أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-09-2014
3971
التاريخ: 5-11-2014
7675
التاريخ: 5-11-2014
3295
التاريخ: 5-11-2014
3929
|
قوله تعالى : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود : 44].
قد مرّت عليك قصّة النفر من فصحاء قريش أزمعوا ليعارضوا القرآن ، فعكفوا على لطيف الغذاء من لباب البُرّ وسُلاف الخمر ولحوم الضأن والخلوة ، حتى بلغوا مجهودهم ، فإذا فوجئوا بنزول هذه الآية ، فطووا ما أزمعوا ويئسوا ممّا طمعوا فيه ، وعلموا أنّه لا يشبه كلام مخلوق (1) .
الأمر الذي دعا بعلماء الأدب والبيان أن يجعلوا هذه الآية بالذات موضع دراستهم والبحث عن مزاياها الخارقة ، فخاضوا عبابها واستخرجوا لبابها في عرض عريض .
وممّن أجاد في هذا الباب هو الإمام أبو يعقوب السكّاكي في كتابه ( مفتاح العلوم ) ، فبعد أن تكلّم عن شأن البلاغة وعجيب أمره ، وأنّه ممّا يُدرك ولا يوصف كاستقامة الوزن تُدرك ولا يمكن وصفها ، والملاحة يبهر حسن منظرها ولا يستطاع نعتها ... وأضاف أنّ مدرك ( الإعجاز ) هو الذوق ليس إلاّ ، وطول خدمة عِلمَي المعاني والبيان ... ذكر شاهداً على ذلك متمثلاً بالآية الكريمة ، ومعرّجاً على تعداد مزاياها ومفارقاتها عن سائر الكلام ، قال :
وإذ قد وقفت على البلاغة وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية ، فأنا أذكر ـ على سبيل الأنموذج ـ آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين ، ما عسى يسترها عنك ، ثُمّ إن ساعدك الذوق أدركت منها ما قد أدرك مَن تُحدّوا بها ، وهي قوله ـ علت كلمته ـ : ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيض الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .
قال : والنظر في هذه الآية من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ـ وهما مرجعا البلاغة ـ ومن جهة الفصاحة المعنوية ، ومن جهة الفصاحة اللفظية :
1 ـ أمّا النظر فيها من جهة (علم البيان) وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول :
إنه ـ عزّ سلطانه ـ لمّا أراد أن يُبيّن معنى ( أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتدّ ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح ـ وهو انجاز ما كنّا وعدنا من إغراق قومه ـ فقضي ، وأن نُسوّي السفينة على الجوديّ فاستوت ، وأبقينا الظلمة غرقى ) .
بنى الكلام على تشبيه المراد بالمأمور الذي لا يتأتّى منه ـ لكمال هيبته ـ العصيان ، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود ، تصويراً لاقتداره العظيم ، وأنّ السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته ، إيجاداً وإعداماً ، ولمشيئته فيها تغيراً وتبديلاً ، كأنّهما عقلاء مميّزون قد عرفوه حقّ معرفته ، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه ، وتحتّم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده ، وتصوّروا مزيد اقتداره ، فعظمت مهابته في نفوسهم ، وضُربت سرادقها في أفنية ضمائرهم ، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدّماً ، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمّماً ، لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال .
ثمّ بنى على تشبيه هذا نظم الكلام ، فقال ـ جلّ وعلا ـ : ( قيل ) على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل ، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد ، وهو ( يا أرض ) و ( يا سماء ) ، ثم قال ـ كما ترى ـ ( يا أرض ... و يا سماء ) مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور .
ثمّ استعار لغور الماء في الأرض ( البلع ) الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم ، للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقرّ خفي .
ثمّ استعار ( الماء ) للغذاء استعارة بالكناية ، تشبيهاً له بالغذاء ؛ لتقوّي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار ، تقوّي الآكل للطعام ، وجُعل قرينة الاستعارة لفظة ( ابلعي ) ؛ لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء .
ثمّ أمر ـ على سبيل الاستعارة للشبه المقدّم ذكره ـ وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء ، ثمّ قال : ( ماءك ) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز ، تشبيهاً لاتّصال الماء بالأرض باتّصال المُلك بالمالك ، واختار ضمير الخطاب ؛ لأجل الترشيح .
ثمّ اختار لاحتباس المطر ( الإقلاع ) الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ، ثمّ أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلاً ( أقلعي ) لمثل ما تقدّم في ( ابلعي ) .
ثم قال : ( وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً ... ) فلم يُصرّح بمَن غاض الماء ، ولا بمَن قضى الأمر ، وسوّى السفينة ، وقال بُعداً ، كما لم يُصرّح بقائل ( يا أرض ) و ( يا سماء ) في صدر الآية ؛ سلوكاً في كلّ واحد من ذلك لسبيل الكناية .
إنّ تلك الأمور العظام لا تتأتى إلاّ من ذي قدرة يكتنه قهّار لا يغالب ، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره ـ جلّت عظمته ـ قائل ( يا أرض ويا سماء ) ولا غائض مثل ما غاض ، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل ، أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره .
ثمّ ختم الكلام بالتعريض ؛ تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ، ظلماً لأنفسهم لا غير ، خَتم إظهارٍ لمكان السخط ، ولجهة استحقاقهم إيّاه وأنّ قيمة
الطوفان (2) وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلاّ لظلمهم .
2 ـ وأمّا النظر فيها من حيث ( علم المعاني ) ـ وهو النظر في فائدة كلّ كلمة منها ، وجهة كلّ تقديم وتأخير فيما بين جملها ـ فذلك أنّه اختير ( يا ) دون سائر أخواتها ؛ لكونها أكثر في الاستعمال وأنّها دالّة على بُعد المنادى ، الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزّة والجبروت ، وهو تبعيد المنادى ، المؤذن بالتهاون به ، ولم يقل ( يا أرض ) بالكسر ؛ لإمداد التهاون ، ولم يقل ( يا أيّتها الأرض ) ؛ لقصد الاختصار ، مع الاحتراز عمّا في ( أيّتها ) من تكلّف التنبيه غير المناسب بالمقام .
واختير لفظ ( الأرض ) دون سائر أسمائها ؛ لكونه أخفّ وأدور .
واختير لفظ ( السماء ) لمثل ما تقدّم في الأرض ، مع قصد المطابقة .
واختير لفظ ( ابلعي ) على ( ابتلعي ) ؛ لكونه أخصر ، ولمجيء حظّ التجانس بينه وبين ( أقلعي ) أوفر .
وقيل ( ماءك ) بالإفراد دون الجمع ؛ لِما كان في الجمع من صورة الاستكثار المُتأتى عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت ، وهو الوجه في إفراد ( الأرض والسماء ) .
وإنما لم يقل ( ابلعي ) بدون المفعول ؛ أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد ، من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهنّ ، نظراً إلى مقام ورود الأمر ، الذي هو مقام عظمة وكبرياء .
ثم إذ بين المراد ، اختصر الكلام مع ( أقلعي ) ؛ احترازاً عن الحشو المستغنى عنه ، وهو الوجه في أن لم يقل ( قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ، ويا سماء أقلعي فأقلعت ) .
واختير ( غيض ) على ( غيّض ) المشدّد ؛ لكونه أخصر .
وقيل ( الماء ) دون أن يقال ( ماء طوفان السماء ) ، وكذا ( الأمر ) دون أن يقال ( أمر نوح ) وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً من إهلاك قومه ؛ لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك .
ولم يقل ( سوّيت على الجودي ) بمعنى أقرّت على نحو ( قيل ) و( غيض ) و( قضي ) في البناء للمفعول ؛ اعتباراً لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله ( وهي تجري بهم في موج ) مع قصد الاختصار في اللفظ .
ثم قيل ( بُعداً للقوم ) دون أن يقال ( ليبعد القوم ) ؛ طلباً للتأكيد مع الاختصار ، وهو نزول ( بُعداً ) منزلة ( ليبعدوا بعداً ) مع فائدة أخرى ، وهي استعمال اللام مع ( بعداً ) الدالّ على معنى أنّ البعد حقّ لهم .
ثمّ أُطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم ، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل .
هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم .
وأمّا من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذاك أنّه قد قدّم النداء على الأمر ، فقيل ( يا أرض ابلعي ) و( يا سماء أقلعي ) دون أن يقال ( ابلعي يا أرض ) و( أقلعي يا سماء ) جرياً على مقتضى اللازم فيمَن كان مأموراً حقيقة ، من تقديم التنبيه ، ليتمكّن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى ؛ قصداً بذلك لمعنى الترشيح .
ثمّ قدّم أمر الأرض على أمر السماء وابتدأ به لابتداء الطوفان منها ونزولها لذلك في القصّة منزلة الأصل ، والأصل بالتقديم أَولى .
ثم أتبعهما قوله ( وغيض الماء ) لاتّصاله بقصّة الماء وأخذه بحجزتها ، أَلا ترى أصل الكلام ( قيل يا أرض ابلعي ماءك ـ فبلعت ماءها ـ ويا سماء أقلعي ـ عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله ـ وغيض الماء ـ النازل من السماء فغاض ـ ) .
ثمّ أتبعه ما هو المقصود من القصّة ، وهو قوله ( وقضي الأمر ) أي أُنجز الموعود من إهلاك الكفرة ، وإنجاء نوح ومَن معه في السفينة ، ثمّ أتبعه حديث السفينة ، وهو قوله ( واستوت على الجودي ) ، ثمّ ختمت القصّة بما ختمت .
هذا كلّه نظر في الآية من جانبَي البلاغة .
3 ـ وأمّا النظر فيها من جانب ( الفصاحة المعنوية ) فهي ـ كما ترى ـ نظم للمعاني لطيف ، وتأدية لها ملخّصة مبيّنة ، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جرّبت نفسك عن استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ، ومعانيها تسابق ألفاظها ، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى إذنك إلاّ ومعناه أسبق إلى قلبك .
4 ـ وأمّا النظر فيها من جانب ( الفصاحة اللفظية ) فألفاظها ـ على ما ترى ـ عربية مستعملة ، جارية على قوانين اللغة ، سليمة عن التنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سَلسلة على السَّلِسات ، كل منها كالماء في السلاسة ، وكالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقّة .
قال : ولله درّ شأن التنزيل ، لا يتأمل العالم آية من آياته إلاّ أدرك لطائف لا تسع الحصر ، ولا تظنّن الآية مقصورة على ما ذكرتْ ، فلعلّ ما تركتْ أكثر ممّا ذكرتْ ؛ لأنّ المقصود لم يكن إلاّ مجرّد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمَي ( المعاني والبيان ) وأن لا علم في باب التفسير ـ بعد علم الأصول ـ أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه ، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته ، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره ، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه ، هو الذي يوفي كلام ربّ العزّة من البلاغة حقّه ، ويصون له في مظانّ التأويل ماءه ورونقه (3) .
_______________________
(1) العمدة لابن رشيق : ج 1 ص 211 ، وراجع الجزء الرابع من التمهيد : ص 202 .
(2) القيمة ـ بالكسر ـ النوع من قام ، أي بذلك النوع الهائل من قيام الطوفان .
(3) مفتاح العلوم : ص 196 ـ 199 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|