تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
تفسير الاية (1-6) من سورة الجاثية
المؤلف: اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
المصدر: تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة: ......
12-5-2017
344
قال تعالى : {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } [الجاثية: 1 - 6].
{حم} قد بينا ما قيل فيه وأجود الأقوال إنه اسم للسورة قال علي بن عيسى وفي تسمية السورة بحم دلالة على أن هذا القرآن المعجز كله من حروف المعجم لأنه سمي به ليدل عليه بأوصافه ومن أوصافه أنه معجز وأنه مفصل قد فصلت كل سورة من أختها وأنه هدى ونور فكأنه قيل هذا اسمه الدال عليه بأوصافه {تنزيل الكتاب من الله} أضاف التنزيل إلى نفسه في مواضع من السور استفتاحا بتعظيم شأنه وتفخيم قدره بإضافته إلى نفسه من أكرم الوجوه وأجلها وما اقتضى هذا المعنى لم يكن تكريرا فقد يقول القائل اللهم اغفر لي اللهم ارحمني اللهم عافني اللهم وسع علي في رزقي فيأتي بما يؤذن أن تعظيمه لربه منعقد بكل ما يدعو به وقوله {من الله} يدل على أن ابتداءه من الله تعالى.
{العزيز} أي القادر الذي لا يغالب {الحكيم} العالم الذي أفعاله كلها حكمة وصواب {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين} الذين يصدقون بالله وبأنبيائه لأنهم المنتفعون بالآيات وهي الدلالات والحجج الدالة على أن لهما مدبرا صانعا قادرا عالما {وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات} معناه وفي خلقه إياكم بما فيكم من بدائع الصنعة وعجائب الخلقة وما يتعاقب عليكم من الأحوال من مبتدأ خلقكم في بطون الأمهات إلى انقضاء الآجال وفي خلق ما يفرق على وجه الأرض من الحيوانات على اختلاف أجناسها ومنافعها والمقاصد المطلوبة منها دلالات واضحات على ما ذكرناه.
{لقوم يوقنون} أي يطلبون علم اليقين بالتدبر والتفكر {واختلاف الليل والنهار} أي وفي ذهاب الليل والنهار ومجيئها على وتيرة واحدة وقيل معناه وفي اختلاف حالهما من الطول والقصر وقيل اختلافهما في أن أحدهما نور والآخر ظلمة {وما أنزل الله من السماء من رزق} أراد به المطر الذي ينبت به النبات الذي هو رزق الخلائق فسماه رزقا لأنه سبب الرزق {فأحيا به الأرض بعد موتها} أي فأحيا بذلك المطر الأرض بعد يبسها وجفافها {وتصريف الرياح} أي وفي تصريف الرياح يجعلها مرة جنوبا وأخرى شمالا ومرة صبا وأخرى دبورا عن الحسن وقيل يجعلها تارة رحمة وتارة عذابا عن قتادة {آيات لقوم يعقلون} وجوه الأدلة ويتدبرونها فيعلمون أن لهذه الأشياء مدبرا حكيما قادرا عليما حيا غنيا قديما لا يشبهه شيء .
ولما قدم سبحانه ذكر الأدلة عقب ذلك بالوعيد لمن أعرض عنها ولم يتفكر فيها فقال {تلك آيات الله} أي ما ذكرناه أدلة الله التي نصبها لخلقه المكلفين {نتلوها عليك} أي نقرأها عليك يا محمد لتقرأها عليهم {بالحق} دون الباطل والتلاوة الإتيان بالثاني في أثر الأول في القراءة والحق الذي تتلى به الآيات هو كلام مدلوله على ما هوبه في جميع أنواعه {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} معناه إن هؤلاء الكفار إن لم يصدقوا بما تلوناه عليك فبأي حديث بعد حديث الله وهو القرآن وآياته يصدقون وبأي كلام ينتفعون وهذا إشارة إلى أن المعاند لا حيلة له والفرق بين الحديث الذي هو القرآن وبين الآيات أن الحديث قصص يستخرج منه الحق من الباطل والآيات هي الأدلة الفاصلة بين الصحيح والفاسد.
_________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص120-122.
{حم } تقدم مثله في أول سورة البقرة {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} . المراد بالكتاب القرآن ، وكله من أوله إلى آخره وحي من اللَّه ، لا من سواه ، وقال صاحب روح البيان : ان وصف اللَّه بالعزيز هنا يشعر بأن القرآن معجزة تقهر كل من يتحداها ، وان وصفه بالحكيم يومئ إلى ان القرآن يشتمل على حكم بالغة نافعة . . . وليس من شك ان القرآن أعجز ويعجز كل من يعارضه ، وانه ينبوع الحكمة ومصدرها .
ثم أشار سبحانه إلى الدلائل الحسية الناطقة بوجوده وعظمته ، منها : {إِنَّ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي لمن يريد ان يؤمن بالحق لأنه حق ، والمراد بالآيات هنا ما يستنتجه العقل من نظام الكون وسيره على سنن لا تحويل فيها ولا تبديل ، ولولا ثباتها واستمرارها لما أمكن رصدها وقياسها والاستفادة منها ، وبالتالي لم يكن لعلم الفلك وما يتصل به عين ولا أثر {وفِي خَلْقِكُمْ وما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . من أراد علم اليقين بوجود اللَّه فليفكر ويتأمل في نفسه وفي أي حي من الأحياء ، فهل يجد في واحد منها عضوا من أعضائه لا وظيفة له ، أو غريزة من غرائزه لا حكمة لها ؟ ويدل هذا دلالة قاطعة على الإرادة والتصميم ، وإذا لم نر المصمم بالحس فقد رأينا آثاره رأي العين ، وعليه يكون أيماننا بالغيب مستندا إلى الحس والمشاهدة .
{ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ} . أشار سبحانه في كتابه مرات إلى اختلاف الليل والنهار لينبه العقول إلى السر العجيب في دورة الأرض لأنها السبب الموجب لمجيء الليل بعد النهار ، و مجئ النهار بعد الليل ، ومهما قيل ويقال عن أسباب دورة الأرض حول نفسها أو حول الشمس فإن هذه الأسباب وغيرها من الأسباب
الكونية تنتهي إلى إرادة الخالق الأول وقدرته وحكمته ، ويستحيل في نظر العقل أن يكون مبدأ هذا الكون العجيب مادة عمياء تتحكم بها الصدفة والفوضى التي لا قصد لها ولا غاية .
{وما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} . المراد بالرزق هنا كل شيء علوي له أثر في الحياة كالماء وحرارة الشمس ، وفيهما من الدلالة على وجود الخالق ما في خلق السماوات والأرض لأن الكل وجد لحكمة وغرض صحيح {وتَصْرِيفِ الرِّياحِ } جنوبا وشمالا وغربا وشرقا وباردة وحارة { آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} كل ذلك وما إليه دليل قاطع على إرادة عليم حكيم .
{ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } . وهكذا يضع سبحانه أمام العقل مشاهد ودلائل حسية على معرفة الخالق وقدرته {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وآياتِهِ يُؤْمِنُونَ } .
من لا ينتفع ببيان اللَّه ، ويقتنع بأدلته فلا تجدي معه أية حجة . وتكرر معنى هذه الآيات كثيرا في كتاب اللَّه ، من ذلك الآية 164 من سورة البقرة ج 1 ص 251 .
ومن نهج البلاغة : ما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه الا سواء ، وكذلك السماء والهواء والرياح والماء ، أنظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال - أي رؤوس الجبال - وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات . . . فالويل لمن جحد المقدر ، وأنكر المدبر . . . زعموا انهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجئوا إلى حجة فيما ادعوا ، ولا تحقيق لما أوعوا ، وهل يكون بناء من غير بان ، أوجناية من غير جان ؟ .
_________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7، ص17-19.
غرض السورة دعوة عامة على الإنذار تفتتح بآيات الوحدانية ثم تذكر تشريع الشريعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتشير إلى لزوم اتباعها له ولغيره بما أن أمامهم يوما يحاسبون فيه على أعمالهم الصالحة من الإيمان واتباع الشريعة واجتراحهم السيئات بالإعراض عن الدين، ثم تذكر ما سيجري على الفريقين في ذلك اليوم وهو يوم القيامة.
وفي خلال مقاصدها إنذار ووعيد شديد للمستكبرين المعرضين عن آيات الله والذين اتخذوا إلههم هواهم وأضلهم الله على علم.
ومن طرائف مطالبها بيان معنى كتابة الأعمال واستنساخها.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها واستثنى بعضهم قوله تعالى: {قل للذين آمنوا} الآية، ولا شاهد له.
قوله تعالى: {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم{ الظاهر أن {تنزيل الكتاب} من إضافة الصفة إلى الموصوف والمصدر بمعنى المفعول، و{من الله} متعلق بتنزيل، والمجموع خبر لمبتدأ محذوف.
والمعنى: هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم، وقد تقدم الكلام في مفردات الآية فيما تقدم.
قوله تعالى: {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين} آية الشيء علامته التي تدل عليه وتشير إليه، والمراد بكون السماوات والأرض فيها آيات كونها بنفسها آيات له فليس وراء السماوات والأرض وسائر ما خلق الله أمر مظروف لها هوآية دالة عليه تعالى.
ومن الدليل على ما ذكرنا اختلاف التعبير فيها في كلامه تعالى فتارة يذكر أن في الشيء آية له وأخرى يعده بنفسه آية كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [آل عمران: 190]، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 22] ، ونظائرهما كثيرة، ويستفاد من اختلاف التعبير الذي فيها أن معنى كون الشيء فيه آية هو كونه بنفسه آية كما يستفاد من اختلاف التعبير في مثل قوله: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات}، وقوله: {إن في السماوات والأرض لآيات} الآية، أن المراد من خلق السماوات والأرض نفسها لا غير.
والعناية في أخذ الشيء ظرفا للآية مع كونه بنفسه آية اعتبار جهات وجوده وإن لوجوده جهة أو جهات كل واحدة منها آية من الآيات ولو أخذت نفس الشيء لم يستقم إلا أخذها آية واحدة كما في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] ، ولو أخذت الآية نفس الأرض لم يستقم إلا أن يقال: والأرض آية للموقنين وضاع المراد وهو أن في وجود الأرض جهات كل واحدة منها آية وحدها.
فمعنى قوله: {إن في السماوات والأرض} إلخ، إن لوجود السماوات والأرض جهات دالة على أن الله تعالى هو خالقها المدبر لها وحده لا شريك له فإنها بحاجتها الذاتية إلى من يوجدها وعظمة خلقتها وبداعة تركيبها واتصال وجود بعضها ببعض وارتباطه على كثرتها الهائلة واندراج أنظمتها الجزئية الخاصة بكل واحد تحت نظام عام يجمعها ويحكم فيها تدل على أن لها خالقا هو وحده ربها المدبر أمرها فلولا أن هناك من يوجدها لم توجد من رأس، ولولا أن مدبرها واحد لتناقضت النظامات وتدافعت واختلف التدبير.
ومما تقدم يظهر أن قول بعضهم: إن قوله: {في السماوات} بتقدير مضاف محذوف والتقدير في خلق السماوات، تكلف من غير ضرورة تدعو إليه.
قوله تعالى: {وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون} البث التفريق والإثارة وبثه تعالى للدواب خلقها وتفريقها ونشرها على الأرض كما قال في خلق الإنسان: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } [الروم: 20].
ومعنى الآية: وفيكم من حيث وجودكم المخلوق وفيما يفرقه الله من دابة من حيث خلقها آيات لقوم يسلكون سبيل اليقين.
وخلق الإنسان على كونه موجودا أرضيا له ارتباط بالمادة نوع آخر من الخلق يغاير خلق السماوات والأرض لأنه مركب من بدن أرضي مؤلف من مواد كونية عنصرية تفسد بالموت بالتفرق والتلاشي وأمر آخر وراء ذلك علوي غير مادي لا يفسد بالموت بل يتوفى ويحفظ عند الله، وهو الذي يسميه القرآن بالروح قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } [الحجر: 29] ، وقال بعد ذكر خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة ثم مضغة ثم تتميم خلق بدنه: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] وقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11].
فالناظر في خلق الإنسان ناظر في آية ملكوتية وراء الآيات المادية وكذا الناظر في خلق الدواب ولها نفوس ذوات حياة وشعور وإن كانت دون الإنسان في حياتها وشعورها كما أنها دونه في تجهيزاتها البدنية ففي الجميع آيات لأهل اليقين يعرفون بها الله سبحانه بأنه واحد لا شريك له في ربوبيته وألوهيته.
قوله تعالى: {واختلاف الليل والنهار} إلى آخر الآية هذا القبيل من الآيات آيات ما بين السماء والأرض.
وقوله: {واختلاف الليل والنهار} يريد به اختلافهما في الطول والقصر اختلافا منظما باختلاف الفصول الأربعة بحسب بقاع الأرض المختلفة ويتكرر بتكرر السنين يدبر سبحانه بذلك أقوات أهل الأرض ويربيهم بذلك تربية صالحة قال تعالى: { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [فصلت: 10].
وقوله: {وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها{ المراد بالرزق الذي ينزله الله من السماء هو المطر تسمية للسبب باسم المسبب مجازا أو لأن المطر أيضا من الرزق فإن مياه الأرض من المطر، والمراد بالسماء جهة العلو أو السحاب مجازا، وإحياء الأرض به بعد موتها هو إحياء ما فيها من النبات بالأخذ في الرشد والنمو، ولا يخلو التعرض للإحياء بعد الموت من تلويح إلى المعاد.
وقوله: {وتصريف الرياح} أي تحويلها وإرسالها من جانب إلى جانب، لتصريفها فوائد عامة كثيرة من أعمها سوق السحب إلى أقطار الأرض وتلقيح النباتات ودفع العفونات والروائح المنتنة.
وقوله: {آيات لقوم يعقلون} أي يميزون بين الحق والباطل والحسن والقبيح بالعقل الذي أودعه الله سبحانه فيهم.
وقد خص كل قبيل من الآيات بقوم خاص فخصت آية السماوات والأرض بالمؤمنين وآية الإنسان وسائر الحيوان بقوم يوقنون، وآية اختلاف الليل والنهار والأمطار وتصريف الرياح بقوم يعقلون.
ولعل الوجه في ذلك أن آية السماوات والأرض تدل بدلالة بسيطة ساذجة على أنها لم توجد نفسها بنفسها ولا عن اتفاق وصدفة بل لها موجد أوجدها مع ما لها من الآثار والأفعال التي يتحصل منها النظام المشهود فخالقها خالق الجميع ورب الكل، والإنسان يدرك ذلك بفهمه البسيط الساذج والمؤمنون بجميع طبقاتهم يفهمون ذلك وينتفعون به.
وأما أنه خلق الإنسان وسائر الدواب التي لها حياة وشعور فإنها من حيث أرواحها ونفوسها الحية الشاعرة من عالم وراء عالم المادة وهو المسمى بالملكوت وقد خص القرآن كمال إدراكه ومشاهدته بأهل اليقين كما قال: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام: 75].
وأما آية اختلاف الليل والنهار والأمطار المحيية للأرض وتصريف الرياح فإنها لتنوع أقسامها وتعدد جهاتها وارتباطها بالأرض والأرضيات وكثرة فوائدها وسعة منافعها تحتاج إلى تعقل فكري تفصيلي عميق ولا تنال بالفهم البسيط الساذج ولذلك خصت بقوم يعقلون والآيات آيات لجميع الناس لكن لما كان المنتفع بها بعضهم خصت بهم.
وقد عبر عن أهل اليقين والعقل بقوم يوقنون وبقوم يعقلون وعن أهل الإيمان بالمؤمنين لأن بساطة آية أهل الإيمان تفيد أن المراد بالإيمان أصله وهو ثابت فيهم فناسب التعبير عنهم بالوصف بخلاف آيتي أهل اليقين والعقل فإنهما لدقتهما وعلو منالهما تدركان شيئا فشيئا فناسبتا التعبير بالفعل المضارع الدال على الاستمرار التجددي.
وقيل في وجه ما في الآيات الثلاث من الترتيب بين أهلها حيث ذكر أولا أهل الإيمان ثم الإيقان ثم العقل أنه على ترتيب الترقي فإن الإيقان مرتبة خاصة في الإيمان فهو بعد الإيمان والعقل مدار الإيمان والإيقان ونعني العقل المؤيد بنور البصيرة فبسببه يخلص اليقين من اعتراء الشكوك من كل وجه وفي استحكامه كل خير.
وروعي في ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث.
وفيه أن مقتضى ما وصفه من أمر العقل وقوعه قبل الثاني بل قبل أول المراتب على أن ما ذكره من إمكان اعتراء الشكوك على اليقين مما لا سبيل إلى تصوره.
وقيل في وجه الترتيب: أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الأول لأن السماوات والأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه فيجب أن تذكر قبله، وكذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه العلة الغائية فلا بد أن يكون جامعا أي إن الثالث وهو المعلول يتوقف في معرفته على ذكر علته الغائية قبله.
وفيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الآيات دون مراتب الصفات الثلاث أعني الإيمان والإيقان والعقل.
على أن الثالث أيضا كالأول من أسباب تكون الحيوان فيجب أن يتقدم على الثاني، وبوجه آخر الثاني علة غائية للأول فيجب أن يتقدم على الأول كما تقدم على الثالث.
وقيل: إن السبب في ترتيب هذه الفواصل أنه قيل: إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم بمؤمنين وكنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم بمؤمنين ولا موقنين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.
وفيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الصفات الثلاث دون أقسام الآيات الثلاثة على أن لازمه أن لا يختص شيء من الآيات الثلاث بواحدة من الصفات الثلاث بل يكون الجميع للجميع والسياق لا يساعد عليه على أن ظاهر كلامه أنه فسر اليقين بالجزم وهو العلم فلا يبقى للعقل إلا الحكم الظني ولا يعبأ به في المعارف الاعتقادية.
قوله تعالى: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} الإيمان بأمر هو العلم به مع الالتزام به عملا فلولم يلتزم لم يكن إيمانا وإن كان هناك علم، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } [النمل: 14] ، وقال: { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].
والآيات هي العلامات الدالة فآيات الله الكونية هي الأمور الكونية الدالة بوجودها الخارجي على كونه تعالى واحدا في الخلق متصفا بصفات الكمال منزها عن كل نقص وحاجة، والإيمان بهذه الآيات هو الإيمان بدلالتها عليه تعالى ولازمه الإيمان به تعالى كما تدل هي عليه.
والآيات القرآنية آيات له تعالى بما تدل على الآيات الكونية الدالة عليه سبحانه أو على معارف اعتقادية أو أحكام عملية أو أخلاق يرتضيها الله سبحانه ويأمر بها فإن مضامينها دالة عليه ومن عنده، والإيمان بهذه الآيات أيضا إيمان بدلالتها ويلزمه الإيمان بمدلولها.
والآيات المعجزة أيضا إما آيات كونية ودلالتها دلالة الآيات الكونية وإما غير كونية كالقرآن في إعجازه ومرجع دلالتها إلى دلالة الآيات الكونية.
وقوله: {تلك آيات الله نتلوها عليك} الإشارة إلى الآيات القرآنية المتلوة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويمكن أن تكون إشارة إلى الآيات الكونية المذكورة في الآيات الثلاث السابقة بعناية الاتحاد بين الدال والمدلول.
وقوله: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} قيل: هومن قبيل قولك: أعجبني زيد وكرمه، وإنما أعجبك كرمه والمعنى بحسب النظر الدقيق أعجبني كرم زيد وزيد من حيث كرمه، فمعنى الآية فبأي حديث بعد آيات الله يعني الآيات القرآنية يؤمنون؟ يعني إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فبأي حديث بعده يؤمنون؟.
وقيل: الكلام بتقدير حديث أي إذا لم يؤمنوا فبأي حديث بعد حديث الله وآياته يؤمنون، والأنسب على هذا المعنى أن يكون المراد بالآيات الآيات الكونية ولذا قال الطبرسي بعد ذكر هذا المعنى: والفرق بين الحديث الذي هو القرآن وبين الآيات أن الحديث قصص يستخرج منه عبر تبيين الحق من الباطل، والآيات هي الأدلة الفاصلة بين الصحيح والفاسد.
انتهى وأول الوجهين ألطف.
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص126-131.
آيات الله في كلّ مكان:
قلنا: إنّ هذه هي السورة هي سادس السور التي تبدأ بالحروف المتقطعة (حم) وهي تشكل مع السورة الآتية ـ أي سورة الأحقاف ـ سور الحواميم السبعة.
وقد بحثنا مراراً في تفسير الحروف المتقطعة في بدايات سور البقرة وآل عمران، وكذلك في الحواميم.
يقول المرحوم الطبرسي في بداية هذه السورة: إنّ أحسن ما يقال هو أنّ (حم) اسم هذه السورة. ثمّ ينقل عن بعض المفسّرين، أنّ تسمية هذه السورة بـ(حم) للإشارة إلى أن هذا القرآن المعجز بتمامه يتكون من حروف الألف باء.
نعم، إنّ كتاب النور والهداية والإرشاد وحل المعضلات ومعجزة نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) الخالدة هذا، يتركب من هذه الحروف البسيطة، وغاية العظمة أن يتكون أمر بهذه الأهمية من هذه الحروف السهلة البسيطة.
وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية التالية عن عظمة القرآن مباشرة فتقول: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}(2).
«العزيز» هو القوي الذي لا يقهر، و«الحكيم» هو العارف بأسرار كلّ شيء، وتقوم كل أفعاله على أساس الحكمة والدقة، ومن الواضح أنّ الحكمة التامة والقوّة اللامحدودة من لوازم تنزيل مثل هذا الكتاب العظيم، وهما غير موجودتين إلاّ في الله العزيز المتعال.
والطريف أنّ هذه الآية قد وردت على هذه الهيئة في بداية أربع سور من القرآن الكريم، ثلاث منها من الحواميم ـ وهي المؤمن والجاثية والأحقاف ـ والأُخرى من غير الحواميم، وهي سورة الزمر. وهذا التكرار والتأكيد يهدف إلى جلب انتباه الجميع إلى عمق أسرار القرآن وعظمة محتواه، لئلا ينظروا ببساطة وعدم تدبر إلى أية عبارة أو تعبير من تعابيره، ولئلا يظنوا أنّ هذه الكلمة أو تلك لا محل لها ولا فائدة من ذكرها، لكي لا يقنعوا بحدّ معين من فهمه وإدراكه، بل ينبغي أن يكونوا في سعي دؤوب للتوصل إلى أعمق ممّا أدركوه.
وهنا نكتة تستحق الإلتفات، وهي أنّ صفة (العزيز) قد وردت أحياناً لوصف نفس القرآن، مثل: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } [فصلت: 41] ، فإنّه عزيز لا تصل إليه أيدي الذين يقولون بعدم فائدته، ولا ينقص مر الزمان من أهميته، ولا تبلى حقائقه ولا تفقد قيمتها، ويفضح المحرفين أومن يحاول تحريفه، ويشق طريقه إلى الأمام دائماً رغم كل ما يوضع أمامه من عراقيل.
وقد تأتي هذه الصفة في حق منزله جل وعلا، كما في هذه الآية، وكلاهما صحيح.
ثمّ تناولت الآية التي بعدها بيان آيات الله سبحانه ودلائل عظمته في الآفاق والأنفس، فقالت: {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين}.
إن عظمة السماوات من جانب، ونظامها العجيب الذي مرّت عليه ملايين السنين الذي لم ينحرف عما سار عليه قيد أنملة، من جانب آخر، ونظام خلقة الأرض وعجائبها، من جانب ثالث، يكون كلّ منها آية من آيات الله سبحانه.
إنّ للأرض ـ على قول بعض العلماء ـ أربع عشرة حركة، وتدور حول نفسها بسرعة مذهلة، وكذلك تدور حول الشمس بحركة سريعة، وأُخرى مع المنظومة الشمسية ضمن مجرّة «درب التبانة»، وهي تسير في طريق لا نهاية له، وسفر لا حدّ له، ومع ذلك فهي من الهدوء والإستقرار بمكان، بحيث يستقر عليها الإنسان وكل الموجودات الحية فلا يشعرون بأي اضطراب وتزلزل، حتى ولا بقدر رأس الإبرة.
وهي ليست بتلك الصلابة التي لا يمكن معها أن تزرع، وتبني عليها الدور والبنايات، ولا هي رخوة ولا يمكن الثبات عليها، والإستقرار فيها.
وقد هيئت فيها أنواع المعادن ووسائل الحياة لمليارات البشر، سواء الماضون منهم والحاضرون والآتون، وهي جميلة تسحر الإنسان، وتفتنه.
والجبال والبحار وجو الأرض ـ أيضاً ـ كلّ منها آية وسرّ من الأسرار.
غير أنّ علامات التوحيد هذه، وعظمة الله تعالى إنّما يلتفت إليها وينتفع بها المؤمنون، أي طلاب الحق والسائرون في طريق الله، أمّا عمي القلوب المغرورون المغفلون، فهم محرومون من إدراكها والإحساس بها.
ثمّ انتقلت السورة من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، فقالت: {وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون}.
كما ورد في العبارة المعروفة والمنسوبة إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «أتحسب انّك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر»، وكلّ ما هو موجود في ذلك العالم الكبير يوجد منه نموذج مصغر في داخل جسم الإنسان وروحه.
إنّ خصاله وصفاته مركبة من خصال الكائنات الحية وصفاتها، وتنوع خلقته عصارة مجموعة من حوادث هذا العالم الكبير.
إنّ بناء خلية من خلاياه كبناء مدينة صناعية عظيمة مليئة بالأسرار، وخلق شعرة منه ـ بخصائصها وأسرارها المختلفة التي اكتشفت بقدرة العلم وتطوره ـ آية عظيمة من آيات الله العظيم.
إنّ وجود آلاف الكيلومترات من العروق والشرايين والأوردة الكبيرة والصغيرة، والأوعية الدموية الصغيرة جدّاً والشعيرات المتناهية في الصغر في بدن الإنسان، وآلاف الكيلومترات من طرق المواصلات وأسلاك الإتصالات في سلسلة الأعصاب، وكيفية ارتباطها واتصالها بمركز القيادة في المخ، والذي هو مزيج فذٌّ من العقد والأسرار، وقوي في الوقت نفسه، وكذلك طريقة عمل كلّ جهاز من أجهزة البدن الداخلية وانسجامها العجيب في مواجهة الأحداث المفاجئة، والدفاع المستميت للقوى المحافظة على البدن ضد هجوم العوامل الخارجية.. كلّ واحد من هذه الأُمور يشكل ـ بحد ذاته ـ آية عظمى من آيات الله سبحانه.
وإذا تجاوزنا الإنسان، فإنّ مئات الآلاف من أنواع الكائنات الحية، ابتداءً من الحيوانات المجهرية وحتى الحيوانات العملاقة، بخصائصها وبناء أجهزتها المختلفة تماماً، والتي قد يصرف جمع من العلماء كلّ أعمارهم أحياناً لمطالعة حياة وسلوك نوع واحد منها، ومع أنّ آلاف الكتب قد كتبت حول أسرار هذه المخلوقات، فإنّ ما نعلمه عنها قليل بالنسبة إلى ما نجهله منها.. كلّ واحد من هذه المخلوقات آية بنفسه، ودليل على علم مبدئ الخلقة وحكمته وقدرته اللامتناهية.
لكن، لماذا يعيش جماعة عشرات السنين في ظل هذه الآيات، ويمرون عليها، دون أن يطلعوا حتى على واحدة منها!؟
إنّ سبب ذلك هوما يقرره القرآن الكريم من أنّ هذه الآيات خاصّة للمؤمنين وطلاب اليقين وأصحاب الفكر والعقل، ولأُولئك الذين فتحوا أبواب قلوبهم لمعرفة الحقيقة، بكلّ وجودهم الظاميء للعلم واليقين ليرتووا من صافي نبعه وفيضه، فلا تعزب عن نظرهم أدنى حركة ولا أصغر موجود، ويفكرون فيه الساعات الطوال، ليجعلوا منه سلماً للارتقاء إلى الله سبحانه، وسجلاً لمعرفته جلّو علا، وليذوبوا في مناجاته، وليملؤوا أقداح قلوبهم من خمرة عشقه فينتشوا منها.
وتذكر الآية التالية ثلاث مواهب أُخرى لكلّ منها أثره الهام في حياة الإنسان والكائنات الحية الأُخرى، وكل منها آية من آيات الله تعالى، وهي مواهب «النور» و«الماء» و«الهواء»، فتقول: {واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون}.
إنّ نظام «النور والظلمة»، وحدوث الليل والنهار حيث يخلف كلّ منهما الآخر نظام موزون دقيق جدّاً، وهو عجيب في وضعه وسنته وقانونه، فإذا كان النهار دائمياً، أو أطول من اللازم، فسترتفع الحرارة حتى تحترق الكائنات الحية، ولوكان الليل سرمداً، أو طويلاً جدّاً لانجمدت الموجودات من شدّة البرد.
ويحتمل في تفسير الآية أنّ لا يكون المراد من اختلاف الليل والنهار تعاقبهما، بل هو إشارة إلى اختلاف المدة وتفاوت الليل والنهار، في فصول السنة، فيعود نفعه على الإنسان من خلال ما ينتج عن هذا الإختلاف من المحاصيل الزراعية المختلفة والنباتات والفواكه، ونزول الثلوج وهطول الأمطار والبركات الأُخرى.
والطريف أنّ العلماء يقولون: بالرغم من التفاوت الشديد بين مناطق الأرض المختلفة من ناحية طول الليل والنهار وقصرهما، فإنّنا إذا حسبنا مجموع أيّام السنة فسنرى أنّ كلّ المناطق تستقبل نفس النسبة من أشعة الشمس تماماً(3).
ثمّ تتناول الحديث في الفقرة الثانية عن الرزق السماوي، أي «المطر» والذي لا كلام في لطافة طبعه ورقته، ولا بحث في قدرته على الإحياء، وبعثه الحياة في كلّ الأرجاء ومنحها الجمال والروعة.
ولم لا يكون كذلك، والماء يشكل الجانب الأكبر والقسم الأساسي من بدن الإنسان، وكثير من الحيوانات الأُخرى، والنباتات؟
ثمّ تتحدث في الفقرة الثالثة عن هبوب الرياح.. تلك الرياح التي تنقل الهواء المليء بالأوكسجين من مكان إلى آخر، وتضعه تحت تصرف الكائنات الحية، وتبعد الهواء الملوث بالكاربون إلى الصحارى والغابات لتصفيته، ثمّ إعادته إلى المدن.
والعجيب أنّ هاتين المجموعتين من الكائنات الحية ـ أي الحيوانات والنباتات ـ متعاكسة في العمل تماماً، فالأولى تأخذ الأوكسجين وتعطي غاز ثاني أوكسيد الكاربون، والثانية على العكس تتنفس ثاني أوكسيد الكاربون وتزفر الأوكسجين، ليقوم التوازن في نظام الحياة، ولكي لا ينفذ مخزون الهواء النقي المفيد من جو الأرض بمرور الزمان.
إنّ هبوب الرياح، إضافة إلى ذلك فانّه يلقح النباتات فيجعلها حاملة للأثمار والمحاصيل، وينقل أنواع البذور إلى الأراضي المختلفة لبذرها هناك، وينمي المراتع الطبيعية والغابات، ويهيج الأمواج المتلاطمة في قلوب المحيطات، ويبعث الحركة والحياة في البحار ويثير أمواجها العظيمة، ويحفظ الماء من التعفن والفساد، وهذه الرياح نفسها هي التي تحرك السفن على وجه المحيطات والبحار وتجريها(4).
والطريف أنّ هذه الآيات تتحدث أوّلاً عن آيات السماء والأرض وتقول في نهاية الآية الأولى: إنّها آيات «للمؤمنين»، ثمّ تتناول الحديث في خلق الكائنات الحية فتقول في نهاية الآية الثانية: إنّها آيات «للموقنين»، وبعد ذلك تتكلم في أنظمة النور والظلمة، والرياح والأمطار، ثمّ تقول: إنّها آيات للذين «يعقلون».
إنّ هذا التفاوت في التعبير لعله بسبب أنّ الإنسان يطوي ثلاث مراحل في سيره الى معرفة الله سبحانه ليصل إلى هدفه، فالأولى مرحلة «التفكر»، والثانية مرحلة «اليقين» والعلم، وبعدها مرحلة «الإيمان» أو ما يسمى بعقد القلب، ولما كان الإيمان أشرف هذه المراحل، ثمّ يأتي بعده اليقين، وفي المرحلة الثالثة يأتي التفكير، فقد وردت هذه المراحل حسب هذا الترتيب في الآيات المذكورة، وإن كانت المراحل من ناحية الوجود الخارجي تبدأ بمرحلة التفكر، ثمّ اليقين، ثمّ الإيمان.
وبتعبير آخر فإنّ أهل الإيمان يرتقون إلى هذه المرحلة من خلال مشاهدة آيات الله سبحانه، أمّا الذين ليسوا منهم فليصلوا إلى مرحلة اليقين أو إلى مرحلة التفكر على أقل التقادير.
وقد ذكر المفسّرون في هذا الباب وجوهاً أُخرى أيضاً، وما قلناه هو الأنسب.
وتقول الآية الأخيرة، إجمالاً للبحوث الماضية، وتبياناً لعظمة آيات القرآن وأهميتها: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق}.
هل أنّ كلمة «تلك» إشارة إلى آيات القرآن، أم إلى آيات الله والعلامات الدالة عليه في الآفاق والأنفس، والتي مرّت الإشارة إليها في الآيات السابقة؟
كلٌّ محتمل، إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ المراد الآيات القرآنية بقرينة التعبير بالتلاوة، غاية ما في الأمر أنّ هذه الآيات القرآنية آيات الله سبحانه في كلّ عالم الوجود، وعلى هذا فيمكن الجمع بين التّفسيرين (فتأمل!).
وعلى أية حال، فإنّ (التلاوة) من مادة (تلو) أي الإتيان بالكلام بعد الكلام متعاقباً، وبناء على هذا فإنّ تلاوة آيات القرآن تعني قراءتها بصورة متوالية متعاقبة.
والتعبير بالحق إشارة إلى محتوى هذه الآيات، وهو أيضاً إشارة إلى كون نبوّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والوحي الإلهي حقّاً. وبعبارة أُخرى، فإنّ هذه الآيات بليغة معبرة تضمنت في طياتها الإستدلال على حقانيتها وحقانية من جاءها.
وحقّاً إذا لم يؤمن هؤلاء بهذه الآيات فبأي شيء سوف يؤمنون؟ ولذلك تعقب الآية: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}(5).
وعلى قول «الطبرسي» في مجمع البيان، فإنّ الحديث إشارة إلى قصص الأقوام الماضين، وأحداثهم التي تبعث على الإعتبار بهم، في حين أنّ الآيات تقال للدلائل التي تميز الحق من الباطل والصحيح من السقيم، وآيات القرآن المجيد تتحدث عن الإثنين معاً.
حقاً إنّ للقرآن الكريم محتوى عميقاً من ناحية الإستدلال والبراهين على التوحيد، وكذلك فهو يحتوي على مواعظ وإرشادات تجذب العباد إلى الله سبحانه حتى القلوب التي لها أدنى استعداد ـ أو أرضية صالحة ـ، وتدعو كلّ مرتبط بالحق الى الطهارة والتقوى، فإذا لم تؤثر هذه الآيات البينات في أحد فلا أمل في هدايته بعد ذلك.
__________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص487-493.
2 ـ (تنزيل الكتاب) خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: (هذا تنزيل الكتاب)، ثمّ إنّ (تنزيل) مصدر جاء هنا بمعنى اسم المفعول، وهومن قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، وتقدير الكلام: هذا كتاب منزل...
3 ـ وردت بحوث مفصلة حول اختلاف الليل والنهار، في سورة البقرة ـ ذيل الآية 164 وفي سورة آل عمران ذيل الآية 190، وفي سورة يونس ذيل الآية 6، وفي ذيل الآية 71 من سورة القصص.
4 ـ لقد وردت بحوث مفصلة حول آثار الرياح والأمطار في ذيل الآيات 46 ـ 50 من سورة الروم.
5 ـ للتعبير بـ(بعد الله) محذوف، والتقدير: فبأي حديث بعد حديث الله.