1

المرجع الالكتروني للمعلوماتية

التاريخ والحضارة

التاريخ

الحضارة

ابرز المؤرخين

اقوام وادي الرافدين

السومريون

الساميون

اقوام مجهولة

العصور الحجرية

عصر ماقبل التاريخ

العصور الحجرية في العراق

العصور القديمة في مصر

العصور القديمة في الشام

العصور القديمة في العالم

العصر الشبيه بالكتابي

العصر الحجري المعدني

العصر البابلي القديم

عصر فجر السلالات

الامبراطوريات والدول القديمة في العراق

الاراميون

الاشوريون

الاكديون

بابل

لكش

سلالة اور

العهود الاجنبية القديمة في العراق

الاخمينيون

المقدونيون

السلوقيون

الفرثيون

الساسانيون

احوال العرب قبل الاسلام

عرب قبل الاسلام

ايام العرب قبل الاسلام

مدن عربية قديمة

الحضر

الحميريون

الغساسنة

المعينيون

المناذرة

اليمن

بطرا والانباط

تدمر

حضرموت

سبأ

قتبان

كندة

مكة

التاريخ الاسلامي

السيرة النبوية

سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام

سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام

الخلفاء الاربعة

ابو بكر بن ابي قحافة

عمربن الخطاب

عثمان بن عفان

علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

الامام علي (عليه السلام)

اصحاب الامام علي (عليه السلام)

الدولة الاموية

الدولة الاموية *

الدولة الاموية في الشام

معاوية بن ابي سفيان

يزيد بن معاوية

معاوية بن يزيد بن ابي سفيان

مروان بن الحكم

عبد الملك بن مروان

الوليد بن عبد الملك

سليمان بن عبد الملك

عمر بن عبد العزيز

يزيد بن عبد الملك بن مروان

هشام بن عبد الملك

الوليد بن يزيد بن عبد الملك

يزيد بن الوليد بن عبد الملك

ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك

مروان بن محمد

الدولة الاموية في الاندلس

احوال الاندلس في الدولة الاموية

امراء الاندلس في الدولة الاموية

الدولة العباسية

الدولة العباسية *

خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى

ابو العباس السفاح

ابو جعفر المنصور

المهدي

الهادي

هارون الرشيد

الامين

المأمون

المعتصم

الواثق

المتوكل

خلفاء بني العباس المرحلة الثانية

عصر سيطرة العسكريين الترك

المنتصر بالله

المستعين بالله

المعتزبالله

المهتدي بالله

المعتمد بالله

المعتضد بالله

المكتفي بالله

المقتدر بالله

القاهر بالله

الراضي بالله

المتقي بالله

المستكفي بالله

عصر السيطرة البويهية العسكرية

المطيع لله

الطائع لله

القادر بالله

القائم بامرالله

عصر سيطرة السلاجقة

المقتدي بالله

المستظهر بالله

المسترشد بالله

الراشد بالله

المقتفي لامر الله

المستنجد بالله

المستضيء بامر الله

الناصر لدين الله

الظاهر لدين الله

المستنصر بامر الله

المستعصم بالله

تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام

شخصيات تاريخية مهمة

تاريخ الأندلس

طرف ونوادر تاريخية

التاريخ الحديث والمعاصر

التاريخ الحديث والمعاصر للعراق

تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي

تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني

تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق

تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى

العهد الملكي للعراق

الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق

قيام الجهورية العراقية

الاحتلال المغولي للبلاد العربية

الاحتلال العثماني للوطن العربي

الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية

الثورة الصناعية في اوربا

تاريخ الحضارة الأوربية

التاريخ الأوربي القديم و الوسيط

التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر

التاريخ : التاريخ الاسلامي : الدولة العباسية : خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى : المتوكل :

الامام الهادي والمتوكل

المؤلف:  حسين الشاكري

المصدر:  سيرة الامام الهادي (عليه السلام)

الجزء والصفحة:  ص309- 340

22-9-2017

3070

إشخاص الإمام الهادي (عليه السلام):

لقد سار المتوكل على نهج من سبقوه في التعامل مع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، بل زاد على ذلك باستدعائه الإمام الهادي إلى دار الخلافة في سامراء وعزله عن أوساط الأمة، مع علمه أن دور الإمام (عليه السلام) في المدينة لا يعدو كونه مبلغا لرسالة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) ومحافظا على سنته ومبادئ كتاب الله تعالى، وليس همه السلطة ولا تنزع نفسه الكريمة إلى شيء من متاع الدنيا وزخرفها. تولى الإمام الهادي (عليه السلام) مهام وأعباء الإمامة وهو لا يزال في مطلع شبابه كما قدمنا، وذلك سنة 220 هـ (1)، وبقي في المدينة حتى بلغ من العمر نحو عشرين سنة مرجعا لرواد العلم من مختلف البلاد وشتى الديار، فأحبه الناس واجتمعوا حوله، والتف العلماء وطلاب العلم ينهلون من نمير علمه، وكان يتصل به شيعته خاصة يسألونه الحلول لمشاكلهم والأجوبة لمسائلهم، وخلال إقامته في المدينة كان في جميع حالاته تحت رقابة عيون السلطة. فبالنظر للمكانة العالية التي يتمتع بها الإمام (عليه السلام) في نفوس المسلمين، أراد المتوكل وبدافع من حقده السافر لأهل البيت (عليهم السلام) وهاجس الخوف الذي يراوده من انصراف الناس إلى الإمام الهادي (عليه السلام) أن يعزل الإمام (عليه السلام) عن شيعته ومواليه ومريديه من طلبة العلم ومحصليه، فاستدعاه إلى عاصمة ملكه سامراء، وفرض عليه إقامة جبرية استمرت أكثر من عشرين سنة. لقد أخرج الإمام (عليه السلام) مكرها من مدينة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وقد عبر عن هذا بحديث رواه الشيخ الطوسي وابن شهرآشوب بالإسناد عن المنصوري عن عم أبيه، قال: قال يوما الإمام علي بن محمد (عليه السلام): يا أبا موسى، أخرجت إلى سر من رأى كرها، ولو أخرجت عنها أخرجت كرها... الحديث (2).

قال الشاعر:

وأشخص رغما عن مدينة جده *** إلى الرجس إشخاص المعادي المخاصم

 ولاقى كما لاقى من القوم أهله *** جفــــاء وغـــدرا وانتهـــــاك محـــــارم

وعاش بسامراء عشرين حجة *** يجــــرع مـــن أعــــــداه ســــم الأراقــم (3)

أسباب استدعاء الإمام (عليه السلام):

من خلال الأحاديث الواردة في تأريخ الأئمة (عليهم السلام) وأقوال المؤرخين، نلاحظ أن أسباب إشخاص الإمام (عليه السلام) إلى عاصمة بني العباس تتلخص بالنقاط التالية:

1 - إن المتوكل كان يبغض عليا (عليه السلام) وذريته، فبلغه مقام الإمام الهادي (عليه السلام) بالمدينة وميل الناس إليه، فخاف منه، واستقدمه من الحجاز، لئلا تنصرف وجوه الناس إليه، فيخرج هذا الأمر عن بني العباس. ففي حديث يزداد النصراني تلميذ بختيشوع، قال: بلغني أن الخليفة استقدمه من الحجاز فرقا (4) منه، لئلا تنصرف إليه وجوه الناس، فيخرج هذا الأمر عنهم، يعني بني العباس (5).

2 - الخوف من أبي الحسن (عليه السلام) أن يأمر أحدا من أهل بيته أن يخرج عليه، ففي حديث المخالي المشهور: روي أن المتوكل أمر العسكر وهم تسعون ألف فارس من الأتراك الساكنين بسر من رأى أن يملأ كل واحد منهم مخلاة فرسه من الطين الأحمر، ويجعلوا بعضه على بعض في وسط برية واسعة هناك، ففعلوا. فلما صار مثل جبل عظيم (6)، صعد فوقه، واستدعى أبا الحسن (عليه السلام) واستصعده وقال: أستحضرك للنظارة، وقد كان أمرهم أن يلبسوا التجافيف (7) ويحملوا الأسلحة، وقد عرضوا بأحسن زينة، وأتم عدة، وأعظم هيبة، وكان غرضه أن يكسر كل من يخرج عليه، وكان خوفه من أبي الحسن (عليه السلام) أن يأمر أحدا من أهل بيته أن يخرج على الخليفة. إلى أن قال: قال له أبو الحسن (عليه السلام): نحن لا ننافسكم في الدنيا، نحن مشتغلون بأمر الآخرة، ولا عليك مما تظن (8). قال الشاعر:

لست أنسى غداة أخرجه الطاغي *** مع النــاس ذلـة وصغارا

وغــــدا يعــــرض الجيوش عليه *** عل يرتاع خيفة وانذعارا

فــــأراه مـــن المــــــلائك جيشــا *** ملأ الأفــق والفضا جرارا (9)

3 - وشاية والي المدينة عبد الله بن محمد بن داود (بريحة) بالإمام (عليه السلام) عند المتوكل، فقد كتب بريحة إلى المتوكل: إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منها، فإنه قد دعا الناس إلى نفسه، واتبعه خلق كثير. وتابع كتبه إلى المتوكل بهذا المعنى (10).

وقال اليعقوبي: وكتب المتوكل إلى الإمام علي الهادي (عليه السلام) في الشخوص من المدينة، وكان عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي قد كتب يذكر أن قوما يقولون: إنه الإمام (11). ولما بلغ أبا الحسن (عليه السلام) أن بريحة يراسل المتوكل ويصور له خطره عليه، كتب إلى المتوكل يذكر له تحامله عليه وكذبه فيما كتب به وإيذاءه له، فأجابه المتوكل بكتاب كله كذب ودجل وتضليل، لا ينطلي على مثل الإمام (عليه السلام). وأول بوادر السوء في نفس المتوكل هو وصيته إلى قائده يحيى بن هرثمة ومن كان معه بتفتيش دار الإمام تفتيشا دقيقا، وذلك لأن أجهزة الحكم في المدينة أخبروه كذبا بأن دار الإمام مقرا للسلاح والرجال والمعارضين للسلطة العباسية، وأنه ينوي الإطاحة بهذه السلطة، فلما دخل يحيى بن هرثمة المدينة وأبان عن نواياه أحس الناس بالشر، وخافوا على أبي الحسن (عليه السلام) من شره، لأنهم يعرفون ما يضمره المتوكل من الحقد والسوء لأهل البيت (عليهم السلام)، لذلك ضجوا ضجيجا عظيما وأصابهم الخوف والقلق حتى هدأهم قائد المتوكل ابن هرثمة.

رواية الشيخ المفيد: قال الشيخ المفيد (رحمه الله): وكان سبب إشخاص أبي الحسن (عليه السلام) إلى سر من رأى، أن عبد الله بن محمد، كان يتولى الحرب والصلاة في مدينة الرسول (عليه السلام)، فسعى بأبي الحسن (عليه السلام) إلى المتوكل، وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن سعايته به، فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد ويكذبه فيما سعى به، فتقدم المتوكل بإجابته عن كتابه، ودعائه فيه إلى حضور العسكر على جميل من الفعل والقول، فخرجت نسخة الكتاب، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك، راع لقرابتك، موجب لحقك، مؤثر من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم، ويثبت به عزك وعزهم، ويدخل الأمن عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضا ربه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم. وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك (12) به ونسبك إليه من الأمر الذي علم أمير المؤمنين براءتك منه، وصدق نيتك في برك وقولك، وأنك لم تؤهل نفسك لما قرفت بطلبه، وقد ولى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك. وأمير المؤمنين مشتاق إليك، يحب إحداث العهد بك والنظر إليك، فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك، على مهلة وطمأنينة، ترحل إذا شئت، وتنزل إذا شئت، وتسير كيف شئت. وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند (13) يرتحلون برحيلك ويسيرون بسيرك، فالأمر في ذلك إليك، وقد تقدمنا إليه بطاعتك. فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين، فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منه منزلة، ولا أحمد له إثرة، ولا هو لهم أنظر، وعليهم أشفق، وبهم أبر، وإليهم أسكن منه إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب إبراهيم بن العباس في شهر كذا من سنة 243 (14).

 فالملاحظ أن المتوكل قد كتب إلى الإمام (عليه السلام) بأسلوب هادئ لين وكأنه يتعاهده بالعطف والكرامة، في الوقت الذي كان يضمر العداوة لآل البيت (عليهم السلام)، ولكل من يتصل بهم بسبب أو نسب، والإمام (عليه السلام) يعلم منه ذلك، كما أنه يعلم أنه لا يتركه في المدينة، فاستجاب لطلبه مرغما، ولقد صرح (عليه السلام) يوما لأبي موسى من أصحابه، حيث قال (عليه السلام): أخرجت إلى سر من رأى كرها، ولو أخرجت عنها أخرجت كرها... الحديث، وقد تقدم آنفا. ولو كان المتوكل صادقا فيما كتبه في نسخة كتابه إلى الإمام (عليه السلام) لالتزم بالشروط التي تعهد بها في كتابه، ولو أراد إكرام الإمام (عليه السلام) لما جعله في خان الصعاليك، ولما حجب عنه شيعته وأصحابه، ولما فرض عليه الإقامة الجبرية في عاصمة العسكر سامراء.

أن المتوكل لم يأذن للإمام بالدخول إليه في يومه الأول الذي وصل به إلى سامراء، بل أنزله في خان الصعاليك فأقام فيه يومه، وفي اليوم الثاني أذن له بالدخول عليه، ثم أفرد له دارا ليسكن فيها، وليس ذلك ببعيد لأنه إنما أرسل إليه لكي يحتجزه ويفرض عليه الإقامة، ليراقب جميع تحركاته وتصرفاته، رغم تظاهره بتعظيمه وإكرامه في كتابه إليه.

قال الشيخ المفيد وغيره: فلما وصل الكتاب إلى أبي الحسن (عليه السلام) تجهز للرحيل، وخرج معه يحيى بن هرثمة حتى وصل إلى سر من رأى، فلما وصل إليها تقدم المتوكل بأن يحجب عنه في يومه، فنزل في خان يعرف بخان الصعاليك وأقام فيه يومه، ثم تقدم المتوكل بإفراد دار له، فانتقل إليها (15). وروي بالإسناد عن صالح بن سعيد، قال: دخلت على أبي الحسن الهادي (عليه السلام) يوم وروده، فقلت له: جعلت فداك، في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك، فقال: ها هنا أنت يا بن سعيد! ثم أومأ بيده، فإذا بروضات انفات (16)، وأنهار جاريات، وجنان فيها خيرات عطرات، وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر تعجبي، فقال لي: حيث كنا فهذا لنا يا ابن سعيد، لسنا في خان الصعاليك (17). وأقام أبو الحسن (عليه السلام) مدة مقامه بسر من رأى مكرما معظما مبجلا في ظاهر الحال والمتوكل يبتغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله تعالى عليه (18).

قال الشاعر:

 أنزلوه خان الصعاليك عمدا *** قد أرادوا ذلا به واحتقارا

 مـا دروا أنه بدار عليها الله *** أرخـى دون العيون ستارا (19)

 وقال الناظم مرتجزا:

 أنزله في أشنع المنازل *** وفخــر كــــل منــزل بالنازل

 مـن هو عند ربه مكين *** فلا عليه أينما يكون له رياض

 القــدس مــــأوى ومقر *** خان الصعاليك غطــاء للبصر (20)

رواية سبط ابن الجوزي:

 1 - نقل ابن الجوزي عن علماء السير، قال: وإنما أشخصه المتوكل إلى بغداد، لأن المتوكل كان يبغض عليا وذريته، فبلغه مقام علي (عليه السلام) بالمدينة وميل الناس إليه فخاف منه، فدعا يحيى بن هرثمة وقال: اذهب إلى المدينة، وانظر في حاله وأشخصه إلينا. قال يحيى: فذهبت إلى المدينة، فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجا عظيما، ما سمع الناس بمثله خوفا على علي، وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسنا إليهم ملازما للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا. قال يحيى: فجعلت أسكنهم، وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله، فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني، وتوليت خدمته بنفسي، وأحسنت عشرته. فلما قدمت به بغداد، بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري، وكان واليا على بغداد، فقال لي: يا يحيى، إن هذا الرجل قد ولده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والمتوكل من تعلم، فإن حرضته عليه قتله، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) خصمك يوم القيامة. فقلت له: والله ما وقعت منه إلا على كل أمر جميل. ثم صرت به إلى سر من رأى، فبدأت بوصيف التركي، فأخبرته بوصوله، فقال: والله لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك. قال: فعجبت كيف وافق قوله قول إسحاق، فلما دخلت على المتوكل سألني عنه، فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته، وأني فتشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم، وأن أهل المدينة خافوا عليه، فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته، وأجزل بره، وأنزله معه سر من رأى (21).

رواية اليعقوبي: قال اليعقوبي: لما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق ابن إبراهيم لتلقيه، فرأى تشوق الناس إليه، واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة، ثم نفذ إلى سر من رأى (22). وهو يدل على أنهم كانوا يخافون الإمام (عليه السلام) حتى أثناء المسير من أن يلتقي به الناس، لعظم محبته في قلوبهم وهيبته في نفوسهم، لهذا ساروا به في الليل تحت جنح الظلام لتفادي اجتماع الناس به (عليه السلام).

مسير الإمام (عليه السلام):

ليس لدينا ما يساعد على تتبع حركة الإمام (عليه السلام) من المدينة إلى بغداد ومن ثم إلى سامراء، وكل ما يستفاد من الروايات أن الإمام (عليه السلام) قد قطع هذا الطريق في تموز وفي أشد ما يكون عليه الحر (23)، وقد رافقه في هذا الطريق كثير من القادة والجند الذين لا يعرفون مقامه الإلهي السامي، حيث كان منهم الخارجي والحشوي وغيرهما. روى الشيخ القطب الراوندي وغيره بالإسناد عن يحيى بن هرثمة، قال: دعاني المتوكل وقال: اختر ثلاثمائة ممن تريد واخرجوا إلى الكوفة، وخلفوا أثقالكم فيها، واخرجوا على طريق البادية إلى المدينة، وأحضروا علي بن محمد النقي إلى عندي مكرما معظما مبجلا. قال: ففعلت وخرجنا، وكان في أصحابي قائد من الشراة (24)، وكان لي كاتب متشيع، وأنا على مذهب الحشوية، وكان ذلك الشاري يناظر الكاتب، وكنت أسمع إلى مناظرتهما لقطع الطريق.

فلما صرنا وسط الطريق قال الشاري للكاتب: أليس من قول صاحبكم علي بن أبي طالب ليس في الأرض بقعة إلا وهي قبر، أو سيكون قبرا ؟ فانظر إلى هذه البرية، أين من يموت فيها حتى يملأها الله قبورا كما تزعمون؟ قال: فقلت للكاتب: أهذا من قولكم؟ قال: نعم. قلت: صدق، أين من يموت في هذه البرية العظيمة حتى تمتلئ قبورا؟ وتضاحكنا ساعة إذ انخذل الكاتب في أيدينا. قال: وسرنا حتى دخلنا المدينة، فقصدت بيت أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا (عليهم السلام) فدخلت عليه، فقرأ كتاب المتوكل فقال: انزلوا، وليس من جهتي خلاف. قال: فلما حضرت إليه من الغد، وكنا في تموز أشد ما يكون من الحر، فإذا بين يديه خياط، وهو يقطع من ثياب غلاظ - خفاتين - له ولغلمانه، ثم قال للخياط: اجمع عليها جماعة من الخياطين، واعمد على الفراغ منها يومك هذا، وبكر بها إلي في هذا الوقت. ثم نظر إلي وقال: يا يحيى، اقضوا وطركم من المدينة في هذا اليوم، واعمل على الرحيل غدا في هذا الوقت. قال: فخرجنا من عنده وأنا أتعجب من الخفاتين، وأقول في نفسي: نحن في تموز، وحر الحجاز، وإنما بيننا وبين العراق مسيرة عشرة أيام، فما يصنع بهذه الثياب؟! ثم قلت في نفسي: هذا رجل لم يسافر، وهو يقدر أن كل سفر يحتاج فيه إلى هذه الثياب، والعجب من الرافضة حيث يقولون بإمامة هذا مع فهمه هذا، فعدت إليه في الغد في ذلك الوقت، فإذا الثياب قد أحضرت، فقال لغلمانه: ادخلوا، وخذوا لنا معكم لبابيد وبرانس، ثم قال: ارحل يا يحيى فقلت في نفسي: هذا أعجب من الأول، أيخاف أن يلحقنا الشتاء في الطريق حتى يأخذ معه اللبابيد والبرانس! فخرجت وأنا أستصغر فهمه حتى إذا وصلنا إلى مواضع المناظرة في القبور ارتفعت سحابة، واسودت وأرعدت وأبرقت حتى إذا صارت على رؤوسنا أرسلت بردا من الصخور، وقد شد على نفسه وغلمانه الخفاتين، ولبسوا اللبابيد والبرانس وقال لغلمانه: ارفعوا إلى يحيى لبادة، وإلى الكاتب برنسا، وتجمعنا والبرد يأخذنا حتى قتل من أصحابي ثمانين رجلا، وزالت، ورجع الحر كما كان. فقال لي: يا يحيى، أنزل من بقي من أصحابك ليدفن من مات، فهكذا يملأ الله هذه البرية قبورا. قال: فرميت نفسي عن الدابة واعتذرت إليه، وقبلت ركابه ورجله، وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنكم خلفاء الله في أرضه، وقد كنت كافرا، وإني الآن أسلمت على يديك يا مولاي. قال: فتشيعت، ولزمت خدمته إلى أن مضى (25). قال الشاعر:

 ما رعت للنبي فيه بنو العم *** ذماما ولم يحوطوا ذمارا

أشخصـوه مع البريد لسامرا *** فلم يلق في سواها قرارا

صدقــت قوله الشراة وكانوا *** جحــدوا قول جده إنكارا

يوم أردتهم العواصــف حتى *** ملأ الله في القبـور قفارا (26)

____________

(1) كانت ولادته (عليه السلام) سنة 212 ه‍، وقيل: 214 ه‍.

(2) المناقب 4: 417، بحار الأنوار 50: 129 / 8.

(3) المجالس السنية 5: 656.

(4) الفرق: شدة الخوف.

(5) دلائل الإمامة: 419. نوادر المعجزات: 188 / 7.

(6) قال في مراصد الاطلاع (1: 272): المخالي أو تل المخالي: تل عند سر من رأى.

(7) التجافيف: آلة للحرب كالدرع توضع على الإنسان والفرس لتقي الجراح في الحرب.

(8) الثاقب في المناقب: 557، الخرائج والجرائح 1: 414 / 19، كشف الغمة 3: 185، بحار الأنوار 50: 155 / 44.

(9) الذخائر: 63.

(10) راجع إثبات الوصية: 197.

(11) تأريخ اليعقوبي 3: 217.

(12) قرفه: اتهمه.

(13) الظاهر من الروايات أن المتوكل أرسل وفدا لإحضار الإمام (عليه السلام)، ومنهم عتاب بن أبي عتاب، راجع المناقب 4: 413، بحار الأنوار 50: 159 / 45، و173 / 53.

(14) الإرشاد 2: 309، الكافي 1: 419 / 7، الفصول المهمة: 275 - 276.

(15) الإرشاد 2: 311، الفصول المهمة: 276 - 277.

(16) الروض الأنف: هو الروض الذي لم يرعه أحد.

(17) الإرشاد 2: 311، الكافي 1: 417 / 2، بحار الأنوار 50: 202، بصائر الدرجات: 426، المناقب 4: 411، إعلام الورى: 365، عيون المعجزات: 137، الثاقب في المناقب: 542، وللعلامة المجلسي (رحمهم الله) بيان حول حديث خان الصعاليك في البحار 50: 131. (18) الفصول المهمة: 277.

(19) الذخائر - ديوان شعر اليعقوبي: 63.

(20) الأنوار القدسية: 101.

(21) تذكرة الخواص: 359.

(22) تأريخ اليعقوبي 3: 217.

(23) المروي في البحار عن الخرائج والجرائح بالإسناد عن أبي محمد البصري، عن أبي العباس خال شبل كاتب إبراهيم بن محمد، قال: كنت في الوفد الذي أوفد المتوكل إلى المدينة في إحضار أبي الحسن (عليه السلام)، وطوينا المنزل وكان منزلا صائفا شديد الحر... فخرجنا ولم نطعم ولم نشرب واشتد بنا الحر والجوع والعطش... ونحن إذ ذلك في أرض ملساء لا نرى شيئا ولا ظل ولا ماء نستريح، فجعلنا نشخص بأبصارنا... إلى آخر الخبر، وهو يدل على مدى الصعوبات والجهد الذي نال من الإمام في هذا الطريق مع شدة الحر وعدم ملائمته للسير. (24) الشراة: الخوارج.

(25) الثاقب في المناقب: 551، الخرائج والجرائح 1: 393 / 2، كشف الغمة 3: 180، بحار الأنوار 50: 142 / 27.

(26) الذخائر: 62.

 

 

 

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي