1

x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الجغرافية الطبيعية

الجغرافية الحيوية

جغرافية النبات

جغرافية الحيوان

الجغرافية الفلكية

الجغرافية المناخية

جغرافية المياه

جغرافية البحار والمحيطات

جغرافية التربة

جغرافية التضاريس

الجيولوجيا

الجيومورفولوجيا

الجغرافية البشرية

الجغرافية الاجتماعية

جغرافية السكان

جغرافية العمران

جغرافية المدن

جغرافية الريف

جغرافية الجريمة

جغرافية الخدمات

الجغرافية الاقتصادية

الجغرافية الزراعية

الجغرافية الصناعية

الجغرافية السياحية

جغرافية النقل

جغرافية التجارة

جغرافية الطاقة

جغرافية التعدين

الجغرافية التاريخية

الجغرافية الحضارية

الجغرافية السياسية و الانتخابات

الجغرافية العسكرية

الجغرافية الثقافية

الجغرافية الطبية

جغرافية التنمية

جغرافية التخطيط

جغرافية الفكر الجغرافي

جغرافية المخاطر

جغرافية الاسماء

جغرافية السلالات

الجغرافية الاقليمية

جغرافية الخرائط

الاتجاهات الحديثة في الجغرافية

نظام الاستشعار عن بعد

نظام المعلومات الجغرافية (GIS)

نظام تحديد المواقع العالمي(GPS)

الجغرافية التطبيقية

جغرافية البيئة والتلوث

جغرافية العالم الاسلامي

الاطالس

معلومات جغرافية عامة

مناهج البحث الجغرافي

الجغرافية : الجغرافية البشرية : الجغرافية السياسية و الانتخابات :

حياة الدولة

المؤلف:  محمد رياض

المصدر:  الأصول العامة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا

الجزء والصفحة:  ص 107-127

27-1-2016

3292

ان الدولة مثل أي كائن عضوي يجب أن تنمو وتتغذى لكي تبقى، وفي الماضي رأينا كيف اشترك كل من النضوج والقوة باستمرار لضم الأراضي الجديدة للدولة، وعلى العكس كيف يرتبط أو يلتقي فقدان القوة المادية والروحية باقتطاع الأراضي من مساحة الدولة، وفي عالمنا الحاضر أدت المواصلات إلى اعتماد الدول على بعضها، ومن النادر أن نرى دولة مكتفية بذاتها مهما كانت مساحتها، ومن ثم نجد الميل عند الدول المتمدينة أن تندمج في اتحادات أو ائتلافات سياسية أو اقتصادية أو هما معا مع فقدان جزئي للسيادة القومية، وخاصة في مجال الجمارك.

النمو في المكان:

إن نمو الدولة سواء كان سلميا أو حربيا يعتمد على الوصول إلى هدفين تصل إليهما مستقلين أو معا وهما: 1- أرض حرة خالية أو قليلة السكان قادرة على استيعاب هجرة السكان الزائدين. 2-  طرق تجارة أو مصادر جوهرية لتدعيم المصادر القومية. ويمكن تحقيق هذين المطمحين بوسيلتين تؤديان إلى تركيبين سياسيين مختلفين:

(أ) يمكن ضم الأراضي المجاورة إلى ما لا نهاية؛ بمعنى أنه يمكن استمرار الضم لمساحات شاسعة قد تغطي قارة أو بعض قارة، ومثل ذلك الإمبراطوريات القارية القديمة، وفي العصور الوسطى الإمبراطوريات الفارسية والرومانية والمغولية، وحديثا الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

(ب) إيجاد مستعمرات عبر البحار إما بواسطة المستوطنين المهاجرين من الوطن الأم إلى الأراضي الخالية، وإما بإنشاء شكل من الحكم العسكري والتشريعي والاقتصادي يؤمن استقلال السكان في المستعمرات لتنمية اقتصاديات الدولة صاحبة المستعمرات، وبهذه الطريقة نشأت الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى القديمة والحديثة؛ كالأثينيين والبرتغال والإسبان والإنجليز الكومنولث حاليا والفرنسيين التجمع الفرنسي Communauté.

وعلى وجه العموم نجد أن الدول تنشأ من بدايات صغيرة، فمهد الإمبراطورية الآشورية كان نطاقا ضيقا بين الفرات وجبال زاجروس، ونمت إمبراطورية بابل من مدينة بابل، والرومانية من إقليم لاتيوم، والصينية من واحة خوتان على رافد من تاريم في تركستان الشرقية ويقارن O. Maull الدول الجديدة الولادة بالخلية الحية نواتها؛ فهي مراكز السكان المستقرين في الأراضي الزراعية، وأعضاؤها الغابات والمراعي والجبال.

هذا ولا تزال القوانين التي تحكم تدهور الدول غير معروفة برغم إمكانية تسجيلها تاريخيا، فالدولة الرومانية سجلت ذروتها في أول العام الثاني قبل الميلاد بضمها داشيا وأطراف سوريا وبلاد العرب وأرمينيا والعراق، ثم بدأ تقطيع أوصالها في آسيا الصغرى، ولم يمض قرنان حتى كانت الإمبراطورية قد انهارت تماما، فقبل هجوم البرابرة كان التحلل الداخلي قد بدأ بمدة طويلة، وفي حوالي عام ٢٣٥ م وتحت قيادة الأباطرة العسكريين، كانت الأقاليم تناضل للحصول على القوى السياسية، وهددت الأطراف القلب، وهذا الاتجاه كان يقوى ويضعف، ولم يؤد تقسيم الإمبراطورية على يد Dioclet إلى قلب أو عكس هذا الاتجاه، وفي سنة ٣٩٥ م اتخذت خطوة حاسمة للتجزئة بفصل الشرق الهليني من الغرب الروماني في الوقت الذي كان العدو يعبر الحدود من الشمال والشرق.  وبنفس الطريقة انهارت الإمبراطورية العربية بالتجزئة ابتداء من خسارة الأندلس 755م، والمغرب 790، وبقية المغرب 800، ومصر وبرقة 872 – 891، وكردستان  والفرس ٩٣٤ … إلخ.

ومن واقع الملاحظة أن الدول التي تريد أن تبقى كان عليها أن تحصل على مركز هام على طرق التجارة، وأن تقوي بذلك اقتصادياتها، فمعظم الدول حاولت أن تسيطر سياسيا على حقل التجارة وطرقها، وكثير من الدول خصصت جزءا كبيرا من نشاطها للوصول إلى منفذ لها على البحر.

أحد أسباب نمو الميديا Medes وفارس هو رغبة الفرس في التحكم في التجارة البحرية التي يحتكرها الإغريق على بحر إيجه، وعلى أثر تقسيم دولةشرلمان حاولت الدول الثلاث التي نجمت عن ذلك الوصول إلى منافذ بحرية، وكذلك ناضلت بروسيا للوصول إلى واجهة بحرية؛ ففي منتصف القرن ١٧ حصل المنتخب الأكبر Grand Elector البروس على ميناء أمدن على بحر الشمال، وفي خلال عام ١٨ ق.م حصل فريدريك الأكبر لبروسيا على ميناء ستتن على مصب الأودر، وعلى جزء من بومرانيا والأودر، وفي منتصف القرن 16 م ضمت بروسيا شلزفيج وهولشتين لتتحكم في مداخل البلطيق جنوبي الدانمرك، وللحصول على قاعدة قوية على ركن بحر الشمال.

كذلك ظلت الإمبراطورية النمساوية المجرية تواصل جهودا مستمرة لإطالة واجهتها البحرية بضم البوسنة والهرسك عام ١٩٠٧ ، ومحاولة احتلال سالونيكا عن طريق ضم أو على الأقل تحويل الصرب ومقدونيا إلى محمية لها، وهناك أمثلة كثيرة أخرى: بولندا وبلغاريا في أوروبا وبوليفيا في أمريكا، ولكن من الأمثلة ذات الدلالة سعي روسيا المستمر للحصول على منفذ بحري مفتوح متناسب مع حجمها القاري الكبير: أولا زحزحة الأتراك والوصول إلى البحر الأسود، ثم إلى البلطيق معترضين بذلك ادعاءات السويد وألمانيا وفنلندا، وإلى الشمال صوب أركانجل ثم مورمانسك وعلى حساب فنلندا، وأخيرا إلى الشرق الأقصى بالحصول على النطاق الساحلي على بحر اليابان من الصين وبناء فلاديفوستك.

والوصول إلى منفذ بحري يعتبر غالبا خطوة أخرى للتوسع، فالدولة القوية التي تطل على حوض بحري تسعى إلى تقوية قبضتها على كل خط الساحل، وعلى هذا نجد دولة أثينا تمد نفوذها على معظم سواحل وجزر إيجه، واستولى الرومان على كل البحر المتوسط قبل أن يعبروا الألب شمالا إلى الراين والدانوب، وفي عام ١١ ق.م حكم ملوك الدانمرك معظم سواحل بحر الشمال وامتد نفوذهم على البلطيق في عام ١٣ ق.م، وفي منتصف عام ١٧ ق.م نجح ملوك السويد في طرد الدانمرك وتحويل البلطيق إلى بحيرة سويدية عمليا.

وتميل الدول القوية أكثر من ذلك إلى النظر بعين التملك والحيازة إلى البحار التي تعبرها أساطيلها وبحارتها، مثلا بيزنطة كانت تنظر إلى بحر إيجه على أنه ملك لها في عام ١٢ ق.م، وأطلق الرومان على البحر المتوسط اسم (بحرنا Mare nostrum)، وكان ملوك إنجلترا منذ عام ١٦ ق.م يفضلون أن يسمى بحر المانش أو القنال الإنجليزي

باسم (قناتنا)، والمضيق الذي يصل المانش بالشمال له تسميتان: الإنجليزية مضيق ووفر، والفرنسية مضيق كاليه Pas de Calais، وهذا يرمز بدون شك إلى نظرة الحيازة التي لكل دولة على مياه غير إقليمية واسعة.

وهذه الادعاءات ونظرات الحيازة قد أدت إلى منازعات دولية خطيرة منذ القرن الحادي عشر حتى الآن، وذلك حينما بدأ البرتغال والإسبان محاولة احتكار التجارة البحرية، وعادة تبدأ السيادة على البحار من دول مطلة على بحار شبه مقفلة كالمتوسط ثم تمتد إلى المحيطات المفتوحة، وكانت الجزر تستخدم أيضا كنقطة بداية مثل قبرص للفينيقيين والبطالمة وسالميس للأثينيين وصقلية وكورسيكا وسردينيا للرومان وإيطاليا، (قبرص وكريت لمصر الفرعونية).

وعادة كانت الخطوة الحاسمة هي تأسيس السيادة على الساحل المقابل للدولة البحرية مثل ساحل آسيا الصغرى بالنسبة للإغريق وساحل فينيقيا بالنسبة لمصر وسواحل غرب المتوسط بالنسبة لقرطاجة، وسواحل المتوسط الغربي ثم الشرق بالنسبة لروما.

والخطوة التالية هي إنشاء مستعمرات على الشواطئ الجديدة: البرازيل والبرتغال، جنوب أفريقيا والهولنديين، سواحل أمريكا اللاتينية بالنسبة للإسبان. ولكن هناك دائما خطوات وسط بين الخطوة الأولى (احتلال الجزيرة) والأخيرة (إقامة مستعمرات على السواحل البعيدة)؛ الفينيقيون تقدموا من جزيرة إلى أخرى: صور – قبرص – رودس – كريت – تيرا – مالوس – باروس – مالطا بنتلاريا قرطاجة – صقلية – سردينيا – البليار.

كذلك احتل النورمان جزر فارو وشتلند وأيسلندا وجرينلاند والهبريدز وأيرلندا، والبرتغال بدءوا بالأزورس ثم ماديرا ثم جزر كيب فرد على طريق الأطلنطي التجاري البحري، وفي مرحلة أخرى سيطروا على سيلون - سيريلانكا - ثم ملقا ومولوكوس - مولوقا - بعد أن ثبتوا أنفسهم على بعضمن سواحل أفريقيا، واتبع الهولنديون النمط نفسه فثبتوا أنفسهم في ساوتومي وسانت هيلانة وموريشس وسريلانكا وسومطرة وجاوة وتيمور وفرموزا. وبعد أن ورثت بريطانيا الزعامة البحرية من إسبانيا وهولندا استولت على الجزر والمواقع الاستراتيجية وأسست قلاعا لها على البحر المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي, وفي العصر الحديث نجد توسع الولايات المتحدة كدولة بحرية يبدأ باحتلال جزيرة بورتوريكو وبنما وهاواي وجوام والفلبين.

ولكن في هذا المجال نجد نفوذ الدول الكبرى كثيرا ما يتصارع، أو تنظمه القوانين الدولية التي كان أهم ما فيها الاتفاق على حياد المحيطات، كما حاولت أن تحدد نفوذ الدولة بالمياه الإقليمية، لكنها من حيث الاتساع غير متفق عليها حتى الآن.

العوامل الاقتصادية:  

من الصعب دائما على الدول الكثيفة السكان أن تعيش على مواردها المحلية فقط، فالحاجة إلى أسس اقتصادية أوسع من أرض الدولة حقيقة عرفتها الدول القديمة، فمنذ 4500 سنة مضت توسعت مصر إلى ساحل الليفانت لتأمين مصادر الأخشاب اللازمة لبناء الأسطول المصري، وركزت اهتماماتها على المناطق ذات المظهر الغابي، ومن ثم كان اهتمام مصر الفرعونية كثيفا حول منطقة ساحل لبنان الحالي، ولكي يحصل المصريون على النحاس وعدد آخر من المعادن والأحجار الكريمة وسعوا رقعتهم بصفة مستمرة إلى سيناء منذ عام ٣٠٠٠ ق.م ونصت معاهدة فردان ٨٤٣ م التي قسمت مملكة شارلمان فرنسا، لوترنجيا وجرمانيا بين أحفاده الثلاثة: شارل ولوثر ولويس، على حدود كل من الممالك الثلاث، تضمن لهم المراعي للخيول في سهول الشمال الطينية، وحقول القمح على التربة اللومية في الداخل، وحدائق الكروم على الراين والبحر المتوسط في الجنوب.

وفي القرن ١٧ م أصرت سويسرا على أن يخصص الفلاحون في الجبال والسهول الأرض لزراعة الحبوب حتى يكفي الإنتاج استهلاك الناس ويقيه من شر المجاعات، وكانت الدولة تلجأ إلى تأمين النقص في أي من أنواع الإنتاج في إقليم من الأقاليم بمد نفوذها على أقاليم أو إقليم إنتاجها المجاور وضمه إليها، وهكذا فإن دولة فنيسيا توسعت على الأدرياتيك من أجل تأمين احتياجات معينة: البوسنة تمدها بالخشب اللازم لبناء الأساطيل، ودلماشيا تمدها بالخيول، والمناطق الجبلية الألبية بالأبقار، وجزر إيونيا بالفواكه والنبيذ.

وقد أسس الأوروبيون مستعمراتهم في القرن ١٦ م لكي تمدهم  تحت إشرافها بالسكر والتوابل والأحجار الكريمة والذهب والفضة وغير ذلك، وكان المبدأ الاقتصادي وراء الرق هو العمالة الرخيصة، ومن ثم كانت بداية الاحتكاك الأوروبي الحقيقي لأفريقيا الحصول على الثروة البشرية، وهي أعلى مراحل الثروة الاقتصادية. وكان الذهب والفضة والنحاس وراء التوسع الأمريكي صوب الغرب الوحشي، والحاجة للمنتجات المدارية قطن، سكر، أرز، بترول  كانت وراء اندفاع المستوطنين إلى الولايات الجنوبية المطلة على خليج المكسيك، وطرد فرنسا الإسبان والمكسيك على التوالي منها بالإضافة لوجود الرقيق.

ولقد ازدادت الحاجة بصفة مستمرة إلى مزيد من المنتجات المضافة الجديدة منذ القرن ١٩ م حيث أمكن صنع آلات جديدة بصفة مستمرة في الدول الصناعية تظهر حاجة مستمرة أيضا إلى أنواع مختلفة وجديدة من الخامات لتصنيعها، وحينما بدأت صناعة النسيج تستهلك المزيد من الأصواف التي تقدمها أغنام أوروبا كان الإنجليز أول من فتحوا آفاق المراعي الواسعة في البقاع النائية في المستعمرات كأستراليا وأفريقيا، ويوضح هذا مدى أهمية هاتين المنطقتين لصناعة الأصواف الإنجليزية. ومع تزايد اعتماد السكان الأوروبيين على الصناعة، وقلة وفاء المنتجات الزراعية لحاجاتهم الغذائية وللخامات الصناعية، أصبح من الضروري الحصول على هذه الأشياء من الخارج.

ويكمل الدائرة الاقتصادية أن الخامات المستوردة من المستعمرات تصنع في الدول صاحبة المستعمرات، التي تقوم بتوريد جزء من منتجاتها بقوة ما لديها من حقوق سياسية إلى شعوب المستعمرات، وبذلك تضمن سوقا لهذه المنتجات، ففي عهد المركنتالية الاستعمار الأول كان الأوروبيون يتركون للمستعمرات وظيفة مصدر الخامات فقط، ويحتفظون لأنفسهم تماما باحتكار الصناعة، وقد عبر عن ذلك وليام بت Pitt اذ قال : (إذا أخذت المستعمرات الأمريكية الولايات المتحدة حاليا على نفسها صناعة الجوارب أو حتى حدوة الحصان؛ فإنني سوف أجعلها تشعر بكل ثقل القوة البريطانية). إن الحاجة إلى السوق جعلت اليابان تحتل كوريا ١٩٠٧ ، لكن كوريا كانت مزدحمة بالسكان، ومع مرور الوقت لم تعد الدول تتحكم في المستعمرات بهذه القسوة، وبعض المستعمرات بدأت تدخلها الصناعة مثل الهند قبل استقلالها الصلب/النسيج بدلا من الاستيراد ومع ذلك نرى حتى اليوم أن أقوى وسائل تدعيم الائتلاف بين الدول هو ذلك الذي تخلقه الاقتصاديات التي تكمل بعضها ولا تتعارض فيما بينها.

أنواع مختلفة من الدول: تطور الدول:

يقول الجغرافيون الألمان إن أوضع شكل للدولة هو ذلك الذي يسمى ( دولة الخلية) عند  المجتمع البدائي، ويتكون من العشيرة أو القبيلة أو القرية، كما كان الحال عند العشائر الأسترالية أو المجموعات المحلية الأسترالية والقزمية التي تتكلم كل منها لغة أو لهجة خاصة، وعند المجتمعات الزراعية المستقرة في غينيا الجديدة أو ميلانيز يا كانت القرية هي الوحدة السياسية، وفي جنوب الهند كانت القرى داخل الغابات تكون أيضا وحدات سياسية مستقلة، ومثل هذه الأشكال وجدت في أمازونيا وأمريند كاليفورنيا.

وقد تطور هذا الشكل السياسي من مجتمع القرية إلى مجتمع المد  ن الصغيرة في العهود القديمة الذي استمر حتى القرون الوسطى، ويمتد ظهوره حتى الآن في صورة مبعثرة مثل إمارات أندورا وموناكو وسان مارينو، وعلى نطاق أوسع ليختشتاين ولكسمبورج، وبصورة ما الفاتيكان. وبعد ( الدولة الخلية ) نجد التجمع السياسي الناجم عن ارتباط عدة دول خلايا في مساحات ذات قدر لا بأس به، فدولة أثينا نشأت عن تجمع ثلاث خلايا سياسية في إقليم أتيكا، وظهرت إسبرطة نتيجة تجمع سبع إمارات صغيرة، وكذلك الحال في دولة هاواي، وتوحيد ميكروتيزيا وروما وممالك أفريقيا الزنجية المختلفة، كلها جاءت نتيجة حروب ضمت أقاليم ودولا أخرى إلى الدول الجديدة.

والدول القديمة كانت أعقد من هذه العملية لضم أجزاء أو إمارات مختلفة، كما كانت تنطوي على أفكار جيدة للتنظيم السياسي، ونحن لا نعرف الكثير عن بدايات ونمو تلك الدول بالدرجة الكافية، وكلها كانت في مناطق جافة واحية الشكل؛ كمصر والعراق والهند والصين، لكنها كلها اتبعت الري في الزراعة بوسائل مبتكرة، ويميز أوتو ماول O. Maull عدة أنواع من هذه الدول القديمة التي ظلت طوال تاريخها غير متغيرة البناء برغم اختلاف التفاصيل، ولعلنا نعيد أسباب تدهورها إلى هذه الحالة من الجمود في الشكل البنائي وبالتالي نقص تطورها.

هناك (نوع شرقي) من الدول القديمة ذلك الذي أدى إلى نشأة دول النيل والفرات والسند التي كانت تكون ثلاث بؤرات من الحياة المدنية العالية، وكلها كانت تقفلها وتحميها الجبال والصحارى، ويقع سهل العراق في وسط هذا العالم الحضاري؛ مصر إلى الغرب والسند إلى الشرق منه. وفي الألف الثالثة قبل الميلاد كانت بابل قد نظمت وسائل للري، وأصبحت مركزا للصناعة صدرت منتجاتها إلى الخارج، وكانت تشتمل على عدة مدن كل منها ممالك مدن صغيرة تحارب بعضها، وكانت تسعى إلى توحيد الدول في دولة واحدة تمتد من الخليج العربي إلى البحر المتوسط، وقد صادفت دول العراق القديم الكثير من التقلبات السياسية من مد وتقلص للنفوذ السياسي في هذه المنطقة، وبوجودها على طول طريق التجارة القديمة بين الشرق والغرب قامت دول العراق بدور الوسيط التجاري في العالم المعروف لمدة ٢٥٠٠ سنة، وبعد أن دخلت المنطقة كجزء من إمبراطوريات أوسع كالفارسية والإغريقية والعربية ظلت في هذا الموقع التجاري العظيم الذي مكن دول العراق من الإبقاء على بناء اجتماعي إقطاعي ديني على أسسه الاقتصادية، وكان مصدر العمل أعداد هائلة من الرقيق ومن سكان الهوامش الذين كانت الدول تجلبهم للعمل في الداخل.

وكانت أعمال إعادة توزيع السكان وطردهم من أراضيهم بداية لحركات من الهجرة لم تكن السلطة السياسية قادرة على الإشراف عليها، فمثلا توغل العرب القادمين من الصحارى الفقيرة إلى داخل الدولة في موجات متتابعة، مما كان يعطي الدولة قوة مضافة لبعض الوقت.

وتعطينا دولة آشور نموذجا آخر لنوع الدول القديمة الشرقية، فقد ولدت في سفوح الجبال الشرقية للعراق، وكانت بذلك مضطرة من البداية إلى الحرب المستمرة مع سكان الجبال وعصابات البدو المتنقلين الذين كانوا يأتون عبر الممرات الجبلية في أرمينيا وميديا، ولهذا السبب كانت حروب آشور مستمرة مع عيلام وأجزاء من أرمينيا لصد هؤلاء الرحل. وعلى عكس بابل، يبدو أن آشور قد بنت دولتها على تركيب اجتماعي قوامه ائتلاف الملاك الأحرار الصغار الذين يكونون جيشا متساندا من الفلاحين الملاك، ويبدو أن الصراع مع بابل لم يكن بغرض ضم مساحات جديدة لآشور، ولكن بغرض الحصول على مركز قوي لبابل في احتكار طرق التجارة الدولية، وقد أكمل سارجون الثاني الإمبراطورية الآشورية التي امتدت فوق مساحة هائلة من الأرض تقدر بأكثر من مليون كم 2 من بابل إلى المتوسط بما في ذلك سوريا وفلسطين وأرمينيا وأطراف فارس الغربية وشمال بلاد العرب وقبرص، وأضاف الملك أسرحدون مصر، وقد غيرت هذه الممتلكات الشاسعة التركيب الاجتماعي الذي كان سببا في قوة آشور كما حدث في روما فحل جيش المرتزقة محل جيش فلاحي آشور في الوقت الذي بدأت فيه أملاك آشور الخارجية في الثورة وطرد الآشوريين كما حدث في مصر وميديا وبابل.

أما إمبراطورية ميديا وفارس التي ورثت آشور فقد اكتفت في البداية بنقل مركز الثقل السياسي من سهول العراق إلى الهضبة الإيرانية، وقد سارع الفرس بعد ذلك بتوسيع رقعة الدولة أكثر من آشور إلى أن وصلوا إلى الدانوب في الغرب، وطوران والسند في الشرق، وفي عصر ازدهارها بلغت فارس من الدانوب إلى السند ومن وسط آسيا إلى برقة في مساحة زادت عن خمسة ملايين كم ٢ أقل ب ٣٠ ٪ عن مساحة الولايات المتحدة حاليا.

أما مصر فقد نشأت في مهد زراعي خصيب بين البحر الأحمر والمتوسط وعلى طريق التجارة بين الهند وبلاد العرب والمتوسط، وقد استفادت من ضعف دول العراق فاتسعت حدودها وفرضت سيادتها على سوريا ووصلت إلى الفرات في عهد تحتمس الثالث، إلا أنها في المجموع لم تشارك تماما في طريق التجارة الدولي لموقعها المتطرف وقبعت في الوادي الخصيب المحمي، فاستمرت حضارتها أزمانا أطول ولم تمد نفوذها إلا في أوقات معينة أفريقيا كانت الاتجاه الحقيقي عبر النيل.

وفي البنجاب والسند نما مهد حضاري آخر كان يمتد تحت تأثير الحضارة الغربية العراق ثم الشرقية فيما بعد الصين والهند وتحت شكل البناء الاجتماعي الطبقي لم يمتد نفوذ حضارة السند كثيرا خارج منطقة النشأة، ومع ذلك كانت هذه الحضارة مكان نشأة لعدد مؤقت من الدول في جنوب شرق آسيا أدت إلى توسيع النفوذ الهندي الحضاري إلى أعتاب الحضارة الصينية. في القرن الأول الميلادي أصبحت مملكة Unan على الميكونج الأدنى فرعا مزدهرا للحضارة الهندية، وفيما بعد كانت مملكة Champa التي استمرت من القرن ٢ إلى القرن ١٥ م حتى تغلبت عليها مملكة أنام، وفي الوقت نفسه نمت ممالك برما و Pegu وكانت طبقة الحكم فيهما وحياتها هندية، فهذا الاستعمار الحضاري المشابه للإغريقي قد أكمله في القرن الأول م إنشاء مملكة Majapahit التي احتلت سومطرة وجاوة ومعظم إندونيسيا الحالية، وفي منطقة الهند الصينية انصهر العنصر الهندي خلال القرن ١٣ م بواسطة غزو التاي في المنطقة الوسطى والغربية، والأناميين في المنطقة الشرقية.

النوع الثاني من الدول هو نوع البحر المتوسط الذي يمثله كل من الإغريق والرومان، وكانت إمبراطورية الإسكندر مشابهة في الشكل للإمبراطوريات الشرقية، لكن البناء الاجتماعي مختلف، فبدلا من طرد السكان بدأ بناء المدن التي ساعدت على اندماج الحضارات ونشر المدنية الهلنية، ولمدة ألف سنة ظلت سوريا ومصر وآسيا الصغرى جزءا من حضارات البحر المتوسط، وأصبحت الإسكندرية وأنطاكية مدنا إغريقية مزدهرة أكثر من بعض المدن الإغريقية مثل كورنيث وأثينا ذاتها، ولم تغير هذه المناطق اتجاهها الحضاري إلا بعد انتشار الإسلام وتعريب المنطقة.

ولقد قامت الدولة الرومانية أيضا على أساس حضارة المدينة المتكونة من المواطنين الأحرار، وكان الجيش يتكون من هؤلاء أيضا ومن المزارعين المواطنين الأحرار، ومما دعم الإمبراطورية سيادتها على البحر المتوسط وطرق التجارة وبناء الطرق البرية، وقد انتشرت روما على مساحة قدرها حوالي خمسة ملايين كم ٢؛ أي أقل بقليل من إمبراطورية الإسكندر، وقد انتشرت أيضا خارج حدود البحر المتوسط إلى وسط أوروبا.

الدول الأمريكية قبل كولمبس:

هناك نوع آخر من الدول المنظمة وسط مناطق كثيرة من التنظيم السياسي البدائي، وهي في مجموعها تشابه دول العالم القديم، ومهد هذه الدول كان الهضاب العالية في النطاق المداري الأمريكي، حيث ساعد تعدل المناخ والنمو النباتي المتوسط على الاستقرار الزراعي، كنشأة دولة الأزتك في المكسيك الوسطى والأنكا في الأندييرو، والسمة الأساسية هي بناء عسكري ديني مما يجعلهم مكونين لنظام سياسي اجتماعي شديد الجمود والصرامة، ومن المحتمل أنهم أول من أنشئوا دولا ديكتاتورية يضحى فيها بالفرد من أجل المجتمع، فالفرد كان عنصرا صغيرا في العجلة، وحياته يقررها المجتمع وما يقدمه له من وظائف، هذا النوع الكامل من الدولة الشيوعية بما يضمه في دائرته من سلالات ولغات مختلفة استمر فترة طويلة برغم أنه بني على أسس جغرافية واقتصادية ضيقة.

كانت هذه الدول تدعمها جيوش قوية وسلسلة من الحصون لتأمين الخلايا، الوحدات المتعددة المتباعدة التي تكون الإمبراطورية، وكانت هذه الوحدات مرتبطة بالدولة بواسطة تركيب اجتماعي يشابه تجمع النمل، يضاف إلى ذلك شبكة طرق واسعة مثل الطرق الرومانية هي التي ترمز إلى إمبراطورية الأنكا، ويضاف أيضا استخدام لغة Quechua كلغة موحدة، لكن هذا التركيب الوحدوي الضخم قد أعطاهم مظهرا خادعا للتوحيد والترابط والقوة، فلم تنبع منها وحدة حضارية ولا تقليد قومي أو قوى روحية، لقد هلكت هذه الممالك؛ لأنها لم تتخذ مبدأ تطوريا كان يمكن أن يحقن الدولة بقوى جديدة وتغيرات تركيبية جديدة، ولهذا انهارت عند الضغوط الخارجية انهيارا تاما.

إمبراطوريات العصور الوسطى في العالم القديم:

بعد سقوط الإمبراطوريات القديمة نشأ نوع جديد من الدول انبثق أساسا من تحرك الناس في صورة موجات من الهجرات الواسعة، ويختلف تاريخ هذه الدول في أوروبا عنه في آسيا.

في أوروبا ظهرت ممالك عديدة هامشية التنظيم سريعة الانهيار مثل القوط الغربيين الذين تحركوا من جنوب فرنسا تولوز إلى إسبانيا، والقوط الشرقيين الذين دخلوا إيطاليا قادمين من الدانوب، هذه الدول لم تكن قادرة على التطور أو على أن تؤمن

أساسا ثابتا لنموها وبنائها، ومثل ذلك ينطبق على ممالك بورجاندي والأنجلو ساكسون، وكل منها كان يريد أن يمد جذوره إلى الدولة الرومانية وما خلفته من أسس للإدارة والحكم في الميدانين الديني والعلماني، وقد كونت في هذه الممالك عدة خلايا ووحدات طفيلية غير قادرة على استيعاب مواردها الاقتصادية أو الإبقاء على هذه الموارد، ولا على سكانها الأصليين، وذلك لعدم وجود جيش كاف.

ولقد اختفت بسرعة كل القوى والدول الجرمانية في حوض المتوسط بعد غزواتها السريعة للمنطقة؛ لأنها كانت عبارة عن إضافات اصطناعية لمنطقة حضارية لم تكن مستعدة لتقبلهم وهضمهم، وهكذا أيضا كان حال دول الصليبيين في الشرق.

أما في آسيا فقد نشأت دول أكثر استقرارا وأهمها دولتان ذواتا دوام طويل، كما لو أن تقليد الدول الكبيرة قد بقي بين سكان آسيا من خلال البقاء الطويل للدولة الرومانية الشرقية-البيزنطية، ووراء حدود بيزنطة نجح المسلمون في بناء الدولة على المفاهيم الشرقية التي نشرت التعاليم الإسلامية من الملايو وإندونيسيا إلى أواسط أفريقيا، ومن المحيط الهندي إلى أواسط آسيا، هذا البناء السياسي الجديد الذي ما زالت أسسه تعيش معنا قد ارتبط أوثق ارتباط بالخلفيات الدينية، وقد خرج العرب من الجزيرة في اتجاهين عارمين مسلحين بالدعوة الدينية الاجتماعية الجديدة: في اتجاه بلاد فارس ووسط آسيا والهند، وفي اتجاه مصر وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا وفرنسا، وبذلك تمت السيادة على نظم التجارة الدولية وطرقها البرية والبحرية، وصحيح أن العرب البدو كانوا طليعة هذا التوسع إلا أن استقرار الدولة الإسلامية لم يتم إلا بناء على إعادة الحياة الاقتصادية الزراعية ومشاريع الري والعمران المدني، وفتح طرق التجارة وبناء الأساطيل.

وبرغم أن دولة الخلافة وخاصة العباسية قد اقتبست الكثير من نمط الدولة الشرقية في فارس ومقدونيا، إلا أنها أضافت عنصرا سياسيا جديدا، فقوتها كان مصدرها موقعها الطبيعي بين سهول ووديان البحر المتوسط والصحراء؛ مما أدى إلى توقف غارات البدو التي كانت تقلق الممالك القديمة، ذلك لأن البدو وجدوا أنفسهم جزءا من هذه الدولة، أو هم الذين أسهموا في إنشائها بالنصيب الأوفر، وظلوا حماة هذه الدولة مع ضم التركمان البدو أيضا، وبذلك فإن الدولة العربية عامة هي أول وأقدم تجميع لمجموعتين بشريتين متعاونتين بحكم أسس حياة كل منهما: الرعاة والزراع.

لكن هذا التكامل لم يكن قويا لمدة طويلة، وبذلك عادت المناطق النائية إلى الثورات والانفصال، وظهرت دول صغيرة في أوقات مختلفة.

وفي خارج الدولة الإسلامية الكبيرة الشرقية أو الأندلسية نشأت ممالك أخرى إسلامية مبنية على أسس من التركيب الإقطاعي وحياة المدن: ممالك في نطاق السفانا الأفريقي كالفنج وغانا ومالي وستفاي الفولاني، وممالك محلية: الموسى والماندنجور والبورنه وكانم وباجرمي وواداي ودارفور، وممالك تأثرت بالهجرات والحركات السكانية وبعض التعاليم الإسلامية كالأشانتي واليوربا. وفي آسيا نشأت سلطنات عدة بعد انهيار الخلافة العباسية: سلطنات مكسر وجوا Sula wesi Gowa التي انتشرت من لمبوك وزمباوا وقلورس خلال القرن 16-17.

سقطت خلافة بغداد أمام تيار المغول الذين أنشئوا آخر دولة كبيرة قارية الشكل في العالم القديم، ورثتها في الضخامة والاتساع الدولة التركية التي نشأت على أنقاض بيزنطة واحتوت العالم الإسلامي في غرب آسيا وشمال أفريقيا وحوض المتوسط، وكان نظام الدولتين المغولية والتركية قائما على القوة العسكرية وليس له جذور قوية في الأرض أو الناس، وبذلك تحول الترك إلى حكام وإداريين لحياة قبلية أو مجتمعات محلية ذات صبغات قومية قديمة، وقد أدى ذلك إلى تدمير جذور الدولة العثمانية بانفصال الوحدات السياسية الذاتية الواحدة تلو الأخرى.

وفي أوروبا كان التطور السياسي مختلفا، فعلى أنقاض الدولة الرومانية بدأت إقامة الدولة على أسس القوميات بسرعة، معطيا قيمة للدولة بارتباطها بتراث حضاري سيكولوجي واقتصاد مؤسس على أرض الأسلاف والوطن واهتمامات بتطوير الاقتصاد ونظمه، وبرغم شكل إيطاليا الجغرافي كشبه جزيرة ذات حدود واضحة إلا أنها بقيت لفترة طويلة مقسمة مجزأة، القسم الشمالي أصبح جزءا من الإمبراطورية الجرمانية، بينما ظل القسم الجنوبي لفترة طويلة تحت حكم بيزنطة، وإسبانيا هي الأخرى ظلت تحت تأثير الإسلام جزئيا، وكونت مناطق العزلة الجبلية الشمالية في أستوريا وتافارا وأراجون وكاستيل قشتالة وليون عدة إمارات مسيحية، ولم ينجحوا في توحيد شبه الجزيرة وطرد المسلمين إلا بعد قرون، ومع ذلك انقسمت إلى دولتين.

أما فرنسا فكانت أسرع الدول في تكوين دولة قومية في انتظام، فعلى عكس الدول التي أقامها البرابرة نجد قبائل دولة الفرانك الفرنجة تقيم روابط قوية بالأرض التي نشأت عليها، مثلا أسرة Pepin نشأت في منطقة الميز، كذلك حافظ الفرنجة على روابط وثيقة مع الحضارة الغالية الرومانية والاقتصاد المديني في العالم الروماني، وكانت التوسعات السياسية لدولة الفرنجة غير قائمة على الغزو العسكري  فقط، بل مبنية على استعدادات مسبقة بواسطة بناء وحدات من الاستقرار الميروفيني Merovingian داخل بلاد الغال، ويفسر هذا التحول السريع للفرنجة إلى المسيحية التي ربطت الغالب والمحكوم معا، ويمكن دراسة التطور السياسي للفرنجة: في البداية عند نشأة القوة الميروفينية أمنت الحكم طبقة من الفلاحين الأحرار، وفي ظل حكم الكاروليني تحولت الطبقة الحاكمة إلى أرستوقراطية علمانية أو دينية لها صفة ملاك الأراضي من الطبقة المتوسطة، وخلال التطور البطيء للفرنجة حصل انشقاق واضح بين الأقاليم الرومانية الصبغة مثل Neustria وبرجاندي في جانب والأقاليم الجرمانية الصبغة مثل Austrasia وظهر الاختلاف السلالي في الشئون السياسية بوضوح في تخطيط الحدود في الأقاليم، ففي الشرق وسط أوروبا ظهرت دويلات سريعة وانهارت، بينما ظلت الدولة لفترة طويلة في الغرب والشمال، وقوي بذلك عنصر سياسي أعد فرنسا لتنفصل عن ألمانيا وإيطاليا. وبين هذه القوى ظهرت دول حاجزة مؤقتة مثل مملكة برجندي والرل في الأوقات التي تصبح فيها الاختلافات القومية صريحة وجادة.

وتلخص هذا بأن الجغرافيا السياسية يجب أن تدرس على ضوء التاريخ، فإننا نكسب صورة مبسطة ومجردة بمقارنة الدولة بالكائن الحي الذي يولد ويعيش ويموت، وله احتياجات ضرورية، فظروف الحياة في الدول الكبرى تقوم تبعا للمستويات المادية والخلقية للمجموعات البشرية والتنظيم العام لعلاقات الناس وحياتهم على سطح الأرض في الأوقات المختلفة، والحقيقة أن كل البشرية يمكن مقارنتها بالكائن الحي، والدولة ليست سوى وسيلة مؤقتة تتغير بتغير الظروف، ووظيفتها في أحيان تأمين السلامة وحماية الوراثة العامة، وفي أحيان أخرى المساعدة على نشر تركيب مادي أو روحي غني (التراث).

الدول الحديثة :

في الشكل المركب السياسي الاقتصادي الحالي نجد ظروفا مختلفة تماما عن تلك التي سارت في الماضي والعصور الوسطى، فالدولة الحديثة لديها احتياجات جديدة وطرق أخرى لتغطية هذه الاحتياجات مختلفة عما كانت عليه الطرق في الماضي.

فبعض الدول الحديثة تحتل كتلا قارية ضخمة وتشغل مساحات شاسعة داخل حدودها بما فيها من الموارد اللازمة للأمم الكبرى، مثال ذلك الاتحاد السوفيتي والصين، لقد بدأت الصين تبني نفسها في صورة دولة موحدة في القرن الثالث ق.م حينما بدأ أباطرة أسرة هان Han في توحيد أقاليم هوانج هو وياتجنسي كيانج وسيكبانج تحت حكمها، وبذلك جمعوا في دولتهم محاصيل النطاق المعتدل القمح في الشمال ومنتجات النطاق المداري الأرز والحرير والسكر في الجنوب، وداخل الصين التي كان يحميها السور العظيم في الشمال، أخذ السكان يتنافسون في إنتاج الأرض ويطلبون المزيد من أراضي الزراعة، وكان هذا سهل المنال في النطاق الهامشي بالنسبة لآسيا؛ فأخذ الصينيون يكدحون لإنشاء حقول جديدة في منغوليا الداخلية ومنشوريا، وقد بلغ المهاجرون الصينيون إلى منشوريا أكثر من أربعين في السنوات ال (35) الماضية، وبرغم تحافظ على كل أراضيها التي تمتد في مساحة تبلغ قرابة ٩٫٨ مليون كم ٢ تحت حكم موحد حتى اليوم.

وحياة هذه الدولة تمثل ظاهرة غير طبيعية، فهي تمتد فوق مساحات من النطاقين المعتدل والمداري، نطاقات ممطرة وأخرى شديدة الجفاف، وتشتمل على هضاب وسهول وأنهار عريضة طويلة وأودية نهرية ضيقة ومستنقعات دلتاوية شاسعة وتلال مليئة بالغابات، وتشتمل على عدد كبير من السلالات المغولية الفرعية التي تتكلم لغات مختلفة، ولكن الدولة الصينية قد بنيت على أساس واحد جمع كل هذه المتفرقات: فكرة الوحدة الحضارية. ولقد بقيت الصين حتى اليوم مجتمعا زراعيا شاسعا ريفيا بكل معنى الكلمة، شديد المحافظة، وأحسن مثال لذلك أن الكتابة الصينية — التي ترمز إلى الشيء وليس إلى الكلمة — قد ساعدت السكان على أن يتبادلوا أكثر الأفكار تجريدا وحساسية وأعمق المعاني، وأن يقرءوا نفس الكتاب دون أن يستطيعوا فهم لغة بعضهم المنطوقة.

هذا الترابط الغريب قد قوي أكثر وأكثر بعد ١٩٤٩ نتيجة وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم، الذي كان يحلم بخلق دولة (ديكتاتورية) جماعية يمكن ان يوجه فيها نشاط كل الناس من قوى مركزية، ولكي ينفذ هذا البرنامج حصل الحزب على كل الصناعات الكبرى لكي يتحكم في الإنتاج ويعطي العمالة للناس، وتنتج الصين كميات ضخمة من المحاصيل الزراعية؛ فهي أكبر منتج للأرز في العالم وأول أو ثاني دول العالم في إنتاج القمح، ومع ذلك تكاد لا تكفي الاستهلاك الداخلي لسكانها الذين يبلغون حوالي ٦٥٠ مليونا، وإلى جانب إنتاج عال للقطن والحرير، تمتلك الصين بعض عناصر الصناعة الكبيرة، وعلى الأخص مواردها الهائلة من الفحم الذي لم يكد يمس بعد إنتاج ١٩٥٨ كان ١٥٠ مليون طن، ارتفع إلى ٤٢٠ عام ١٩٦٧.

أما الاتحاد السوفيتي فقد نشأ عن ضم عدة إمارات في النطاق الغابي من وسط روسيا، وأصبح اليوم أضخم دولة في العالم مساحة، تمتد كالقارة من البلطيق إلى الباسيفيك، ومن البحر الأسود إلى المحيط الشمالي، في مساحة تزيد قليلا عن ٢٢ مليون كم ٢ منها ٦ ملايين كم ٢ تندرا وغابات ويحتوي على ٢٤٠ مليونا من الناس من سلالات عدة يتكلمون ١٤٠ لغة رسمية، يكون الروس ٥٨ ٪ من السكان. والاتحاد السوفيتي سياسيا يتكون من اتحاد عدد من الجمهوريات والجمهوريات الذاتية، في داخلها يصبح الناس أحرارا في الإبقاء على لغتهم وتقاليدهم وطرق حياتهم، والرابطة التي توحدهم تبدو في ممثلي الحزب (الوطني) الشيوعي الذي يرأس كل الحكومات المحلية وعضو في الهيئة المركزية في موسكو.

فمنذ ١٩٢٥ أخذت الدولة على عاتقها التعرف على مساحتها الشاسعة ومواردها واستغلالها، وقد وجدت في سيبيريا أراض جيدة لزراعة الحبوب والقطن، ومراع لتربية الماشية ومناجم كبيرة للذهب والحديد والفحم والبترول ومعادن أخرى عديدة، وهي واحدة من أكبر اثنين في إنتاج القمح في العالم، وتفوق الدول في إنتاج سكر البنجر، وتلي الولايات المتحدة USA في إنتاج الفحم والمعادن الحديدية، وثالثة دول العالم في الألومنيوم، والثالثة أو الرابعة في إنتاج البترول، وهكذا تمتلك من الموارد ما يمكنها من الانعزال عن العالم إذا رغبت في ذلك، ولا تزال التجارة السوفيتية محدودة، وتستهلك كامل إنتاجها من القمح الذي كان الصادر الأول في العهد القيصري، وتصنع منسوجاتها من مواردها المحلية، وكانت لفترة مستوردة للآلات، ولكنها اليوم تمتلك صناعة معدنية قوية، يمكنها أن تغطي احتياجاتها من الجرارات الزراعية والقاطرات والقضبان الحديدية والطائرات والسيارات، وبدأت تجد لها سوقا لبعض هذه المنتجات الصناعية، وتعتمد الدولة على قوتها الاقتصادية لتحسن تجارتها الدولية أكثر من محاولة مد نفوذها السياسي.

ولقد أدى إنشاء الدول الشيوعية جمهوريات الشعب الديموقراطية في أوروبا الشرقية والصين إلى تسهيل التبادل التجاري السوفيتي مع هذا الجزء من العالم، ويمكنها ان تحصل على الفحم من (بولندا) والبترول من (رومانيا وهنغاريا) ومصنوعات (تشيكوسلوفاكيا)، وتجد سوقا لمنتجاتها الحديدية والصلب في الصين، ولو كانت قد استطاعت أن تجذب الصين إلى اتحادها، لكنا قد شهدنا أكبر وأقوى دولة قارية في التاريخ.

وقد كان نموذج يوغسلافيا دليلا على أنه بالإمكان اتباع المبادئ الشيوعية دون الاندماج في نفوذ الاتحاد السوفيتي الاقتصادي، ولقد قلت الروابط الاقتصادية الملزمة بين الاتحاد والدول الأوروبية الشرقية في السنوات الأخيرة، كما أن الصين تتقدم بخطى هائلة نحو التصنيع والإنتاج الصناعي، ويمكنها أن تنافس السوفيت في سوق الشرق الأقصى بسهولة، وهو بذلك يضع حدا للتوسع السوفيتي.

وتعطينا الولايات المتحدة نموذجا آخر للدول الاتحادية وتوسعها، فحتى ١٧٩٠ كانت هناك الولايات الثلاث عشرة التي استقلت عن بريطانيا، وكلها على الساحل الشرقي يحدها غربا سلسلة الأبلاش ووادي أوهايو، ثم أخذت تتوسع تدريجيا فوصلت إلى المسيسبي في ثلاثين عاما، ومن ثم إلى الباسيفيك في ستين سنة أخرى، وقد تم ذلك بخلق (35) ولاية جديدة تحدها حدود هندسية، سبع منها كانت أجزاء من المكسيك، وقد ظلت الدولة تتكون من (48) ولاية حتى ١٩٤٥ حين ضمت هاواي وألاسكا، وهكذا نجد الدولة تشغل رقعة تبلغ مساحتها ٧٫٨ ملايين كم ٢ منها أكثر من خمسة ملايين كم ٢ في صور كتلة أرضية متصلة، ويشغلها أكثر من مائتي مليون شخص معظمهم نتيجة تاريخ طويل نسبيا من الهجرة المفتوحة من الدول الأوروبية بين ١٨٨٠ و ١٩١٤ قاموا بعمليات الاستيطان الهائل الزراعي والرعوي والصناعي، ونتيجة لهذا تتصدر الولايات المتحدة العالم في معظم أشكال الإنتاج: الفحم والحديد والبترول والنحاس والقطن والحبوب، وكميات كبيرة من اللحوم والألبان والسكر والفواكه، وقد سمحت هذه الموارد الضخمة بأن تعتمد الدولة على نفسها وبدون تفكير في الاقتصاد من ثروتها الهائلة، وحتى عام ١٨٩٠ كانت الدولة منكبة على أمورها لا تعنيها أحداث العالم الخارجية كثيرا باستثناء منع أوروبا من الحصول على مستعمرات أو على أي نفوذ اقتصادي في القارة الأمريكية.

لكن في الخمسين سنة الماضية أصبحت أمريكا دولة صناعية كبيرة، وكان عليها أن تنظر في الخارج إلى الأسواق، كما كان عليها أن تبحث في الخارج عن عدد من الخامات والمواد الأولية مثل المطاط والقصدير والبترول، وقد أدى هذا الاتجاه لتدعيم روابطها التجارية مع مناطق الكثافة السكانية والأسواق الكبيرة في الشرق الآسيوي، فضلا عن أمريكا اللاتينية غير الصناعية، رغم أن مستوى حياتها المدنية يؤهلها لأن تصبح سوقا رائجة للمصنوعات الأمريكية.

وأدت هذه الاتجاهات إلى تأمين مركز وخطوط التجارة مع أمريكا الجنوبية، واشترت جزءا من الدانمرك في الأنتيل وحفرت قناة بنما على أرض تنازلت عنها جمهورية بنما، وقد ساعدت هذه القناة الأمريكيين على أن يفرضوا سيادتهم واحتكارهم على التجارة التي كانت بريطانيا تحتكرها مع كولمبيا وإكوادور وبيرو وشيلي. تضاعفت تجارة أمريكا مع أمريكا الجنوبية خمس مرات خلال ربع القرن الماضي واستثمرت البنوك الأمريكية رءوس أموال ضخمة في المزارع الاحتكارية (بن – كاكاو – فواكه) والمناجم والمصانع والسكك الحديدية، وشبكة الطيران الأمريكية كثيفة واحتكارية حول أمريكا الجنوبية. ولقد اقترحت أمريكا أكثر من مرة دمج كل دول الأمريكتين في اتحاد اقتصادي، ومثل هذا يؤدي إلى إنشاء اتحاد أمريكي هائل تكمل فيه أمريكا الجنوبية بإنتاجها المداري والحيواني والزراعي التكامل الاقتصادي الأمريكي المعتمد على أشكال الإنتاج الأرضية في الأقاليم المعتدلة + مركز الثقل الصناعي فيها، وبذلك فإن هذا التكامل يخدم المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية أكثر من غيره.

أما الارتباطات السياسية الكبيرة كالكومنولث والكومينيثيه فإنهما قد حلا محل الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، وفي نهاية القرن ١٩ كانت المستعمرات وأصحابها تكون ٤٢ ٪ من مساحة الأرض و ٣٩ ٪ من سكانها ٢٢ مليون ميل ٢ و ٨٥٠ مليون شخص. ونظام إمبراطورية الاستعمار يختلف كثيرا عن الدول القارية الكبرى: الصين وأمريكا والاتحاد السوفيتي؛ إذ إنه كان يضم أراضي في أية أحجام من (ميناء واحد) (جبل طارق – عدن) إلى قارات بأكملها أستراليا وكانت المستعمرات مبعثرة في كل قارات العالم وتبتعد أية مسافات عن الدولة صاحبة المستعمرات، وكانت هذه الممتلكات تنقسم إلى نوعين:

النوع الاستيطاني: الذي يستوطن فيه مهاجرون من أصل أوروبي كأستراليا وكندا وجنوب أفريقيا.

النوع الاستغلالي: الذي يسكنه شعوبه الأصلية ويدار استغلال موارده وسكانه من اجل الدولة الأصلية مثل الهند، وكانت أكبر وأغنى المستعمرات في العالم هي تلك التابعة لبريطانيا وفرنسا وهولندا، وكانت تشترك في صفة واحدة هي أن المستعمرات كانت أكبر بكثير من الدولة صاحبة المستعمرات، وتركزت المستعمرات الفرنسية في أفريقيا والهولندية في آسيا والإنجليزية انتشرت في كل القارات.

وقد تقسمت هذه الإمبراطوريات فيما بعد بواسطة الثورات الوطنية وبوصول بعض المستعمرات المستوطنة إلى مرحلة الدومنيون مثل كندا وجنوب أفريقيا وأستراليا، ولقد تأثر الكومنولث من هذه التحولات التي أحاطت بكل المستعمرات، وكانت الرابطة البحرية هي التي اعتمدت عليها بريطانيا في ضم هذه الرابطة: خطوط بحرية منتظمة وقواعد استراتيجية في الجزر أو المضايق ومحطات للبرق والفحم، وتنقسم هذه الرابطة سياسيا إلى خمسة أقاليم دومنيون استقلت فيما بعد إلى دول ذات سيادة، ودول ذاتية الحكم كاتحاد ماليزيا وسيرلانكا، ومستعمرات تحت الإدارة البريطانية المباشرة، ولقب ملك بريطانيا تنازل عن لقب إمبراطور الهند  لم يكن معترفا به في كل دول الكومنولث، وهي فعلا رابطة حرة بين دول ذات سيادة، ويعقد في لندن أو أي مدينة كبرى اجتماعات دورية يحضرها ممثلو دول الكومنولث ويرأسها واحد من رؤساء الوزارات، وذلك لدراسة المشكلات الخاصة بالدفاع والتراث المشترك.

ومنذ ١٩٥٨ تحول الاتحاد الفرنسي إلى الرابطة الفرنسية، وفيما قبل الحرب كانت الإمبراطورية الفرنسية تشتمل على عدد من المحميات، دول وطنية احتفظت بأشكال الحكم فيها، لكن يسيطر عليها المقيم الفرنسي، مثل تونس والمغرب وكمبوديا وأنام ولاووس، وقد تحولت هذه المحميات بشيء من السهولة إلى دول مستقلة مع الاحتفاظ بروابط قوية ثقافية واقتصادية مع فرنسا، وكان هناك أجزاء أخرى من الإمبراطورية الفرنسية في صور مختلفة سياسيا، بعضها أصبح أجزاء من محافظات فرنسا عبر البحار، سكانها لهم نفس حقوق الفرنسيين، وبعضها كان يصطبغ بالحكم الذاتي في درجات مختلفة، وأيا كان الشكل السابق فكل هذه الأقاليم قد اختارت الانضمام إلى الرابطة الفرنسية باستثناء غينيا التي انفصلت عنها.

وتنص لوائح الرابطة على أن رئيس الجمهورية الفرنسية هو أيضا رئيس الرابطة وإنشاء مجلس منتخب دائم للرابطة مقره باريس، بينما تعقد مؤتمرات دورية مشابهة لمؤتمرات دول الكومنولث في إحدى عواصم الرابطة ويحضره رؤساء وزارات الدول أو ممثلوهم. ويرى بعض الكتاب أن الرابطة الإنجليزية أو الفرنسية كانت حلا موفقا، جمعت بين الرغبة في الاستقلال من جانب المستعمرات والإبقاء على العلاقات الوثيقة الاقتصادية والسياسية، وبهذا نجد فارقا بين تقطع أوصال الإمبراطوريات القديمة والحديثة، ويجب أن نضيف إلى ذلك أن علاقات العالم بعد الحرب الثانية وظهور قوى جديدة في الاتحاد السوفيتي والصين والولايات المتحدة وأدوارها في العلاقات الدولية قد ساعد على سرعة استقلال المستعمرات + تطورها الاقتصادي الذاتي، تضاف إلى ذلك رغبة بريطانيا وفرنسا في الإبقاء بصورة أو أخرى على حمايتها لهذه الدول الجديدة ومعظمها دول متخلفة ونامية.

وعلى العموم فإن مجالات النفوذ الاقتصادية في الدول الحديثة لم تعد قاصرة على العلاقات القومية الضيقة، بل تعدتها في غالب الأحوال إلى علاقات أبعد من الحدود السياسية للدول الأم ولمستعمراتها، وفي وقتنا الحاضر تسيطر المصالح الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية على الحياة السياسية للدولة أو الاتحادات الدولية، ولم يعد من المستطاع ضم أراض جديدة للحصول على ثرواتها، إن التوسع الاقتصادي يجلب منافع أكثر ومشاكل أقل من الغزو السياسي أو العسكري، ويسهل هذا التوسع الاقتصادي اتجاه كل أشكال الصناعة في الدول الحديثة إلى فرض قواها الاحتكارية على سلع معينة مع استمرار رقابتها وتحكمها على الخامات الأساسية لهذه السلع وعلى وسائل إنتاجها تصنيعا، وأخيرا هيمنتها وسيطرتها على السوق.

وعلى هذا الشكل تنشأ الكارتلات والاحتكارات الاقتصادية التي تجمع في يديها السيطرة ورأس المال اللذين هما في أغلب الأحيان أعلى من سلطان الدولة، مثلا واحدة من أكبر الاحتكارات الدولية هي هيئة الصلب الأمريكية Steel Corporation تجمع كل وسائل إنتاج الصلب: حقول الفحم – مناجم الحديد – مصانع الكوك – أفران صهر الحديد – معامل الدرفلة – معامل صنع الأنابيب + خطوط حديدية وقنوات وموانئ خاصة بحرية ونهرية، تستخرج ٤٦ ٪ من خام الحديد الأمريكي، تصنع ٣٨ ٪ من الحديد الزهر، و ٤٠ ٪ من الصلب الأمريكي.

ويجد الإنسان احتكارات أخرى كبيرة في شتى المجالات الصناعية والاقتصادية، ففي مجال إنتاج البترول وتصنيعه نجد شركات شل (رويال داتش) (أنجلو داتش) وستاندرد (أمريكا) تمتلك حقول بترول في كل أرجاء العالم وشبكة من الأنابيب وأساطيل من الناقلات، وفي مجال الإنتاج تحتكر المجموعات الأمريكية ٧٠ ٪ وشل ١٨ ٪، وتمتلك شركة فورد للسيارات مصانع للسيارات في دول عديدة خارج أمريكا، بالإضافة إلى امتلاكها مزارع مطاط في أمريكا الجنوبية وأفريقيا الغربية، وتمتلك شركة الفواكه المتحدة الأمريكية مزارع ضخمة من الأناناس والموالح والموز في بيرو وإكوادور وفنزويلا وجزر الهند الغربية وأمريكا الوسطى، وتسيطر بأسطولها وشبكتها التلغرافية على أمريكا الوسطى كلها.

لا يوجد في العالم جزء بعيد عن نفوذ الأعمال الاحتكارية التجارية، وتملك الدول الصناعية كل تسهيلات إنشاء المصانع والموانئ والسكك الحديدية في البلاد النامية، ويمكنها أن تبيع وتشتري وتصنع السلع تحت الظروف المناسبة لها، مثلا أنشأت شركة ستاندرد عدة معامل تكرير ضخمة في فرنسا، بينما أنشأت شركة فورد مصانعها في ضواحي لندن وباريس.

وحتى الحرب العالمية الأولى كانت الدول الكبرى تتنافس في إنشاء السكك الحديدية في أراضي الدولة العثمانية (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا)، وفي الصين (اليابان وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة)، وفي منشوريا (روسيا واليابان)، واليوم نجد البنوك الكبرى في أمريكا هي التي تمول شركات الطيران في كافة دول أمريكا الجنوبية.

وقد أدت هذه الاحتكارات والمصالح إلى ربط الدول المختلفة وتجميع ميولها وأهدافها — رغما عنها أحيانا — في طريق واتجاه موحد، وبدلا من المنافسة نجد التعاون والعمل المشترك بين الدول في استغلال موارد معينة، وقد أصبحت الدول شديدة الاعتماد على بعضها بهذه الطريقة لدرجة أن أي حرب بينها ستكون مدمرة للمنتصر أكثر من المهزوم.

وبرغم ذلك فإن تجميع الموارد على المستوى العالمي لم نصل إليه بعد، ولا يزال التجميع قاصرا على عدة كتل اقتصادية ذات ارتباطات وثقل سياسي وإقليمي إلى حد بعيد، مثل ذلك كتلة البنلوكس Benelux التي تربط بين بلجيكا وهولندا ولكسمبورج، أو منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي Organization for European Economie Cooperation (O. E. E. C) ومجتمع الفحم والصلب الأوروبي European Goal and Steel Community (E. G. S. C). ومجموعة دول السوق الأوروبية التي تتكون من فرنسا وإيطاليا وألمانيا ولكسمبورج وبلجيكا وهولندا، وينتظر أن ينضم إليها بريطانيا والدانمرك، وقد سعت إلى توسيع التعاون الاقتصادي إلى ما وراء الصناعات المعدنية كالنقل والتجارة العامة بواسطة السوق المشتركة.

ويمتد التعاون الاقتصادي الدولي إلى آفاق أخرى غير الجوانب الاقتصادية، مثلا من أجل التقدم في عمليات الطرق الحديدية نجد مجموعات الاتحاد الدولي للسكك الحديدية مجموعة تنتمي إلى ٣٧ دولة في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، وكذلك نجد إكسبريس عبر أوروبا T. E. E. ينظم النقل السريع عبر حدود ثماني دول أوروبية من أوسلو في الشمال إلى جنوا وروما في الجنوب، ويمتد التعاون الدولي إلى النقل الجوي حيث نجد رابطة النقل الجوي الدولي Int. Air Traffic Assoc والمنظمة الدولية للطيران المدني Int. Org. Civil Aviation ولهما لوائحهما التي تلتزم بها ٦٤ دولة.

وتعكس هذه التنظيمات الدولية، على المستوى الاقتصادي، المجهودات المبذولة على المستوى السياسي للأمم المتحدة، وهي في حد ذاتها محاولة لإنشاء برلمان فوق القومية.

وبينما يؤكد الساسة والاقتصاديون أن الدول التي تنتمي إلى هذه المؤسسات الدولية تفقد بعض حقوق سيادتها، إلا أن مثل هذا الأمر يجب ألا يخيف الدول من فقدانها استقلالها أو وحدتها القومية، وقد قال أحد الجغرافيين الإنجليز — مع قليل من الفكاهة إن المدن يمكن أن تتشابه في نظم إنارتها ووسائل النقل الداخلي فيها وأشكال الخدمات، ولكن لن يؤدي ذلك إلى أن يرتدي سكانها ذات اللباس ويأكلوا نفس الطعام ويستمتعوا بنفس أشكال الترفيه.