تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
تفسير الاية (1-6) من سورة المنافقين
المؤلف: اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
المصدر: تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة: ......
4-10-2017
3730
قال تعالى : {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُو فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [المنافقون: 1 - 4].
خاطب الله سبحانه نبيه فقال {إذا جاءك} يا محمد {المنافقون} وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر واشتقاقه من النفق والنافقاء كما قال الشاعر :
للمؤمنين أمور غير مخزية *** وللمنافق سر دونه نفق
{قالوا نشهد إنك لرسول الله} أي أخبروا بأنهم يعتقدون أنك رسول الله {والله يعلم} يا محمد {إنك لرسوله} على الحقيقة وكفى بالله شهيدا {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} في قولهم إنهم يعتقدون أنك رسول الله فكان إكذابهم في اعتقادهم وأنهم يشهدون ذلك بقلوبهم ولم يكذبوا فيما يرجع إلى ألسنتهم لأنهم شهدوا بذلك وهم صادقون فيه وفي هذا دلالة على أن حقيقة الإيمان إنما هو بالقلب ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب {اتخذوا أيمانهم جنة} أي سترة يستترون بها من الكفر لئلا يقتلوا ولا يسبوا ولا تؤخذ أموالهم {فصدوا عن سبيل الله} أي فأعرضوا بذلك عن دين الإسلام وقيل معناه منعوا غيرهم عن اتباع سبيل الحق بأن دعوهم إلى الكفر في الباطن وهذا من خواص المنافقين يصدون العوام عن الدين كما تفعل المبتدعة.
{إنهم ساء ما كانوا يعملون} أي بئس الذين يعملونه من إظهار الإيمان مع إبطان الكفر والصد عن السبيل {ذلك بأنهم آمنوا} بألسنتهم عند الإقرار بلا إله إلا الله محمد رسول الله {ثم كفروا} بقلوبهم لما كذبوا بهذا عن قتادة وقيل معناه آمنوا ظاهرا عند النبي والمسلمين ثم كفروا إذا خلوا بالمشركين وإنما قال ثم كفروا لأنهم جددوا الكفر بعد إظهار الإيمان {فطبع على قلوبهم} أي ختم عليها بسمة تميز بها الملائكة بينهم وبين المؤمنين على الحقيقة وقيل لما ألفوا الكفر والعناد ولم يصغوا إلى الحق ولا فكروا في المعاد خلاهم الله واختارهم وخذلهم فصار ذلك طبعا على قلوبهم وهو الفهم إلى ما اعتادوه من الكفر عن أبي مسلم.
{فهم لا يفقهون} أي لا يعلمون الحق من حيث أنهم لا يتفكرون حتى يميزوا بين الحق والباطل {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} بحسن منظرهم وتمام خلقتهم وجمال بزتهم {وإن يقولوا تسمع لقولهم} أي وإذا قالوا شيئا أصغيت إلى كلامهم لحسن منطقهم وفصاحة لسانهم وبلاغة بيانهم {كأنهم خشب مسندة} أي كأنهم أشباح بلا أرواح شبههم الله في خلوهم من العقول والأفهام بالخشب المسندة إلى شيء لا أرواح فيها وقيل أنه شبههم بخشب نخرة متأكلة لا خير فيها ويحسب من رآها أنها صحيحة سليمة من حيث أن ظاهرها يروق وباطنها لا يفيد فكذلك المنافق ظاهره معجب رائع وباطنه عن الخير زائغ.
{يحسبون كل صيحة عليهم} وصفهم الله تعالى بالخور والهلع أي يظنون كل صيحة يسمعونها كائنة عليهم والمعنى يحسبون أنها مهلكتهم وأنهم هم المقصودون بها جبنا ووجلا وذلك مثل أن ينادي مناد في العسكر أو يصيح أحد بصاحبه أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة وقيل معناه إذا سمعوا صيحة ظنوا أنها آية منزلة في شأنهم وفي الكشف عن حالتهم لما عرفوا من الغش والخيانة في صدورهم ولذلك قيل المريب خائف.
ثم أخبر سبحانه بعداوتهم فقال {هم العدو} لك وللمؤمنين في الحقيقة {فاحذرهم} أن تأمنهم على سرك وتوقهم {قاتلهم الله} أي أخزاهم ولعنهم وقيل أنه دعاء عليهم بالهلاك لأن من قاتله الله فهو مقتول ومن غالبه فهو مغلوب {أنى يؤفكون} أي أنى يصرفون عن الحق مع كثرة الدلالات وهذا توبيخ وتقريع وليس باستفهام عن أبي مسلم وقيل معناه كيف يكذبون من الإفك {وإذا قيل لهم تعالوا} أي هلموا {يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم} أي أكثروا تحريكها بالهزء لها استهزاء بدعائهم إلى ذلك وقيل أمالوها إعراضا عن الحق وكراهة لذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وذلك لكفرهم واستكبارهم {ورأيتهم} يا محمد {يصدون} عن سبيل [الله](2) الحق {وهم مستكبرون} أي متكبرون مظهرون أنه لا حاجة لهم إلى الاستغفار .
ثم ذكر سبحانه أن استغفاره لا ينفعهم فقال {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} أي يتساوى الاستغفار لهم وعدم الاستغفار {لن يغفر الله لهم} لأنهم يبطنون الكفر وإن أظهروا الإيمان {إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} أي لا يهدي القوم الخارجين عن الدين والإيمان إلى طريق الجنة قال الحسن أخبره سبحانه أنهم يموتون على الكفر فلم يستغفر لهم وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يستغفر لهم على ظاهر الحال بشرط حصول التوبة وأن يكون الباطن مثل الظاهر فبين الله تعالى أن ذلك لا ينفعهم مع إبطانهم الكفر والنفاق.
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص18-24.
2- ما بين المعقفتين غير موجود في المخطوطتين .
أثنى القرآن على الصحابة وجهادهم في سبيل الإسلام ، ونوّه بمنازلهم وأقدارهم ، وأيضا تحدث في العديد من سوره عن المنافقين وتلوّنهم وإصرارهم على الكيد للإسلام ونبيه . ولا نهاية للحديث عن المنافقين لأن أكاذيبهم وأساليبهم الملتوية لا حد لها ولا نهاية . . فلا بدع أن يتكرر الحديث عنهم ، وأن يخصهم اللَّه سبحانه بسورة في كتابه ، وقد وصفهم فيها بأقبح الصفات ، منها : {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} .
أضمروا الكفر باللَّه ، والعداء لنبيه الكريم ، وأظهروا الحب والايمان به وبرسالته {واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} . المراد بشهادة اللَّه علمه تعالى ، والمعنى ان المنافقين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، واللَّه يعلم ما يسرون وما يعلنون ، وهولهم بالمرصاد ، وأيضا النبي يعلم حقيقتهم ، ولكنه مأمور أن يعاملهم بالظاهر لا بالواقع ، قال : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا اللَّه ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللَّه)) . وأبلغ ما قرأت في الفرق بين المؤمن والمنافق قول الإمام علي (عليه السلام) : ((لسان المؤمن من وراء قلبه ، وقلب المنافق من وراء لسانه)) . أي ان لسان المؤمن تابع لقلبه ، فلا يقول إلا ما يعتقد ، أما المنافق فقلبه تابع للسانه ، ولسانه يدور مع أهوائه وأغراضه . . ونتيجة ذلك ان المنافق لا قلب له إلا الهوى والغرض .
{اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . كثيرا ما كانت تتكشف نوايا المنافقين ودسائسهم ضد الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) والمسلمين ، وكانوا كلما حدث شيء من ذلك اتخذوا من ايمانهم وقاية يتقون بها غضب النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ، ويسترون بها ما يكيدون لرسول اللَّه ، وما يصدون عن الايمان به وبرسالته {إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} من التلون والمكر والغدر .
{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} . المراد بآمنوا انهم عرفوا بين الناس بالايمان . . وإلا فإن المنافقين لم يؤمنوا باللَّه طرفة عين ، وقوله تعالى ، ثم كفروا أي ثم عرفهم الناس بأنهم كانوا يظهرون الايمان ويضمرون الكفر ، أما قوله : فطبع على قلوبهم فمعناه انها لا تهتدي إلى الرشد والخير بعد أن أعماها الهوى والضلال . وتقدم مثله في الآية 137 من سورة النساء} ج 2 ص 462 .
{وإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ} . جمال في المنظر ، وقبح في المخبر ، وبتعبير الإمام علي (عليه السلام) قلوبهم دويّة - أي مريضة - وصفاحهم نقية {وإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لأنهم يتحدثون بكلام المخلصين ، ويقولون في الدنيا وأشيائها بقول الزاهدين {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} . . تمثال من خشب ، ولكنه يأكل ويشرب ، وكل من عمي عن الهدى فهو ميت الأحياء .
{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُو فَاحْذَرْهُمْ} . هنا تدب فيهم الروح ولكن روح الجبن والهلع من هتك الأستار وكشف الأسرار ، فلا يسمعون صوتا إلا ويظنونه صيحة العذاب تأخذهم من حيث لا يشعرون . . وقد زادهم هذا الجبن والهلع لؤما وحقدا عليكم أيها المخلصون فاحذروا من غيلتهم وغدرهم ، وفوّتوا عليهم الفرصة بكل ما تستطيعون {قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} . هذا ذم بصيغة الدعاء والتعجب ، والمعنى هم ملعونون لأنهم انصرفوا عن الحق وأعرضوا عنه تمردا وعنادا .
وكل ما جاء في وصف المنافقين في عهد الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) فهو صورة طبق الأصل لعملاء اليوم الذين يتآمرون مع أعداء اللَّه والوطن على الكيد لأمتهم والغدر بها . . ولا جريمة أعظم من خيانة الأمة ، ولا شيء أفظع من غش الإنسان لأخيه الإنسان .
{وإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} . إذا نصحهم ناصح وقال لهم : توبوا مما أنتم فيه يغفر اللَّه لكم ورسوله أصروا على الباطل وأعرضوا عن الحق ، وهزّوا رؤوسهم ساخرين متكبرين ، لأنهم أجلّ وأعظم ممن يحتاج إلى الرسول ورضوانه كما يزعمون {سَواءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . لا جدوى من استصلاحهم - إذن - فلا جدوى من طلب المغفرة لهم . . ان اللَّه غفور رحيم ، ما في ذلك ريب ، ورحمة اللَّه وسعت كل شيء إلا من يأباها ويتكبر عليها . . وليس من الرحمة في شيء أن ترحم من لا يرى نفسه محتاجا إلى رحمتك {إِنَّ اللَّهً لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} ما داموا مصرّين على الفسق . وتقدم مثله في الآية 80 من سورة التوبة ج 4 ص 75 .
______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص330-332.
تصف السورة المنافقين وتسمهم بشدة العداوة وتأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحذرهم وتعظ المؤمنين أن يتحرزوا من خصائص النفاق فلا يقعوا في مهلكته ولا يجرهم إلى النار، والسورة مدنية.
قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} المنافق اسم فاعل من النفاق وهو في عرف القرآن إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
والكذب خلاف الصدق وهو عدم مطابقة الخبر للخارج فهو وصف الخبر كالصدق وربما اعتبرت مطابقة الخبر ولا مطابقته بالنسبة إلى اعتقاد المخبر فيكون مطابقته لاعتقاد المخبر صدقا منه وعدم مطابقته له كذبا فيقال: فلان كاذب إذا لم يطابق خبره الخارج وفلان كاذب إذا أخبر بما يخالف اعتقاده ويسمى النوع الأول صدقا وكذبا خبريين، والثاني صدقا وكذبا مخبريين.
فقوله: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} حكاية لإظهارهم الإيمان بالشهادة على الرسالة فإن في الشهادة على الرسالة إيمانا بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتضمن الإيمان بوحدانيته تعالى وبالمعاد، وهو الإيمان الكامل.
وقوله: {والله يعلم إنك لرسوله} تثبيت منه تعالى لرسالته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما أورده مع أن وحي القرآن ومخاطبته (صلى الله عليه وآله وسلم) كان كافيا في تثبيت رسالته، ليكون قرينة مصرحة بأنهم كاذبون من حيث عدم اعتقادهم بما يقولون وإن كان قولهم في نفسه صادقا فهم كاذبون في قولهم كذبا مخبريا لا خبريا فقوله: {والله يشهد أن المنافقين لكاذبون} أريد به الكذب المخبري لا الخبري.
قوله تعالى: {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله} إلخ، الأيمان جمع يمين بمعنى القسم، والجنة الترس والمراد بها ما يتقى به من باب الاستعارة، والصد يجيء بمعنى الإعراض وعليه فالمراد إعراضهم أنفسهم عن سبيل الله وهو الدين وبمعنى الصرف وعليه فالمراد صرفهم العامة من الناس عن الدين وهم في وقاية من إيمانهم الكاذبة.
والمعنى: اتخذوا أيمانهم الكاذبة التي يحلفون وقاية لأنفسهم فأعرضوا عن سبيل الله ودينه – أو فصرفوا العامة من الناس عن دين الله بما يستطيعونه من الصرف بتقليب الأمور وإفساد العزائم.
وقوله: {إنهم ساء ما كانوا يعملون} تقبيح لأعمالهم التي استمروا عليها منذ نافقوا إلى حين نزول السورة.
قوله تعالى: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} الظاهر أن الإشارة بذلك إلى سوء ما عملوا كما قيل، وقيل: الإشارة إلى جميع ما تقدم من كذبهم واستجنانهم بالأيمان الفاجرة وصدهم عن سبيل الله ومساءة أعمالهم.
والمراد بإيمانهم - على ما قيل - إيمانهم بألسنتهم ظاهرا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله ثم كفرهم بخلو باطنهم عن الإيمان كما قال تعالى فيهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14].
ولا يبعد أن يكون فيهم من آمن حقيقة ثم ارتد وكتم ارتداده فلحق بالمنافقين يتربص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالمؤمنين الدوائر كما يظهر من بعض آيات سورة التوبة كقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبة: 77] ، وقد عبر تعالى عمن لم يدخل الإيمان في قلبه منهم بمثل قوله: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ } [التوبة: 74].
فالظاهر أن المراد بقوله: {آمنوا ثم كفروا} إظهارهم للشهادتين أعم من أن يكون عن ظهر القلب أو بظاهر من القول ثم كفرهم بإتيان أعمال تستصحب الكفر كالاستهزاء بالدين ورد بعض الأحكام.
وقوله: {فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} تفريع عدم الفقه على طبع القلوب دليل على أن الطبع ختم على القلب يستتبع عدم قبوله لورود كلمة الحق فيه فهو آيس من الإيمان محروم من الحق.
والطبع على القلب جعله بحيث لا يقبل الحق ولا يتبعه فلا محالة يتبع الهوى كما قال تعالى: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16] ، فلا يفقه ولا يسمع ولا يعلم كما قال تعالى: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 87] ، وقال: {ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون{: الأعراف: 100، وقال: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 93] ، والطبع على أي حال لا يكون منه تعالى إلا مجازاة لأنه إضلال والذي ينسب إليه تعالى من الإضلال إنما هو الإضلال على سبيل المجازاة دون الإضلال الابتدائي وقد مر مرارا.
قوله تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} إلخ، الظاهر أن الخطاب في {رأيتهم} و{تسمع} خطاب عام يشمل كل من رآهم وسمع كلامهم لكونهم في أزياء حسنة وبلاغة من الكلام، وليس خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد أنهم على صباحة من المنظر وتناسب من الأعضاء إذا رآهم الرائي أعجبته أجسامهم، وفصاحة وبلاغة من القول إذا سمع السامع كلامهم مال إلى الإصغاء إلى قولهم لحلاوة ظاهره وحسن نظمه.
وقوله: {كأنهم خشب مسندة} ذم لهم بحسب باطنهم والخشب بضمتين جمع خشبة، والتسنيد نصب الشيء معتمدا على شيء آخر كحائط ونحوه.
والجملة مسوقة لذمهم وهي متممة لسابقتها، والمراد أن لهم أجساما حسنة معجبة وقولا رائعا ذا حلاوة لكنهم كالخشب المسندة أشباح بلا أرواح لا خير فيها ولا فائدة تعتريها لكونهم لا يفقهون.
وقوله: {يحسبون كل صيحة عليهم} ذم آخر لهم أي إنهم لإبطانهم الكفر وكتمانهم ذلك من المؤمنين يعيشون على خوف ووجل ووحشة يخافون ظهور أمرهم واطلاع الناس على باطنهم ويظنون أن كل صيحة سمعوها فهي كائنة عليهم وأنهم المقصودون بها.
وقوله: {هم العدو فاحذرهم} أي هم كاملون في العداوة بالغون فيها فإن أعدى أعدائك من يعاديك وأنت تحسبه صديقك.
وقوله: {قاتلهم الله أنى يؤفكون} دعاء عليهم بالقتل وهو أشد شدائد الدنيا وكان استعمال المقاتلة دون القتل للدلالة على الشدة.
وقيل: المراد به الطرد والإبعاد من الرحمة، وقيل: المراد به الإخبار دون الدعاء، والمعنى: أن شمول اللعن والطرد لهم مقرر ثابت، وقيل: الكلمة مفيدة للتعجب كما يقال: قاتله الله ما أشعره، والظاهر من السياق ما تقدم من الوجه.
وقوله: {أنى يؤفكون} مسوق للتعجب أي كيف يصرفون عن الحق؟ وقيل: هو توبيخ وتقريع وليس باستفهام.
قوله تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم} إلخ، التلوية تفعيل من لوى يلوي ليا بمعنى مال.
والمعنى: وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله - وذلك عند ما ظهر منهم بعض خياناتهم وفسوقهم - أمالوا رءوسهم إعراضا واستكبارا ورآهم الرائي يعرضون عن القائل وهم مستكبرون عن إجابة قوله.
قوله تعالى: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} إلخ، أي يتساوى الاستغفار وعدمه في حقهم وتساوي الشيء وعدمه كناية عن أنه لا يفيد الفائدة المطلوبة منه، فالمعنى: لا يفيدهم استغفارك ولا ينفعهم.
وقوله: {لن يغفر الله لهم} دفع دخل كان سائلا يسأل: لما ذا يتساوى الاستغفار لهم وعدمه؟ فأجيب: لن يغفر الله لهم.
وقوله: {إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} تعليل لقوله: {لن يغفر الله لهم}، والمعنى: لن يغفر الله لهم لأن مغفرته لهم هداية لهم إلى السعادة والجنة وهم فاسقون خارجون عن زي العبودية لإبطانهم الكفر والطبع على قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين.
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص246-249.
مصدر النفاق وعلامات المنافقين :
نذكر مقدمة قبل الدخول في تفسير هذه الآيات ، وهي أن الإسلام طرح مسألة النفاق والمنافقين مع هجرة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه إلى المدينة ، وبداية استحكام أسس الإسلام وظهور عزه . فلم تبرز ظاهرة النفاق في مكة ، لأن الأعداء كانوا لا يخشون الإسلام ويستطيعون التعبير عن كل شيء بدون حذر . ولا حاجة إلى التخفي أو اللجوء إلى النفاق في وقوفهم بوجه الإسلام .
لكن عندما استحكم الإسلام واتسع في المدينة ، وأصبح أعداؤه من الضعف بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم ، بل قد يتعذر ذلك عليهم في بعض الأحيان ، لهذا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبية من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر ، وانخرطوا ظاهرا في صفوف المسلمين ، بينما ظلوا محافظين على كفرهم في باطنهم .
وهكذا تكون غالبا طبيعة أعداء كل ثورة ودعوة بعد إشتداد عودها وقوة ساعدها ، إذ تواجه الكثير من الأعداء وكأنهم أصدقاء .
ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا نزلت كل تلك الآيات التي تصف المنافقين وتشرح حالهم ، في المدينة ولم تنزل في مكة .
ومما يجدر الإشارة إليه أن هذه المسألة - أي مسألة النفاق - غير محصورة بعصر الرسول ، بل إن جميع المجتمعات - وخاصة الثورية منها - تكون عرضة للإصابة بهذه الظاهرة الخطيرة ، ولذلك يجب أن يدرس القرآن الكريم وما جاء فيه من تجارب وإرشادات من خلال هذه النظرة الحيوية ، لا من خلال اعتبارها مسألة تاريخية لا علاقة لها بالواقع . وبهذا يمكن استلهام الدروس والحكم لمكافحة النفاق وخطوط المنافقين في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر .
كذلك لابد من معرفة صفاتهم التي ذكرها القرآن بشكل تفصيلي ، ليتم التعرف عليهم من خلالها استكناه خطوطهم ومؤامراتهم .
ومما تجدر الإشارة إليه أيضا أن خطر المنافقين يفوق خطر باقي الأعداء ، لخفائهم وعدم القدرة على تشخيصهم بسهولة من جهة ، ولكونهم أعداء يعيشون في داخل الجسم الإسلامي وربما ينفذون إلى قلبه نفوذا يصعب معه فرزهم وتحديدهم من جهة أخرى .
ويأتي خطرهم ثالثا من ارتباطاتهم مع سائر عناصر المجتمع بعلاقات بحيث تصعب مكافحتهم .
ولهذا نرى أن أكثر الضربات التي تلقاها الإسلام على مدى التاريخ جاءته من هذا المعسكر - أي معسكر النفاق . ولهذا - أيضا - نلاحظ أن الإسلام شن حملات شديدة جدا عليهم ، ووجه إليهم ضربات عنيفة لم يوجهها إلى غيرهم .
وبعد هذه المقدمة نرجع إلى تفسير الآيات .
إن أول صفة يذكرها القرآن للمنافقين هي : إظهار الإيمان الكاذب الذي يشكل الظاهرة العامة للنفاق ، حيث يقول تعالى : {إذا جاءك المنافقون وقالوا نشهد إنك لرسول الله}(2) ويضيف والله يعلم أن المنافقين لكاذبون .
وهذه أول علامة من علامات المنافقين ، حيث اختلاف الظاهر مع الباطن ، ففي الوقت الذي يظهر المنافقون الإيمان ويدعونه بألسنتهم ، نرى قلوبهم قد خلت من الإيمان تماما . وهذه الظاهرة تشكل المحور الرئيسي للنفاق .
ومما تجدر الإشارة إليه أن الصدق والكذب على نوعين : " صدق وكذب خبري " و " صدق وكذب مخبري " ، يكون المعيار والمقياس في القسم الأول هو موافقته وعدم موافقته للواقع ، بينما يكون المقياس في القسم الثاني هو موافقته وعدم موافقته للاعتقاد ، فإذا جاء الإنسان بخبر مطابق للواقع ولكنه غير مطابق لاعتقاده ، فهذا من الكذب المخبري ، وفي حالة مطابقته لعقيدته فهو صادق .
وبناء على هذا فإن شهادة المنافقين على رسالة الرسول ليست من قبيل الكذب الخبري لأنها مطابقة للواقع ، ولكنها من نوع الكذب المخبري إذ تخالف اعتقاد المنافقين . لذلك جاء التعبير القرآني : {والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} .
بعبارة أخرى : إن المنافقين لم يريدوا الإخبار عن واقعية رسالة رسول الله وإنما أرادوا الإخبار عن اعتقادهم برسالته ، وهذا من الكذب المحض .
ومن الملاحظ أن المنافقين استخدموا كل الطرق لتأكيد شهادتهم(3) ، غير أن الله كذبهم بشدة وبنفس اللهجة التي أكدوا فيها شهادتهم . وهذه إشارة إلى أن المنافقين يجب أن يواجهوا بنفس الشدة التي يؤكدون فيها على صدقهم .
ونشير هنا إلى أن " المنافق " في الأصل من مادة ( نفق ) على وزن " نفخ " بمعنى النفوذ والتسرب و " نفق " " على وزن شفق " أي القنوات والتجاويف التي تحدث في الأرض ، وتستغل للتخفي والتهرب والاستتار والفرار .
وأشار بعض المفسرين إلى أن بعض الحيوانات كالذئاب والحرباء والفأر الصحراوي ، تتخذ لها غارين : الأول واضح تدخل وتخرج منه بصورة مستمرة ، والآخر غير واضح ومخفي تهرع إليه في ساعات الخطر ويسمى " النفقاء " (4).
والمنافق هو الذي اختار طريقا مشبوها ومخفيا لينفذ من خلاله إلى المجتمع ، ويهرب عند الخطر من طريق آخر .
وتذكر الآية اللاحقة العلامة الثانية : اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون .
ذلك لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ويضعون الموانع والعراقيل في طريق هداية الناس ، وليس هناك أقبح من أن يمنع الإنسان غيره من الاهتداء .
" جنة " من مادة ( جن ) ( على وزن فن ) وهي في الأصل بمعنى إخفاء شئ من الحس ، ويطلق هذا الاسم على ( الجن ) لأنه مخلوق غير واضح ، ويقال للدرع الذي يستر الإنسان من ضربات العدو في لغة العرب ( جنة ) ويقال أيضا للبساتين المكتظة بالشجر بسبب استتار أراضيها فتسمى ( جنة ) .
على كل حال فإن من علامات المنافقين التستر باسم الله المقدس ، وإيقاع الأيمان المغلظة لإخفاء وجوههم الحقيقية ، وإلفات أنظار الناس نحوهم . وبذلك يصدونهم عن الرشد ( الصد عن سبيل الله ) .
وبهذا يتضح أن المنافقين في حالة حرب دائمة ضد المؤمنين ، وأن الظواهر التي يتخفون وراءها لا ينبغي أن تخدع أحدا .
وقد يضطر الإنسان أحيانا إلى اليمين ، أو أن هذا اليمين سيساعده على إظهار أهمية الموضوع ، بيد أنه لا ينبغي أن يكون يمينا كاذبا أو بدون ضرورة ولا موجب .
جاء في الآية ( 74 ) من سورة التوبة : {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ } [التوبة: 74].
ذكر المفسرون مفهومين لمعنى التعبير ب {صدوا عن سبيل الله} الأول :
الإعراض عن طريق الله ، والآخر : منع الآخرين عن سلوك هذا الطريق . وقد لا يتعذر الجمع بين المعنيين في إطار الآية ( مورد البحث ) غير أن لجوءهم إلى الحلف بالله كذبا يجعل المعنى الثاني أكثر مناسبة ، لأن الهدف من القسم هو صد الآخرين وتضليلهم .
فمرة يقيمون مسجد ( ضرار ) ، وعندما يسألون ما هو هدفكم من ذلك ؟ يحلفون أن لا هدف لهم سوى الخير كما في الآية ( 107 ) من سورة التوبة .
ومرة أخرى يعلنون استعدادهم للمشاركة في الحروب القريبة السهلة التي يحتمل الحصول على غنائم فيها ، ولكن حينما يدعون إلى المشاركة في معركة تبوك الصعبة والشاقة تجدهم يختلقون الحجج ويلفقون الأعذار ، ويحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم { يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42] .
وفي يوم الحشر يلجأ المنافقون لنفس الأسلوب في الحلف ، كما جاء في الآية 18 من سورة المجادلة .
وبذلك يتضح أن هذا السلوك صار جزءا من كيانهم ، فهم لا يمتنعون عنه حتى في مشهد الحشر بين يدي الله تعالى .
وتتطرق الآية اللاحقة إلى ذكر السبب الذي يقف وراء هذه الأعمال السيئة ، حيث يقول تعالى : {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} .
والمقصود بالإيمان - كما يعتقد بعض المفسرين - هو الإيمان الظاهري الذي يخفي وراءه الكفر .
ولكن يبدو أن الآية تريد أن تقول : إنهم كانوا مؤمنين حقا وذاقوا طعم الإيمان ولمسوا حقانية الإسلام والقرآن ، ثم انتهجوا منهج الكفر مع احتفاظهم بظاهر الإيمان أو الإيمان الظاهري . وقد سلب الله منهم حس التشخيص وحرمهم إدراك الحقائق ، لأنهم أعرضوا عن الحق ، وأداروا له ظهورهم بعد أن شخصوه وعرفوه حقا .
والواقع أن المنافقين مجموعتان :
المجموعة الأولى : كان إيمانها منذ البداية ظاهريا وصوريا .
والثانية : كان إيمانها حقيقيا في البداية ثم ارتدوا ولزموا طريق النفاق .
والظاهر أن الآية - مورد البحث - تتعرض للمجموعة الثانية .
وتشبه هذه الآية ( 74 ) من سورة التوبة التي تقول : {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74].
على كل حال فإن عدم قدرتهم على إدراك الحقائق الواضحة تعتبر علامة ثالثة من علامات نفاقهم .
ومن الواضح أنهم غير مجبرين على ذلك ، لأنهم قد هيأوا مقدماته بأنفسهم .
وتوضح الآية اللاحقة علامات المنافقين بشكل أكثر وضوحا ، إذ يقول تعالى : {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} فهم يتمتعون بظواهر جميلة وأجسام لطيفة .
{وإن يقولوا تسمع لقولهم} لأنه ينطوي على شيء من التحسين والعذوبة .
وفي الوقت الذي يتأثر الرسول بحديث بعضهم - كما يبدو من ظاهر التعبير -
فكيف بالآخرين ؟ !
هذا فيما يخص ظاهرهم ، أما باطنهم ف {كأنهم خشب مسندة} .
فأجسامهم خالية من الروح ، ووجوههم كالحة ، وكيانهم خاو منخور من الداخل ، ليس لهم أية إرادة ولا يتمتعون بأية استقلالية ( كالأخشاب المسندة ) المكدسة .
روى بعض المفسرين في صفة رئيس المنافقين ( عبد الله بن أبي ) " كان عبد الله بن أبي رجلا جسيما صبيحا فصيحا ذلق اللسان ، وقوم من المنافقين في مثل صفته ، وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيستندون فيه ، ولهم جهارة المناظرة وفصاحة الألسن ، فكان النبي ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم " (5).
وكان هؤلاء يتميزون بالضعف والخواء في داخلهم ، لا يعرفون التوكل والاعتماد على الله ولا على أنفسهم ، فهم كما يصفهم القرآن الكريم في آية أخرى : {يحسبون كل صيحة عليهم} .
يسيطر عليهم الخوف والرعب وسوء الظن ، وتغمر أرواحهم النظرة السوداء السيئة . . تجدهم في خوف دائم من ظلمهم وخيانتهم حتى اعتبر ذلك علامة مميزة
لهم ( الخائن خائف ) .
وقد نبه القرآن الكريم في نهاية الآية قائلا : {هم العدو فاحذرهم} أي هم الأعداء الواقعيون .
ويضيف {قاتلهم الله أنى يؤفكون} أي كيف ينحرفون عن الحق .
ولا يريد القرآن بهذا التعبير الإخبار ، وإنما يريد لعنهم وذمهم بشدة ، وهو أشبه بالتعابير التي يستخدمها الناس في ذم بعضهم البعض .
علامات أخرى للمنافقين :
وتأتي هذه الآيات لتكمل توضيح علامات المنافقين التي بدأتها الآيات التي سبقتها ، يقول تعالى : {إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون} .
لقد وصل بهم الكبر والغرور مبلغا حرمهم من استثمار الفرص والاستغفار والتوبة والعودة إلى طريق الحق والصواب . وكان " عبد الله بن أبي " هو النموذج البارز لهذا التكبر والطغيان ، وقد تجسد ذلك في جوابه على من طلب منه الذهاب إلى رسول الله للاستغفار ، عندما قال " لقد أمرتموني أن أؤمن فآمنت ، وقلتم : أعط الزكاة فأعطيت ، لم يبق بعد إلا أن تأمروني بأن أسجد لمحمد " .
إن حب المنافقين لأنفسهم وعبادتهم لذواتهم ، جعلتهم أبعد ما يكونون عن الإسلام الذي يعني التسليم والرضا والاستسلام الكامل للحق .
" لووا " من مادة ( لي ) وهي في الأصل بمعنى برم الحبل ، وتأتي أيضا بمعنى إمالة الرأس وهزه إعراضا واستكبارا .
" يصدون " لها معنيان كما أوضحنا ذلك سابقا ، ( المنع ) و ( الإعراض ) وهذا المعنى أكثر انسجاما مع الآية - مورد البحث - بينما يكون الأول أي ( المنع ) منسجما مع الآية الأولى .
ومن أجل أن لا يبقى هناك أي إبهام أو التباس قال تعالى : {سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} .
بعبارة أخرى : إن استغفار النبي ليس علة تامة للمغفرة ، بل هي مقتض تؤثر حينما تكون الأرضية مهيأة ، أي عندما يتوبون بصدق وإخلاص ويتخذون طريقا آخر ، ويهجرون الكذب والغرور ، ويستسلمون للحق ، هنالك يؤثر استغفار الرسول وتقبل شفاعته .
وعبرت الآية ( 80 ) من سورة التوبة بما يشبه ذلك حينما وصفت قسما آخر من أهل النفاق ، إذ قال تعالى : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80].
ومن الواضح أن العدد ( سبعين ) ليس هو المقصود ، بل المقصود أن الله لن يغفر لهم مهما استغفر لهم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وليس كل المذنبين من الفساق ، فقد جاء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لإنقاذ المذنبين ، فالمقصود إذن هم تلك المجموعة من الفساق أو المذنبين الذين يصرون على ذنوبهم ويركبون رؤوسهم .
_________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص207-215.
2 - ذكرت " إن " هنا مكسورة ، لأن لام التأكيد قد جاءت في بداية الخبر ، وفي هذه الصورة يقدم التقدير .
3- الاستفادة من ((جملة الاسمية)) وايضا ((ان)) و ((لام التأكيد)).
4 - روح البيان ، ج 9 ، ص 529 .
5 - الكشاف ، ج 4 ، ص 540 .