أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-04-02
801
التاريخ: 2024-02-08
1452
التاريخ: 2023-12-07
860
التاريخ: 2-03-2015
2394
|
حين تصدّى النحاة لوصف الظواهر النحويّة ورسم حدود العربيّة، صدروا عن ملاحظة اطّراد الظواهر الذاتيّة للّغة في الأمثلة والشواهد، ومن ثمّ قعّدوا اللّغة في ميادين النحووالصرف والصوتيّات ..، وحاولوا تفسير هذه الظواهر عن طريق ملاحظة علاقة العناصر اللّغويّة باعتبار هيئاتها الشكليّة ومواقعها. كما أنّهم اعتدّوا المعنى ملحظا ضروريّا في استكمال التحليل وعمل المعربين، ولحظوا مستوى البنية الصرفيّة، ورصدوا علاقات التركيب بملاحظة ثابتة لطبيعة الصيغة في أبنية الكلم. وذلك أمر مذكور لأولئك النحاة.
ولكنّهم تجاوزوا فوق هذا في رسم معالم النظام اللّغوي حدود النصّ الذاتيّة. ومادّة العبارة الكلاميّة إلى محيط الحدث الكلامي أوالسياق الخارجي، والمتغيّرات الخارجيّة التي تكتنف مادّة الكلام واعتبروه أصلا في وصف الظاهرة اللغوية وتفسيرها «1». وقد تناول الدكتور نهاد الموسى في بحثه الموسوم ب (الأعراف أونحواللسانيّات الاجتماعيّة في العربيّة) هذه المسألة بالتفصيل مستقريا عشرات الأمثلة على صدور النحاة العرب عن هذا الأصل. مع الإشارة إلى أنّنا إذا كنّا سنجهد أنفسنا في تحليل بعض النصوص للتدليل على صدق هذه المقولة، فإنّنا في نصوص عديدة لا نحتاج لمثل هذا الجهد كون النحاة قد قرّروا فيه صراحة صدورهم عن هذا الأصل، فحين يعرّف أولئك النحاة مثلا الكلام يقولون : " هو ما تحصل به الفائدة سواء كان لفظا، أو خطّا، أوإشارة، أو ما نطق به لسان الحال" «2».
ومؤدّاه واضح فإنّ تجليّات الكلام لديهم أربعة : اثنان منها ينتسبان إلى المستوى اللّغوي الخالص وهما : اللفظ والخط، واثنان ينتسبان إلى المحيط الخارجي الذي يكتنف موقف الخطاب، وهما الإشارة ووقائع الحال التي تحيط بالخطاب «3». وسبق أن أشرنا إلى مفهوم الإشارة ومحلّه من بحوث جون لاينز وغيره من علماء الدلالة المحدثين. وانتسابها إلى ما يعرف بالقوّة اللاكلاميّة في الحدث الكلامي.
وننقل هنا قولة ابن جنّي : " فلوكان استماع الأذن مغنيا عن مقابلة العين مجزئا عنه لما تكلّف القائل، ولا كلّف صاحبه الإقبال عليه، والإصغاء إليه، وعلى ذلك قالوا :
ربّ إشارة أبلغ من عبارة، وقال لي بعض مشايخنا رحمهم اللّه. أنا لا أحسن أن أكلّم إنسانا في الظلمة" «4». وفي هذا القول استحضار لما لتأثير عناصر الموقف الخارجي في استعمال اللّغة على مواقف الخطاب وما يصاحبها من حركة اليدين، أوإيماءات الوجه، أودفقات المشاعر المتمثّلة في دمعة وابتسامة، أوغيرها.
وكثيرا ما يتجاوز معيار الصواب والخطأ الجانب الشكلي، فيصبح ما يرافق موقف الكلام من سياق خارجي هوالفيصل في هذا المعيار، وأمثلة ذلك عديدة ، ومنه :
" أنّ حدّ الأسماء الظاهرة أن تخبر بها واحدا عن واحد غائب، والمخبر عنه غيرها فنقول : قال زيد ، فزيد غيرك وغير المخاطب، ولا نقول : قال زيد وأنت تعنيه، أعني المخاطب" «5». وهكذا يمتنع لديهم أن يقال قال زيد في موقف يكون المخاطب بهذه الجملة هو(زيد) ، وعلى الرغم من أنّ هذه الجملة عند من يحتكم إلى قواعد الشكل وحده مستقيمة تماما «6».
وتتبدّى عناصر الخطاب متكاملة في ملاحظات النّحاة واللّغويّين القدامى، ويتبدّى عنصر الإبلاغ في الخطاب كملحظ أساسي في قبول الجمل أوعدم قبولها، فتصبح فائدة المخاطب أوالسامع معيارا لصحّة الكلام، ويراعون حال هذا المخاطب في صياغة الجملة أوالعبارة فقد لحظ النحاة ما يكون من تغيّر صفات الخطاب وعناصره وفقا لمنزلة المخاطب والأحوال التي تعتريه «7»، ويتمثّل هذا في قول المبرّد : " وكذلك لوقلت للخليفة، انظر في أمري ، أنصفني ، لقلت : سألته، ولم تقل أمرته ، لأنك تأمر من هودونك، وتطلب إلى من أنت دونه" «8». كما تتدخّل حال المخاطب في تحديد الاختيار النحوي، فإذا قال لك شيئا تنكره أجبته ب (كلّا) ، ولم تجبه ب (لا) المعتادة في جواب السلب. ويتوقّف النحاة كذلك عند حقيقة المتكلّم وحاله، ويكشفون عن علاقتها بحقيقة الكلام وأحواله.
واستقصوا تواتر الأساليب الكلاميّة وفقا لجنس المتكلّم، كما في أسلوب الندبة، واستقصوا أعراضا لحال المتكلّم في مواقف الخطاب حتّى ما يعترضه في ذاكرته من توقّف، ومن ذلك ما قرره الزمخشري تحت (حرف التذكّر) في مفصّلة وهو- عنده- أن يقول الرجل في نحوقال ويقول ومن العام : قالا فيمدّ فتحة اللام ويقولو ومن العاميّ إذا تذكّر ولم يرد أن يقطع كلامه" «9».
ويمثّل الاختيار الثقافي المشترك بين أهل اللّغة ملحظا إضافيّا في ضبط قواعدهم، فقد يغني عندهم عن مرجع الضمير وهوالاسم الظاهر المتقدّم في المعتاد من سنن العربيّة فإنّه إذا كان المرجع مفهوما بالعرف المتحصّل لدى أبناء اللّغة، استقام في مجرى العربيّة أن يستعمل الضمير ابتداء، وإن لم يتقدّم ذكر مرجعه، كما في قوله تعالى (إنّا أنزلناه) (أي القرآن) وقوله : (حتّى توارت بالحجاب) (أي الشمس)، وقولهم : ما عليها أعلم من فلان (أي الأرض) «10». ولعلّ توجيه ابن هشام لمسألة (الزائد) في القرآن وصدور هذا التوجيه عن معطيات غير نحويّة يعدّ مثالا واضحا للوجهة الاجتماعيّة لدى النحاة الأوائل يقول : " وينبغي أن يتجنّب المعرب أن يقول في حرف في كتاب اللّه تعالى : أنّه زائد، لأنّه يسبق إلى الأذهان أنّ الزائد هوالذي لا معنى له، وكلام اللّه سبحانه منزّه عن ذلك" «11».
وقريب من هذا ما قرّره سيبويه من أنّه لا يجوز لك أن تقول : الحمد لزيد، فإنّه " ليس كلّ شىء من الكلام يكون تعظيما للّه عز وجل يكون تعظيما لغيره من المخلوقين " «12». وجدير بالذكر أنّ ملاحظات اللّسانيّين الاجتماعيّين حول تخصيص ألفاظ وتراكيب معلومة بمواقف دينيّة أوتقليديّة معلومة هي أشبه ما يكون بهذه الملاحظة «13».
وتمثّل الحال المشاهدة التي يقع فيها الحدث الكلامي كالعنصر من عناصر الكلام لديهم، وتشكّل مسوّغا ثابتا للحذف، والتعبير بالحال المشاهدة مصطلح صريح من مصطلحهم، واتّخاذه على الحذف خاصّة أصل متواتر في كتبهم، ومنه قولهم للمرتحل :
راشدا مهديّا، ومصاحبا معانا، بإضمار (اذهب). إنّ مقايسة الحقيقة اللّسانيّة بالحقيقة الكونيّة الخارجيّة هي الامتداد النهائي لهذا الأصل عند النحاة، وهي ملحظ قائم لديهم وقد صرّحوا به في غير موضع، كما احتفوا بالمواضع المتّفقة بين النظام اللّساني، ونظام الوجود الخارجي، فاعتبروا مثلا المؤنّث الحقيقي أقوى من المؤنث المجازي «14».
إنّ النّظام اللّغوي في الأصل يقتضي وجود أطراف يجمعها إسناد ظاهر أومقدّر، لكنّ التطبيق اللّغوي قد يسقط أحدها اعتمادا على دلالة القرائن المقاليّة، أوالحاليّة، وقد يحرص هذا التطبيق على إبرازها لتدلّ في موضعها دلالة لا تتحقّق بغيابها، ويضع سيبويه إشارات دقيقة لأثر الحذف في الدلالة، واتّصال هذا الأثر بطبيعة المبدع أحيانا، واتّصاله بطبيعة المتلقّي أحيانا أخرى، بل إنّه أشار إلى وجود سياق بارز لهذا الحذف عند ذكر الديار حتّى أصبح من طبيعة كلام العرب، كقول ذي الرمّة :
ديار ميّة إذ ميّ مساعفة |
ولا يرى مثلها عجم ولا عرب |
" كأنّه قال : اذكر ديار ميّة، لكنّه لا يذكر (اذكر) لكثرة ذلك في كلامهم.
واستعمالهم إياه، ولما كان فيه من ذكر الديار قبل ذلك" «15» ومن العرب من يرفع (الديار) كأنّه يقول : تلك ديار فلانة قال الشاعر :
اعتاد قلبك من سلمى عوائده |
وهاج أهواءك المكنونة الطلل |
|
ربع قواء أذاع المعصرات به |
وكلّ جيران سار ماؤه خضل |
ومثله لعمر بن أبي ربيعة
دار لمروة إذ أهلي وأهلهم |
بالكانسيّة نرعى اللّهووالغزلا |
" فإذا رفعت فالذي في نفسك ما أظهرت، وإذا نصبت فالذي في نفسك غير ما أظهرت" «16». فغرض المتكلّم أوالمبدع في حالتنا يحدّد سياقات الذكر والحذف. والملاحظ أنّ سياقات الحذف تمثّل- على نحومن الأنحاء- أثر النحوفي خلق العلاقات داخل التركيب، مع الملاحظة أيضا أنّ هذه العلاقات لا تتعامل مع عناصر التركيب على أساس من أهميّة بعضها، وعدم أهميّة بعضها الآخر وإنّما السياق هوالذي يعطي لكلّ عنصر أهميّته، بحيث يكون إسقاطه مبرزا لهذه الأهميّة أكثر من ذكره ؛ " لأنّ نفس السامع تتّسع في الظنّ والحساب ، وكلّ معلوم فهوهيّن لكونه محصورا " «17».
وتتّصل الحركة الموضعيّة في الجملة أوالنص بما يطرأ على التركيب من تحوّل لبعض عناصره (بالتعيين). وفي هذا المجال اعتبر بعض النحاة أنّ (النكرة) هي الأصل، لأنّها أشدّ تمكّنا من المعرفة على أساس أنّ الأصل في الأشياء أن تكون نكرة، ثم يطرأ عليها التعريف، ومن ثمّ فأكثر الكلام ينصرف إلى النكرة «18». وتتفاوت درجة التعريف والتنكير كما تتفاوت درجة النكرة، وهذا التفاوت بدوره يؤدّي إلى تأكيد عمليّة (التعيين) أوالتقليل منها حسب السياق الذي يرد فيه الكلام. وحضور المتكلّم والمتلقّي أمر بدهي في حركة الصياغة موضعيّا من خلال التنكير والتعريف، فعند ما نقول : " زيد منطلق " يكون الكلام مع من لم يعلم أنّ انطلاقا كان لا من زيد ولا من عمروفيفيده فذلك ابتداء، وإذا قلنا (زيد المنطلق) كان الكلام مع من عرف أنّ انطلاقا كان إمّا من زيد وإمّا من عمرو، فنعلمه أنّه كان من زيد دون غيره " «19».
وتطالعنا أمثلة عديدة مستخرجة من المادّة النحويّة، وهي أمثلة صحيحة لمن ينظر فيها نظرة شكليّة داخليّة، ولكنّها عند من يحتكم إلى مثل هذا الأصل (سياق الحال، أوالعرف الاجتماعي) قد تصحّ وقد لا تصحّ، وذلك وفقا للموقف الخارجي وعناصره، ومن هذه الأمثلة :
قولك : - الحمد للّه، أوقولك الحمد لزيد، تجوز الجملة الأولى ولا تجوز الجملة الثانية عند سيبويه، لأنّه ليس كلّ شيء من الكلام يكون تعظيما للّه عزّ وجلّ، يكون تعظيما لغيره من المخلوقين "
- وا منقذكاه (في خطاب الأقصى) - يا منقذك يجوز ندبة المضاف إلى المخاطب، ولا يجوز نداؤه ، لأنّ المندوب لا ينادى ولا يجيب " «20».
ولعلّ من مقايسة الحقيقة اللسانيّة بالحقيقة الكونيّة الخارجيّة أيضا ما نجده لدى أبي علي الفارسي في المسائل العسكريّات من قوله : " وقد قيل لمن وصف الفعل بهذا الوصف :
أ رأيتم قولكم : خلق اللّه الزمان ، وهل يدلّ هذا على زمان؟ فإن قلتم : لا، فسد وصفكم، وإن قلتم يدلّ فقد ثبتّم زمانا قبل. وذلك ممتنع لما يجيبون به عن ذلك أنّ اللفظ فيه قد جرى عندهم الآن مجرى ما يتخاطبون به ويتعارفون " «21» إن هذا المثال شاهد على ضرورة توافق الحقيقة اللسانية مع الحقيقة الخارجيّة عند النحاة ومثله كثير.
ومن مظاهر اهتمام اللّغويّين العرب من نحاة وبلاغيّين بدراسة البنيات المختلفة في إطار التفاعل بين بنية المقال ومقتضيات المقام، اقتراحهم أوصافا لكلّ من ظاهرة (التخصيص) وظاهرة (العناية) وظاهرة (التوكيد)، وظاهرة (الحصر). واللافت للنظر في معالجتهم لهذه الظواهر أنّهم علّلوا الخصائص البنيويّة المميّزة للبنيات المعنيّة بالأمر انطلاقا من أنماط المقامات التي تنجز فيها ويعني هذا بعبارة أخرى أنّهم اعتبروا في تحليلهم لهذه المجموعة من الظواهر أنّ الوظائف التداوليّة (التخصيص، العناية، الحصر، ...) تحدّد بنية الجملة التي تسند إلى أحد مكوّناتها، فالمكوّن (قصيدة) في الجملة :
قصيدة ألّفت (لا كتابا) مثلا ، يحتلّ موقع الصدر لأنّه حامل لوظيفة تداوليّة معيّنة هي وظيفة التخصيص. وهكذا «22».
وعلى الرغم من اهتمام النحويّين العرب بالقياس، إلّا أنّ قسما منهم قد أولى السماع قيمة كبرى. ويستند أبوالفتح ابن جنّي في بعض أحكامه على السماع بدلا من القياس توكيدا للدور الذي يقوم به الشيوع ودوران اللفظ على اللّسان، وفي أحوال معيّنة نجده يستند في تفسير (الوجه) على العودة إلى سياق الحال ففي قول الشاعر :
تقول وصكّت وجهها بيمينها |
أ بعلي هذا بالرحى المتقاعس ؟! |
فذكر صكّ الوجه، أعلمنا بأنّها كانت منكرة لا متعجبّة، أي أنّه لمّا حكى الحال (وصكّت وجهها) علم بذلك قوّة إنكارها، وتعاظم الصورة لها، هذا مع أنك سامع لحكاية الحال غير مشاهد لها، وقد قيل : ليس المخبر كالمعاين) «23».
وفي موضع آخر يذكّرنا أبوالفتح بحرص الأصوليّين على استقصاء وجوه الأحوال التي تصاحب الكلام من رموز وإشارات، وتعبيرات لعلوالوجه، ومن سكنات وحركات، لها أثرها البليغ في فحوى الخطاب يقول : " فالحمّالون، والحماميّون، والساسة (أي الذين يسوسون الدواب)، والوقّادون ومن يليهم يستوضحون من مشاهدة الأحوال ما لا يحصّله أبوعمرومن شعر الفرزدق، إذا أخبر به عنه، ولم يحضره ينشده" «24».
وعلى حين يظلّ للّسانيّات الاجتماعيّة فضل التصريح الشمولي المجرّد عن هذا المنحى في تحليل الظاهرة اللّسانيّة وتفسيرها، فإنّ عمل النحاة العرب يمثّل الصدور التلقائي عن هذا المنطلق في الجملة، وأمثلة النحاة وتطبيقاتهم لهذا البعد متواردة متكاثرة، وهم متلاقون على جمهرة هذه الأمثلة والتطبيقات، كأنّ الأصل الذي يصدرون عنه مشترك متّفق، شأنهم فيه شأنهم في مسائل القياس مثلا" «25».
وقد لاحظ اللّغويّون العرب أنّ الأحوال الاجتماعيّة والأدوات تؤثّر في أنماط الكلام، وأنواعه بحيث يكثر تداول ألفاظ معيّنة في مواقف خاصّة، ويقلّ تداول غيرها.
ومن ذلك أنّهم وقفوا على استخدام العرب ألفاظا مخصوصة في مخاطبات الملوك والأمراء، ولم يخاطبوهم بأسمائهم، بل دلّوا عليها، وأشاروا لهم بلفظ الغيبة إجلالا وتعظيما.
ووقفوا كذلك على ألفاظ لا يحسن التفوّه بها في المجالس، ومن هنا كانت بعض الألفاظ الموجودة في المعجم غير جارية في الاستعمال لأنّ العرف اللّغوي والاجتماعي لا يسمح باستعمالها. ونستطيع أن نلمح هذا في نظم المكاتبات والمخاطبات الرسميّة في العهود المختلفة للدولة الإسلاميّة، من مثل طرق مكاتبة الأدنى للأعلى، أومخاطبة الوزير، أوالأشراف. وقد أودع (ابن شيت القرشي) في كتابه (معالم الكتابة) أمثلة عديدة على تدخّل العرف الاجتماعي في تحديد الوحدات اللغويّة المستخدمة في المواقف المختلفة.
وفي الدرس الصوتي يتنبّه اللّغويّون العرب لأثر السياق في البعد الصوتي للكلام، وذلك على مستويين : مستوى داخلي، فالفونيمات حين تلتقي في البنية اللفظيّة تؤثّر في بعضها بعضا، ويلقي هذا التأثير بثقله على الأصوات اللغويّة فتتباعد وتتقارب.
ويذكر ابن فارس في الصاحبي أنّ بعض الحروف تألف الاجتماع في كلمات، وبعضها يأنف ذلك بحسب المخارج ؛ فالعربيّة تميل إلى تجنّب الألفاظ التي تتألّف من حروف متباعدة المخارج مثل (هحخع) «26». ومستوى خارجي : وذلك بأن تكون تشكيلات الأصوات المؤلّفة للألفاظ موافقة للسياق اللّغوي المجاور لها، وموافقة للمقام الذي تتشكّل فيه، ومن ذلك حديثهم عن كلمة (مستشزرات) في معلّقة امرئ القيس، ومناسبتها للسياق الذي وردت فيه، على الرغم من تقارب مخارج حروفها؛ فالسياق الذي وردت فيه هووصف غدائر الحصان (غدائره مستشزرات إلى العلا)، وما فيه من إيحاء التطاير والعلووالتفاعل مع حركة الفرس والفارس معا.
وقد تكلّم ابن جنّي في (الخصائص) و(سرّ صناعة الإعراب) على ظواهر صوتيّة سياقيّة كثيرة جدّا، وتحدّث عن إطالة الأصوات أوتقصيرها أوحذفها كما في (الترخيم). ولاحظ الدلالة النفسيّة لمدّ الأصوات، أواختزالها سواء فيما يتّصل بالمتحدّث أم بالمخاطب، ولا ننسى بحثه الشهير في الخصائص المعنون ب (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني)، وهوبحث في اتّصال دلالات الألفاظ بالأصوات المكوّنة لها. ومن الظواهر الصوتيّة الأخرى التي ذكرها اللغويّون القدامى ولها علاقة بالسياق :
التنغيم، والوقف والابتداء، والحمل على المجاورة، والقلب المكاني في الحركات، والإدغام التامّ والناقص، وحذف الصوت اللّغوي وربطوا ذلك بالسياق العامّ للكلام والاتّساق الداخلي معا. وقد اهتمّ (ابن السكّيت) بالفروق الصوتيّة بين الألفاظ وأثرها في الدلالة، كما في الفرق بين ترب وترب، وجرح وجرح، ودور السّياق في تحديد الضبط الدقيق للكلمة، وبالتالي تحديد دلالتها، وقد أصبحت طريقة ابن السكّيت هذه من الطرق المتّبعة في التحقق من البناء الصوتي للألفاظ واهتم اللغويون بضبط الأبنية وحركات الإعراب؛ لأنّ هذا الضبط هوما يوقف به على أغراض المتكلّمين." وللعرب في ذلك ما ليس لغيرهم، فهم يفرّقون بالحركات وغيرها بين المعاني" «27».
ويراعي اللغويّون العرب الحال التي يدخل عليها المقال كما في جمعهم (الأمثال) فقد نقل عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى (209 هـ) قوله : " يجيء في الأمثال ما لا يجيء في غيرها، ونقل عن سيبويه" إنّ الأمثال قد تخرج عن القياس فتحكى كما سمعت) وقال المرزوقي : " من شرط المثل ألّا يغيّر عما يقع في الأصل عليه" ومعنى هذا أنّ العرب غلّبوا الشائع الجاري في الاستعمال على القياس في هذا النوع من الكلام خاصّة لمراعاة الحال الدالّ عليه. وكانوا عند شرح تلك الأمثال يستعيدون الحال التي ضربت عليها «28».
وفي علم الدلالة نجد أن اهتمام اللغويين العرب بالسياق ودوره في البحث الدلالي جليّ واضح، ومن ذلك تصنيف الألفاظ في زمر ومجموعات على أساس سياقيّ كالمترادف، والأضداد، والمشترك اللفظي، ومنه بناء المعجم العربي على أساس السياق التفسيري. وكان معيارهم في التدقيق بين الدلالات هوالاحتكام للسياق الذي يتمثّل في الاستعمال المألوف والشاهد المعروف من شعر اومثل أوحديث أوآية. وليس أدلّ على هذا في موضوع الأضداد من تسمية الملدوغ سليما، والصحيح سليما، وهذا ممّا لا يمكن تبيّنه إلّا عبر السياق. وكذلك ما يعرف في موضوع المشترك اللفظي بظاهرة الاستصحاب، ومعناها أنّ اللفظة إذا صحبت لفظا معيّنا انزاحت عن المعنى المعجمي الأصلي للدلالة على معنى جديد هوالمعنى السياقي، فإذا اختلّ هذا الاستصحاب تغيّرت الدلالة، ومثاله : مادّة (يد) يذكرون فيها :
هم يد على من سواهم (إذا كان أمرهم واحدا).
أعطيته مالا عن ظهر يد (عن تفضّل) وهكذا.
وفي كتب الفروق اللغويّة «29» المختلفة بيان كامل وشامل عن دور السياق في التفريق فيما يذهب الذهن إلى أنّه من المترادف، كما في (الجحد والإنكار) أو(العقل واللبّ)؛ إذ بينها فروق دقيقة لا تظهر إلّا من خلال السياق. ونجد مزيدا من جلاء دور السياق في مسألة المترادف لدى كلّ من قدامة بن جعفر في كتابه (جواهر الألفاظ) والهمذاني في كتابه (الألفاظ الكتابيّة) وأبرز ما يميّز عملهما الاهتمام بوقوع المترادف على مستوى التراكيب. ودور السياق في جلاء معانيها من مثل : شعب الصدع، ورأب القطع، وسدّ الثلمة، وغيرها.
وتكشف معاجم المعاني عن لون آخر من ألوان علاقة السياق بالدلالة، فقد اهتمّ اللغويّون العرب بجمع المعاني التي يجمعها حقل دلاليّ واحد في صعيد واحد. مع الاهتمام بما بينها من لطيف الفروق، مثل درجات النوم، ودرجات العشق، أو... ومن ذلك أيضا اهتمامهم بتصنيف الألفاظ التي تندرج في باب واحد من أبواب المعاني كأن تلتقي في علاقة ما كالارتباط بجسم الإنسان أوالنبات أوالفرس كما في كتب خلق الإنسان وغيرها. وانظر إلى هذا المثل من فقه اللّغة وسرّ العربيّة وكيف استفاد الثعالبي من فكرة السّياق في تحليل المعنى؛ فتحت عنوان (فصل في العبوس) قال :
" إذا زوى ما بين عيني الرجل فهوقاطب وعابس، فإذا كشّر عن أنيابه مع العبوس فهوكالح، فإذا زاد عبوسه فهوباسر ومكفهرّ، فإذا كان عبوسه من الهمّ فهوساهم، فإذا كان عبوسه من الغيظ، وكان مع ذلك منتفخا فهومبرطم" «30». وهذا النصّ يظهر علاقة تقاطيع الوجه، وحركاته، والحالة النفسيّة للشخص بالدلالات والألفاظ المستخدمة في الوصف. وفي موضع آخر تحت عنوان : " في تفصيل أحوال السارق وأوصافه " قال : " إذا كان يسرق المتاع من الأحراز فهوسارق، فإذا كان يقطع على القوافل فهولصّ، وقرضوب، فإذا كان يسرق الإبل فهوحارب، فإذا كان يسرق الغنم فهوأحمص، والحميصة : الشاة المسروقة، فإذا كان يسرق الدراهم بين أصابعه فهوقفّاف، فإذا كان يشقّ الجيوب وغيرها من الدراهم والدنانير فهوطرّاد، فإذا كان داهية في اللصوصيّة فهوسبد وجمعها أسباد، فإذا كان له تخصّص بالتلصّص والخبث فهوطمل، فإذا كان خبثا منكرا فهوعفر) «31». ولعلّ علاقة هذا النصّ بوضع المخاطب، أوالمتكلّم والموضوع، وسياق الحال غنيّ عن التعليق، فهي واضحة جدّا.
وثمّة شيء آخر شغل به اللّغويّون العرب ويعدّ في إطار التصنيف السياقي للألفاظ، وهوتصنيف الألفاظ على أساس دلاليّ يرتبط بلون من ألوان الكلام الأدبي أوالفلسفي، وقد اكتشف اللّغويّون أنّ اللفظة الواحدة يمكن أن تتحوّل إلى كلمة متعدّدة المعاني بحسب سياق النصّ، أوالخطاب، وقد قالوا في (المتكلّم) أنّها تعني كلّ من نطق بكلام، ولكنّها إذا وردت في سياق خاص كالحديث عن الصفات الإلهية والمعتقدات دلّت على من يشتغل بعلم مخصوص، هوعلم الكلام، وقد سمّوا المعنى الأول : المعنى العرفي وسمّوا الثاني المعنى الوضعي أوالاصطلاحي «32».
وكثيرا ما يعرض في (معاجم الألفاظ) على اختلاف مدارسها ما ينبئ عن احتفائها ب (سياق الحال) الذي استخدمت فيه الألفاظ، فيوردون الحكايات والقصص والشواهد التي ترتبط بدلالة لفظة من الألفاظ، واعتمدوا على السياق، الاجتماعي والمكاني للّفظة، وأمّا الزمخشري فقد عني (في أساس البلاغة) باستخراج المعاني من السياق ولم يتقيّد بشرح الألفاظ المفردة وهذا ما قصد إليه في المقدّمة بقوله الذي يصف فيه خصائص كتابه" ومنها التوقيف على مناهج التركيب والتأليف، وتعريف مدارج الترتيب والترصيف بسوق الكلمات متناسقة لا مرسلة بددا، ومنتظمة لا طرائق قددا" «33». فهويشترط لوضوح دلالة اللفظ أن يؤخذ بالاعتبار علاقته بغيره من الألفاظ، وموقعه من العبارة، وطريقة تداوله ودورانه في الاستعمال ومدى شيوعه، وخروج معناه عن الأصل الذي وضع له مع مراعاة تعاضد المستويين الدلالي والتركيبي في صناعة هذا المعنى. كما اعتنى الزمخشري بالسياق الثقافي للكلمة. فعند ما يعدّد المعاني المتباينة للفظة تبعا لأنماط التراكيب المختلفة المتداولة، فإنه يصوّر بطريقة غير مباشرة الثقافة العربيّة السائدة في عصره، وتلك التي توارثها معاصروه عمّن سبقوهم فهذه الأنماط (يد البحر)، و(يد الدهر) و(أيدي سبأ) وغيرها تمثّل الثقافة التي يتشكّل معنى اللّفظة في ضوئها.
__________________________
(1) د. نهاد الموسى : الأعراف أونحواللّسانيّات الاجتماعيّة في العربيّة، الملتقى الدولي الثالث في اللّسانيّات.
تونس. (18- 23) فيفيري 1985، العدد السادس 1986/ الجامعة التونسية. مركز الدراسات والأبحاث الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ص 147.
(2) ابن هشام، شذور الذهب، 2/ 29.
(3) نهاد الموسى، الأعراف، ص 10.
(4) ابن جني، الخصائص 1/ 247.
(5) المبرّد، (محمد بن يزيد) المقتضب، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب/ بيروت. بلا تاريخ، 4/ 274.
(6) نهاد الموسى، الأعراف، ص 14.
(7) نفسه، ص 16.
(8) المبرّد، المقتضب 2/ 132.
(9) نهاد الموسى، الأعراف، ص 12.
(10) نفسه، ص 13.
(11) ابن هشام، الإعراب عن قواعد الأعراب، ص 108.
(12) الكتاب، 1/ 59.
(13) نفسه.
(14) نهاد الموسى، الأعراف ص 14.
(15) سيبويه (أبوبشر عمروبن عثمان بن قنبر [ت 180 ه]، الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون/ ط 1، دار الجيل/ بيروت/ 1966، 1/ 280.
(16) الكتاب، 1/ 280.
(17) ابن رشيق القيرواني، العمدة، 1/ 168.
(18) سيبويه (الكتاب) 1/ 22.
(19) الجرجاني (عبد القاهر)، دلائل الإعجاز، ص 196.
(20) نهاد الموسى، الأعراف، ص 26.
(21) أبوعلي الفارسي (ت 377 ه)، المسائل العسكريّات، تحقيق د. اسماعيل عمائرة/ مراجعة د. نهاد الموسى/ منشورات الجامعة الأردنية، 1981، ص 32.
(22) د. احمد المتوكّل، الوظائف التداوليّة في اللّغة العربيّة، ط 1، دار الثقافة للنشر والتوزيع/ الدار البيضاء/ المغرب/ ص 8.
(23) ابن جنّي، الخصائص، 2/ 97.
(24) نفسه، 2/ 79.
(25) نهاد الموسى، الأعراف، ص 28.
(26) الخصائص، 2/ 79.
(27) السيوطي، الحافظ جلال الدين عبد الرحمن، المزهر في علوم اللغة وأنواعها. شرحه وضبطه وصححه وعنون موضوعاته وعلّق حواشيه محمد أحمد جاد المولى ومحمد أبوالفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، منشورات المكتبة العصرية، بيروت/ 1986، 1/ 329.
(28) إبراهيم خليل/ السياق ، ص 67.
(29) انظر الفروق في اللّغة ، أبوهلال العسكري.
(30) الثعالبي : الإمام أبومنصور اسماعيل الثعالبي النيسابوري (ت 329 ه)، فقه اللّغة وسرّ العربية، مكتبة لبنان/ بلا تاريخ/ ص 140.
(31) نفسه، ص 143.
(32) الغزالي ، المستصفى في علم الأصول 1/ 325.
(33) الزمخشري ، أساس البلاغة ، ط 1، دار الفكر، بيروت ، 1979، ص 8.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|