ان لـلقرآن في افادة معانيه منهجا يخصه ، لا هو في مرونة اساليب كلام العامة ، ولا هو في صعوبة تعابير الخاصة ، جمع بين السهولة والامتناع ، وسطا بين المسلكين ، سهلا في التعبير والأداء ، بحيث يـفـهـمـه كل قريب وبعيد ، ويستسيغه كل وضيع ورفيع ، وهو في نفس الوقت ممتنع في الافادة بـمـبـانـيه الشامخة ، والادلاء بمراميه الشاسعة ، ذلك انه جمع بين دلالة الظاهر وخفا الباطن ، في ظاهر انيق وباطن عميق .
قـال رسـول اللّه (صلى الله عليه واله) : (وهـو الـدلـيـل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتـحـصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ) (1) .
(فـمـا من آية الا ولها ظهر وبطن ) ، كما في حديث آخر مستفيض (2) ، فهناك عبارات لائحة يستجيد فهمها العامة فهما كانت لهم فيه قناعة نفسية كاملة ، ولكنها الى جنب اشارات غامضة كانت للخاصة ، فيحلوا من عقدها ، ويكشفوا من معضلها ، حسبما اوتوا من مهارة علمية فائقة .
وبـذلـك قـد وفـق القرآن في استعمالاته للجمع بين معان ظاهرة واخرى باطنة ، لتفيد كل لفظة معنيين او معاني متراصة ، وربما مترامية حسب ترامي الاجيال والازمان ، الامر الذي كان قد امتنع حسب المتعارف العام ، فيما قال الاصوليون : من امتناع استعمال لفظة واحدة وارادة معان مستقلة لكن القرآن رغم هذا الامتناع نراه قد استسهله ، واصبح منهجا له في الاستعمال .
كان ممن سلف من الاصوليين من يرى امتناع استعمال اللفظ وارادة معنيين امتناعا عقليا ، نظرا الى ان حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجها وعنوانا له ، بل بوجه نـفـسـه كانه الملقى ، ولذا يسري اليه قبحه وحسنه وعليه فلا يمكن جعل اللفظ كذلك الا لمعنى واحـد ، ضـرورة ان لـحـاظه كذلك لا يكاد يمكن الا بتبع لحاظ المعنى ، فانيا فيه فنا الوجه في ذي الـوجـه ، والـعـنـوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن ارادة معنى آخر كذلك في استعمال واحد ، مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه الاول في نفس الوقت هكذا جاء في تقرير كلام العلامة الاصولي الكبير المحقق الخراساني (3) .
وجاء الخلف ليجعلوا من هذا الامتناع العقلي ممكنا في ذاته ، وممتنعا في العادة ، حيث لم يتعارف ذلك ولـم يـعـهـد اسـتعمال لفظة وارادة معنيين مستقلين في المتعارف العام ، فالاستعمال كذلك كان خلاف المتعارف حتى ولو كان ممكنا في ذاته ، نظرا لان الاستعمال (استعمال اللفظة وارادة المعنى ) انما هـو بمثابة جعل العلامة من قبيل الاشارات والعلائم الاخطارية ، فلا مانع عقلا من استعمال علامة لـغـرض الاخـطار الى معنيين او اكثر ، اذا كان اللفظ صالحا له بالذات ، فيما اذا كان قد وضع لكلا المعنيين مشتركا لفظيا ، او امكن انتزاع مفهوم عام نعم لم يعهد ذلك في الاستعمالات المتعارفة .
الامـر الـذي اسـتـسـهـلـه الـقـرآن وخـرج عـلـى الـمـتـعـارف ، وجـعـلـه جائزا وواقعا في استعمالاته (4) فقد استعمل اللفظة واراد معناها الظاهري ، حسب دلالته الاولى ، لكنه في نفس الوقت صاغ منه مفهوما عاما وشاملا ثانيا ، يشمل موارد اخر ليكون هذا المفهوم العام الثانوي هو الاصـل الـمـقـصـود بـالـبـيان ، والضامن لبقا المفاهيم القرآنية عامة وشاملة عبر الايام ، وليست بالمقتصرة على موارد النزول الخاصة .
وكان المفهوم البدائي للآية ، والذي كان حسب مورد نزولها الخاص ، هو معناها الظاهر ، ويسمى بـ (الـتنزيل) اما المفهوم العام المنتزع من الاية الصالح للانطباق على الموارد المشابهة ، فهو معناها الـباطن ، المعبر عنه بـ (التأويل) ، وهذا المفهوم الثانوي العام للآية هو الذي ضمن لها البقا عبر الايام .
سئل الامام ابو جعفر محمد بن علي الباقر(عليه السلام)عن الحديث المتواتر عن رسول اللّه (صلى الله عليه واله) : (ما من آيـة الا ولـهـا ظهر وبطن ) ، فقال : (ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله ، منه ما قد مضى ومنه ما لم يجئ ، يجري كما تجري الشمس والقمر ، كلما جاء شيء منه وقع ) (5).
وقال : (ظهر القرآن : الذين نزل فيهم ، وبطنه : الذين عملوا بمثل اعمالهم ) (6).
واضاف (عليه السلام) : (و لو ان الاية اذا نزلت في قوم ، ثم مات اولئك القوم ، ماتت الاية ، لما بقي من القرآن شيء ، ولكن القرآن يجري او له على آخره ما دامت السماوات والارض ، ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير اوشر) (7) .
نعم كان العلم بباطن الاية ، اي القدرة على انتزاع مفهوم عام صالح للانطباق على موارد مشابهة ، خاصا بالراسخين في العلم ، وليس يفهمه كل احد حسب دلالة الاية في ظاهرها البدائي .
والـخلاصة : ان لتعابير القرآن دلالتين : دلالة بالتنزيل ، وهو ما يستفاد من ظاهر التعبير ، ودلالة اخـرى بالتأويل ، وهو المستفاد من باطن فحواها ، وذلك بانتزاع مفهوم عام صالح للانطباق على الموارد المشابهة عبر الايام اذن اصبح القرآن ذا دلالتين : ظاهرة وباطنة ، الامر الذي امتاز به على سائر الكلام .
مـثـلا آية الانفاق في سبيل اللّه ، نزلت بشان الدفاع عن حريم الاسلام ، فكان واجبا على المسلمين الـقيام بهذا الواجب الديني ، ليأخذوا بأهبة الامر ويعدوا له عدته ، ومنها بذل الاموال فضلا عن بذل الـنفوس هذا شيء كان واجبا على عامة المكلفين انفسهم كل حسب امكانه ، هذا ما يفهم من ظاهر الاية البدائي .
اما الفقيه النابه فيستفيد من الاية شيئا اوسع ، يشمل كل ضرورات الدولة القائمة على اساس العدل ، واحيا كلمة اللّه في الارض ، فيجب بذل المال في سبيل تثبيت دعائم الحكم العادل والتشييد من مبانيه ، فيجب دفع الضرائب المالية حسبما يقرره النظام ، مستفادا من الاية الكريمة في باطن فحواها ، اخذا بالتأويل حسب المصطلح .
وهـكـذا الـمستفاد من آية خمس الغنائم ، وجوب دفع الخمس في مطلق الفوائد وارباح المكاسب ، حسبما فهمه الامام الصادق (عليه السلام)من الاية ، اخذا بعموم الموصول ، واطلاق الغنيمة على مطلق الفائدة .
وفي القرآن من هذا القبيل الشي الكثير ، الامر الذي ضمن للقرآن بقاه مع الخلود.
وجـهة اخرى : ان للقرآن لغته الخاصة به ، شان كل صاحب اصطلاح ، فللقرآن اصطلاحه الخاص ، يستعمل الفاظا وتعابير في معان ارادها بالذات ، من غير ان يكون في اللغة او في سائر الاعراف دليل يـدل عـلـيـه ، لانـه من اصطلاحه الخاص ولا يعرف الا من قبله ومن ثم كان القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، كماجا في كلام الامام امير المؤمنين (عليه السلام)(8) .
ان فـي الـقـرآن تـعابير كثيرة لا تكاد تدرك معانيها الا اذا سبرت القرآن سبرا وفحصته فحصا ، لتعرف مفاهيمها التي اصطلح عليها القرآن من القرآن ذاته ، وليس من غيره اطلاقا.
هـكـذا ذهب سيدنا العلامة الطباطبائي (قدس سره ) الى ان الدلالة على مفاهيم القرآن ، انما هي من ذات الـقـرآن ، ولـيـس مـن خارجه ابدا ، لانه تبيان لكل شيء ، وحاشاه ان لا يكون تبيانا لنفسه ، فان الـقرآن يفسر بعضه بعضا وهذا هو اصل التفسير المعتمد ، وقد بنى تفسيره في الميزان على هذا الاساس (9).
مـثـلا : لـفظة (الاذن ) في الاستعمال القرآني ، جاء بمعنى : امكان التداوم في التأثير الحاصل وفق مـشـيـئة اللّه وارادتـه الـخـاصـة ، اي تـداوم الافـاضـة مـن قـبله تعالى ، حيث التأثير في عالم الـتـكوين ، موقوف على اذنه تعالى ، بان يفيض على عامل التأثير خاصيته التأثيرية ، حالة التاثير ، اي يـديمها ولا يقطع افاضته عليه حينذاك ، والا لما امكن لعامل التاثير ان يؤثر شيئا {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير : 29] تلك ارادته تعالى الحادثة ، هي التي امكنت للاشيا تأثيرها وتأثرها في عالم الطبيعة ، ولولاها لما امكن لعامل طبيعي ان يؤثر شيئا في عالم الوجود ، وهذا هو المراد من تداوم افاضته تعالى في عالم التكوين .
قال تعالى : {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة : 102] فلولا اذنه تعالى ، اي تداوم افاضة ـامكان التاثير من قبله تعالى ـ لما امكن لسحرهم ان يؤثر شيئا.
وذلك نظرا لان عوامل التأثير في عالم الوجود ، انما هي متأثرة ـ في امكان تأثيرها ـ بتأثيره تعالى ، اذ لا مـؤثـر في الوجود الا اللّه ، حيث الممكنات باسرها فقيرات في ذوات انفسها ، فكما انها بذاتها محتاجة الى افاضة الوجود عليها ، كذلك اثرها في عالم الطبيعة امر ممكن ، ومحتاج لا فاضة الوجود عـليه ففور ارادة التأثير يجب تداوم افاضة امكان التأثير عليه حتى يتمكن من التأثير {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف : 58] اي بإمكان التأثير الحاصل من قبله تعالى .
وهـذا هـو مـعنى (الاذن ) في التكوين ، حسب المصطلح القرآني ، مستفادا من قوله تعالى : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير : 29] .
وقد داب القرآن على اسناد الافعال الصادرة في عالم الوجود كلها الى اللّه ، سواء اكان فاعلها فاعلا اراديا كالإنسان والحيوان ، ام غير ارادي كالشمس والقمر ، وليس ذلك الا من جهة انه المؤثر في تحقق الافعال مهما كانت ، اختيارية ام غير اختيارية انه تعالى هو الذي اقدر الاشياء على فعل الافعال ، وامدهم بالقوى ، وافاض عليهم الاقدار بصورة مستديمة .
قال تعالى : (و نقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة ) (10) اي انقلبت اهواؤهم وابصارهم ، وهم الذين اوجبوا هذا القلب .
وهكذا قوله : (ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة ) (11) بدليل قوله تعالى : (و قالوا قلوبنا غلف بل لعنهم اللّه بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ) (12) .
قـال تـعـالـى : (و نـقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ) (13) اي تتقلب اجسادهم ذات اليمين وذات الشمال ، غير ان هذا التقلب كان بأذنه تعالى ، فصح اسناد الفعل اليه .
ولفظة (القلب ) في القرآن الكريم ، يعني : شخصيه الانسان الباطنة ، ورا شخصيته هذه الظاهرة ، وهـي الـتـي كـانـت منبعث ادراكاته النبيلة ، واحاسيسه الكبرى الرفيعة ، المتناسبة مع شخصيته الانسانية الكريمة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق : 37] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال : 24].
الـمراد ب (القلب ) في هذه الاية ، هي شخصية الانسان الكريمة اذا ما تمرد الانسان على قوانين الشريعة ، فانه يصبح بهيمة لا يعرف من الانسانية شيئا {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر : 19] .
ولـفظة (المشيئة ) في القرآن ، مصطلح خاص يراد بها الارادة الحادثة المنبعثة عن مقام حكمته تعالى ، وليست مطلق الارادة .
فقوله تعالى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران : 26].
كـان الـمـقـصود : المشيئة وفق الحكمة ، فيؤتى الملك من اقتضت حكمته تعالى ، وينزع الملك ممن اقتضت حكمته .
وهـكـذا {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام : 83] ، اي من تفتضيه حكمتنا ان نرفعه ، اي من كانت المقتضيات متوفرة في ذات نفسه ، فالاقتضاء انما هو في ذاته ، فهو محل صالح لهذه العناية الربانية ، وليس اعتباطا او ترجيحا من غير مرجح ، حيث الحكمة هي وضع الاشياء في مواضعها.
والـدلـيـل عـلـى ذلـك ، تـذييل الاية بقوله : (ان ربك عليم حكيم ) فالحكيم لا يشاء شيئا الا ما كان وفق حكمته ، وليس مطلق المشيئة .
والـتـعـابير من هذا القبيل كثيرة في القرآن ، وانما هي مصطلحات قرآنية ، لا تعرف الامن قبله ، ليكون القرآن هو الذي يفس ر بعضه بعضا.
ومـن الـمصطلح المتعارف في القرآن ، اعتماده المعهود من قرائن حالية ، ليصدر احكاما في صورة قـضـايـا خـارجية ـ اشارة الى المعهود الحاضر حال الخطاب ـ وليست بقضايا حقيقية ، حتى تكون الاحـكام مترتبة على الموضوعات ، متى وجدت واين وجدت هذه الظاهرة كثيرة الدور في القرآن الكريم ، وربما زعم زاعم انها قضايا حقيقية دائمة ، وليست كذلك .
مـثـلا قـوله تعالى : {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة : 82] .
ليس المراد مطلق اليهود ، سواء من عاصر نبي الاسلام ام غيرهم ، ولا مطلق من اشرك ، ولا مطلق النصارى بل يهود يثرب ممن عاصر نبي الاسلام ، ومشركو قريش ، ونصارى نجران ، وقيل : وفد النجاشي ذلك العهد ، لأنها حكاية عن امة ماضية اسلم من اسلم منهم ، وعاند من عاند.
فـقـد جـاء تـعـقيب الاية بقوله : {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة : 83 - 86] .
وهذا نظير قوله تعالى عن المخلفين من الاعراب : {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح : 11] اشارة الى خصوص من قعد عن الحرب ايام الرسول (صلى الله عليه واله ).
وكـذا (الـنـاس ) فـي قـولـه : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } [آل عمران : 173] حيث المراد بالناس الاول : هم المنافقون المرجفون من اهل المدينة ، والناس الثاني : هم مشركو قريش رهطابي سفيان ، بعد هزيمتهم من احد.
وهـكـذا قـولـه تـعالى : {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 97] المراد من عاصروا النبي من اهل الجفاء والنفاق ، كما في قـولـه : {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة : 101] وغـيـر ذلـك مما وقع هذا التعبير في مواضع من سورة براة (الايات : 90/97/98/99/101) حيث المقصود من الجميع : اعراب المدينة ومن حولها.
وجـهـة ثـالـثـة : ايفاؤه بالوفرة الوفيرة من المطالب ومختلف المسائل ، في اقصر تعابير وايسر كـلـمـات ، ربما يكون حجم المطالب اضعاف حجم الكلمات والتعابير والقرآن ملؤه ذلك ، وهو من اختصاصه ، ان يدلي باوفر المعاني في اوجز الالفاظ.
هذه سورة الحجرات على قصرها ، وهي ثماني عشرة آية ، تحتوي على اكثر من عشرين مسالة من امهات المسائل الاسلامية العريقة ، نزلت بالمدينة ، لتنظيم الحياة الاجتماعية العادلة وقد تعرض لها المفسرون ولا سيما المتأخرين بتفصيل ، وتعرضنا لأكثرها في تفسيرنا للسورة .
ومـمـا جـاء فيها التعرض لقاعدة (اللطف ) التي هي اساس الشرائع ، ومسالة (الحب في اللّه والـبغض في اللّه )التي هي اساس الايمان ، في اقصر عبارة : {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات : 7] فمن لطفه تعالى وعنايته بعباده ان مـهد لهم اسباب الطاعة وقربها اليهم ، ليتمكنوا من طاعة اللّه ويجتنبوا الفسوق والعصيان ، وذلك بـان زيـن الايمان والطاعة في قلوبهم ، اي ابدى لهم زينة الايمان ، بان رفع عن اعينهم غشا التعامي ، كـمـا انه تعالى كره اليهم العصيان بان اظهر قبحه في اعينهم فكرهوه في ذات انفسهم فالمؤمن انما يطيع اللّه وهو محبب له الطاعة ، ومن ثم فانه يقدم على الطاعة في وداعة وطمأنينة ويسر ، كما انه يجتنب المعاصي في يسر ، لانه عن نفرة لها في نفسه .
وهـذه هـي قاعدة اللطف تمهيد ما يوجب قرب العباد الى الطاعة وبعدهم عن المعصية ، مستفادة من الاية الكريمة .
وشيء آخـر : مسالة (الحب في اللّه والبغض في اللّه ) وهي اساس الايمان وصلب العقيدة ، والباعث على الجد في العمل ، ومن ثم قال الامام الصادق (عليه السلام ) : (و هل الايمان الا الحب والبغض ، ثم تـلا الايـة الـكـريـمـة ) (14) وقـد قال تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران : 31] .
وامـر ثالث مستفاد من الاية الكريمة : ان هدايته للناس كانت فضلا من اللّه ورحمة ، ناشئة عن مقام فـيـضـه الـقـدوسـي ، ولـيـس عـن حـق عليه سبحانه {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة : 64] ، {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص : 86] .
فالإنسان بذاته لا يستحق شيئا على ربه ، وانما اللّه هو الذي تفضل على الانسان برحمته {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف : 43] ، ومن ثم عقب سبحانه الاية بقوله : {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات : 8] .
وفـي الـسورة اشارة الى مسالة التعاون في الحياة الاجتماعية ، جات في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات : 13] .
وفيها الاشارة الى مسالة (المساواة ) وان لا شعوبية في الاسلام ، ولا عنصرية ، ولا قومية ، وان لا فـضـل لاحد على غيره اطلاقا ، لا حسبا ولا نسبا ، الا بفضيلة التقوى ، وهو التعهد في ذات اللّه .
كـما فيها الاشارة ايضا الى مسالة (الاخوة الاسلامية ) المتطلبة للإيثار والتضحية ، فوق قانون العدل والانصاف .
وفي القرآن كثير من عبارات يسيرة انطوت على مفاهيم ذات احجام كبيرة ، .
كـقـوله تعالى في سورة الانفال : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال : 17] اشارة الى مسالة (الامر بين الامرين ) وان لا جبر ولا تفويض ، وهي من المسائل المذيلة ذات تفصيل طويل .
وكـقـولـه تـعـالـى فـي سـورة الـواقـعـة : {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة : 63، 64] اشارة الى مسالة (الاستطاعة ) وان لا استقلال للعباد فيما يتصرفون من افعالهم الاختيارية .
والامثلة على ذلك كثيرة ومنبثة في القرآن الكريم ، غير خفية على الناقد البصير.
وجهة رابعة : قد سلك القرآن في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكا ، ينتفع به الجمهور ، ويخضع له الـعلماء ، ومن ثم جاء بتعابير يفهمها كل من الصنفين : الجمهور يأخذون بظاهر الكلام ويتصورون له مـن الـمـعاني ما الفت بها اذهانهم في الامور المحسوسة ، ويحسبون فيما ورا محسوسهم ما يشاكل المحسوس ، ويقتنعون بذلك ، ويستريح بالهم .
والـعـلـمـاء يعرفون حقيقة الحال التي جات في طي المقال ، ويأخذون بلطائف الاشارات وظرائف الكنايات التي مثلت لهم الحقيقة في واقع الامر ، بما يخضعهم له ويطمئنون اليه .
خـذ لذلك مثلا قوله تعالى ـ تعبيرا عن ذاته المقدسة في عالم الكون ـ : (اللّه نور السماوات والا رض ) لـمـا كـان ارفـع الـموجودات في الحس هو النور ، ضرب اللّه به المثال ، وبهذا النحو من التصور امكن للجمهور ان يفهموا من الذات المقدسة موجودا اجلى واظهر فيما ورا الحس ، يشبه ان يكون مثل النور في المحسوس شبه اما ، ويقتنعون بذلك .
اما العلماء فيرون من هذا التشبيه اقرب ما يكون تصورا من ذاته المقدسة ، فليس في عالم المحسوس مـا يكون على مثاله ، وفي اخص اوصافه تعالى كالنور الذي هو ظاهر في نفسه ، ومظهر لغيره ، وليس شيء في عالم المحسوس (المبصرات ) الا ويكون ظهوره بالنور ، اما النور فهو ظاهر بنفسه وليس بغيره .
وكذا لا يكون ـ في عالم المحسوس ـ شيء اكثر ظهورا وفي نفس الوقت اشد خفاء من النور ، ظاهر بثأره ، خفي بكنهه وحقيقته .
وهـذه هـي نفس صفاته تعالى اذا ما لاحظنا حقيقة وجوده ، القائم بذاته ، المظهر لغيره ، الذي خفيت حقيقته وظهرت آثاره ، وهو اللّه جل جلاله ، وعظمت كبرياؤه .
وهـكـذا نـجد القرآن ، في استدلالاته ، قد جمع بين اسلوبين يختلفان في شرائطهما ، هما : اسلوب الـخطابة ، واسلوب البرهان ، ذاك اقناع للجمهور بما يتسالمون به من مقبولات القضايا ومظنوناتها ، وهذا اخضاع للعلماء بما يتصادقون عليه من اوليات ويقينيات ومن الممتنع في العادة ان يقوم المتكلم بإجابة ملتمس كلا الفريقين ، ليجمع بين المظنون والمتيقن ، في خطاب واحد ، الامر الذي حققه القرآن بعجيب بيانه وغريب اسلوبه .
وقد بحثنا عن ذلك واتينا بأمثلة عليه في مباحثنا عن الاعجاز البياني للقرآن (15) .
وجهة خامسة : قد اكثر القرآن من انواع الاستعارة واجاد في فنونها ، وكان لا بد منه وهو آخذ في توسع المعاني توسع الافاق ، في حين تضايقت الالفاظ عن الايفاء بمقاصد القرآن ، لو قيدت بمعانيها الموضوعة لها المحدودة النطاق .
جـاء الـقـرآن بـمعان جديدة على العرب لم تكن تعهدها ، وما وضعت الفاظها الا لمعان قريبة ، حسب حـاجـاتـهـا فـي الحياة البسيطة البدائية القصيرة المدى اما التعرض لشؤون الحياة العليا المترامية الابعاد ، فكان غريبا على العرب الاوائل المتوغلة في الجاهلية الاولى .
ومـن ثـم لـجا القرآن في افادة معانيه والاشادة بمبانيه الى احضان الاستعارة والكناية والمجاز ، ذوات الـنـطـاق الـواسـع ، حسب ابداع المتكلم في تصرفه بها ، والقدرة على الاحاطة في تصريف الـمباني والافادة بما يرومه من المعاني وقد ابدع القرآن في الاستفادة بها وتصريفها حيثما شاء من الـمـقـاصـد والاهـداف ، ولـم يعهد له نظير في مثل هذه القدرة ومثل هذه الاحاطة ، على مثل هذا التصرف الواسع الاكناف ، الامر الذي ابهر واعجب واتى بالإعجاز.
ولـعـل هـذا هو السبب ايضا في عروض التشابه في لفيف من آيات الخلق والتكوين ، نظرا لقصور الالفاظ عن الايفاء بتلك المعارف الجليلة الواسعة الاكناف .
وبـذلـك اصـبـحت لغة القرآن ـ من هذه الجهة ـ ذات طابع خاص ، حيث وفرة الاستعارة من النم ط الراقي ، وعروض بعض التشابه بسبب هذا الشموخ والتعالي .
________________________
1- الكافي الشريف ، ج2 ، ص 599.
2- رواه الـفـريـقـان راجـع : تـفـسـيـر الـعـيـاشي ، ج1 ، ص 11 وبحار الانوار ، ج89 (ط بيروت ) ، ص 88 ـ 95.
3- هـو الـمـولـى مـحـمـد كـاظم الخراساني صاحب كفاية الاصول (راجع : حقائق الاصول للأمام الحكيم ، ج 1 ، ص 89 ـ 90).
4- وذلك نظرا لا حاطته تعالى وشمول عنايته لجميع عباده ولا يخفى ان المفهوم العام المنتزع من الاية ، هو بنفسه معنى آخر مقصود مستقلا ورا ارادة المعنى الظاهري الاولي ، فكل من المعنيين الـظاهر والباطن مقصود بذاته ، وليس مندرجا تحت الاخر ، فهو من موضوع البحث وليس خارجا عنه ، كما زعم .
5- بحار الانوار ، ج89 (ط بيروت ) ، ص 94 ، رقم 47 و46.
6- المصدر نفسه ، ص 97 ، رقم 64.
7- تفسير العياشي ، ج1 ، ص 10 رقم 7.
8- نهج البلاغة الخطبة رقم 133.
9- راجع : مقدمة التفسير ، ج1 ، ص 9.
10- المصدر نفسه .
11- تاريخ القرآن للزنجاني ، ص 69.
12- المبسوط للسرخسي ، ج1 ، ص 37 وتقدم ـ في الهامش ـ عن تاج الشريعة الحنفي : انه ترجم البسملة ب (بنام يزدان بخشاونده الخ ) ثم عرضها على النبي (صلى الله عليه واله) (معجم مصنفات القرآن لشواخ ، ج2 ، ص 12).
13- راجع مقدمة الناشر ، ص 14.
14- الكافي ، ج2 ، ص 125 رقم 5.
15- راجع : التمهيد ، ج5 ، ص 499 فصل (الاستدلال في القرآن).
الاكثر قراءة في مفهوم التفسير
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة