المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16674 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الرقابة الذاتيّة والاجتماعيّة
2024-07-02
الأسلوب العمليّ في الأمر والنهي
2024-07-02
ساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
2024-07-02
فلسفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
2024-07-02
معنى الصدق
2024-07-02
{كيف تكفرون بالله}
2024-07-02

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير الاية (124) من سورة البقرة  
  
3574   05:01 مساءً   التاريخ: 30-11-2016
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الباء / سورة البقرة /


قال تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [البقرة: 124].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآية (1) :

{و} اذكروا {إذ ابتلى إبراهيم ربه} أي اختبر وهو مجاز وحقيقته أنه أمر إبراهيم ربه وكلفه وسمي ذلك اختبار لأن ما يستعمل الأمر منا في مثل ذلك يجري على جهة الاختبار والامتحان فأجرى على أمره اسم أمور العباد على طريق الاتساع وأيضا فإن الله تعالى لما عامل عباده معاملة المبتلي المختبر إذ لا يجازيهم على ما يعلمه منهم أنهم سيفعلونه قبل أن يقع ذلك الفعل منهم كما لا يجازى المختبر للغير ما لم يقع الفعل منه سمي أمره ابتلاء وحقيقة الابتلاء تشديد التكليف وقوله {بكلمات} فيه خلاف فروي عن الصادق أنه ما ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده إسماعيل أبي العرب فأتمها إبراهيم وعزم عليها وسلم لأمر الله فلما عزم الله ثوابا له لما صدق وعمل بما أمره الله {إني جاعلك للناس إماما} ثم أنزل عليه الحنيفية وهي الطهارة وهي عشرة أشياء خمسة منها في الرأس وخمسة منها في البدن فأما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطم الشعر والسواك والخلال وأما التي في البدن فحلق الشعر من البدن والختان وتقليم الأظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء فهذه الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة وهو قوله واتبع ملة إبراهيم حنيفا ذكره علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره وقال قتادة وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس أنها عشر خصال كانت فرضا في شرعه سنة في شريعتنا المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك في الرأس والختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء في البدن وفي الرواية الأخرى  عن ابن عباس أنه ابتلاه بثلاثين خصلة من شرائع الإسلام لم يبتل أحدا بها فأقامها كلها إبراهيم فأتمهن فكتب له البراءة فقال وإبراهيم الذي وفى وهي عشر في سورة براءة التائبون العابدون إلى آخرها وعشر في الأحزاب إن المسلمين والمسلمات إلى آخرها وعشر في سورة المؤمنين قد أفلح المؤمنون إلى قوله أولئك هم الوارثون وروي وعشر في سورة سأل سائل إلى قوله والذين هم على صلاتهم يحافظون فجعلها أربعين وفي رواية ثالثة عن ابن عباس أنه أمره بمناسك الحج وقال الحسن ابتلاه الله بالكوكب والقمر والشمس والختان وبذبح ابنه وبالنار وبالهجرة فكلهن وفى الله فيهن وقال مجاهد ابتلاه الله بالآيات التي بعدها وهي قوله {إني جاعلك للناس إماما} إلى آخر القصة وقال أبو علي الجبائي أراد بذلك كلما كلفه من الطاعات العقلية والشرعية والآية محتملة لجميع هذه الأقاويل التي ذكرناها .

وكان سعيد بن المسيب يقول كان إبراهيم أول الناس أضاف الضيف وأول الناس اختتن وأول الناس قص شاربه واستحد(2) وأول الناس رأى الشيب فلما رآه قال يا رب ما هذا قال هذا الوقار قال يا رب فزدني وقارا وهذا أيضا قد رواه السكوني عن أبي عبد الله ولم يذكر أول من قص شاربه واستحد وزاد فيه وأول من قاتل في سبيل الله إبراهيم وأول من أخرج الخمس إبراهيم وأول من اتخذ النعلين إبراهيم وأول من اتخذ الرايات إبراهيم وروى الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله في كتاب النبوة بإسناده مرفوعا إلى المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) قال سألته عن قول الله عز وجل {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} ما هذه الكلمات قال هي الكلمات التي تلقاها آدم (عليه السلام) من ربه فتاب عليه وهو أنه قال يا رب أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم فقلت له يا ابن رسول الله فما يعني بقوله {فأتمهن} قال أتمهن إلى القائم اثني عشر إماما تسعة من ولد الحسين (عليهم السلام) قال المفضل فقلت له يا ابن رسول الله فأخبرني عن كلمة الله عز وجل وجعلها كلمة باقية في عقبه قال يعني بذلك الإمامة جعلها الله في عقب الحسين إلى يوم القيامة فقلت له يا ابن رسول الله فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن (عليه السلام) وهما جميعا ولدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وسبطاه وسيدا شباب أهل الجنة فقال إن موسى وهارون نبيان مرسلان أخوان فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى ولم يكن لأحد أن يقول لم فعل الله ذلك وأن الإمامة خلافة الله عز وجل ليس لأحد أن يقول لم جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن لأن الله عز وجل هو الحكيم في أفعاله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقال الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله ولقوله تعالى {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} وجه آخر فإن الابتلاء على ضربين ( أحدهما ) مستحيل على الله تعالى ( والآخر ) جائز فالمستحيل هو أن يختبره ليعلم ما تكشف الأيام عنه وهذا ما لا يصح لأنه سبحانه علام الغيوب والآخر أن يبتليه حتى يصبر فيما يبتليه به فيكون ما يعطيه من العطاء على سبيل الاستحقاق ولينظر إليه الناظر فيقتدي به فيعلم من حكمة الله عز وجل أنه لم تكن أسباب الإمامة إلا إلى الكافي المستقل بها الذي كشفت الأيام عنه فأما الكلمات سوى ما ذكرناه فمنها اليقين وذلك قوله عز وجل وليكون من الموقنين ومنها المعرفة بالتوحيد والتنزيه عن التشبيه حين نظر إلى الكوكب والقمر والشمس ومنها الشجاعة بدلالة قوله فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم ومقاومته وهوواحد ألوفا من أعداء الله تعالى ومنها الحلم وقد تضمنه قوله عز وجل إن إبراهيم لحليم أواه منيب ومنها السخاء ويدل عليه قوله هل أتيك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ثم العزلة عن العشيرة وقد تضمنه قوله وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان ذلك في قوله يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر الآيات ثم دفع السيئة بالحسنة في جواب قول أبيه لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي أنه كان بي حفيا ثم التوكل وبيان ذلك في قوله الذي خلقني فهو يهدين الآيات ثم المحنة في النفس حين جعل في المنجنيق وقذف به في النار ثم المحنة في الولد حين أمر بذبح ابنه إسماعيل ثم المحنة في الأهل حين خلص الله حرمته من عبادة القبطي في الخبر المشهور ثم الصبر على سوء خلق سارة ثم استقصاره النفس في الطاعة بقوله ولا تخزني يوم يبعثون ثم الزلفة في قوله ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا الآية ثم الجمع لشروط الطاعات في قوله إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي إلى قوله وأنا أول المسلمين ثم استجابه الله دعوته حين قال رب أرني كيف تحيي الموتى الآية ثم اصطفاه الله سبحانه إياه في الدنيا ثم شهادته له في العاقبة أنه من الصالحين في قوله ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم اقتداء من بعده من الأنبياء به في قوله ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين الآية وفي قوله ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا انتهى كلام الشيخ أبي جعفر رحمه الله وقوله {فأتمهن} معناه وفى بهن في قول الحسن وعمل بهن على التمام في قول قتادة والضمير في أتمهن عائد إلى الله تعالى في قول أبي القاسم البلخي وهو اختيار الحسين بن علي المغربي قال البلخي والكلمات هي الإمامة على ما قاله مجاهد قال لأن الكلام متصل ولم يفصل بين قوله {إني جاعلك للناس إماما} وبين ما تقدمه بواو العطف وأتمهن الله بأن أوجب بها الإمامة بطاعته واضطلاعه بما ابتلاه وقوله {قال إني جاعلك للناس إماما} معناه قال الله تعالى ( إني جاعلك إماما يقتدى بك في أفعالك وأقوالك ) لأن المستفاد من لفظ الإمام أمران ( أحدهما ) أنه المقتدى به في أفعاله وأقواله ( والثاني ) أنه الذي يقوم بتدبير الأمة وسياستها والقيام بأمورها وتأديب جناتها وتولية ولاتها وإقامة الحدود على مستحقيها ومحاربة من يكيدها ويعاديها فعلى الوجه الأول لا يكون نبي من الأنبياء إلا وهو إمام وعلى الوجه الثاني لا يجب في كل نبي أن يكون إماما إذ يجوز أن لا يكون مأمورا بتأديب الجناة ومحاربة العداة والدفاع عن حوزة الدين ومجاهدة الكافرين فلما ابتلى الله سبحانه إبراهيم بالكلمات فأتمهن جعله إماما للأنام جزاء له على ذلك والدليل عليه أن قوله {جاعلك} عمل في قوله {إماما} واسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل ولو قلت أنا ضارب زيدا أمس لم يجز فوجب أن يكون المراد أنه جعله إماما إما في الحال أوفي الاستقبال والنبوة كانت حاصلة له قبل ذلك وقوله {قال ومن ذريتي} أي واجعل من ذريتي من يوشح بالإمامة ويوشح بهذه الكرامة وقيل إنما قال ذلك على جهة التعرف ليعلم هل يكون في عقبه أئمة يقتدى بهم والأولى أن يكون ذلك على وجه السؤال من الله تعالى أن يجعلهم كذلك وقوله {قال لا ينال عهدي الظالمين} قال مجاهد العهد الإمامة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) أي لا يكون الظالم إماما للناس فهذا يدل على أنه يجوز أن يعطي ذلك بعض ولده إذا لم يكن ظالما لأنه لولم يرد أن يجعل أحدا منهم إماما للناس لوجب أن يقول في الجواب لا أولا ينال عهدي ذريتك وقال الحسن معناه أن الظالمين ليس لهم عند الله عهد يعطيهم به خيرا وإن كانوا قد يعاهدون في الدنيا فيوفى لهم وقد كان يجوز في العربية أن يقال لا ينال عهدي الظالمون لأن ما نالك فقد نلته وقد روي ذلك في قراءة ابن مسعود واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوما عن القبائح لأن الله سبحانه نفي أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه وإما لغيره فإن قيل إنما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه فإذا تاب لا يسمى ظالما فيصح أن يناله فالجواب أن الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما فإذا نفي أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد .

_______________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ، ص373-378.

2- الاستحداد : الاحتلاق بالحديد.

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآية (1) :

{وإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}. إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) أبو الأنبياء تقرّ وتعترف بنبوته الديانات السماوية الثلاث : الإسلام والمسيحية واليهودية ، ويعظمه مشركو العرب ، لانتسابهم إلى ولده إسماعيل ( عليه السلام )  ، ولأنهم خدمة الكعبة وحماتها التي بناها إبراهيم وولده إسماعيل (2) .

بيّن اللَّه سبحانه انه أمر إبراهيم ببعض التكاليف كذبحه ولده - مثلا - فوجده أمينا وفيا ، فمعنى أتمهن امتثل وأطاع ، وقد وصف اللَّه إبراهيم بالوفاء في الآية 37 من النجم : { وإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى} .

{قال - أي اللَّه - اني جاعلك للناس إماما } . هذه بشارة من اللَّه لإبراهيم بالتفضل عليه بالإمامة ابتداء ، ومن غير طلب منه ، جزاء لإخلاصه ووفائه وتضحيته .

( قال - أي إبراهيم - ومن ذريتي ) . هذا رجاء ودعاء من إبراهيم ( عليه السلام ) ان يمن اللَّه سبحانه على بعض ذريته - لأن من هنا للتبعيض - بالإمامة ، كما منّ عليه . . وهنا تتجلى عاطفة الوالد للولد ، حيث طلب إبراهيم السعادة العظمى لبعض ذريته ، ولم يطلبها من اللَّه لنفسه ، بل تفضل اللَّه عليه بها ابتداء .

{قال - أي اللَّه - لا ينال عهدي الظالمين }. وهذا القول استجابة من اللَّه لإبراهيم ان يتخذ أئمة من ذريته ، على شريطة أن يكونوا مثله أوفياء أتقياء لأن الهدف من الإمام أن يمنع المعصية ، فكيف يكون عاصيا . . ولست أرى كلمة أدل على عدل الإمام ورحمته بالمحكومين من قول علي ( عليه السلام ) ، وهو خليفة المسلمين : « لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي » . .

حاكم يخاف ظلم المحكومين له ، وقوي يخشى استبداد الضعفاء به . . علي الذي لا يبالي أسقط على الموت ، أم سقط الموت عليه . . علي ، وقد أصبح مصدر القوة والسلطة يخاف من رعيته . . وكان ينبغي العكس . . كما هو المألوف المعروف . .

ان هذا خارق للمعتاد ، وكل خلاله من الخوارق والمعجزات .

الإمامة وفكرة العصمة :

يطلق لفظ الإمام في اللغة على معان : منها الطريق : لأنه يقود السائر إلى مقصده ، ومنها ما يقتدي الناس به في هداية ، أو ضلالة ، قال تعالى : {وجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا }. . وقال في آية أخرى : {وجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}.

وقد يكون الإنسان إماما إذا كان متبوعا في شيء ، ومأموما تابعا في شيء آخر . .

هذا بحسب اللغة ، أما بحسب الدين والشرع فان الإمام يطلق على من يؤم الناس

في الصلاة إلا أنه لا يستعمل في ذلك إلا مقيدا ، فيقال إمام الجمعة والجماعة . .

وإذا كان مطلقا غير مقيد فإنه يستعمل في معنيين : الأول في النبي ، ومرتبته أعلى مراتب الإمامة . الثاني يستعمل في وصي النبي . . والإمام بمعنى إمامة النبوة والرسالة ، وإمام الوصاية والخلافة متبوع في كل شيء غير تابع لغيره في شيء في زمن إمامته .

والإمام بمعنى النبي يفتقر إلى النص من اللَّه بواسطة الروح الأمين ، وبمعنى الوصي لا بد فيه من النص من اللَّه سبحانه على لسان نبيه الكريم ، وشرط هذا النص أن يكون بالاسم والشخص ، لا بالصفات وصيغة العموم فقط ، كما هي الحال في المجتهد والحاكم الشرعي ، بل بالنص الخاص الذي لا يقبل التأويل ، ولا التخصيص ، ولا مجال فيه إطلاقا للبس ، أو احتمال العكس ، ومن هنا يتبين ان اطلاق لفظ الإمام من غير قيد على غير النبي ، أو غير الوصي محل توقف وتأمل ، وغير بعيد أن يكون محرما ، تماما كأطلاق لفظ وصي النبي على غير الإمام المعصوم .

ومهما يكن ، فان قول هذا الإمام نبيا كان ، أو وصيا هو قول اللَّه ، وهداه هدى اللَّه ، وحكمه حكم اللَّه الذي لا يحتمل العكس . . ومن ادعى شيئا من ذلك لنفسه دون أن يثبت النص القطعي عليه بالخصوص فهو مفتر كذاب . .

وخير ما قرأته في صفة الإمام قول الإمام الأعظم زين العابدين ( عليه السلام ) في الصحيفة السجادية : « اللهم انك أيدت دينك في كل أوان بإمام أقمته علما لعبادك ، ومنارا في بلادك بعد أن وصلت حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة إلى رضوانك ، وافترضت طاعته ، وحذرت معصيته ، وأمرت بامتثال أوامره ، والانتهاء عند نهيه ، وان لا يتقدمه متقدم ، ولا يتأخر عنه متأخر - أي يبقى متابعا له – فهو عصمة اللائذين ، وكهف المسلمين ، وعروة المؤمنين ، وبهاء رب العالمين » .

هذه هي أوصاف من يختاره اللَّه إماما لعباده . . وبديهة ان الإمامة بمعنى النبوة والوصاية تستدعي العصمة ، ولا تنفك . عنها بحال ، بل هي هي ، لأن الأعمى لا يقود أعمى مثله ، والأقذار لا تطهر أقذارا مثلها ، ومن كان عليه الحد لا يقيم على غيره الحد .

واستدل الشيعة الإمامية بقوله تعالى : {جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً} على ان الإمامة لا تكون الا بجعل من اللَّه سبحانه ، ويؤيده طلب إبراهيم منه جل وعز ان يجعل أئمة من ذريته ، وإذا كانت الإمامة بالجعل منه تعالى احتاجت بحكم الطبيعة إلى النص منه .

وأيضا استدل الشيعة الإمامية بقوله تعالى : {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} على وجوب العصمة للنبي والوصي ، ووجه الدلالة ان اللَّه قد بيّن صراحة انه لا يعهد بالإمامة إلى ظالم ، والظالم من ارتكب معصية في حياته مهما كان نوعها ، حتى ولو تاب بعدها ، حيث يصدق عليه هذا الاسم ، ولوآنا ما ، ومن صدق عليه كذلك فلن يكون إماما .

وتشاء الصدف والظروف أن ينشأ غير علي في حجر الشرك والرجس ، وعبادة الأصنام ، وان ينغمس في أرجاس الجاهلية إلى الآذان ، وان لا ينطق بالشهادة الا بعد أن عصي عوده ، وبعد أن شبعت الأصنام منه ، ومن سجوده لها ، وشاء اللَّه لعلي بن أبي طالب أن ينشأ في حجر النبوة والطهر ، وان يكيّفه محمد ( صلى الله عليه واله ) وفقا لإرادة اللَّه ، وهو طري ندي ، وان ينزل الأصنام من على عروشها ، ويلقي بها تحت أقدام محمد .

وهنا سؤال نلقيه على كل عاقل منصف ، ليجيب عنه بوحي من عقله ووجدانه ، وهو:

مال لقاصر ورثه عن أبيه ، ولا بد له من ولي يحرص ويحافظ عليه ، ودار الأمر بين ان نولي عليه رجلا لم يعص اللَّه طرفة عين مدى حياته ، لا صغيرا ، ولا كبيرا ، وبين أن نولي عليه رجلا عصاه أمدا طويلا ، وهو بالغ عاقل ، ثم تاب وأناب ، فإيهما نختار : الأول أو الثاني ؟ .

ويكفي دليلا على عصمة أهل البيت ( عليه السلام ) شهادة اللَّه لهم بالعصمة في الآية 33 من الأحزاب : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. .

وتكلمنا عن العصمة مفصلا عند تفسير الآية 39 فقرة « عصمة الأنبياء » .

وفقرة « أهل البيت » فراجع ، وهذه الفقرة تتمة للفقرتين السابقتين .

وفكرة العصمة لا تختص بالشيعة وحدهم ، فان السنة قالوا بها ، ولكنهم جعلوها للأمة ، مستندين إلى حديث لم يثبت عند الشيعة ، وهو: « لا تجتمع أمتي على ضلالة » . . والمسيحيون قالوا بعصمة البابا ، والشيوعيون بعصمة ماركس

ولينين ، وقال القوميون السوريون بعصمة انطون سعادة ، والاخوان المسلمون بعصمة حسن البنا ، وكل من استدل بقول انسان ، واتخذ منه حجة ودليلا فقد قال بعصمته من حيث يريد أولا يريد .

وفي الصين مئات الملايين اليوم تؤمن بعصمة ماوتسي تونغ - نحن الآن في سنة 1967 - ويشيدون بتعاليمه ، وإذا اختلف الشيوعيون فيما بينهم وكذلك غيرهم ممن ذكرنا فإنهم يختلفون في تفسير أقوال الرؤساء والمراد منها ، لا في وجوب العمل بها ، والولاء لها ، تماما كما يختلف المسلمون في تفسير نصوص القرآن ، والمسيحيون في تفسير الإنجيل . . ومن خص العصمة بالشيعة فهو واحد من اثنين : اما جاهل مغفل ، واما مفتر متآمر .

___________________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص195-199.

2-  قال صاحب البحر المحيط : ان إبراهيم هو الجد الحادي والثلاثون لمحمد ، وهو إبراهيم بن تارح بن ناجور ابن ساروغ بن ارغوبن فالغ بن عابر ، وهو هود النبي ، ومولده بأرض الأهواز .

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآية (1) :

شروع بجمل من قصص إبراهيم (عليه السلام) وهو كالمقدمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحج، وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الإسلامي بمراتبها: من أصول المعارف، والأخلاق، والأحكام الفرعية الفقهية جملا، والآيات مشتملة على قصة اختصاصه تعالى إياه بالإمامة وبنائه الكعبة ودعوته بالبعثة.

فقوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه إلخ}، إشارة إلى قصة إعطائه الإمامة وحبائه بها، والقصة إنما وقعت في أواخر عهد إبراهيم (عليه السلام) بعد كبره وتولد إسماعيل، وإسحاق له وإسكانه إسماعيل وأمه بمكة، كما تنبه به بعضهم أيضا، والدليل على ذلك قوله (عليه السلام) على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له: {إني جاعلك للناس إماما}، {قال ومن ذريتي}، فإنه (عليه السلام) قبل مجيء الملائكة ببشارة إسماعيل، وإسحاق، ما كان يعلم ولا يظن أن سيكون له ذرية من بعده حتى أنه بعد ما بشرته الملائكة بالأولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس والقنوط كما قال تعالى: { وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 51 - 55] ، وكذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصة بشارته أيضا إذ قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [هود: 71-73] ، وكلامهما كما ترى يلوح منه آثار اليأس والقنوط ولذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما وتطييب أنفسهما فما كان هو ولا أهله يعلم أن سيرزق ذرية، وقوله (عليه السلام): ومن ذريتي، بعد قوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماما}، قول من يعتقد لنفسه ذرية، وكيف يسع من له أدنى دربة بأدب الكلام وخاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربه الجليل أن يتفوه بما لا علم له به؟ ولوكان ذلك لكان من الواجب أن يقول: ومن ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدي هذا المعنى فالقصة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة.

على أن قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال: إني جاعلك للناس إماما} ، يدل على أن هذه الإمامة الموهوبة إنما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات وليست هذه إلا أنواع البلاء التي ابتلي (عليه السلام) بها في حياته، وقد نص القرآن على أن من أوضحها بلاء قضية ذبح إسماعيل، قال تعالى: { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] إلى أن قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } [الصافات: 106].

والقضية إنما وقعت في كبر إبراهيم، كما حكى الله تعالى عنه من قوله: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [إبراهيم: 39].

ولنرجع إلى ألفاظ الآية فقوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه} ، الابتلاء والبلاء بمعنى واحد تقول: ابتليته وبلوته بكذا، أي امتحنته واختبرته، إذا قدمت إليه أمرا أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك واستظهرت ما عنده من الصفات النفسانية الكامنة عنده كالإطاعة والشجاعة والسخاء والعفة والعلم والوفاء أو مقابلاتها، ولذلك لا يكون الابتلاء إلا بعمل فإن الفعل هو الذي يظهر به الصفات الكامنة من الإنسان دون القول الذي يحتمل الصدق والكذب قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } [القلم: 17] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } [البقرة: 249].

فتعلق الابتلاء، في الآية بالكلمات إن كان المراد بها الأقوال إنما هومن جهة تعلقها بالعمل وحكايتها عن العهود والأوامر المتعلقة بالفعل كقوله تعالى {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } [البقرة: 83] ، أي عاشروهم معاشرة جميلة وقوله: {بكلمات فأتمهن}، الكلمات وهي جمع كلمة وإن أطلقت في القرآن على العين الخارجي دون اللفظ والقول، كقوله تعالى: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } [آل عمران: 45] ، إلا أن ذلك بعناية إطلاق القول كما قال تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]

وجميع ما نسب إليه تعالى من الكلمة في القرآن أريد بها القول كقوله تعالى: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } [الأنعام: 34] ، وقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } [يونس: 64] ، وقوله: {يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } [الأنفال: 7] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } [يونس: 96] ، وقوله: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر: 71] ، وقوله {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6] ، وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14] ، وقوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40] ، وقوله: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84] ، وقوله: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ، فهذه ونظائرها أريد بها القول بعناية أن القول توجيه ما يريد المتكلم إعلامه المخاطب ما عنده كما في الأخبار أو لغرض تحميله عليه كما في الإنشاء ولذلك ربما تتصف في كلامه تعالى بالتمام كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } [الأنعام: 115] ، وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 137]،  كأن الكلمة إذا صدرت عن قائلها فهي ناقصة بعد، لم تتم، حتى تلبس لباس العمل وتعود صدقا.

وهذا لا ينافي كون قوله تعالى فعله، فإن الحقائق الواقعية لها حكم، وللعنايات الكلامية اللفظية حكم آخر، فما يريد الله سبحانه إظهاره لواحد من أنبيائه، أو غيرهم بعد خفائه، أو يريد تحميله على أحد قول وكلام له لاشتماله على غرض القول والكلام وتضمنه غاية الخبر والنبإ، والأمر والنهي، وإطلاق القول والكلمة على مثل ذلك شائع في الاستعمال إذا اشتمل على ما يؤديه القول والكلمة، تقول: لأفعلن كذا وكذا، لقول قلته وكلمة قدمتها، ولم تقل قولا، ولا قدمت كلمة، وإنما عزمت عزيمة لا تنقضها شفاعة شفيع أووهن إرادة، ومنه قول عنترة:

وقولي كلما جشأت وجاشت.*** مكانك تحمدي أو تستريحي.

يريد بالقول توطين نفسه على الثبات والعزم، على لزومها مكانها لتفوز بالحمد إن قتل، وبالاستراحة إن غلب.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أن المراد بقوله تعالى: {بكلمات}، قضايا ابتلي بها وعهود إلهية أريدت منه، كابتلائه بالكواكب والأصنام، والنار والهجرة وتضحيته بابنه وغير ذلك ولم يبين في الكلام ما هي الكلمات لأن الغرض غير متعلق بذلك، نعم قوله: {قال إني جاعلك للناس إماما}، من حيث ترتبه على الكلمات تدل على أنها كانت أمورا تثبت بها لياقته، (عليه السلام) لمقام الإمامة.

فهذه هي الكلمات وأما إتمامهن فإن كان الضمير في قوله تعالى: {أتمهن} راجعا إلى إبراهيم كان معنى إتمامهن إتيانه (عليه السلام) ما أريد منه، وامتثاله لما أمر به، وإن كان الضمير راجعا إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما أريد منه، ومساعدته على ذلك، وأما ما ذكره بعضهم: أن المراد بالكلمات قوله تعالى: {قال إني جاعلك للناس إماما}، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام.

قوله تعالى: إني جاعلك للناس إماما، أي مقتدى يقتدي بك الناس، ويتبعونك في أقوالك وأفعالك، فالإمام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس، ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة، لأن النبي يقتدي به أمته في دينهم، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] ، لكنه في غاية السقوط.

أما أولا: فلأن قوله: {إماما}، مفعول ثان لعامله الذي هو قوله: {جاعلك} واسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، وإنما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله، إني جاعلك للناس إماما، وعد له (عليه السلام) بالإمامة في ما سيأتي، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوة، فقد كان (عليه السلام) نبيا قبل تقلده الإمامة، فليست الإمامة في الآية بمعنى النبوة ذكره بعض المفسرين.

وأما ثانيا: فلأنا بينا في صدر الكلام: أن قصة الإمامة، إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم (عليه السلام) بعد مجيء البشارة له بإسحق وإسماعيل، وإنما جاءت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط وإهلاكهم، وقد كان إبراهيم حينئذ نبيا مرسلا، فقد كان نبيا قبل أن يكون إماما فإمامته غير نبوته.

ومنشأ هذا التفسير وما يشابهه الابتذال الطارىء على معاني الألفاظ الواقعة في القرآن الشريف في أنظار الناس من تكرر الاستعمال بمرور الزمن ومن جملة تلك الألفاظ لفظ الإمامة، ففسره قوم: بالنبوة والتقدم و المطاعية مطلقا، وفسره آخرون بمعنى الخلافة أو الوصاية، أو الرئاسة في أمور الدين والدنيا - وكل ذلك لم يكن - فإن النبوة معناها: تحمل النبإ من جانب الله والرسالة معناها تحمل التبليغ، و المطاعية والإطاعة قبول الإنسان ما يراه أو يأمره غيره وهومن لوازم النبوة والرسالة، والخلافة نحو من النيابة، وكذلك والوصاية، والرئاسة نحو من المطاعية وهو مصدرية الحكم في الاجتماع وكل هذه المعاني غير معنى الإمامة التي هي كون الإنسان بحيث يقتدي به غيره بأن يطبق أفعاله وأقواله على أفعاله وأقواله بنحو التبعية، ولا معنى لأن يقال لنبي من الأنبياء مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا، أو مطاعا فيما تبلغه بنبوتك، أو رئيسا تأمر وتنهى في الدين، أو وصيا، أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله.

وليست الإمامة تخالف الكلمات السابقة وتختص بموردها بمجرد العناية اللفظية فقط، إذ لا يصح أن يقال لنبي - من لوازم نبوته كونه مطاعا بعد نبوته - إني جاعلك مطاعا للناس بعد ما جعلتك كذلك، ولا يصح أن يقال له ما يئول إليه معناه وإن اختلف بمجرد عناية لفظية، فإن المحذور هو المحذور، وهذه المواهب الإلهية ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية، بل دونها حقائق من المعارف الحقيقية، فلمعنى الإمامة حقيقة وراء هذه الحقائق.

والذي نجده في كلامه تعالى: أنه كلما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير، قال تعالى في قصص إبراهيم (عليه السلام): {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [الأنبياء: 72] ، وقال سبحانه: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ، فوصفها بالهداية وصف تعريف، ثم قيدها بالأمر، فبين أن الإمامة ليست مطلق الهداية، بل هي الهداية التي تقع بأمر الله، وهذا الأمر هو الذي بين حقيقته في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 82، 83] ، وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] ، وسنبين في الآيتين أن الأمر الإلهي وهو الذي تسميه الآية المذكورة بالملكوت وجه آخر للخلق، يواجهون به الله سبحانه، طاهر مطهر من قيود الزمان والمكان خال من التغير والتبدل وهو المراد بكلمة - كن - الذي ليس إلا وجود الشيء العيني، وهو قبال الخلق الذي هو وجه آخر من وجهي الأشياء، فيه التغير والتدريج والانطباق على قوانين الحركة والزمان، وليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله إن شاء الله العزيز.

وبالجملة فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة، قال تعالى: " {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4] ، وقال تعالى: في مؤمن آل فرعون، { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } [غافر: 38] ، قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122] ، وسيتضح لك هذا المعنى مزيد اتضاح.

ثم إنه تعالى بين سبب موهبة الإمامة بقوله: {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فبين أن الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله - وقد أطلق الصبر – فهو في كل ما يبتلي ويمتحن به عبد في عبوديته، وكونهم قبل ذلك موقنين، وقد ذكر في جملة قصص إبراهيم (عليه السلام) قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام: 75] ، والآية كما ترى تعطي بظاهرها: أن إراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدمة لإفاضة اليقين عليه، ويتبين به أن اليقين لا ينفك عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 5، 6] وقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14، 15] - إلى أن قال - {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 18 - 21] وهذه الآيات تدل على أن المقربين هم الذين لا يحجبون عن ربهم بحجاب قلبي وهو المعصية والجهل والريب والشك، فهم أهل اليقين بالله، وهم يشهدون عليين كما يشهدون الجحيم.

وبالجملة فالإمام يجب أن يكون إنسانا ذا يقين مكشوفا له عالم الملكوت - متحققا بكلمات من الله سبحانه - وقد مر أن الملكوت هو الأمر الذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم، فقوله تعالى: يهدون بأمرنا، يدل دلالة واضحة على أن كل ما يتعلق به أمر الهداية – وهو القلوب والأعمال - فالإمام باطنه وحقيقته، ووجهه الأمري حاضر عنده غير غائب عنه، ومن المعلوم أن القلوب والأعمال كسائر الأشياء في كونها ذات وجهين، فالإمام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد، خيرها وشرها، وهو المهيمن على السبيلين جميعا، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة.

وقال تعالى أيضا: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] وسيجيء تفسيره بالإمام الحق دون كتاب الأعمال، على ما يظن من ظاهرها، فالإمام هو الذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر، كما أنه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحياة الدنيا وباطنها، والآية مع ذلك تفيد أن الإمام لا يخلو عنه زمان من الأزمنة، وعصر من الأعصار، لمكان قوله تعالى: كل أناس، على ما سيجيء في تفسير الآية من تقريبه.

ثم إن هذا المعنى أعني الإمامة، على شرافته وعظمته، لا يقوم إلا بمن كان سعيد الذات بنفسه، إذ الذي ربما تلبس ذاته بالظلم والشقاء، فإنما سعادته بهداية من غيره، وقد قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي} [يونس: 35] .

وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحق وبين غير المهتدي إلا بغيره، أعني المهتدي بغيره، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحق مهتديا بنفسه، وأن المهتدي بغيره لا يكون هاديا إلى الحق البتة.

ويستنتج من هنا أمران: أحدهما: أن الإمام يجب أن يكون معصوما عن الضلال والمعصية، وإلا كان غير مهتد بنفسه، كما مر كما، يدل عليه أيضا قوله تعالى: " {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73] فأفعال الإمام خيرات يهتدي إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي، وتسديد رباني والدليل عليه قوله تعالى: "فعل الخيرات" بناء على أن المصدر المضاف يدل على الوقوع، ففرق بين مثل قولنا: وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدل على التحقق والوقوع، بخلاف قوله "وأوحينا إليهم فعل الخيرات" فهو يدل على أن ما فعلوه من الخيرات إنما هو بوحي باطني وتأييد سماوي.

الثاني: عكس الأمر الأول وهو أن من ليس بمعصوم فلا يكون إماما هاديا إلى الحق البتة.

وبهذا البيان يظهر: أن المراد بالظالمين في قوله تعالى، {قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} مطلق من صدر عنه ظلم ما، من شرك أو معصية، وإن كان منه في برهة من عمره، ثم تاب وصلح.

وقد سئل بعض أساتذتنا رحمة الله عليه: عن تقريب دلالة على عصمة الإمام.

فأجاب: أن الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام: من كان ظالما في جميع عمره، ومن لم يكن ظالما في جميع عمره، ومن هو ظالم في أول عمره دون آخره، ومن هو بالعكس هذا.

وإبراهيم (عليه السلام) أجل شأنا من أن يسأل الإمامة للقسم الأول والرابع من ذريته، فبقي قسمان وقد نفى الله أحدهما، وهو الذي يكون ظالما في أول عمره دون آخره، فبقي الآخر، وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره انتهى وقد ظهر مما تقدم من البيان أمور:

 الأول: إن الإمامة لمجعولة.

الثاني: أن الإمام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية.

الثالث: أن الأرض وفيه الناس، لا تخلو عن إمام حق.

الرابع: أن الإمام يجب أن يكون مؤيدا من عند الله تعالى.

الخامس: أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.

السادس: أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معاشهم ومعادهم.

السابع: أنه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس.

فهذه سبع مسائل هي أمهات مسائل الإمامة: تعطيها الآية الشريفة بما ينضم إليها من الآيات والله الهادي.

فإن قلت: لو كانت الإمامة هي الهداية بأمر الله تعالى: وهي الهداية إلى الحق الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى: {أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع} الآية كان جميع الأنبياء أئمة قطعا، لوضوح أن نبوة النبي لا يتم إلا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحي، من غير أن يكون مكتسبا من الغير، بتعليم أو إرشاد ونحوهما، وحينئذ فموهبة النبوة تستلزم موهبة الإمامة، وعاد الإشكال إلى أنفسكم.

قلت: الذي يتحصل من البيان السابق المستفاد من الآية أن الهداية بالحق وهي الإمامة تستلزم الاهتداء بالحق، وأما العكس وهو أن يكون كل من اهتدى بالحق هاديا لغيره بالحق، حتى يكون كل نبي لاهتدائه بالذات إماما، فلم يتبين بعد، وقد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحق، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحق في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ .. } [الأنعام: 84 - 90]، وسياق الآيات كما ترى يعطي أن هذه الهداية أمر ليس من شأنه أن يتغير ويتخلف، وأن هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمته، بل عن ذرية إبراهيم منهم خاصة، كما يدل عليه قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف: 26 - 28]، فأعلم قومه ببراءته في الحال وأخبرهم بهدايته في المستقبل، وهي الهداية بأمر الله حقا، لا الهداية التي يعطيها النظر والاعتبار، فإنها كانت حاصلة مدلولا عليها بقوله: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26، 27] ، ثم أخبر الله: أنه جعل هذه الهداية كلمة باقية في عقب إبراهيم، وهذا أحد الموارد التي أطلق القرآن الكلمة فيها على الأمر الخارجي دون القول، كقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} [الفتح: 26] .

وقد تبين بما ذكر: أن الإمامة في ولد إبراهيم بعده، وفي قوله تعالى: {قال ومن ذريتي. قال لا ينال عهدي الظالمين} إشارة إلى ذلك، فإن إبراهيم (عليه السلام) إنما كان سأل الإمامة لبعض ذريته لا لجميعهم، فأجيب: بنفيها عن الظالمين من ولده، وليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتى يكون نفيها عن الظالمين نفيا لها عن الجميع، ففيه إجابة لما سأله مع بيان أنها عهد، وعهده تعالى لا ينال الظالمين.

قوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين}، في التعبير إشارة إلى غاية بعد الظالمين عن ساحة العهد الإلهي، فهي من الاستعارة بالكناية.

____________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص224-232.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآية (1) :

الإِمامة قمة مفاخر إبراهيم(عليه السلام)

هذه الآية وما بعدها تتحدث عن بطل التوحيد نبي الله الكبير إبراهيم على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام، وعن بناء الكعبة وأهمية هذه القاعدة التوحيدية العبادية.

والهدف من هذه الآيات ـ وعددها ثماني عشرة آية ـ ثلاثة أُمور:

أوّلا: أن تكون مقدمة لمسألة تغيير القبلة التي ستطرح بعد ذلك، كي يعلم المسلمون أن هذه الكعبة من ذكريات إبراهيم محطم الأصنام، ولكي يفهموا أن التلويث الذي طرأ على الكعبة إذ حولها المشركون إلى بيت للأصنام، إنما هو تلويث سطحي لا يحط من قيمة الكعبة ومكانتها.

ثانياً: لفضح ادعاءات اليهود والنصارى بشأن انتسابهم لإِبراهيم، وأنهم ورثة دينه وطريقته، ولتوضيح مدى ابتعاد هؤلاء عن ملة إبراهيم.

ثالثاً: لتفهيم مشركي العرب أيضاً ببعدهم عن منهج النّبي الكبير محطم الأصنام، والرّد على ما كانوا يتصورونه من ارتباط بينهم وبين إبراهيم.

الآية الكريمة تقول أوّلا: {وَإِذَ ابْتَلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ}.

هذه الفقرة من الآية تشير إلى الإختبارات المتتالية التي اجتازها إبراهيم(عليه السلام) بنجاح، وتبين من خلالها مكانة إبراهيم وعظمته وشخصيته.

وبعد أن اجتاز هذه الإختبارات بنجاح استحق أن يمنحه الله الوسام الكبير {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً}.

وهنا تمنّى إبراهيم(عليه السلام) أن يستمر خط الإِمامة من بعده، وأن لا يبقى محصوراً بشخصه {قَالَ وَمِنْ ذُرّيَّتِي}.

لكن الله أجابه: {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.

وقد استجيب طلب إبراهيم(عليه السلام) في استمرار خط الإِمامة في ذريَّته، لكن هذا المقام لا يناله إلاّ الطاهرون المعصومون من ذريّته لا غيرهم.

______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص305-306.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .