الإسلام ينشد السعادتين المادية والمعنوية معا
المؤلف:
الشيخ ماجد ناصر الزبيدي
المصدر:
التيسير في التفسير للقرآن برواية أهل البيت ( عليهم السلام )
الجزء والصفحة:
ج 2، ص109-112
2025-12-03
38
الإسلام ينشد السعادتين المادية والمعنوية معا
قال تعالى : {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [النساء : 132 - 134].
أقول : لقد أوضحت الآية السابقة أن إذا اقتضت الضرورة لزوجين أن ينفصلا عن بعضهما دون أن يجدا حلا بديلا عن الانفصال فلا مانع من ذلك ، وليس عليهما أن يخافا من حياة المستقبل لأن اللّه سيشملهما بكرمه وفضله ، ويزيل احتياجاتهما برحمته وبركته.
أما في الآية - موضوع البحث - فإن اللّه يؤكد قدرته على إزالة ورفع تلك الاحتياجات لأنه مالك ما في السماوات وما في الأرض {وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} وإن من يملك ملكا لا نهاية له كهذا الملك ، ويملك قدرة لا نفاذ لها أبدا ، لن يكون عاجزا - مطلقا - عن رفع احتياجات خلقه وعباده.
ولكي تؤكد الآية ضرورة التقوى في هذا المجال وفي أي مجال آخر ، تشير الآية إلى أن اليهود والنصارى وكل من كان له كتاب سماوي قبل المسلمين ، قد طلب منهم جميعهم كما طلب منكم مراعاة التقوى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ }.
بعد ذلك تتوجه الآية إلى مخاطبة المسلمين ، فتؤكد لهم أن الالتزام بحكم التقوى سيجلب النفع لهم وأن ليس للّه بتقواهم حاجة ، كما تؤكد أنهم إذا عصوا وبغوا ، فإن ذلك لا يضير اللّه أبدا ، لأن اللّه هو مالك ما في السماوات وما في الأرض ، فهو غير محتاج إلى أحد أبدا ، ومن حقه أن يشكره عباده دائما وأبدا {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً }.
الغنى وعدم الحاجة هما من صفات اللّه سبحانه وتعالى - حقيقة - لأنه عزّ وجلّ غني بالذات ، وارتفاع حاجات غيره وزوالها إنما يتم بعونه ومدده ، وكل المخلوقات محتاجة إليه احتياجا ذاتيا ، لذلك فهو يستحق - لذاته - أن يشكره عباده ومخلوقاته ، كما أن كمالاته التي تجعله أهلا للشكر ليست خارجة عن ذاته ، بل هي كلها في ذاته ، وهو ليس كالمخلوقات التي تمتلك صفاتا كمالية عرضية خارجية مكتسبة من الغير.
وفي الآية التالية جرى التأكيد - وللمرة الثالثة - على أن كل ما في السماوات وما في الأرض هو ملك للّه ، وإن اللّه هو الحافظ والمدبر والمدير لكل الموجودات {وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا}.
وقد يرد سؤال - هنا - عن سبب تكرار موضوع واحد لثلاث مرات وفي فواصل متقاربة جدا ، وهل أن هذا التكرار من أجل التأكيد على الأمر الوارد في هذا الموضوع ، أم هناك سر آخر ؟
وبالإمعان في مضمون الآيات يظهر لنا أن الموضوع المتكرر ينطوي في كل مرة على أمر خاص : ففي المرة الأولى حيث تحمل الآية وعدا لزوجين بأنهما إذا انفصلا فإن اللّه سيغنيهما ولأجل إثبات قدرة اللّه على ذلك ، يذكر اللّه ملكيته لما في السماوات وما في الأرض.
أما في المرة الثانية فإن الآية توصي بالتقوى ، ولكي لا يحصل وهم بأن إطاعة هذا الأمر ينطوي على نفع أو فائدة للّه ، أو أن مخالفته ينطوي على الضرر له ، فقد تكررت الجملة للتأكيد على عدم حاجة اللّه لشيء ، وهو مالك ما في السماوات وما في الأرض.
وهذا الكلام يشبه في الحقيقة ما قاله أمير المؤمنين علي عليه السّلام في مستهل خطبة الهمّام الواردة في كتاب نهج البلاغة حيث قال عليه السّلام : « بأن اللّه سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم لأنه لا تضره معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه » « 1 ».
ويذكر اللّه ملكيته لما في السماوات وما في الأرض للمرة الثالثة كمقدمة للموضوع الذي يلي في الآية ( 133 ) ، ثم يبين - عز من قائل - إنه لا يأبه في أن يزيل قوما عن الوجود ، ليأتي مكانهم بقوم آخرين أكثر استعدادا وعزما وأكثر دأبا في طاعة اللّه وعبادته ، واللّه قادر على هذا الأمر{ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً }.
وفي تفسير « التبيان » وتفسير « مجمع البيان » نقلا عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنه حين نزلت هذه الآية ربت على كتف سلمان الفارسي وقال بأن المعنى بالآخرين في الآية هم قوم من بلاد فارس...
والآية الأخيرة من الآيات الأربع الماضية ، ورد الحديث فيها عن أناس يزعمون أنهم مسلمون ، ويشاركون في ميادين الجهاد ، ويطبقون أحكام الإسلام ، دون أن يكون لهم هدف إلهي بل يهدفون لنيل مكاسب مادية مثل غنائم الحرب فتنبه الآية إلى أن الذين يطلبون الأجر الدنيوي إنما هم يتوهمون في طلبهم هذا ، لأن اللّه عنده ثواب الدنيا والآخرة معا { مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ }.
فلماذا لا يطلب - ولا يرجو - هؤلاء ، الثوابين معا ؟ ! واللّه يعلم بنوايا الجميع ، ويسمع كل صوت ، ويرى كل مشهد ، ويعرف أعمال المنافقين وأشباههم ، {وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً}.
وتكرر هذه الآية الأخيرة حقيقة أن الإسلام لا ينظر فقط إلى الجوانب المعنوية والأخروية بل أنه ينشد لأتباعه السعادتين المادية والمعنوية معا.
_____________
( 1 ) نهج البلاغة ، الخطبة 193.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة