أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-10-2014
1216
التاريخ: 11-10-2014
1709
التاريخ: 11-10-2014
2044
التاريخ: 11-10-2014
3853
|
حين توقّف كورش عند شواطئ بحر إيجه ـ وهي جزء من سواحل تركيا على البحر المتوسّط ـ وجدَ الشاطئ ـ كما هو معروف في الخريطة ـ كثير التَعاريج ، حيث تَتَداخل أَلسِنة البحر داخلَ اليابس ، ومِن أَمثلة هذه الأَلسِنة البحريّة خليج هرمس ومندريس الأَكبر ومندريس الأَصغر ، ويَتعمَّق خليج ( إزمير ) إلى الداخل بمِقدار ( 120 ك . م ) تُحيط به الجبال البَلوريّة التي سمّاها ( فيلبسون = philippson ) : ( العين الليديّة الكارية ) (1) حيث تُحيط هذه الجبال من الغرب إلى الشرق حافّتَي هذا اللسان البحري الذي يتّخذ شكل العين ، ويَصبّ فيه نهر ( غديس ) المياه العَكِرة المُحمَّلة بالطين البُركاني والتُراب الأَحمر ، من فوق هَضَبة الأناضول التي تَنحدر بِبُطء نحو الغرب قبل أنْ تصل إلى الحافّة الغربيّة ؛ ولذلك تَزيد سُرعة جَريان نهر ( غديس ) في اتّجاه السَهل الساحلي المُتقطِّع في شَكل خُلجان وأَخوار (2) وأَجوان لا حصرَ لها ، حتّى يَصل مُستوى قاعدة بحر إيجه ، حيث يصبّ في خليج ( إزمير ) الغارق بين قَمَم الجبال المُحيطة به بارتفاع يتراوح بين 1000 و 2000 متر .
وحين وَقَف كورش ذو القَرنَينِ عند ( سارد ) قرب إزمير تَأَمّل قُرص الشمس وهو يسقط عند الغروب في هذا الخليج الذي يشبه العين ( الكبيرة ) تماماً واختلطت حُمرة الغَسَق بالطين الأَحمر والأَسود الذي يَلفظه نهر ( غديس ) في عين خليج إزمير .
ونُرجّح أنْ تكون تلك هي العين الحَمِئة التي ذَكَرها القرآن .
وهكذا وَرَد في التفسير : العين الحَمِئة ، هي عُباب الماء ولُجّته المَليئة بالوَحَل ، أي الطين الأسود الفاحم .
روى عبد الرزّاق بإسناده إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي عن عثمان بن حاضر الحميري الأزدي ( أبو حاضر القاصّ ، شيخ مِن أَهل اليَمن مَقبول صَدوق وذَكَره ابن حبّان في الثِقات ) ، (3) قال : قال لي ابن عباس : لو رأيت إليّ وإلى معاوية ، وقرأتُ : ( في عين حَمِئة ) ( أي وَحلة ) وقَرأَ : ( حامية ) ( أي دافئة ) ، فدخلَ كعب فسأله معاوية ، فقال : أَنتم أَعرف بالعربيّة ، ولكنّها تَغرب في عين سوداء .
وفي رواية : قال ابن عباس لمعاوية : في بيتي نَزَل القرآن ، لكنّه أَرسلَ إلى كعب وسأَلَه ، فقال : كعب : سَلْ أَهل العربيّة فإنّهم أَعلم بها ، ثُمّ فَسّرها بماءٍ وطين .
قال أبو حاضر : لو أنّي عندكما أَيّدتُك بكلامٍ وتزدادَ به بصيرةً في ( حَمِئة ) ! قال ابن عباس : وما هو ؟ قال : فيما نأَثر قول الشاعر ـ وهو تُبَّع اليَماني ـ فيما ذَكَر به ذا القَرنَينِ في كلفه بالعِلم وإتِّباعه إيّاه :
قد كانَ ذو القَرنَينِ عَمرو مُسلماً مَـلِكاً تَـدينُ له المُلوك وتَحشُد
فأَتى المَشارقَ والمَغاربَ يَبتغي أَسـبابَ مُلكٍ مِن حكيمٍ مُرشد
فرأَى مَغيبَ الشمس عند مَغابها في عين ذي خُلُبٍ وثأطٍ حِرْمد
فقال له ابن عباس : ما الخُلُب ؟ قال : الطين ، بلسانهم ( أي الحمير ) ، قال : فما الثأط ؟ قال : الحَمأَة ( الوَحَل وهو الطين الرقيق الأسود ) ، قال : فما الحِرْمِد ؟ قال : الأَسود ، (4) فدعا ابن عباس غلاماً أنْ يأتيَ بالدَواة ، فقال له : اكتُب ما يقوله الرجل (5) .
قال الدكتور خضر : والبحث العلمي الجغرافي تَتَبَّع نَشأَة المُدن القديمة على خليج إزمير ، مثل ( أفسوس ) و( ملطيّة ) فَوجدَ أنّ هذه الحَمْأَة السوداء التي كانت تُعكِّر خليج إزمير حين نَظَرَ كورش إلى الشمس وهي تَغرب في هذا الخليج ، هي الرواسب التي سدّت جانباً كبيراً من هذا الخليج ، وبعد أن كانت ( أفسوس ) و ( ملاطيّة ) ـ وكانتا ميناءَينِ في الزمن القديم ـ صارَتا تَقَعان اليوم على بُعد بِضعة كيلو مترات من البحر .
كما أنّ ميناء ( إزمير ) نفسه لم يَنجُ مِن الامتلاء برواسب الطين التي كان يَجلبها نهر ( غديس ) إلى الشمال منه بقليل . وأخيراً اضطرّت الحُكومة التركيّة إلى تحويل مياه
النهر بعيداً عن هذا الخليج (6) .
* * *
ثُمّ وبعد أنْ فَرَغ مِن أَمر آسيا الصُغرى ـ الواقعة في غربيّ البلاد ـ تَوجّه شمالاً وفي شرقيّ البلاد ؛ لإخضاع أَقوام هناك كانوا قد تَعسَّفوا وأَفسدوا في الأرض ، فحاربهم مُحاربةً عنيفةً طالت ثَماني سنوات ، حتّى سادَ الأَمن على تلك البلاد .
( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ( شرقيّ البلاد ) وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ ( وَحْش ) لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً ) ، عن الباقر ( عليه السلام ) : ( لم يَعلموا صَنعَة البُيوت ) (7) فلم يَعرفوا بِناية السُقُوف والبُنيان ، سِوى اللجوء إلى الأَسراب وغُدران المياه من حرارة الشمس (8) .
والمنطقة كانت صحراويّةً قاحِلةً مُمتدّةً من شماليّ بحر قزوين حتّى شواطئ المُحيط الهندي وتشمل بلاد ( مكران ـ سيستان و بلوخستان ) ، وظلّ كورش يُعالج إخضاع تلك الأقوام خِلال ثمانية أعوام (9) .
وقد دلّت الدِراسات التي أُجريت على قياس الجنس الإنساني سنة 1901 م بالهند قبل التقسيم وحين كانت صحراء غيدروسيا ( مكران ، بلوخستان ، سيستان ) تابعةً لها على حُدود إيران و أفغانستان ، على أنّ السّكّان يَنتمون إلى الجنس التركي الإيراني الذي يَتّسم بقِصَر القامَة على العُموم ، ومُعظمهم من ذَوي الرؤوس العريضة ، ويَبلُغ قياس مخّهم ( 80 ـ 81 ) وأُنوفهم طويلة ، وشَعر رأسهم ولحيتهم غَزيرٌ ، ولونُ العيون والشعر أَسود غالباً ، وبَشَرتهم بَيّنة فاتحة وهي تَميل إلى الدُكْنَة كلّما اقتربنا من الشاطئ ...
وهذه سِمات بقايا قبائل بدائيّة شَرِسَة كانت تَعيش بالإقليم منذ ( 4000 ) سنة ، ويمكن تقسيم سُلالاتهم إلى البلوش ـ البراهوئي ـ الهُنود والبَربر .
وقِسمٌ مِن البلوش يَعيش الآن في سَهلِ كججهر حتّى خطّ عرض ( 31 ) شمالاً ، ويَقطن عدد كبير منهم السُهُول الجنوبيّة وشماليّ سندة وناحية يعقوب آباد .
أمّا البراهوئي فيتجمَّعون حولَ ( كلات ) و ( كوطة ) وتَتَّسع رُقعَة تواجدهم لتَشمل منطقة ( ليس بيله ) .
والراجح أنّ البلوش ـ كما يقول علماء الأَجناس البشريّة ـ دَخَلوا صحراء مركان عن طريق كرمان وسجستان وانتشروا سريعاً حتّى حُدود الهند ... وإن كان ذلك لا يزيد على درجة التَكهُّن كما قيل ، وقد يكون الأَقرب إلى الصواب أنّ مُعظمَهم كانوا من الجنس الهندي ...
وأَقدم تَسمية لدينا لهذه المنطقة ما عَثَر عليه المؤرِّخون في نُقُوش بهستون ( بيستون ) ... وهي لفظة مِكيا ( Mekia ) كما ذَكَر لنا هيرودوت... أو لفظة ( Mykians ) أي بلد الميكيان التي كانت ضِمْن ولايات الإمبراطوريّة الفارسيّة الرابعة عشرة .
ويَجمع هيرودوت في كلامه ـ في مواضع أُخرى ـ بين الميكيان واليوتيان ( Utians ) والباركانيان ( parikanians ) الذين كانوا مُقاتِلينَ كالباكتيان ( poktans ) ...
وعَيَّن بطليموس الحُدود بين الهند وفارس بحيث ترك الجزء الشرقي من ( سيستان ) في الهند ... ويقول أرّيان ( Arrian ) : إنّ الغيدروسيّينَ أو الكيدروسيّينَ ( سُكّان غيدروسيا ) كانوا يُقيمون في الوديان الداخليّة إلى الغرب من سيستان ، وقد سُمّي الإقليم كلّه باسمهم كدروسيا ( كدرسيا ) ( غدروسيا ) ( cadrosia ) كما ذَكَر مولانا أبو الكلام آزاد نفس التَسمية للإقليم ...
وتَتَفرّع من قبائل غيدروسيا جماعات بدائيّة تُسمّى ( الأشيوفاكوي ) كانت تَقطُن المناطق الصحراويّة المُطلِّة على المُحيط الهندي وهم مِن الصيّادينَ القُدامى ... ويُمثِّلهم الآن قبائل ( الميديّة ) وبعض القبائل الأخرى ...
وظلّ غيدروسيا ( مكران ، سيستان ، بلوخستان ) الاسم المُعتَرف به ـ لتلك الصحاري غرب الهند ـ في الزمن القديم ... ومِن النادر أنْ نَعثر على تَسمية هيرودوت ( مِكيا ) في الكتابات التأريخيّة منسوبة للإقليم ...
غير أنّنا لا نَنْكُر بقاء استعمال هذه التَسمية طَوال القُرون السبع الميلاديّة الأَوائل حتّى جاء الفتح الإسلامي للإقليم في العام السابع عشر للهجرة المُوافِق سنة 639 م ، فقد ذَكَروا لنا أنّهم وَجَدوا الاسم ( مكيان ) ( مكران ) ، وهو النطق الحالي عند البلوش .
وتقترب الصورة مِن الوُضوح حين فَسَّر ( مولسويرث سيكس ) ( sykes Moulesworth ) المَقطع الأخير مِن الاسم مَنطوقاً بالسنسكريتيّة ، على أنّه ( عرانيا ) ومعناها : الأرض القاحِلة .
ويُؤكِّد ( هولدخ ) أنّ اسم ( غيدروسيوي ) هو مكران ، وهو اسم عشيرة مِن ( لس بيلة ) ... وعشيرة كِدور أو ( غيدور ) الآن اسم عشيرة ضَئيلة الشأن مِن أَصل هندي لا يزيد عددُ مَن بقي منها حتّى الآن على ( 2000 ) نَسَمَة .
وكثيراً ما بَحَث العلماء في أصل اسم ( بلوش ) وأسماء القبائل والعشائر الرئيسيّة القديمة الجذور ، وَيَرون ـ على الأرجح ـ أنّ جميع أَسماء القبائل والعشائر الحديثة ( الموجودة الآن ) ليست إلاّ منسوبةً إلى السَلف وليس الحال كذلك بالنسبة للأسماء الأقدم عهداً مِثل الغيدروسيّين ، كما أنّ بعض الأسماء الرئيسيّة الموجودة الآن إمّا أن تكون ألقاباً أو ألفاظاً تَدلّ على المَدح أو الذمّ .
ومن الواضح أنّ الأرض القاحِلة ( غيدروسيا ) كانت مأوى لقبائل مُتأخِّرة ، لا تَعِرف الزراعة ولا الاستقرار ولا بِناء البُيوت الثابتة حتّى ولا الخِيام ، وأنّهم كانوا يعيشون على الجَمْعِ والالتقاط حتّى تحين فُرصة بين وقت وآخر فيُغيرون على حُدود الصحراء المُتاخِمة للإمارات الفارسيّة في القَرن السادس قبل الميلاد .
والإقليم من الناحية الطبيعيّة جزء من الصحاري الحارّة المُتاخِمة للمَدارَينِ والتي يَقُلّ المُعدّل السنوي للأمطار فيها عن ( 100 م . م ) (10) ، وهذا لا يَسمح بنُموّ غطاء نباتي واضح ، والإقليم مُصاب بالجَفاف مُنذ ما لا يقلّ عن خمسة آلاف سنة قبل الميلاد ، وهو نوع الجَفاف المُطلق ، وربّما لم يَجد السُكّان القُدامى مِن قبائل غيدروسيا البدائيّين ( زمن كورش في القَرن السادس قبل الميلاد ) إلاّ جُذُور النباتات لالتهامها .
فالبيئة فعلاً تَخلو تماماً إلاّ مِن نباتات تلاءمَت للحياة في الأقاليم المناخيّة أو البيئات التي يَسودها الجَفاف ، أو تلك التي لا تَتَمتّع إلاّ بقِسطٍ ضئيل من الرُطوبة مِثل صحراء سيستان ومكران ، فهذه النباتات ـ بما لها من تركيب خاصّ ـ تَتَحايل على الحصول على أكبر كميّة مُمكِنة من الماء والاحتفاظ به ؛ ومِن ثَمّ كانت الجذور أطولَ وأَكثر تشعُّباً من السِيقان ؛ ولذا فقد كانت هذه القبائل تَحفر في الأرض بَحثاً عن هذه الجُذُور لتَقتَاتَ بها .
وعندما كان العَطش يُهدِّد حياة هذه القبائل كانوا يَفتحون جُذُوع بعض النباتات الصحراويّة التي تَتَّصف بالانتفاخ ويَمتصّون ما فيها من ماء مَخزون .
والبيئة ـ والحال هذه ـ تَشبه تَماماً ما توحي به الآية الكريمة التي عَبَّرت عن نَمطِ حياة هؤلاء الأَقوام المعيشيّة حيث قال تعالى : {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } [الكهف: 90] ، فسبحان الله أصدق القائلين !
وما أَروع دِقّة القرآن وشموليّته ومُعالجته لهذه القضايا ، في شكل إشارات عابرة تَترُك للعقل البشري على تَتابُعِ العصور مُهمّةَ الكشفِ والتنقيبِ عن تفصيلاتها واتّخاذ العِبرة والمُوعِظة الحَسَنة منها !
( ثمّ أَتبع سبباً ) .
وهي رحلة ثالثة ، كانت أُولاها إلى الغرب لإخضاع بلاد ليديا ، والثانية نحو الشرق شماليّ بحر قزوين لإخضاع قبائل عُزَّل وَحش لم يَعرفوا حتّى الوِقاء من الشمس ، وهذه هي الثالثة نحو الشرق أيضاً ، ولكن حيث مُتّجه بلاد قوقاز بين بحر قزوين والبحر الأسود .
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف: 93] بين الجبلَينِ من سِلسلة جبال قوقاز ، والسدّ : الجبل الشامخ يَصعُب عبوره كأنّه سدّ حاجز .
( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا ( وراءهما ) (11) قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) لصُعوبة لُغتهم وَوعورة لَهجَتِهم بحيث لم يَكد يُمكن التفاهم معهم بسُهولة .
ينتهي هذا الطريق الذي سَلَكه كورش ، إلى منطقة جبليّة وَعِرة مُتضرِّسة تُمثّل حائِطاً جبليّاً طبيعيّاً عرضيّاً شامخاً ، يَحول دون هِجرات الشُعوب المُتوحِّشة وإغارتها على مَن وراء الحائط الجبلي من شعوب بدائيّة مُستَضعَفة .
ولكن الحائِط الجبلي كان مُنثَلِماً مِن وَسَطِه بثَغرة ( مضيق جبلي ) (12) مُخيفَة ، اتّخذها الغُزاة المُتوحِّشون مَعبَراً نحو الشُعوب المُسالِمة في ظَهرانَيه ، حيث كانت تَتَعرّض باستمرار لهجمات أُولئك البَرابِرة المُتوحّشينَ .
كان قد قضى المَلِك الهخامنشي العظيم ( كورش ) ثماني سنوات (13) في تأَديب وإخضاع قبائل غيدروسيا الهمجيّة في صحاري سيستان ومكران وبلوجستان ، وزَحزَح حُدود الإمبراطوريّة حتّى حُدود نهر ( سيحون ) حيث بنى مدينةً باسمه على شاطئ هذا النهر ، فكانت هذه المدينة تُسمّى إِبّان عصر الإسكندر ( المدينة الأقصى الكورشي ) ويعتقد أنّها مكان مدينة ( أُوراتبّه ) الحاليّة .
ووجد كورش أنّه آنَ الأَوان لتأديب الشعوب المُتوحِّشة ، التي كانت تغير عِبر مَضيق داريال في جبال قوقاز على شُعوب إماراته الطيّبة ، في آذربيجان وجورجيا وأرمينيا جنوب الحائط الجبلي الرهيب ، الذي يُسمّى جبال القوقاز التي تَمتدّ من بحر قزوين في الشرق عند مدينة ( دربند ) حتّى ( سرخوم ) على البحر الأسود .
فَتَوجّه إليها سنة 537 ق . م ، وقضى بالإقليم حوالي تسع سنوات مُتوالية (14) ، مابين بِناء السدّ عِبر المَضيق وتأَديب قبائل الأسكوذيّين أو ( الماساجيت ) أو ( يأجوج ومأجوج ) على حدِّ تعبير القرآن (15) .
وحيث إنّ كورش قد وَصَل إلى الحائط الجبلي العظيم ( جبال قوقاز ) فهذا معناه أنّه عَبَر كردستان وآذربيجان وأرمينيا وجورجيا ، وَوَصل إلى أجزاء من داغستان ، حتّى مدينة ( دربند ) وما حولها ، وكذلك إقليم أُوسنينا الجنوبيّة ، ويكون شمال هذا الحدّ حائط القوقاز الجبلي ، ذو فَتحَة في مُنتَصَفه تُسمّى مَضيق ( داريال ) حيث تُقيم جَماعات يأجوج ومأجوج ، وإلى الجنوب من هذا الخطّ الجبلي كانت تُقيم جَماعات مُجرّدة من الحضارة ، وَصَفَهم القرآن بقوله : ( لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) أي يَعسُر التفاهم معهم ، هذا إنْ فَسَّرنا ( مِنْ دُونِهِمَا ) بما قَبل السّدَّينِ لا الوراء كما سَبَق .
وقد اتّخَذَ كورش طريقَه إليهم مُتوجِّهاً شمالاً عِبر إقليم كردستان الجبلي الوعِر ، الذي يَعتلي ظهر المُرتفعات الآسيويّة وسَلاسل الجبال على مَحاورها المُنتشِرة في موقع يَضمّ بعضاً من شمال العراق وشرق أو جنوب شرق تركيا وبعضاً من غرب إيران ، ويَسكنُه الأَكراد مُنذ سنة ( 2400 ق . م ) .
والإقليم به مَعابر مشهورة لمُرور التجارة بقوافلها وفَيالق الحروب بجحافلِها ، وهي مَعابر تَتَّجه على مُحور عام يخدم الصِّلات والعلاقات فيما بين قلب آسيا وشرقها الأقصى وآسيا الصُغرى والشام .
وقد احتَرَف الأَكراد ـ عَلاوةً على تَمرير التجارة ـ حِرفَة الرَعي واقتَنَوا قُطعاناً مِن الأَغنام والماعز ، وعاشوا عِيشَةَ البَداوة والحركة في حركات فصليّة شِبه مُنتَظَمة سعياً وراء المرعى وتأمين العُشب لقُطعان أَغنامهم .
وعلى ذلك فقد عَبَر كورش إقليماً مُتضرِّعاً وَعِراً غَنيّاً بالموارد الاقتصاديّة المُتاحة تَكفُل تأَمين إطعام الجيوش الفارسيّة ، وانحرف شمالاً بشَرقٍ حتّى بلغَ بُحَيرةَ أَروميّة التي يَصبّ فيها نهر طلخة وهي أَكبر بُحَيرات فارس ، وتقع في الشمال الغربي من فارس في إقليم آذربيجان ويبلغ طُولها 130 كم وأقصى عَرضها بلغ 50 كم ، وهي بُحَيرة ضَحْلة قليلة الغَوْر لا يزيد عُمقُها على 21 متراً ، وعلى صخرة ( كورجين ) تقع قَلعة قديمة تُشرِف على البُحَيرة قُبالَة شاطئ ( سلماس ) ، ووُجِد فيها نَقشٌ يُشير إلى عَراقتها في القِدَم .
ويَبدو أنّ كورش آثَرَ مُحاذاةَ شواطئ بحر قزوين ( خزر ) بحيث يكون البحر عن يَمينه وهو مُتَّجه نحو الشمال إلى جبال قوقاز ، ومعنى ذلك أنّه سَلَك ضِفاف نهر طلخة نحو الإقليم الساحلي لبحر قزوين .
والإقليم : عبارة عن سُهُول ضَيّقة تَتَّسم بالدِفء ؛ لأنّ ارتفاعها قليل وقد يَنخفض دونَ سطح البحر، ويَندُر أنْ يحدث الصَّقيع ( الجليد ) هناك في الشتاء ، كما يَندُر أنْ تَرتفع درجة الحرارة في الصيف عن 32، ولكنْ الرطوبة شديدة ، وتَكثُر الأَمطار وتَتَوزَّع على مَدار السَّنة ، وبسبب هذه الأَمطار الغزيرة تَنمو الغابات النفضيَّة مثل البَلوط والدردار ، وهي التي تَنفُض أي تَسقط أَوراقُها في فصل الشتاء .
وظلّ كورش مُحاذياً شاطئ بحر قزوين حتّى وصلَ إلى نهر أَطلق عليه اسمَه ( كورش ) أي سائرس ( سيروس ) (16) ، والإقليم جُزء من آذربيجان الشرقيّة التي تقع في الجنوب الشرقي من قفقاسيا وتشمل سُهُول نهر ( كورا ) المُنخَفِضة والتي تُحيط بها الجبال مِن كلِّ الجهات ، فلا تَنفتح إلاّ من جهة الشرق حيث بحر قزوين .
وهذه الجبال هي القفقاز من الشمال ، وأرمينيا من الغرب ، وجبال آذربيجان الشرقيّة من الجنوب ، وتجري المياه نحو هذه السُهُول من جميع الأطراف من الجبال المُحيطة بها ، وتكون شَديدةَ الانحِدار ، لقِصر المَسافة التي تَقطعها ، فتَحفر أَوديةً واسعةً سَحيقةً ، تُعتَبر من مراكز الزراعة في الإقليم ، وأَمطار هذه السُهُول نادرة لانحصارها بين المُرتفعات التي تَحجُب الأَمطارَ عنها مِمّا يَجعلها جافّةً ، ولكن هذا الجَفاف يُعوَّض بالمياه المُتدفِّقة التي تجري مِن المُرتفعات .
وأَشهر هذه المجاري وأَطولها نهر ( كورا ) الذي يجري من جورجيا ( كرجستان ) ويَمرّ من عاصمتها تَفليس ، ثُمّ يدخل أَراضي آذربيجان حيث يَرفِدُه نهر ( أيورا ) المُنساب أيضاً من جورجيا ، ويَتّجه النهر نحو الجنوب الشرقي حتّى يَصبّ في البحر .
وعليه فكان العائِشونَ في المَنطقة في رفاهيّة من العيش ، حيث خُصُوبة الأرض ووِفْرَة المياه ، آمِنينَ مُطمئنّينَ سِوى ما كان يُهدِّدهم أَقواهم وحشيّةً كانوا يَسكُنون وراء الجبال فربّما أَغاروا عليهم بين حين وآخر ، ولم يكن التهديد لسُكّان تلك المناطق الشاطئيّة وحدها من القبائل الوحشيّة ، بل كان يَشمل سُكّان أرمينيا وجورجيا أيضاً .
_____________________________
(1) يقال : كرى البئر أي طواها بالشجر ، وكرى الأرض : حفرها .
(2) جمع خَوْر : المُنخفض من الأرض بين النَشزَين ، تجتمع فيها المياه بصورة أحواض طبيعيّة في السُهول .
(3) تهذيب التهذيب لابن حجر ، ج 7 ، ص 109 ، رقم 235 ، روى عن ابن عباس وابن الزبير وجابر وأنس ، وعنه الخليل وخَلق كثير .
(4) الحِرْمِد أو الحَرْمَد : المُتغيِّر اللّون والرائحة ، يضرب إلى السواد الفاحم .
(5) راجع : تفسير عبد الرزّاق ، ج 2 ، ص 344 ـ 345 ، رقم 1712 و 1713 ، وتفسير ابن أبي حاتم ، ج 7 ، ص 2383 ، رقم 12947 ـ 12948 ، والدرّ المنثور ، ج 5 ، ص 451 ، وتفسير القرطبي ، ج 11 ، ص 49 .
(6) مفاهيم جغرافيّة ، ص 239 ـ 245 .
(7) مجمع البيان ، ج 6 ، ص 491 .
(8) عن الحسن وقتادة وابن جريج ، والسَّرَب : الحفير تحتَ الأرض ، النَفق .
(9) راجع : تأريخ إيران ، ص 68 .
(10) مفاهيم جغرافيّة ، ص 269 .
(11) حسبما ذكره الرازي في التفسير الكبير ، ج 21 ، ص 170 .
(12) سَنذكُر أنّه مَضيق داريال .
(13) حسبما ذَكَره حسن بيرنيا : أنّه قضى تَجوالَه العسكري في شرق وشمال إيران لمُدّة 8 سنوات ، تأريخ إيران ، ص 68 .
(14) حسبما ذَكَره الدكتور عبد العليم : أنّه قضى بالإقليم حوالي تسع سنوات ، مفاهيم جغرافيّة ، ص 273 ، هذا إنْ قُلنا بأنّها كانت بعد فتح بابل كما قيل ، تأريخ إيران ، ص 68 .
(15) مفاهيم جغرافيّة ، ص 273 .
(16) والآن يُسمّى نهر كورا ، كما يأتي .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|