أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-5-2017
1786
التاريخ: 4-4-2021
2575
التاريخ: 23-5-2018
1830
التاريخ: 16-11-2016
2636
|
الوجهة الدينية
إن أمامنا يزيد بن معاوية، ويزيد بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، أما ابن معاوية فقد أصاب اليعقوبي سدرة الصواب حين وصفه بأنه حلف نسوة، وصاحب ملاهٍ، ويكفي أن ندرس حياته — مع أن الدولة كانت في إبان قوتها وميعة شبابها — لنقتنع بأنها كانت بمثابة معاون هدم وتخريب، وإن في إلمامنا بما كان من مسلم بن عقبة الذي انتهك المدينة لمقنعًا بما نقول؛ لقد كان جند يزيد بعد واقعة الحرة وغيرها يطلبون إلى الرجل القرشي أن يبايع ليزيد، لا من ناحية اقتناعه الديني طبعًا، ولا بدافع الترغيب والمال، ولا بسياسة الرقة واللطف التي قد يُنال بها أكثر مما ينال بالشدة والعنف؛ بل من ناحية السيف والإرهاب، يجب أن يبايع وأنفه راغم، ويجب أن يبايع مع ما يرى من انتهاكهم المدينة، كانت جند يزيد تقول للقرشي: بايع على أنك عبد قن ليزيد، فإن أبَى ضُرب عنقه، فكانت مقتلة ذريعة، ثم انظر ما كان من حصارهم مكة التي إذا قال قائلها: «يا أهل الشام، هذا حرم الله الذي كان مأمنًا في الجاهلية يأمن فيه الطير والصيد، فاتقوا الله يا أهل الشام.» صاح الشاميون: «الطاعة الطاعة.»
لنترك يزيد جانبًا محيلين القارئ إلى ما في الأغاني وغيره من كتب الأدب والتاريخ، ولنردد الطرف في حياة يزيد بن عبد الملك، فنجد أبا الفرج الأصفهاني يذكر لنا، في غير موضع من حياة سلَّامة القس وحبابة وغيرهما، شيئًا لا يستهان به عن إسرافه في تهتكه، فينقل لنا عن المدائني قوله: قدِم يزيد بن عبد الملك المدينة في خلافة سليمان، فتزوج سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان على عشرين ألف دينار، وربيحة بنت محمد بن علي بن عبيد الله بن جعفر على مثل ذلك، واشترى الغالية بألف دينار.
وفي رواية محمد بن سلام أنه اشتراها بأربعة آلاف دينار، ويقول في موضع آخر: إن رسل يزيد بن عبد الملك قدمت المدينة فاشتروا سلامة المغنية من آل رمانة بعشرين ألف دينار.
ولعلك تميل إلى مقابلة هذه الروايات مع تعدد رواتها بتحفظ المؤرخ العلمي الذي لا يقنعه إلا الوسائل التحليلية المؤيدة لصدق الرواية، على أنك تستطيع ذلك باطلاعك على ما يقوله اليعقوبي مثلًا عن طريقة جباية المال، وعلى ما كتبه يزيد بن عبد الملك إلى عمر بن هبيرة، وهو عامله على العراق، يأمره أن يمسح السواد، فمسحه سنة ١٠٥، ولم يمسح السواد منذ مسحه عثمان بن حنيف في زمن عمر بن الخطاب حتى مسحه عمر بن هبيرة، فوضع على النخل والشجر، وأضرَّ بأهل الخراج، ووضع على التانئة،(1) وأعاد السخر والهدايا وما كان يؤخذ في النيروز والمهرجان، ليس هذا فحسب، بل انظر إلى تعلله في فرض الغرامات المالية على كبار رجال الدولة لا لجرم إلا أن نفوسهم حدثتهم أن يتزوجوا بعض آل البيت، فإن عبد الله بن الضحاك بن قيس الفهري، عامِلَه على المدينة، كان قد خطب لنفسه فاطمة بنت الحسين بطريقة جافة، فعزله يزيد عن المدينة وولاها عبد الواحد بن عبد الله النصري، وكتب إليه أن يأخذه بأربعين ألف دينار ويعذِّبه، ففعل ذلك، ويقول المؤرخ الذي نقلنا عنه: إن عبد الله بن الضحاك قد رُئي وفي عنقه خرقة صوف يسأل الناس. ولم يكتف يزيد بن عبد الملك بهذا، بل عزل عمال عمر بن عبد العزيز جميعًا، ونحن نعلم مَن هو عمر، وما عدله وما رقابته عماله، ويكفينا أن نذكر ما كان منه مع يزيد بن المهلب عامله على خراسان، فقد قال له عمر: «إني وجدت لك كتابًا إلى سليمان تذكر فيه أنه اجتمع قبلك ألفُ ألفٍ، فأين هي؟ فأنكرها ثم قال: دعني أجمعها، قال: أين؟ قال: أسعى إلى الناس، قال: تأخذها منهم مرة أخرى!» ثم ولَّى خراسان الجراح بن الحكمي.
وإنه لمن الممتع حقًّا تلك المناقشة الورعة الهادئة التي دارت بين عمر ويزيد، وبين عمر ومخلد بن يزيد، وتلك الصرامة التي لا تعرف في سبيل المحافظة على مال المسلمين لينًا ولا هوادة، وقد أثبتها ابن الأثير في كامله ولا حاجة بنا هنا إلى الاستطراد بذكرها.
•••
فمن أمثال ما قدمناه نستطيع أن نقتنع بأن روايات صاحب الأغاني عن إسرافه قريبة من الواقع إن لم تكن صحيحة لا مبالغة فيها ولا غبار عليها، ثم لننظر الآن إلى أي مدًى كان هذا الصنف من الخلفاء تحت تأثير عشيقاتهم من القيان والمغنيات، وما كان لهنَّ من سلطان في أمور الدولة وتولية العمال وعزلهم؛ فإن ذلك يفيدنا في تفهمنا دور الانتقال الذي نحن فيه تفهُّمًا هو — في نظرنا — أشد اعتبارًا من الاعتماد على رأي المؤرخين وسردهم للحوادث بغير عناية ولا استقراء للنفسية العربية، وخاصة في أبهاء الخليفة، وحبذا العناية بها، سواء أكانت في بيت الخليفة أم في بيت العامل أم عند الرعية، فإن لدراستها ومراقبة تحولها نفعًا وكبير جدوى.
ينقل لنا أبو الفرج الأصفهاني عن المدائني أن حَبَابة — وهي عالِيةُ القَينة — «غلبت على يزيد وتبنَّى بها عمر بن هبيرة، فعلت منزلته حتى كان يدخل على يزيد في أي وقت شاء، وحسَد ناس من بني أمية مسلمةَ بن عبد الملك على ولايته، وقدحوا فيه عند يزيد وقالوا: إن مسلمة إن اقتطع الخراج لم يحسن، يا أمير المؤمنين، أن يعيشه، وأن يستكشف عن شيء لسنِّه وخِفَّته، وقد علمتَ أن أمير المؤمنين لم يدخل أحدًا من أهل بيته في الخراج، فوقَر ذلك في قلب يزيد وعزم على عزله. وعمل ابن هبيرة في ولاية العراق من قبل حَبَابة، فعملت له في ذلك، وكان بين ابن هبيرة والقعقاع بن خالدة عداوة، وكانا يتنازعان ويتحاسدان، فقيل للقعقاع: لقد نزل ابن هبيرة من أمير المؤمنين منزلة؛ إنه لصاحب العراق غدًا! فقال: ومَن يُطيق ابن هبيرة؟ حبابة بالليل وهداياه بالنهار! مع إنه وإن كان بلغ فإنه رجل من بني سكين، فلم تزل حبابة تعمل له في العراق حتى وليها.»
مثل هذا الخبر له قيمته التاريخية في تعرف حال الدولة العربية في ذلك الحين، ولو جاز لنا أن نحلل لنظرنا طويلًا في قول القعقاع بن خالد: «ومن يطيق ابن هبيرة؟ حبابة بالليل وهداياه بالنهار، مع أنه وإن كان بلغ فإنه رجل من بني سكين.» فإنه لا يفيدنا في تفهم وقوع الخليفة تحت سلطان عشيقته، ولا في قبوله للرشا فحسب، بل يفيدنا فهم تحول العصبيات العربية الأخيرة، ومبلغ نظر العربي إلى سواه.
أما استخفاف الوليد بن يزيد بالدين، وخمرياته التي فاقت خمريات يزيد بن معاوية، والتي نرى أن لها أثرًا كبيرًا في أبي نواس وحسين بن الضحاك، وبركة الخمر التي احتواها قصره، فإن أمهات كتب الأدب العربي ومظان التاريخ مفعمة من ذلك بما لا نتعرض له في هذه العجالة بأكثر من إحالة القارئ على ما قاله الوليد في القرآن، وما أحصاه بعضهم له من عدد الأقداح التي شربها في ليلة من ليالي شرابه؛ إذ أثبت صاحب الأغاني أنها سبعون قدحًا، وإن كنا نفترض في مثل هذه الأحوال جنوح الرواة إلى المبالغة والإغراق، ثم لتنظر معنا فيما يقوله ابن الأثير عنه حين ولَّاه هشامٌ الحجَّ، فإنه يخبرنا أنه لما أراد هشام أن يقطع عنه ندماءه ولَّاه الحج سنة ست عشرة ومائة، فحمل معه كلابًا في صناديق، وعمل قبة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه الخمر وأراد أن تنصب القبة على الكعبة وتشرب فيها الخمر. وقد أيد المؤرخون هذه الحادثة، ويقول اليعقوبي: إن الوليد بعث مهندسًا ليقوم بذلك.
ثم انظر إلى بيعه خالدًا القسري إلى يوسف بن عمر بخمسين ألف ألف، وما رواه المؤرخون من إرساله إلى خالد قائلًا له: «إن يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف، فإن كنت تضمنها وإلا دفعتك إليه.» فأجابه خالد بأحسن جواب إذ قال له: «ما عهدت العربَ تُباع، والله لو سألتني أن أضمن عودًا ما ضمنته.» ومع ذلك فقد دفعه إلى يوسف فعذَّبه وقتله!
ثم لننظر إلى نظر الرأي العام إليه وإلى تصرفاته، وأمامنا من ذلك شعر حمزة بن بيض فيه إذ يقول:
يــــا وليد الخنــا تركت الطريقا *** واضحًا وارتكبت فجًّا عميقا
وتمــاديت واعتديت وأسرفــت *** وأغـــويت وانبعثت فســوقا
أبدًا هـــات ثم هـــات وهــا تثم *** هــات حتــــى تخـــر صعيقا
أنت سكران ما تفيق فما ترتق *** فتقًـــا وقـــد فتقت فتــــــوقا
وإنا نثبت هنا أيضًا ما دار بين الوليد بن يزيد حين حوصر في قصره ويزيد بن عنبسة السكسكي، فقد قال له الوليد: «يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطياتكم؟! ألم أرفع المؤن عنكم؟! ألم أعط فقراءكم؟! ألم أخدم زمناكم؟!» قال: «إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، وإنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله.»
ولتنظر معي أيضًا إلى عبد الملك بن مروان، وهو من الخلفاء الثلاثة المعدودين أقطابًا لهذه الدولة، وإلى ما كان من جبروته وضعف الوازع الديني عنده حتى استباح لنفسه أن يقول وهو على المنبر: «من قال لي بعد مقامي هذا: اتق الله؛ ضربت عنقه.»
وبعد، فإنه ليخيل إلينا أن فيما قدمناه بعض المقنع بما كان من استهانة الخلفاء بالدين، ومن إمعانهم في التهتك والخروج عليه.
ونريد الآن أن ندرس تأثر الخلق العربي بما كان للخلفاء من تنكب عن سنن الدين، وإمعان في التهتك والاستهتار، والناس على دين ملوكهم، والملوك على سنة رعيتهم، أو كما يقول عبد الملك بن مروان: «تطلبون منا أن نسير فيكم بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر ولا تسيرون أنتم بسيرة الناس أيام أبي بكر وعمر.» ....
يقول أبو الفرج: إنه لما قدم عثمان بن حيان المرِّي، والي يزيد بن عبد الملك، المدينة قال له قوم من وجوه الناس: إنك وليت على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تُصلح فطهِّرها من الغناء والزنا إلخ. ونفهم من جملة الرواية أنه لم يفز في مهمته بطائل، ولم يوفق إلى ما كان يرجوه للناس من صلاح وتقويم.
أما ما يرويه لنا ابن قتيبة في عيون أخباره، فها هو ذا بنصه وعبارته ، قال: «سمر المنصور ذات ليلة فذكر خلفاء بني أمية وسيرهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكانت هممُهم من عِظَم شأن الملك وجلالة قدره قصدَ الشهوات، وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله ومساخطه، جهلًا منهم باستدراج الله، وأمنًا لمكره، فسلبهم الله العز، ونقل عنهم النعمة، فقال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن مروان لما دخل أرض النوبة هاربًا فيمن معه سأل ملكُ النوبة عنهم فأُخبر، فركب إلى عبد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه، وأزعجه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك، فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي فافترشت بها وأقمت ثلاثًا، فأتاني ملك النوبة وقد خبر أمرَنا، فدخل عليَّ رجل أقنى طُوالٌ حسن الوجه، فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب، فقلت له: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟ قال: لأني ملك، وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه! ثم قال لي: لمِ تشربون الخمر وهي محرمة عليكم؟ قلت: اجترأ على ذلك عبيدُنا وأتباعنا لأن الملك زال عنا؛ قال: فلم تَطَئون الزروع بدوابكم والفساد مُحرمٌ عليكم في كتابكم؟ قلت: يفعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم، قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وذلك محرم عليكم؟ قلت: ذهب الملك منا وقلَّ أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا، فلبسوا ذلك على الكُره منا، قال: فأطرق مليًّا وجعل يقلب يديه وينكت في الأرض ويقول: عبيدنا وأتباعنا! دخلوا في ديننا! وزال الملك عنا! يردِّده مرارًا، ثم قال: ليس ذلك كما ذكرتَ، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم، وركبتم ما عنه نهاكم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله العزَّ وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها، وأخاف أن يحلَّ بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام، فتزودوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي. ففعلت ذلك.»
______________
(1) التانئة: الجماعة المقيمون في البلاد لا ينفرون مع الغزاة. انظر: اللسان، مادة «تنأ»
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|