أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-1-2023
1049
التاريخ: 2023-05-18
1238
التاريخ: 2024-01-19
1241
التاريخ: 1/12/2022
1097
|
ثالثاً : السياسة الصناعية
كان من نتائج الأزمة الاقتصادية العالمية التي وقعت في عامي 2008ـ 2009 أنها استدعت إعادة التفكير في عدد من المسلمات التي كوّنَت "الحكمة التقليدية" في علم الاقتصاد في الحقبة السابقة. من هذه المسلمات ما يتصل بـ "السياسة الصناعية" ، وهو مصطلح أطلق على جملة السياسات الحكومية التي تستهدف التأثير في اقتصاد ما بقصد تنميته تنمية ناجحة، وهذا ما كان ليتحقق لو ترك الأمر لقوى السوق من دون تدخل الحكومة بتلك السياسات، ولا سيما منها المتعلقة بتخصيص الموارد لقطاعات بعينها أو تشجيع تطبيقات تقنية بعينها. كان من نتائج الأزمة العالمية المذكورة أيضاً نشوء توافق واسع بين الاقتصاديين على أن قوى السوق ليست دائماً بالكفاءة المرجوة، ولا يعوّل عليها بدرجة تغني عن التدخل الحكومي لإنقاذ صناعات أو منشآت انتاجية حيوية من الانهيار الذي لو حدث لاستتبع انهيارات أوسع من تلك التي شهدتها الأزمة الاقتصادية العالمية سالفة الذكر. لذلك، تتوافق جمهرة الاقتصاديين في الوقت الحاضر على أهمية الدور الذي تؤديه السياسة الصناعية في درء المخاطر وجلب المنافع.
بات التوافق الجديد المُشار إليه مؤثراً بشكل لافت في صانعي السياسة في الدول الكبرى. ففي الولايات المتحدة، صرح الرئيس باراك أوباما في خطاب الاتحاد لعام 2013 أن الأولوية في سياسته هي "جعل أميركا قطباً مغناطيسياً جاذباً للصناعة التحويلية وفرص العمل الجديدة"، وبموجب هذه الأولوية أُسس معهد الابتكار في الصناعة التحويلية في مدينة يونغستاون في ولاية أوهايو. وأعلن أوباما أيضاً عن إشهار منصات للمبادرات الصناعية (Manufacturing Hubs)، تجري فيها نشاطات تشاركية بين رجال الأعمال من جهة وإدارتي الدفاع والطاقة الحكوميتين من جهة ثانية، من أجل تطوير أقاليم الولايات المتحدة التي أصابها التخلف بتأثير سلبيات العولمة، وتحويلها إلى مراكز للتقانة المتقدمة المولدة الفرص العمل. كما حثّ أوباما الكونغرس على دعم إنشاء شبكة تضم 15 مركزاً من هذا النوع، بهدف التأكّد من أن ثورة صناعية جديدة مقبلة ستعيد الاعتبار إلى شعار " صُنع في أميركا "!
في المملكة المتحدة، وعد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بتبني حكومته "استراتيجيا صناعية داعمة لمحركات النمو في المستقبل، لأن قوى السوق غير كافية لإيجاد القدرات الصناعية التي نحتاج إليها في الأمد البعيد". وتعهد كاميرون أيضاً بأن تتحرى حكومته قصص النجاح (للصناعات) البريطانية في الأسواق التجارية وأن تقف خلفها بالدعم الصريح على أعلى المستويات، " في المجالات التي تحتاج فيها إلى مقاربات استراتيجية فاعلة، مستخدمین روافع السياسة الحكومية كلها، بدلاً من الاكتفاء بردات الفعل على الأزمات بعد وقوعها، أو انتظار ما سوف تمليه الأسواق ".
في اليابان، عمد رئيس الوزراء شینزو آبي إلى إنشاء مؤسسة حكومية للسياسات الاقتصادية الجزئية (المايکرو) سماها " الإدارة المركزية لاستعادة الحيوية الاقتصادية، وتضم مجلساً لصوغ الاستراتيجيات التنموية التي تستهدف الارتقاء بالتنافسية الصناعية .
في الاتحاد الأوروبي، حيث يمكن أن تكون الأزمة الاقتصادية العالمية قد أحدثت أعمق الأضرار الاقتصادية والاجتماعية في الأمد البعيد، تقوم معظم الحكومات بإعادة تقويم سياساتها الصناعية، ساعية إلى التعلم من الخبرات الناجحة التي اكتسبت من خلال تجربتي ألمانيا وفنلندا، ومتبنية مقاربات جديدة في السياسة الصناعية تشمل إجراءات مثل تكثيف الإعلام للمستهلكين والتركيز على وسائل الارتقاء بالكفاءة والتميّز الصناعي في قطاعات معينة، وتحديد القطاعات الجديرة بالدعم مثل صناعات السيارات ووسائط النقل وإمداد الطاقة والكيماويات والغذاء ... إلخ. وهناك حالياً دائرة مختصة في المفوضية الأوروبية مهمتها تقديم العون البشري والمالي لتصميم السياسات الصناعية والمساعدة في تنفيذها في دول المجموعة الأوروبية.
في الاقتصادات الناشئة في الصين وروسيا والبرازيل والهند وإندونيسيا ونيجيريا، ينكَب صانعو السياسات على تشجيع الأفكار الجديدة لشحذ فاعلية السياسة الصناعية وتعظيم أثرها في استدامة النمو وتوفير فرص العمل.
إن التعجيل بإنجاز تغییرات اقتصادية هيكلية لإحداث نشاطات تنافسية محققة لمستويات عالية من الإنتاجية وحفزها يتطلب تدخل الحكومة في توجيه الاقتصاد، وفق خطة مدروسة لتحقيق هذا الهدف. واصطلح على تسمية حزمة السياسات التي يتضمنها هذا التدخل " السياسة الصناعية" (۱۱). ولا توجب هذه التسمية بالضرورة أن تجري التغيرات الاقتصادية الهيكلية المشار إليها على القطاع الصناعي او على نشاط الصناعة التحويلية، فكثيراً ما يكون هدف السياسة الصناعية حفّز قطاعات أو نشاطات أخرى غير صناعية ، تكمن فيها إمكانات تنموية غير مستغلة. من الأمثلة على ذلك نشاط الصادرات الزراعية غير التقليدية ، أو الخدمات السياحية الراقية، أو الخدمات التقنية ذات القيمة المضافة العالية من قبيل تطوير البرمجيات الرفيعة. ووفق هذا التعريف الواسع، تشمل "السياسة الصناعية" العمل على الارتقاء بتنافسية النشاطات الإنتاجية القائمة، إذ كثيرا ما تعجز هذه النشاطات (الصناعات) عن الوصول إلى مستويات عالية في القدرة على المنافسة من دون بيئة حاضنة من الصناعات المكملة والداعمة والخدمات المساندة للإنتاجية، وفي غياب منشآت منافسة قوية. وكما بين عالما الاقتصاد بورتر وفريمان، يتطلب الارتقاء بالتنافسية تضافر الجهود وتطوير النشاط بصورة متزامنة في مؤسسات ومنشآت عدة. ويتطلب ذلك بدوره طيفاً من التداخلات الحكومية في اتجاهات عدة على مستوى الاقتصاد الكلي، كما على المستويات الاقتصادية الفرعية، متضمنة إجراءات تنظيمية و/ أو إجراءات دعم مباشر(12).
الهدف الرئيس للسياسة الصناعية، وفق معظم تعريفات هذه السياسية، هو الارتقاء بالإنتاجية والتنافسية والنمو الاقتصادي، يعرف عالما الاقتصاد کروغمان وأوبستفلد، على سبيل المثال، السياسة الصناعية بأنها "محاولة الحكومة تشجيع توجيه الموارد نحو قطاعات معينة تعتبرها الحكومة مهمة للنمو الاقتصادي"(13) في حين ترفض تعريفات أخرى حصر هدف السياسة الصناعية في دفع النمو الاقتصادي، بل تراه يشمل تغییرات هيكلية في الاقتصاد هدفها جعل النشاط الاقتصادي ذا مردود اجتماعي وذا تأثير إيجابي في البيئة وفي استدامة التنمية .وتسعى حكومات أخرى من خلال السياسة الصناعية إلى تقليل التفاوت في مستويات التنمية بين الأقاليم، من خلال تشجيع خاص لمبادرات استثمارية في الأقاليم المختلفة.
لا شك في أهمية التدخل الحكومي من أجل إنجاز سياسات تنموية ناجحة، لكن يبقى مدى ذلك التدخل ومقداره موضع جدل يتركز في مسألة سلامة اتباع عملیات "انتقائية" في التدخل، تتحيز إلى قطاعات معينة دون غيرها، فيشكل هذا الانتقاء عدواناً على دور آلية الأسعار في توجيه النشاط الاقتصادي نحو الإنجاز المتميز بالكفاءة، باعتبار أن آلية الأسعار، من خلال الإشارات التي تطلقها، بوصلة التوجيه السليم لنشاط اقتصاد السوق.
يری ناقدو التدخل الحكومي أن الحكومات لا تحسن التنسيق بين النشاطات الاقتصادية، كما لا تحسن توقع المضاعفات المستقبلية لقراراتها، الأمر الذي يقود إلى تدني الكفاءة في تخصيص الموارد، كما يؤدي إلى إحداث حوافز مشوّهة عند المستثمرين في القطاع الخاص، كما عند الموظفين الحكوميين. في المقابل، هناك حالياً إجماع عريض على أن احتمالات نجاح "السياسة الصناعية" عالية في البلدان التي تتمتع بإدارات حكومية متميزة بالكفاءة والمهنية العالية وبأنظمة سياسية تسودها الضوابط والتوازنات التي تحول دون الفساد أو السلوك الساعي إلى الكسب الريعي، من البلدان التي تتمتع بهذه المزايا البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (البلدان الصناعية الأكثر تقدماً)، ومعها عدد من البلدان النامية عالية الدخل والأداء الاقتصادي، ومنها كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة والبرازيل وتشيلي التي نجحت في اللحاق بالدول الصناعية المتقدمة باعتمادها السياسة الصناعية بنجاح.
لكن مقداراً غير قليل من الشك يحيط باحتمالات نجاح السياسة الصناعية في البلدان منخفضة الدخل التي تفتقر إلى إدارات حكومية كفؤة، والتي تعاني تخلف أنساق الحكم والممارسات الإدارية المطبقة فيها، خصوصاً ما يتعلق بمستوى الشفافية وأنظمة المحاسبة والمساءلة. من هنا، وعلى الرغم من فشل السوق في هذه البلدان، تبقى قدرة حكوماتها على التدخل الناجح للتعويض عن هذا الفشل بما يحقق الرفاه العام ضمن دائرة الشك واللايقين (14).
الجدل في شأن ضرورة التدخل الحكومي وجدوى السياسة الصناعية جدل قدیم، يعود إلى زمن سعت فيه الولايات المتحدة الأميركية من جهة وألمانيا من ـجهة أخرى إلى تحقيق تقدم اقتصادي ومنجزات صناعية تنافس منجزات بريطانيا في تلك الحقبة. حينئذٍ، نشأ الجدل مع مرافعة فردريك ليست (عالم الاقتصاد) في ألمانيا، وألكسندر هاملتون (أحد الآباء المؤسسين) في أميركا بقوة عن ضرورة وضع أنظمة الحماية الجمركية للمشروعات الفتيّة، بصورة تكفل نجاح الاستثمار فيها في طور نشأتها، وحتى تقف على أقدامها.
منذ ذلك الحين، استمر الجدل الساخن في شأن الحكمة من التدخل في نشاط السوق بهدف إعادة توجيه الموارد الاستثمارية نحو القطاعات التي ترى الحكومة أنها تكتسي أهمية خاصة لتحقيق الرفاه العام والتعجيل بالنمو الاقتصادي. في إطار هذا الجدل، جرى جمع المعلومات والشواهد التي من شأنها إلقاء الضوء على نتائج السياسة الصناعية والتوصل إلى أحكام خاصة بنجاحها أو فشلها. فمن جهة، هناك من الشواهد ما يدل على أن الحكومة أدّت دوراً مهماً في حالات عدة، وصلت فيها أقطار مهمة إلى مرحلة التصنيع الناجح، وأصبحت منذ ذلك الحين في عداد الدول المتقدمة صناعياً. وانطبق هذا على حالات مبكرة تاريخياً کالولايات المتحدة الأميركية وألمانيا واليابان، كما انطبق على حالات مستجدّة مثل بلدان شرق آسيا الأحدث عهداً بالتصنيع الناجح .
من جهة أخرى، هنالك حالات أدى فيها التدخل الحكومي إلى هدر الموارد وتشويه نشاط السوق من دون نتائج مجدية. وحتى في الحالات الناجحة يبقى مقدار من الشك في ما إذا كان النجاح مرتبطاً بصورة يقينية بالتدخل الحكومي، أم هو نتاج عوامل أخرى كانت لتحدث مع هذا التدخل أو من دونه، وهي المسألة المنطقية التي تعرف بالواقعية المعاكسة (Counterfactual)، حين يتعلق الأمر بصعوبة التيقـن من أن النتائج الناجحة مرتبطة سببياً بذلك التدخل الحكومي بالذات.
من الأمثلة على الالتباس الذي ربما يقع نتيجة هذه المسألة الاستشهاد بالنجاح المدهش الذي حققه قطاع صناعة البرمجيات الحاسوبية في الهند. فهناك من يعزو هذا النجاح إلى السياسات الحكومية الهادفة إلى تقديم الدعم إلى نشاطات منتقاة(15)، وهناك في المقابل من يحاجج بأن النجاح المذكور تحقق في الواقع من دون دعم حكومي يُذكر (16). كذلك، لا يجوز استبعاد حالات النجاح التي صاحبت سياسات ليبرالية خالية من التدخل الحكومي، مثل حالة هونغ كونغ، على الرغم من أن نجاح هونغ كونغ كان محدوداً، ولم يتصف بالدرجة العالية من التقدم التقني الذي تحقق في بلدان أخرى في شرق آسيا.
من الإنصاف القول إن جهود الحكومة في تشجيع رواد الاستثمار على البحث عن النشاطات المجدية وتحري الأسواق الواعدة هي جهود لا تخلو من عناصر التجربة والخطأ. لذلك، لا يجوز إدانة هذه الجهود في الأحوال التي تُسفر عن نتائج سلبية ، كما لو كان مبدأ البحث عن الفرص مداناً في حد ذاته. هناك أمثلة تشير إلى أن فشل عدد من المبادرات ربما يعوضه نجاح في مبادرة واحدة. وتجدر الإشارة هنا إلى ما ادت إليه البحوث الحكومية الهادفة في المجال العسكري، وفي مجال بحوث الفضاء من اختراقات تقانية أدت إلى مردودات بالغة القيمة على المستوى الاقتصادي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) Victoria Curron Price Industrial Policies in the European Community (New York St. Martin's Press, 1981). Cited in: Tilman Altenburg, Industrial Palley in Developing countries: Overview and LARSON from Seven Country Cases, Discussion Paper, 4/2011 (Bonn: Deutsches Institut für Entwicklungspolitik. 2011.) .
(12) Michael E. Porter, The Competitie Advantage of Nations (New York: Free Press. Ji of Innovation: Selected Essays in Evolutionary Economics 1990), and Christopher Freeman, System (Cheltenham, UK: Northampton, MA: Edward Elgar, 2008). Cited in: Altenburg. Industrial Policy in Developing countries
. (13) Paul R.Krugman and Maurice Obstfeld, International Economics: Theory and Policy, ed , (New York: HarperCollins, 1991). Clied in: Altenburg, Industrial Policy in Developing countries.
(14) Altenburg. Industrial Policy in Developing countries .
(15) A Singh, The Past, Present and future of Industrial Policy in India: Adapting to the Changing) in Mario Cimoli, Giovanni Desi and Joseph E. Stiglite, eds. Industrial Policy and Development: The Political Economy of Capabilities Accumulation. Initiative for Policy Dialogue Series (Oxford: Toronto: Oxford University Press, 2009). pp. 277-302. Available at: http. www.lem.sup.id WPLem files/2008-15.pdf>. Cited in: . Altenburg, Industrial Policy in Developing countries
(16) Howard Pack and Kamal Saggi, «The Case for Industrial Policy: A Critical Survey Policy Research Working Papers: 3839, World Bank, Washington, DC, 2006). pp. 33 f., and Suma Athreye and Mike Hobday, Overcoming Development Adversity: How Entrepreneurs Led Software Development in India, International Journal of Technological Learning Innovation and Development, vol. 3, no. 1 (January 2010). pp. 36-46, Cited in: Altenburg, Industrial Policy in Developing countries.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|