أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-09-02
418
التاريخ: 2024-11-11
180
التاريخ: 2023-05-04
1116
التاريخ: 13-10-2014
2402
|
يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54]
يُطرح الإشكال التالي فيما يتعلق بصدور الأمر بالقتل من أجل تحقق التوبة وهو: إذا كان المراد من قوله: (فاقتلوا أنفسكم) هو أن يساهم الجميع منكم في قتل بعضكم بعضاً، فكيف يُعد مثل هذا الأمر الثقيل والقاسي بأنه "عفو"؟! وبعبارة أخرى: إذا لم يقبل الله تعالى توبة المذنب من دون القتل الجماعي، فإنه وإن كان الأمر بمثل هذا القتل مبرراً، إلا أنه يستلزم أن لا يكون الله تواباً، وأن لا يأمر الآثم بالتوبة، وإذا كان عز وجل تواباً ويقبل التوبة، فما الداعي إلى القتل الجماعي (1) ؟!
مضافاً إلى الإشكال أعلاه، فكيف يمكن الجمع بين الأمر المذكور وبين ما جاء في سورة النساء" حيث يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66] وذلك لأن فيه دلالة على أن المسلمين يفتقدون الأرضية لتقبل مثل هذا الأمر. وبالنظر إلى أن اليهود كانوا أكثر عناداً من الأمة الإسلامية فمن الأولى أن لا يُكلفوا بمثل هذا التكليف.
فأي عفو هذا مع أن قتل أفراد الأسرة والقبيلة هو من أقسى صنوف العذاب؟! وإن لم يُعف عنهم فما الذي كان سيحصل؟! إن من لوازم العفو التخفيف، فأيّ تخفيف في أن يُقتل الإنسان ويعمد هو إلى قتل كافة أقاربه وأرحامه؟!
لقد قدمت إجابات مختلفة على هذه التساؤلات بعضها تام وبعضها خر ليس كذلك:
1. المراد من القتل هنا هو تهذيب النفس؛ من قبيل: "موتوا قبل أن تموتوا" (2) ؛ أي إن الأمر فاقتلوا أنفسكم هو بمعنى "فاقتلوا أهواءكم"، أو فاقتلوا شهواتكم". ومثل هذا القتل يتناسب مع التوبة، والندم، والعزم على الترك في المستقبل.
2. المقصود من القتل هو ذاك الإزهاق الظاهري للروح، لكن المراد من العفو في {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} [البقرة:52] هو أنه قد حصل البداء ولم يصل الحكم الإنشائي أو الامتحاني إلى مستوى الفعلية؛ نظير ما جاء بحق إبراهيم وذبح إسماعيل .
3. المراد منه هو القتل الظاهري، والمقصود من العفو هو أنه مقتل نفر قليل، يُرفع حكم القتل عن الباقين، ويُعفى عنهم، وينجو القتلى من العذاب الأخروي أيضاً.
4. المقصود منه هو القتل الظاهري، أما المراد من العفو فهو أنه مقتل الأكثرية من القوم وبقاء النزر اليسير منهم يُرفع حكم القتل ويُعفى عن الباقين وينجو المقتولون من العذاب الأخروي.
وتوضيحاً للاحتمالين الأخيرين لابد من القول: إن للمرتد حكماً كلامياً ألا وهو قبول التوبة بينه وبين ربه، وحكماً فقهيّاً وهو الإعدام والقتل للمرتد الفطري والمراد من العفو هو ذاك الحكم الكلامي، حيث يذهب جماعة من المحققين إلى أن توبة المرتد سواء الفطري أو الملي مقبولة وتكون سبباً لخلاصه من عذاب الآخرة، وأن قبول توبته منة يمن الله بها عليه هذا وإن اعتبر البعض قبول التوبة محصوراً بالمرتد الملي. والمقصود من القتل هو تنفيذ الحكم الفقهي؛ إذ أتت للارتداد أحكاماً فقهيّة خاصة مثل صيرورة الزوج أجنبية عن المرتد، ووجوب مراعاة عدة الوفاة. وإن القتل هو واحد من تلك الأحكام.
وعلى أي حال فإن ما يبعد الاحتمال الأول هو أنه خلاف ظاهر قتل النفس في مجموع الآيات القرآنية؛ إذ لا توجد آية في القرآن تكون فيها لفظة القتل بمعنى تهذيب النفس وقتل الأهواء والشهوات. بالطبع إن الاحتمال القائل بكون المراد من القتل هو التهذيب يتلاءم مع ظاهر كلمة العفو؛ لأن الظاهر من قوله عفونا عنكم هو العفو الفعلي، وليس العفو بعد الموت؛ كما أنه لو قيل بحق المتهم المستحق فعلاً للعذاب: "رفع عنه العذاب وعُفي عنه" فإن ظهور العبارة في أنه لا يُعاقب فعلا.
كما أن ما يبعد الاحتمالين الثالث والرابع (القتل الظاهري التنجيزي) أن قوم بني إسرائيل كانوا سفهاء في مجال الرؤية الدينية من ناحية، وفسقة في مجال الميول العملية من ناحية أخرى؛ فهم لم يكونوا أناساً ملتزمين دينياً وواعين حتى يأتمروا فوراً بأمر موسى الكليم ويجردوا سيوفهم عن أغمادها ليقتلوا سبعين ألفاً (طبقاً لرواية) أو (عشرة آلاف رواية أخرى) ليتم العفو عنهم. فإن أمراً كهذا بالنسبة لقوم كهؤلاء هو بمثابة التكليف بما لا يُطاق.
ومن أجل توضيح سفههم وفسقهم وعدم التزامهم لابد من أولاً إلى أنه كم من بني إسرائيل كانوا قد آمنوا بالنبي موسى ، وثانياً الالتفات إلى كيفية إيمانهم وتعبّدهم طيلة مدة قيادة موسى.
يقول القرآن الكريم في عدد الذين آمنوا بموسى الكليم : إنه لم يؤمن بالنبي موسى إلا نفر قليل من ذرية قومه: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] (3)
وبخصوص كيفية إيمانهم ومدى تعبدهم فإنه يُستفاد من القرآنية أن بني إسرائيل لم يكونوا يتمتعون بإيمان راسخ؛ فهم أناس قالوا لموسى عندما أمروا بذبح البقرة: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة:67]، وعلى الرغم من علمهم بنبوته فهم لم يتورعوا عن إيذائه مما دفع هذا النبي إلى أن يقول لهم بلسان العاتب: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]، خصوصاً مع الالتفات إلى ذيل هذه الآية الذي يدل على عدم جدوى موعظة النبي موسى بالنسبة إليهم وأنهم عوضاً عن الهداية والتنبه فقد ابتلوا بزيغ القلب وانحرافه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
بنو إسرائيل هم أولئك الذين عندما أمرهم نبي الله أرض فلسطين وتحاشي التقهقر نحو الجاهلية بقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21] فإنهم تمردوا ولم يدخلوا قائلين: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } [المائدة: 22]، وعندما قال لهم رجلان من خيارهم: اذهبوا وادخلوا باب المدينة فاتحين فإن دخلتموها فإنكم منتصرون على الطغاة: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، فإنهم أسكتوهما غير مكترثين لكلامهما وقالوا لموسى : {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] وتبياناً لضيق الأفق لديهم وضعف معرفتهم يتعين الالتفات إلى أن بني إسرائيل هم قوم متالون إلى الحس وهم عملياً ملتزمون بأصالة الحس. وهذه النقطة من الممكن استنتاجها من تعبير فاذهب أنت وربك .... وكذلك من قولهم مخاطبين نبيهم موسى (عليهم السلام) بعدما نجوا من البحر وشاهدوا كل تلك الآيات والبينات {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف: 138]، كما وتُستخلص من تأثير الجو المهيمن على المجتمع الذي عاش فيه هؤلاء القوم، إذ من المسلم أن الجو الذي كان يسود مجتمع مصر الفرعوني هو الميل نحو أصالة المادة والمعرفة الحسية؛ وذلك لأن حاكمه الجبار كان دائم التغذية للمجتمع بهذا الفكر ، ومع أنه كان قد اتخذ لنفسه صنماً يعبده كما كان سائر عَبَدة الأوثان وهو ما يُستفاد من العبارة: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] إلا أنه كان يخاطب الناس بالقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] وقد أمر هامان أن له قصراً أو مرصداً يصل من خلاله إلى إله موسى في السماوات: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38]
على أي حال فإن الجهل العلمي والجهالة العملية لبني إسرائيل كانت قد بلغت بهم حداً دفع نبي الله موسى لأن يقول في مناجاته إلهي! ليس في يدي حيلة؛ فبنو إسرائيل أناس جهلة ولجوجون وفسقة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] فهو يذكرهم بهذه الكيفية بعنوان الفاسقين (وهي صفة مشبهة وفيها دلالة على دوام وثبات صفة الفسق فيهم ويطلب من الله تعالى أن يفرق بينه وبينهم، والله يؤيد فسق بني إسرائيل من جهة، ويستجيب لطلب موسى الكليم بالتفريق من جهة أخرى حينما يذرهم حيارى تائهين في الصحراء مدة أربعين سنة: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]، وكذلك في قصة الميقات وطلبهم عن جهل منهم لرؤية الله، ومن ثم نزول الصاعقة والهلاك عليهم، فإنه يعبر عنهم بالسفهاء بقوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ} [الأعراف: 155]
استنبط البعض من هذا التوضيح المبسوط أنه ما كان بنو إسرائيل ليطيقوا هذا الأمر التنجيزي بالقتل، وأن هذه النقطة تُعد قرينة لبية تُضاف إلى القرائن اللفظية الأخرى (4)، على رفع اليد عن ظهور القتل في المعنى المعروف. وبالنتيجة فلابد إمّا أن يُقال: إن المقصود من القتل هو تهذيب النفس؛ وإما أن يُقال بأن الأمر بالقتل هو في حد الأمر الامتحاني، تماماً كالأمر بذبح إسماعيل . بالطبع لو كانت هناك رواية معتبرة في تأييد ظاهر القتل لكانت محط قبول، لكنه ليس في أيدينا رواية كهذه، ولم يُرو في هذا الباب إلا حديثان ليسا معتبرين أحدهما عن التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري وثانيهما عن تفسير القمي، وقد مرا في المباحث التفسيرية.
وجواباً على ذلك لابد من القول: لقد استخدمت مادة "القتل" مع مشتقاتها المختلفة أكثر من 170 مرة في القرآن الكريم ولم ترد في أيّ من الموارد بمعنى تهذيب النفس، بل استعملت للدلالة على القتل المادي الذي يعني إزهاق الروح، مما يوحي بأن ظهور جملة: فاقتلوا القتل المادي، ليس هو بمستوى ظهور عادي بل هو ظهور يرقى إلى حد الصراحة (5). من هذا المنطلق وبالالتفات إلى هذا الظهور البالغ القوة الذي يصل إلى حد الصراحة، فإنّه من الممكن القول باطمئنان بأن أيّاً من القرائن الثلاث المارة الذكر ليس بإمكانها الصمود أمام ظهور كهذا، ناهيك عن أنها جميعاً . على مستوى الاستبعاد وقابلة للجواب:
1. فأما القرينة اللبية التي تتمثل بجهالة بني إسرائيل وفسقهم وبالتالي عدم انقيادهم وانصياعهم فبعد رجوع موسى من الميقات، وفضح السامري، وحرق جسد العجل وقذفه في البحر، مع كل تلك الشدة والغضب بحيث إنّه أخذ بلحية أخيه، ورمى ألواح التوراة السماوية على الأرض، وصاح في قومه {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف:150]، وكذلك بعد تفاصيل أخرى نجهلها نحن والتي من شأنها أن تشكل أرضيّة خصبة جداً لانقلاب أكثرية قوم ما وندامتهم، لاسيما وأن كان عائداً من جبل طور وكان من الممكن أن تمنحه نبي الله موسى. النورانية التي ظفر بها جراء ضيافة الميقات ذات الأربعين ليلة نفوذاً خاصاً لكلامه في القلوب، نقول: بعد كل ذلك فأي بعد في أن عدداً لا بأس به، على أقل تقدير، من قوم موسى ممّن يمكن أن انقلابهم وانقيادهم مصححاً لصدور مثل هذا الحكم الشديد قد انقلبوا عن غيهم فأصبحوا على استعداد لقتل بعضهم؟
وبالنظر إلى أنه لا ضرورة من أجل تصحيح صدور مثل هذا الحكم لأن يكون جميع بني إسرائيل مستعدين للقتل، كما أن الآية لم تقل بأنه بعد صدور الأمر بالقتل، قد أمسك الجميع بمقابض سيوفهم وتأهبوا للموت. فلعل طائفة منهم كانوا قد تمردوا ولم يستغلوا باب التوبة المفتوح أمامهم بل استمروا مغضوباً عليهم مطرودين من رحمة الحق، وقد يكون قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] ناظراً إلى هذا النمط من الأشخاص.
2. وأما القرينة اللفظية المنفصلة، الآية 66. من سورة "النساء": وهي فهي ليست قرينة على الخلاف ليس هذا فحسب بل هي قرينة على الوفاق أيضاً؛ وذلك لأن هذه الآية لا ترتبط بأمة موسى، بل تتعلق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهي استمرار لقصة تحكيم الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) بخصوص الشجار الوارد في الآية 65: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] فقد اختلف رجل من المهاجرين مع آخر من الأنصار على سقاية بستانيهما فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ليفصل بينهما فأعطي الحق للمهاجر. فغضب الأنصاري واتهم النبي بالانحياز للزبير بن العوام والحكم لصالحه لكونه ابن عمته. فتأثر النبي كثيراً لذلك فنزلت الآية: {فلا وربك لا يؤمنون حتى ...}.
إن رسالة الآية 66، التي لا ريب في ارتباطها الوثيق بالآية 65 (سواء كان لشأن النزول المذكور سند معتبر أو لم يكن)، تتلخص في أن القبول بحكم النبيلة وليس بالتكليف الشاق إنما التكليف الشاق هو الحكم بقتل البعض للبعض الآخر أو الأمر بالجلاء من الوطن مما صدر بحق بعض الأمم السالفة كاليهود) في قضيّة عبادة العجل). فمع روحية عدم التسليم التي أبديتموها تجاه حكم النبي يصبح من المعلوم أنه لو أمرتم بمثل هذا الأمر فلن ينصاع له إلا نفر قليل منكم.
بناء على ذلك فإن الآية المذكورة تتحدث وفقاً للمرام تماماً. ومما يلفت النظر هو أن ذيل الآية مورد ،البحث أي جملة ذلكم خير لكم عند بارئكم قد جاء أيضاً في الآية 66 من سورة "النساء" بالتعبير التالي: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] مما يؤيد وحدة الموضوع في الحادثتين؛ أي إن ما جاء في الآية 66 من سورة " النساء" من القتل والموعظة هو ذات القتل والموعظة الواردتين في مدار البحث، وإذا لم يكن القتل في هذه الآية بمعنى تهذيب النفس، فالأمر كذلك في تلك الآية.
3. وأما القرينة اللفظية المتصلة، التي هي ظهور "العفو" في رفع العذاب الدنيوي، فإنّه لن يكون للعفو ظهور في سقوط العقاب إلا إذا نظرنا إلى الآية 52 من سورة البقرة"، والتي تقول: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 52]، بمعزل عن الآية مورد البحث (الآية 54). أما إذا قلنا: "إن للمتكلم أن يُلحق بكلامه ما شاء وإن المتكلم الذي قال: ثم عفونا .... هو ذاته القائل: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا} [البقرة: 54] وافترضنا أن الجملتين متعلقتان بحادثة واحدة، بل إن جملة: {ثُمَّ عَفَوْنَا} [البقرة: 52] هي متأخرة عن جملة: {فَتُوبُوا } [البقرة: 54] هذا وإن كانت مقدمة عليها تلك بسبب الالتفاتة البلاغية في تسلسل وتنظيم الآيات التي مر ذكرها في المباحث التفسيرية)، ففي هذه الحالة لن يكون لجملة {عفونا ...} ذلك الظهور، بل إن لمجموع الآيتين ظهوراً في أن حكم القتل قد ارتفع بقاء؛ بمعنى: أنه بعد أن أصدرنا لكم الأمر بالتوبة وأمرناكم بالقتل من أجل تحققها، فمع أنكم كنتم تستحقون أن تُقتلوا وتفنوا عن بكرة أبيكم، لكننا قبلنا توبتكم بعد مقتل عشرة آلاف أو سبعين ألفاً من قومكم البالغ عددهم ستمائة ألف وصرتم محط عفونا ورفع بذلك حكم القتل عنكم.
أو إن المقصود من العفو هو أنكم بعبادتكم للعجل، بعد كل تلك البينات، قد أمسيتم مستحقين لعذاب أليم من قبيل عذاب الاستئصال، بيد أننا عفونا عنكم ولم نرسل عليكم مثل هذا العذاب، بل بينا لكم سبيل التطهر من هذا الإثم العظيم كي يطهر القتلى بمقتلهم والتحاقهم بالشهداء ويتطهر القاتلون بصبرهم على قتل أقاربهم وأرحامهم وتحمل فقدانهم وهو الأمر الذي ينطوي على عبرة لكل الأجيال اللاحقة من اليهود.
ومن الممكن أن يُقال: إن ما نقل بخصوص هذه القصة عن طريق عن طريق النقل المعتبر (القرآن الكريم) هو أنه بعد عبادة العجل فقد صدر بالقتل ومن ثم تحقق العفو أيضاً، في حين أن القتل له ظهور، يرقى إلى حد الصراحة، في إزهاق الروح من ناحية، وأن العفو له ظهور في رفع العقاب في هذه الدنيا من ناحية أخرى. ومن أجل عدم التخلي كلا الظهورين فإنه يكفي أن يذعن عدد معتد به من بني إسرائيل لهذا الأمر، ثم بعد مقتل جماعة منهم، وبعد تضرع موسى وهارون و توسلهما لاستدرار العفو الإلهي وإيقاف حكم القتل (كما يُستفاد من رواية البيان (6)) صدر العفو الإلهي، وتم إيقاف حكم القتل، أو على الأقل - بعد إذعانهم لأمر القتل فقد لبسوا الأكفان وشهروا السيوف، لكنّه استغاثة وعويل وصراخ النساء والأطفال والرجال المتأهبين للقتال ومن خلال تضرع موسى وهارون ودعائهما فقد رفع حكم القتل وت العفو (وهذا الاحتمال يبدو بعيداً طبعاً؛ إذ أنه أولاً: اتفق أصحاب التفاسير قاطبة على وقوع القتل، وإن الأحاديث غير المعتبرة الواردة في هذا الباب تؤيد ذلك أيضاً وثانياً: إن بعض ما يُيّن للقتل بهذه الطريقة من الآثار والبركات، مثل أخذ الأجيال اللاحقة للدروس والعبر واجتثاث ظاهرة عبادة الأوثان، فهي لا تترتب على مثل هذا الاحتمال).
فعندما يكون أصل صدور الأمر بالقتل هو مدلول ظاهر القرآن الذي يصل إلى حد الصراحة أولاً، وأن ظاهر الآية يشير إلى أن للقتل دخلاً في تحقق التوبة ثانياً، كما أن الظاهر منها هو وقوع التوبة ثالثاً، فعلى الرغم من عدم ورود تفاصيله وخصوصياته في نقل معتبر، ومن جانب فإنه ليس هناك محذور عقلي من القبول بمثل هذا الظاهر ولم ترد رواية معتبرة على خلافه، فإنه لا وجه لرفع اليد عن مثل هذا الظاهر وتأويله بتهذيب النفس وقتل الشهوات والغرض من هذا الكلام هو أن ظاهر جملة: فتاب عليكم هو أن الله عز وجل قد قبل توبة بني إسرائيل، وأن القتل كان له دخل في توبتهم. إذن فأصل القتل قد وقع قطعاً على الرغم من أنه، في مرحلة البقاء، قد حصل العفو.
يتضح مما مر رجحان الاحتمالين الثالث والرابع على الاحتمال الثاني (كونه من قبيل ذبح إسماعيل) ، خصوصاً وأن الاحتمال الثاني لا يحلّ مشكلة القرينة اللبية المذكورة آنفاً؛ لأنه مثلما أن الأمر التنجيزي بما لا يُطاق أو بما لا ينقاد المكلف له قبيح، فإن الأمر الامتحاني بمثل ذلك هو غير مستحسن أيضاً.
اشارة:
1. ان كلّ الألفاظ المأخوذة في الآية تُحمل على معانيها الظاهرية؛ بمعنى أن المقصود من القتل هو الإعدام الظاهري، والمراد من العجل هو الصنم الظاهري، و.... الخ بحيث إنه لا يُرتكب أي أمر خلاف الظاهر.
2. الشخص الذي يدور في فلك هواه والمشمول بالآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] هو ظالم لنفسه بحسب الملاك؛ وذلك لأن عجل الهوى، وعجل الجاه، وما إلى ذلك نظير الرياء والسمعة لا تنسجم مع التوحيد أبداً.
3. إنه لا وجود لشخص آخر في مسرح النفس الخاص بالمتبع لهواه، والمحب للجاه، والمرائي.
4. إن الطريقة الوحيدة لعلاج مرض اتباع الهوى هي مجاهدة النفس:
"جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم" (7).
5. المراد من قتل النفس في هذا الجهاد الأكبر هو ذلك التهذيب للروح، . والتزكية للنفس، وتخليصها من صنم الهوى وطلب الجاه وما إلى ذلك.
تأسيساً على ذلك، فليس المراد من التفسير الأنفسي هو تجريد ألفاظ النصوص الدينية من مفاهيمها العرفية، بل يُراد منه الاهتمام مع المحافظة على جميع الظواهر - بما هو وراء اللفظ من المعارف الاستنباطية التي تنسجم مع سائر الأصول والأسس والمبادئ؛ كما أن حمل الآية مورد البحث على ظاهرها، ألا وهو الإعدام، لا ينطوي على أي محذور لكي يرى بعض أكابر فن الحكمة والتفسير لزوم صرف الآية عن ظاهرها (8).
ملاحظة: مع كل ما تحويه الآية مدار البحث من معارف فقد عدها البعض مما لا يحتاج إلى تفسير، وتصوروا أن تفسيرها يُعد ضرباً من الفضول (9).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. هذا الإشكال طرحه الآلوسي عن القاضي عبد الجبار كما يلي: "لا يجوز ذلك عقلاً؛ إذ الأمر الإلهي المصلحة المكلّف، وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة!". ثم يرد الألوسي بنفسه قائلاً: "ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقاً بأمره نستبقيها، وبأمره نفنيها، وأن لها بعد هذه الحياة، التي هي ؟ لعب ولهو حياةً سرمدية وبهجة أبدية، وَإِنَّ الدار الآخرة لَهيَ الْحَيَوَانَ (سورة العنكبوت الآية (64)، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها"، (روح المعاني، ج 1، ص 412).
2. بحار الأنوار، ج 69، ص 59، (بيان المؤلف).
3. سورة يونس الآية 83. من الممكن أن يُقال: إن هذه الآية تتعلق ببداية عهد بعثة موسى الكليم، أي زمان الاستعباد والاستبداد والتضييق الفرعوني ولا تُعد شاهداً في محل البحث.
4. القرينة اللفظية المتصلة في ظهور عفونا لله في إسقاط العقاب الدنيوي، والقرينة اللفظية المنفصلة ، التي وردت في الآية 66 من سورة النساء والتي مرت الإشارة إليها.
5. مع أن قانون الاطراد لا يُعد - في نظر بعض الباحثين من الأصوليين - دليلاً على الحقيقة مقابل المجاز، والحق هو هذا أيضاً؛ لأت شيوع الاستعمالات المجازية مع حفظ مجازيتها ليس أقل من الاستعمالات الحقيقية، لكنه مما لا ، فيه أن قانون الاطراد ريب في مجال استعمال متكلم أو مؤلف معيّن ممن يمتلك مجموعة من المؤلفات والخطابات - من الممكن أن يشكل كاشفاً جيداً لفهم مُراد هذا المتكلم أو المؤلف، وهذا كاف بحد ذاته.
6. مجمع البيان، ج1-2، ص238.
7. تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، ج1، ص 38؛ وبحار الأنوار، ج 65، ص 370.
8. تفسير صدر المتألهين، ج 3، ص 400.
9. تفسير الكاشف، ج 1، ص 104.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|