موقع الجغرافيا بين العلوم:

تعد الفلسفة الوضعية التي اسسها اوغست كونت (Augusta Cote) 1798 -1875 في مفهومه العلمية والتي هي أعلى مراحل العقل والمتمثلة بإنتاج القوانين العلمية. وفي المقدمة تأتي الرياضيات تليها الفيزياء والكيمياء، فعلوم الطبيعة والأحياء، وفي المرتبة الدنيا المعارف الإنسانية والاجتماعية، وهذه الأخيرة في رأي أوغست كونت إذا ما أريد لها أن ترتفع إلى مستوى العلم اليقين ينبغي أن تتمنطق بالقوانين والقواعد على شاكلة العلوم الأرفع منها، من حيث الدقة العلمية للتحول إلى فيزياء اجتماعيةPhysique Sociale)).

إلا أن القوانين الخاصة بالاجتماع البشري أو بالعلوم الإنسانية لم يكن بمقدورها الارتقاء إلى قوانين العلوم الطبيعية، فالإرادة والحرية التي يتمتع بها الإنسان تحد من نجاح عملية تقعيد الأنشطة الاجتماعية الإنسانية. بمعنى آخر أن الاستشراف والتطبيق ميزتي الفيزياء والكيمياء لن يكونا في العلوم الإنسانية. وفي ضوء هذا المفهوم ما هو موقع الجغرافيا بين العلوم؟ لقد حدده دي لابلاش ذلك في قوله إن: "الجغرافيا ليس علما إنسانيا او اجتماعيا بقدر ما هي علم المكان الذي يجمع الإنسان والطبيعة".

إن على الجغرافي إلا يفكر بأية ظاهرة من ظواهر سطح الأرض بذاتها (على نحو مستقل) فـلا يمكن فهمها إلا من خلال تصور موقعها في علاقته بالأماكن الأخرى عن الأرض ). لذا يقول دي لابلاش (Lablache) : أن الجغرافيا هي علم الأمكنة وليس علم البشر وتعتمد الجغرافيا على كثير من العلوم ومن الصعب الفصل بين العلوم المختلفة وعلم الجغرافيا الذي يدخل الآن دورا جديدا من ادوار تاريخية مرت بها. إن كل فرع من فروع الجغرافيا سيستقطب ما يتلائم معه من علوم آخري ويعمل على ربطها بالبيئة. إن علم الجغرافيا لا يمكن أن ينافس وحده كل العلوم، بل إن الجغرافيا يجب أن تكون علما مستقلا له أسلوبه وطريقته ولا يمكن أن يعيش على نتائج العلوم الأخرى.

ويلتقي كثير من الجغرافيين عند نقطة أخرى أكد عليها هتنر وأشار إليها هارتشون وغيره من المولعين ببحث طبيعة الموضوع وهي: إن الجغرافيا من الحقول التي تظهر وحدتها في طريقة دراستها وهذه الطريقة تتمثل في دراسة التباينات المكانية Spatial Variations على سطح الأرض، إن وجهة النظر هذه هي أحدى الصفات التي قد تميز الجغرافيا عن الحقول الأخرى.

فأسلوب الدراسة الجغرافية الحديثة من محاسنه أن يجمع الأفرع المختلفة للجغرافيا ويجعل من الجغرافيا العلم المتفرد له خصائص تميزه عن غيره من بقية العلوم إن الجغرافي مضطر إلى الاستعانة بعلوم عديدة كما أنه بدوره يضيف ببحوثه الخاصة ما يساعد على تقدم المعرفة فهو يتناول الحقائق التي يهيؤها "الجيولوجي" و "المترويولوجي" و "الفيزياوي" و "الانثروبولوجي" ويدرسها في ضوء تأثيرها على مناطق واسعة من الأرض، وتأثيرها على المجتمعات البشرية، فلقد أصبحت الحياة البشرية ممكنه نتيجة تفاعل بين الأرض والمياه والهواء، ولذلك أصبح ايضا توزيع الكتل الأرضية والمائية من أهم مواضيع الدراسات الجغرافية. وبالرغم من أن العلوم المستقلة تقوم بدراسة كل عنصر على حدة في هذا الحقل المعقد، فأن الجغرافيا تقوم بالربط بين دراسات تلك العلوم المستقلة، كما تقوم بتفسير وتنظيم معلوماتها مستخدمة اساليبها في الدراسة الخاصة باللجوء إلى الخرائط والأشكال البيانية. وذلك لغرض اعطاء صورة منظمة لأنواع التضاريس المعقدة وللنشاط البشري المتنوع على سطح هذه الأرض.

لقد وضح كل من ايمانويل كانت (1724 1804) والفرد هتنر. (1942-1859) ورتشارد هارتشون مركز الجغرافيا بوضعها احدى الطرق الثلاث التي يدرس بها الإنسان الحقيقة . فهم يقولون أن هناك ثلاث طرق لدراسة الحقيقة:

1- العلاقة بين الأشياء المتشابهة (العلوم الطبيعية).

2- التطور مع الزمن (التاريخ).

3- الترتيب في المكان (الجغرافيا).

وكان الفيلسوف كانت يعتقد اعتقادا راسخا أن الجغرافيا هي أهم الطرق الثلاث، لأنها تنتج عن اتصال الإنسان الأول والمباشر بالحقيقة المعقدة خارج جسمه.