئين بذلك فقال {ويقولون متى هذا الوعد} من الخسف والحاصب أو البعث والجزاء {إن كنتم صادقين} في أن ذلك يكون {قل} يا محمد {إنما العلم عند الله} يعني علم الساعة {وإنما أنا نذير} مخوف لكم به {مبين} أي مبين لكم ما أنزل الله إلى من الوعد والوعيد والأحكام.
ثم ذكر سبحانه حالهم عند نزول العذاب ومعاينته فقال {فلما رأوه زلفة} أي فلما رأوا العذاب قريبا يعني يوم بدر عن مجاهد وقيل معاينة عن الحسن وقيل أن اللفظ ماض والمراد به المستقبل والمعنى إذا بعثوا ورأوا القيامة قد قامت ورأوا ما أعد لهم من العذاب وهذا قول أكثر المفسرين، سيئت وجوه الذين كفروا} أي اسودت وجوههم وعلتها الك آبة يعني قبحت وجوههم بالسواد وقيل معناه ظهرت على وجوههم آثار الغم والحسرة ونالهم السوء والخزي {وقيل} لهؤلاء الكفار إذا شاهدوا العذاب {هذا الذي كنتم به تدعون} قال الفراء تدعون وتدعون واحد مثل تدخرون وتدخرون والمعنى كنتم به تستعجلون وتدعون الله بتعجيله وهو قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية عن ابن زيد وقيل هو تدعون من الدعوى أي تدعون أن لا جنة ولا نار عن الحسن وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالأسانيد الصحيحة عن الأعمش قال لما رأوا لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) عند الله من الزلفى سيئت وجوه الذين كفروا وعن أبي جعفر (عليه السلام) فلما رأوا مكان علي (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سيئت وجوه الذين كفروا يعني الذين كذبوا بفضله.
{قل} لهؤلاء الكفار {أ رأيتم إن أهلكني الله ومن معي} بأن يميتنا {أورحمنا} بتأخير آجالنا {فمن يجير الكافرين من عذاب أليم} استحقوه بكفرهم وما الذي ينفعهم في دفع العذاب عنهم وقيل أن الكفار كانوا يتمنون موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وموت أصحابه فقيل له قل لهم إن أهلكني الله ومن معي ذلك بأن يميتني ويميت أصحابي فمن الذي ينفعكم ويؤمنكم من العذاب فإنه واقع بكم لا محالة وقيل معناه أ رأيتم أن عذبني الله ومن معي أو رحمنا أي غفر لنا فمن يجيركم أي نحن مع إيماننا بين الخوف والرجاء فمن يجيركم مع كفركم من العذاب ولا رجاء لكم كما للمؤمنين عن ابن عباس وابن كيسان.
ثم قال {قل} لهؤلاء الكفار على وجه التوبيخ لهم {هو الرحمن} أي إن الذي أدعوكم إليه هو الرحمن الذي عمت نعمته جميع الخلائق {آمنا به وعليه توكلنا} أي عليه اعتمدنا وجميع أمورنا إليه فوضنا {فستعلمون} معاشر الكفار يوم القيامة {من هو في ضلال مبين} اليوم أ نحن أم أنتم ومن قرأ بالياء فمعناه فسيعلم الكفار ذلك {قل أ رأيتم أن أصبح ماؤكم غورا} أي غائرا ناضبا في الآبار والعيون {فمن يأتيكم بماء معين} أي ظاهر للعيون عن أبي مسلم والجبائي وقيل بماء جار عن ابن عباس وقتادة أراد سبحانه أنه المنعم بالأرزاق فاشكروه واعبدوه ولا تشركوا به شيئا وذكر مقاتل أنه أراد بقوله {ماؤكم} بئر زمزم وبئر ميمون وهي بئر عادية قديمة وكان ماؤهم من هاتين البئرين والمعين الذي تناله الدلاء وتراه العيون .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص77-81.
{أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُو جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ} . يتصل هذا بقوله تعالى في الآية السابقة : أم أمنتم من السماء الخ . . بعد أن خوّفهم سبحانه من خسف الأرض بهم ، وإرسال الحاصب عليهم - سألهم ، جلت حكمته ، بقصد التوبيخ والتقريع : ما ذا تصنعون إذا نزل بكم العذاب ؟ هل تهربون منه ، ولا ينجو من اللَّه هارب ، أو تلجؤون إلى أصنامكم ، وهي لا تملك لنفسها شيئا ؟
والجواب قوله تعالى : {إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} وظن كاذب انهم في سلام وأمان من غضب اللَّه وعذابه .
{أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} . هذا سؤال ثان منه تعالى ، ومعناه إذا منع اللَّه عنكم أسباب الرزق كالمطر فمن الذي يرسل السماء عليكم مدرارا ، أأو ثانكم التي تعبدون أو جهلكم وغروركم ! والجواب : {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُو ونُفُورٍ} . كلا ، انهم يعلمون ان اللَّه هو الرازق ، ومع هذا يعاندون الحق ، ويصرون على الباطل لأن حياتهم تقوم عليه وعلى محاربة الحق وأهله .
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
هذا تمثيل في صيغة السؤال ، تمثيل للفرق بين الضالين الذين لجوا في عتو ونفور وبين المهتدين الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه ، فالضالون مثلهم كمثل الذي يمشي ووجهه إلى الأرض يكثر العثار فيما لا يعثر فيه بصير أما المهتدون فمثلهم مثل الذي يسير على الطريق الواضح بجسم معتدل ، ونظر سليم . وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها قوله تعالى : {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمى والأَصَمِّ والْبَصِيرِ والسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} - 24 هودج 4 ص 222 .
{قُلْ هُو الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصارَ والأَفْئِدَةَ} . لقد خلق اللَّه لكم أسماعا فاتعظوا بما تسمعون ، وجعل لكم أبصارا فاعتبروا بما ترون من آيات ومعجزات ، ومنحكم عقولا فلما ذا لا تفقهون ؟ وقال مفسر من القدامى : {ان اللَّه سبحانه قدم السمع لأن فوائده أقوى من فوائد البصر ، فان السمع للخطاب ، والبصر للرؤية ، ومرتبة الخطاب أقدم} . وقال أديب معاصر : (لا تتقدم كلمة على كلمة في القرآن الا لسبب ، ولا تتأخر كلمة عن كلمة إلا لسبب . وكمثل بسيط نجد ان القرآن يقدم السمع على البصر في الذكر في عديد من الآيات ، وهي مسألة يعرف سرها علماء التشريح ، فهم يدركون ان جهاز السمع أرقى وأعقد وأدق وأرهف من جهاز الأبصار . . والأم لا يتوه سمعها عن صوت بكاء ابنها وتميزه من بين آلاف الأصوات ، وتتوه عين أمه عنه في الزحام) .
{قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ} لأن اللَّه خلق الاسماع والأبصار والأفئدة للخير والصلاح ، وأنتم تستعملونها للشر والفساد {قُلْ هُو الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} . ليس معنى ذرأكم خلقكم فقط ، بل فيه أيضا معنى التكثير بالنسل ليتسابقوا في مضمار الحياة وعمارتها واستدرار خيراتها . هذا ما قاله المفسرون ، ولو كانوا في هذا العصر لعقبوا على هذا التفسير بقولهم : ولكن الدول الكبرى تتسابق اليوم في مضمار التسلح ، وحرمان الجائعين من خيرات الأرض وبركاتها لتكون وقفا على مصانع الموت التي يملكها الطغاة المحتكرون . وتقول الاحصاءات : ان ما تنفقه دول العالم مجتمعة على السلاح أكثر مما تنفقه على التعليم والصحة معا . {وإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيأخذ المفسدين في الأرض بجرمهم وجريرتهم .
{ويَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} . تكرر هذا السؤال من الجاحدين في العديد من الآيات ، وهو عجيب وغريب ، لأنه ما من عاقل إلا ويستدل بما وجد على إمكان ما يوجد من أشباهه ونظائره {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} . هذا مثل قوله تعالى : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُو} - 187 الأعراف ج 3 ص 431 {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} .
خوّفهم النبي من يوم القيامة ، فقالوا له ساخرين : فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين . . ولما بعثوا يوم القيامة وقيل لهم : هذا ما كنتم به تستعجلون - قالوا :
يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين . . هذا هو شأن كل جاهل أرعن يركب رأسه ، ولا يبالي ما يصنع وما يقال له .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ ومَنْ مَعِيَ أَو رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} . من تتبع آي الذكر الحكيم ير ان الخلاف بين الأنبياء والمشركين كان - في الأغلب - يدور حول الشرك والبعث ، وان أكثر الآيات أو الكثير منها يتصل بهذين المبدأين بأسلوب مباشر أو غير مباشر ، وكان المشركون يحتجون للشرك وعبادة الأصنام بعادة الآباء والأجداد ، ولإنكار البعث بأن الذي يصير ترابا لن يعود إلى الحياة مرة ثانية ، وقد لقّن سبحانه نبيه الكريم حجة الرد عليهم ، وأنذرهم بالعذاب العاجل والآجل ، وسبق ذلك في عشرات الآيات ، فيعجز المشركون عن الجواب ويلجئون إلى العناد والاستهزاء والشغب ، وأحيانا يدعون على الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) بالهلاك كما أشارت الآية 30 من سورة الطور : {أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} .
وقد تضمنت الآيات السابقة الخطاب مع المشركين حول البعث والتهديد بعذاب الخسف والحاصب في الدنيا ، وعذاب جهنم وبئس المصير في الآخرة ، ثم انتقل الخطاب إلى دعائهم على الرسول والجواب عنه حيث أمر سبحانه النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ان يقول لهم : أتتربصون بي وبمن معي ريب المنون ، وتتمنون لي ولهم الهلاك ؟
أخبروني ما الذي تستفيدون إذا تحققت أمنيتكم هذه ؟ هل ينجيكم هلاكي وهلاك من معي من العذاب ، وأنتم سادرون في الغي والضلال ؟ كلا ، لا ينفعكم شيء إلا التوبة والإنابة سواء أمتّم قبلي أم متّ قبلكم .
{قُلْ هُو الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا} . هذا هو طريق الخلاص : الايمان باللَّه وبأنه يرحم ويغفر لمن تاب من ذنوبه ، وتوكل عليه في جميع أموره
{فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُو فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . بعد أن قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) للمشركين : أهلكنا اللَّه أو رحمنا - قال لهم : كلا أنتم الهالكون لأنكم الضالون المضلون ، أما نحن ففي رحمة اللَّه وعنايته ، ولنا النصر عليكم دنيا وآخرة ، وستعلمون ذلك علم اليقين {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ} . الأولى بكم أيها المشركون أن تتوبوا إلى اللَّه ، وتشكروه على آلائه التي لا تعد ولا تحصى ، ومنها ماؤكم هذا الذي هو مصدر حياتكم ، ولوشاء سبحانه لغار في جوف الأرض ، ولا رادّ لمشيئته ، فتموتون جوعا وعطشا . . وقال بعض المفسرين ان اللَّه أراد بهذا أن يستميل قلوبهم ويستلين عرائكهم عسى أن يرجعوا إلى الرشد . .
وليس هذا ببعيد ، فإن أساليب الدعوة في القرآن أنواع وألوان .
_________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص381-384.
قوله تعالى: {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور} توبيخ وتقريع لهم في اتخاذهم آلهة من دون الله لينصروهم ولذا التفت عن الغيبة إلى الخطاب فخاطبهم ليشتد عليهم التقريع.
وقوله: {أمن هذا الذي} إلخ، معناه بل من الذي يشار إليه فيقال: هذا جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن أرادكم بسوء أو عذاب؟ فليس دون الله من ينصركم عليه، وفيه إشارة إلى خطئهم في اتخاذ بعض خلق الله آلهة لينصروهم في النوائب وهم مملوكون لله لا يملكون لأنفسهم نفعا وضرا ولا لغيرهم.
وإذ لم يكن لهم جواب أجاب تعالى بقوله: {إن الكافرون إلا في غرور} أي أحاط بهم الغرور وغشيهم فخيل إليهم ما يدعون من ألوهية آلهتهم.
قوله تعالى: {أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور} أي بل من الذي يشار إليه بأن هذا هو الذي يرزقكم إن أمسك الله رزقه فينوب مقامه فيرزقكم؟ ثم أجاب سبحانه بقوله: {بل لجوا في عتو ونفور} أي إن الحق قد تبين لهم لكنهم لا يخضعون للحق بتصديقه ثم اتباعه بل تمادوا في ابتعادهم من الحق ونفورهم منه، ولجوا في ذلك.
قوله تعالى: {أ فمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم} إكباب الشيء على وجهه إسقاطه عليه، وقال في الكشاف،: معنى أكب دخل في الكب وصار ذا كب.
استفهام إنكاري عن استواء الحالين تعريضا لهم بعد ضرب حجاب الغيبة عليهم وتحريمهم من تشريف الحضور والخطاب بعد استقرار اللجاج فيهم، والمراد أنهم بلجاجهم في عتو عجيب ونفور من الحق كمن يسلك سبيلا وهو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق و معاثر فليس هذا السائر كمن يمشي سويا على صراط مستقيم فيرى موضع قدمه وما يواجهه من الطريق على استقامة، وما يقصده من الغاية وهؤلاء الكفار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحق على علم به فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الأمر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك.
وقد ظهر أن ما في الآية مثل عام يمثل حال الكافر الجاهل اللجوج المتمادي على جهله والمؤمن المستبصر الباحث عن الحق.
آيات أخر يذكرهم الله تعالى بها دالة على وحدانيته تعالى في الخلق والتدبير مقرونة بالإنذار والتخويف، جارية على غرض السورة وهو التذكرة بالوحدانية مع الإنذار غير أنه تعالى لما أشار إلى لجاجهم وعنادهم للحق في قوله السابق: {بل لجوا في عتو ونفور} غير السياق بالإعراض عن خطابهم والالتفات إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره أن يتصدى خطابهم ويقرع أسماعهم آياته في الخلق والتدبير الدالة على توحده في الربوبية وإنذارهم بعذاب الله، وذلك قوله: {قل هو الذي أنشأكم} إلخ، {قل هو الذي ذرأكم} إلخ، {قل إنما العلم} إلخ، {قل أ رأيتم إن أهلكني الله} إلخ، {قل هو الرحمن} إلخ، {قل أ رأيتم إن أصبح ماؤكم غورا} إلخ.
قوله تعالى: {قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} الإنشاء إحداث الشيء ابتداء وتربيته.
ما في ذيل الآية من لحن العتاب في قوله: {قليلا ما تشكرون} وقد تكرر نظيره في غير موضع من كلامه كما في سورة المؤمنون والم السجدة يدل على أن إنشاءه تعالى الإنسان وتجهيزه بجهاز الحس والفكر من أعظم نعمه تعالى التي لا يقدر قدرها.
وليس المراد بإنشائه مجرد خلقه كيفما كان بل خلقه وإحداثه من دون سابقه في مادته كما أشار إليه في قوله يصف خلقه طورا بعد طور: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 12 - 14] ، فصيرورة المضغة إنسانا سميعا بصيرا متفكرا بتركيب النفس الإنسانية عليها خلق آخر لا يسانخ أنواع الخلقة المادية الواردة على مادة الإنسان من أخذها من الأرض ثم جعلها نطفة ثم علقة ثم مضغة فإنما هي أطوار مادية متعاقبة بخلاف صيرورتها إنسانا ذا شعور فلا سابقة لها تماثلها أو تشابهها فهو الإنشاء.
ومثله قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20] انظر إلى موضع إذا الفجائية.
فقوله: {هو الذي أنشأكم} إشارة إلى خلق الإنسان.
وقوله: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} إشارة إلى تجهيزه بجهاز الحس والفكر، والجعل إنشائي كجعل نفس الإنسان كما يشير إليه قوله: { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } [المؤمنون: 78].
فالإنسان بخصوصية إنشائه وكونه بحيث يسمع ويبصر يمتاز من الجماد والنبات - والاقتصار بالسمع والبصر من سائر الحواس كاللمس والذوق والشم لكونهما العمدة ولا يبعد أن يكون المراد بالسمع والبصر مطلق الحواس الظاهرة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل - وبالفؤاد وهو النفس المتفكرة يمتاز من سائر الحيوان.
وقوله: {قليلا ما تشكرون} أي تشكرون قليلا على هذه النعمة – أو النعم - العظمى فما زائدة وقليلا مفعول مطلق تقديره تشكرون شكرا قليلا، وقيل: ما مصدرية والمعنى: قليلا شكركم.
قوله تعالى: {قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون} الذرء الخلق والمراد بذرئهم في الأرض خلقهم متعلقين بالأرض فلا يتم لهم كمالهم إلا بأعمال متعلقة بالمادة الأرضية بما زينها الله تعالى بما تنجذب إليه النفس الإنسانية في حياتها المعجلة ليمتاز به الصالح من الطالح قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 7، 8].
وقوله: {وإليه تحشرون} إشارة إلى البعث والجزاء ووعد جازم.
قوله تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} المراد بهذا الوعد الحشر الموعود، وهو استعجال منهم استهزاء.
قوله تعالى: {قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين} جواب عن قولهم: {متى هذا الوعد} إلخ، ومحصله أن العلم به عند الله لا يعلم به إلا هو كما قال: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ } [الأعراف: 187] ، وليس لي إلا أني نذير مبين أمرت أن أخبركم أنكم إليه تحشرون وأما أنه متى هو فليس لي بذلك علم.
هذا على ما يفيده وقوع الآية في سياق الجواب عن السؤال عن وقت الحشر، وعلى هذا تكون اللام في العلم للعهد، والمراد العلم بوقت الحشر، وأما لو كانت للجنس على ما تفيده جملة {إنما العلم عند الله} في نفسها فالمعنى: إنما حقيقة العلم عند الله ولا يحاط بشيء منه إلا بإذنه كما قال: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] ، ولم يشأ أن أعلم من ذلك إلا أنه سيقع وأنذركم به وأما أنه متى يقع فلا علم لي به.
قوله تعالى: {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا} إلخ، الزلفة القرب والمراد به القريب أو هو من باب زيد عدل، وضمير {رأوه} للوعد وقيل للعذاب والمعنى: فلما رأوا الوعد المذكور قريبا قد أشرف عليهم ساء ذلك وجوه الذين كفروا به فظهر في سيماهم أثر الخيبة والخسران.
وقوله: {وقيل هذا الذي كنتم به تدعون} قيل تدعون وتدعون بمعنى واحد كتدخرون وتدخرون والمعنى: وقيل لهم: هذا هو الوعد الذي كنتم تسألونه وتستعجلون به بقولكم: متى هذا الوعد، وظاهر السياق أن القائل هم الملائكة بأمر من الله، وقيل القائل من الكفار يقوله بعضهم لبعض.
قوله تعالى: {قل أ رأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم} {إن} شرطية شرطها قوله: {أهلكني الله} وجزاؤها قوله: {فمن يجير} إلخ، والمعنى: قل لهم أخبروني إن أهلكني الله ومن معي من المؤمنين أو رحمنا فلم يهلكنا فمن الذي يجير ويعيد الكافرين - وهم أنتم كفرتم بالله فاستحققتم أليم العذاب - من عذاب أليم يهددهم تهديدا قاطعا أي إن هلاكي ومن معي وبقاؤنا برحمة ربي لا ينفعكم شيئا في العذاب الذي سيصيبكم قطعا بكفركم بالله.
قيل: إن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهم إن أهلكنا الله تعالى أوأبقانا فأمرنا إلى الله ونرجو الخير من رحمته وأما أنتم فما تصنعون؟ من يجيركم من أليم العذاب على كفركم بالله؟.
قوله تعالى: {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين} الضمير للذي يدعو إلى توحيده وهم يدعونه عليه، والمعنى: قل الذي أدعوكم إلى توحيده وتدعونه علي وعلى من معي هو الرحمن الذي عمت نعمته كل شيء آمنا به وعليه توكلنا من غير أن نميل ونعتمد على شيء دونه فستعلمون أيها الكفار من هو في ضلال مبين؟ نحن أم أنتم؟.
قال في الكشاف،: فإن قيل: لم أخر مفعول {آمنا} وقدم مفعول {توكلنا}؟ قلت: لوقوع آمنا تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم كأنه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم، ثم قال: وعليه توكلنا خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم.
قوله تعالى: {قل أ رأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين} الغور ذهاب الماء ونضوبه في الأرض والمراد به الغائر، والمعين الظاهر الجاري من الماء، والمعنى: أخبروني إن صار ماؤكم غائرا ناضبا في الأرض فمن يأتيكم بماء ظاهر جار.
وهناك روايات تطبق الآيات على ولاية علي (عليه السلام) ومحادته، وهي من الجري وليست بمفسرة.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص
يشير تعالى في الآية اللاحقة إلى أن الكافرين ليس لهم أي عون أو مدد مقابل قدرة الله عز وجل حيث يقول : {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن} ( 2 ) .
إن هؤلاء الذين هم ( جند لكم ) ليسوا عاجزين عن مساعدتكم ونصرتكم فحسب ، بل إذا شاء الرحمن جعلها سبب عذابكم ودماركم ، وحتى هذه النعم المسخرة لسعادتكم كالماء والهواء والتراب والنار والتي تمثل ركنا أساسيا من أركان حياتكم لا يمكنها أن تنقذكم من البلاء ، بل إنها نفسها إذا امرت فإنها ستكون موضع عذابكم وموتكم ونقمة عليكم .
نعم لقد كانت هذه النعم سببا لهلاك ودمار كثير من الأقوام العاصين ويحدثنا التاريخ أن الكثير من الجبابرة والطغاة والمتمردين على أوامر الله كان هلاكهم على يد أقرب الناس إليهم ، وهذا ما يلاحظ كذلك في عصرنا أيضا ، حيث أن أكثر المجاميع وفاء للسلطة تثور ضدهم وينتقم الله من هؤلاء الظالمين بالظالمين الذين كانوا عونا لهم .
ألا {إن الكافرون إلا في غرور} فلقد أعمت عقولهم حجب الجهل والغرور ، ولا يعتبرون أو يتعظون بما حصل للأقوام البائدة السابقة ، ولا لما يصيب الآخرين في حياتنا المعاصرة .
" جند " في الأصل بمعنى الأرض غير المستوية والقوية ، والتي تتجمع فيها الصخور الكثيرة ، ولهذا السبب فإن هذه الكلمة ( جند ) تطلق على العدد الكثير من الجيش .
وقد اعتبر بعض المفسرين كلمة ( جند ) في الآية - مورد البحث - إشارة إلى الأصنام ، التي لا تستطيع مطلقا تقديم العون للمشركين في يوم القيامة ، إلا أن للآية في الظاهر مفهوما واسعا والأصنام أحد مصاديقها .
ثم يضيف سبحانه مؤكدا ما سبق :{ أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} (3) .
فإذا أمر الله السماء أن تمتنع عن المطر ، والأرض عن الإنبات ، وأمر الآفات الزراعية بالفتك بالمحاصيل . . فمن القادر غيره أن يطعمكم الطعام ؟
وإذا ما قطع الله الرزق المعنوي عنكم والوحي السماوي من الوصول إليكم ، فمن القادر غيره على إرشادكم وإنقاذكم من براثن الضلال ؟ إنها لحقائق واضحة وأدلة دامغة ، إلا أن العناد هو الذي يشكل حجابا للإدراك وللشعور الحق : {بل
لجوا في عتو ونفور} .
وحتى في حياتنا المعاصرة ومع كل ألوان التقدم العلمي في الجوانب المختلفة ، خصوصا في مجال الصناعة الغذائية . فإذا ما منع الله المطر عن الأرض سنة واحدة فيا لها من فاجعة عظمي تحل بالعلم ، وإذا ما أصيبت النباتات بالجراد والآفات سنة واحدة فيا لها من كارثة كبرى تحل بالبشرية .
وقوله تعالى : {أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى أمن يمشى سويا على صرط مستقيم ( 22 ) قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ( 23 ) قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ( 24 ) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 25 ) قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين ( 26 ) فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون}
السائر سويا على جادة التوحيد :
تعقيبا لما ورد في الآيات السابقة بالنسبة إلى الكافرين والمؤمنين ، فإن الله تعالى يصور لنا - في أول آية من هذه الآيات - حالة هاتين المجموعتين ضمن تصوير رائع ولطيف ، حيث يقول تعالى : {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم} .
فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادة متعرجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنه لا يبصر طريقه جيدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطلع على
العقبات والموانع ، وليست لديه القوة للسير سريعا ، وبذلك يتعثر في سيره . . يمشي قليلا ثم يتوقف حائرا .
كما شبه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامة .
إنه - حقا - لتشبيه لطيف فذ ، حيث إن آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جلية في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأم أعيننا .
ويرى البعض أن مصداق هاتين المجموعتين هما : ( الرسول الأكرم ) و ( أبو جهل ) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلا أن ذلك لا يحدد عمومية الآية .
وذكرت إحتمالات متعددة في تفسير ( مكبا على وجهه ) . إلا أن أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أن الإنسان غير المؤمن يكون مكبا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره .
وقيل أن المقصود من ( مكبا ) هو المشي الاعتيادي ولكنه مطأطئ الرأس لا يشخص مسيره بوضوح أبدا .
كما يرى آخرون أن المقصود ب ( مكبا ) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثم ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثم تتكرر هذه الحالة .
ويستفاد مما ذكره الراغب في مفرداته أن المقصود ب ( مكبا ) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره .
إلا أن المعنى الأول أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبرت عنهم الآية ب ( سويا ) .
وعلى كل حال ، فهل أن هذه الحالة ( مكبا ) و ( سويا ) تمثل وضع الكفار والمؤمنين في الآخرة فقط ؟ أم في العالمين ( الدنيا والآخرة ) ؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة .
إن هؤلاء الأنانيين المنشدين إلى مصالحهم المادية والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان ملئ بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرر من قيد الهوى في ظل الإيمان
حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة .
ثم يوجه الله تعالى الخطاب إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الآية اللاحقة فيقول : {قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} .
إن الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار ( العين ) وكذلك وسيلة وقناة للاطلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع ( الإذن ) ثم وسيلة أخرى للتفكر والتدبر في العلوم والمحسوسات واللا محسوسات ( القلب ) .
وخلاصة الأمر إن الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلا أن القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أن شكر النعمة الحقيقي يتجسد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس ( العين والاذن والعقل ) بصورة صحيحة في هذا الطريق ؟
ثم يخاطب الرسول مرة أخرى حيث يقول تعالى : {قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون} .
وفي الحقيقة فإن الآية الأولى تعين ( المسير ) ، والثانية تتحدث عن ( وسائل العمل ) أما الآية - مورد البحث - فإنها تشخص ( الهدف والغاية ) وذلك بالتأكيد على أن السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثل
بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتجاه ، والتحرك نحو الحياة الخالدة .
والجدير بالملاحظة هنا أن التعبير في الآية السابقة ورد ب ( أنشأكم ) وفي الآية مورد البحث ب ( ذرأكم ) ، ولعل تفاوت هذين التعبيرين هو أنه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم ( أي إنكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى ) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادة التراب ، وذلك يعني أن الله خلق الإنسان من التراب .
ثم يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والرد عليهم ، فيقول تعالى : {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} .
إن المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلق بمصير الجميع ( متى هذا الوعد ؟ ) .
وذكروا احتمالين في المقصود من ( هذا الوعد ) : الأول : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات . إلا أن المعنى الأول أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة . كما أن بالإمكان الجمع بين المعنيين .
ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى : {قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين} .
إن هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } [الأعراف: 187].
ولابد أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أن تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإن الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب . وعلى كل حال فإن الأهداف التربوية تتعطل في الحالتين .
ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأن الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسود وجوههم : {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا} فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم {وقيل هذا اليوم الذي كنتم به تدعون} .
" تدعون " من مادة ( دعاء ) يعني أنكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجئ يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه (4) .
وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفار في يوم القيامة : {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 14].
وعلى كل حال ، فإن الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسرين ، وهذا دليل على أن جملة متى هذا الوعد إشارة إلى موعد يوم القيامة .
يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عندما شاهد الكفار شأن ومقام الإمام علي ( عليه السلام ) عند الله تعالى . اسودت وجوههم ( من شدة الغضب ) (5) .
ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أن هذه الآية نزلت بحق أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) وأصحابه (6) .
وهذا التفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلا فإن هذه الآية تناولت موضوع ( القيامة ) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات .
وقوله تعالى : {قل أرءيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ( 28 ) قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلل مبين ( 29 ) قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين}
من الذي يأتيكم بالمياه الجارية ؟
إن الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة ( قل ) مخاطبة الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حيث أنها تمثل استمرارا للأبحاث التي مرت في الآيات السابقة حول الكفار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب أخرى من البحث .
يخاطب البارئ عز وجل - في البداية - الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه ، ويتصورون أن بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كل شيء . وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات القوية والمؤثرة ، يقول تعالى مخاطبا إياهم : {قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم} .
ورد في بعض الروايات أن كفار مكة ، كانوا دائما يسبون الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمين ، وكانوا يتمنون موته ظنا منهم أن رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردا عليهم .
كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } [الطور: 30].
لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأن اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحق الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإن ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كل
الدنيا ، وحياة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو موته لن يغيرا من هذه الحقيقة شيئا .
كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إن خطاب الله لرسوله الكريم - الذي يشمل المؤمنين أيضا - مع ما عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد . فكيف بكم أنتم أيها الكافرون ؟ وما الذي تفكرون به لأنفسكم ؟
ولكن التفسير الأول أنسب حسب الظاهر .
واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى : {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين} .
وهذا يعني أننا إذا آمنا بالله ، واتخذناه وليا ووكيلا لنا ، فإن ذلك دليل واضح على أنه الرب الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كل شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع ( المؤمن والكافر ) ، إن نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد على هذا المدعى ، أما الذين تعبدونهم من دون الله فماذا عملوا ؟ وماذا صنعوا ؟
وبالرغم من أن ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلا أنه سيتضح بصورة أكثر في الدار الآخرة . أو أن هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عندما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي
وخارق للعادة ، عندئذ ستتبين الحقيقة أكثر للجميع .
إن هذه الآية - في الحقيقة - نوع من المواساة للرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمؤمنين ، كي لا يظنوا أو يتصوروا أنهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحق والباطل ، حيث أن الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر .
ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس : {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين} .
إن للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتتين : ( قشرة قابلة للنفوذ ) يدخل فيها الماء ، واخرى ( غير قابلة للنفوذ ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولدت من بركات هذا التركيب الخاص للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإن جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقر لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء . ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمعت المياه على سطحها وتحولت إلى مستنقع كبير ، أو أن المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصب في البحر ، وهكذا يتم فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض .
إن هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلق بموت الإنسان وحياته .
" معين " من مادة ( معن ) ، على وزن ( طعن ) بمعنى جريان الماء .
وقال آخرون : إنها مأخوذة من ( عين ) والميم زائدة . لذا فإن بعض المفسرين ذهبوا إلى أن معنى ( معين ) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغض النظر عن جريانه . إلا أن الغالبية فسروه بالماء الجاري .
وبالرغم من أن الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلا أنه مما لا شك فيه أن الماء الجاري يمثل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفقة . .
ونقل بعض المفسرين أن أحد الكفار عندما سمع قوله تعالى : {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين} قال : ( رجال شداد ومعاول حداد ) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : إئتي
بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك .
ومن الواضح أنه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حاد أن يستخرج شيئا من الماء (7) .
__________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص326-335.
2 - ( أم ) في هذه الجملة حرف عطف ، و ( من ) مبتدأ و ( هذا ) مبتدأ ( ثان ) و ( الذي ) خبرها و ( هو جند لكم ) صلتها ، و ( ينصركم ) يكون وصفا لل ( جند ) ، والجملة هي خبر للمبتدأ الأول . ( البيان في غريب إعراب القرآن ج 2 ص 459 ) إلا أن المناسب هو أن يكون ( الذي ) عطف بيان و ( ينصركم ) خبر ، لأن الجملة بدونه ناقصة . ( فتأمل ) .
3 - نلاحظ أن جزاء الشرط في الآية محذوف تقديره ( إن أمسك رزقه من يرزقكم غيره ).
4 - " تدعون " من باب ( افتعال ) ، ومن مادة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادة ( دعوا ) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معين .
5 - مجمع البيان ، ج 10 ، ص 330 .
6 - نور الثقلين ، ج 5 ، ص 385 .
7 - أبو الفتوح الرازي ، ج 11 ، ص 219 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|