موعد الزفاف
المؤلف:
د. رضا باك نجاد
المصدر:
الزواج من العقد الى الزفاف
الجزء والصفحة:
ص72ــ81
2025-11-25
42
أتساءل هنا هل من موضوع لم يسبر القرآن أعمق أغواره؟ كلا. والزفاف كذلك، فقد جاء في محكم آياته البينات {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات: 94] أي يسرعون. حقاً ليس هنالك من زمان ومكان يعجل فيه الفتيان والفتيات كما في ليلة العرس.
إن الإسراع للانتقال إلى بيت الزوجية لا يقتصر على هذين الشخصين في ليلة الزفاف بدافع رغباتهما في تلك الليلة بل تعم الحالة المحيطين بكلا العريسين (أقارب العروس والعريس) أيضاً.
الزفاف هو الإسراع والتعجل بدافع قوي تكويني لا يكبح، بدافع نشهد فاعليته التامة لدى جميع المخلوقات: النباتات الحيوانات والانسان كما في سائر أطوار التكامل البشري. والتفتت الشريعة السماوية لأهمية سرعة الانسان في هذا المجال لأنها تعتبر التناكح كالتمتع بنعمة العين والأذن والقلب و... ولا ضير لو حرم الإنسان من لذة التناسل إذ لا يعد ذلك نقصاً له فقد اتخذ كل من الانبياء وخلفائهم لنفسه زوجة ولكن بعضهم لم ينعم بالإنجاب، والنبيان إبراهيم وذكريا (عليهم السلام) خير مثال على ما نقول حيث كانا لفترة طويلة محرومين من نعمة الأبناء حتى شملتهما العناية الربانية ووهبا هذه النعمة.
أما عن عزوبية عيسى فكان مردها أنه أولاً لم يعش سوى (33) عاماً وثانياً كان نصفه الذي ورد جوف والدته مريم منزلاً من السماء، والسماوي لا ينكح ولا يودع بعد وفاته التراب لأن التراب يأخذ كل ما يهب ثانية (وهذا لا يعني أننا يجب أن نتناسى الجانب البشري في وجود النبي عيسى (عليه السلام) فقد أتم دورته الجنينية في بطن أمه مريم).
وتتأتى هذه السرعة التكوينية في الزفاف من انجذاب الجزيئات الموجبة والسالبة للالتحاق ببعضها حسب الانجذاب التشريعي الذي يتحكم في الإنسان والذي يتمتع بدرجة من الأهمية دفعت الحكمة الإسلامية لاعتبار النكاح واجباً على المسلم فيما لو ورد احتمال تدنسه بالإثم في حالة امتناعه عن الزواج. فليس هنالك من قوة يسعها الوقوف بوجه هذه الطاقة التكوينية المتحررة في ليلة الزفاف كما لا يشهد عالم الوجود ما من شأنه تحريم حلال الله أو له شهامة الإدعاء بذلك.
وليلة الزفاف أول عشية يقضي فيها الشاب والشابة وطرهما من التحولات النوعية والكمية إذ يسميان - منذ لحظة دخولهما العش الزوجي المتسنن بقوانين جديدة تتطلبها الحياة المشتركة ـ زوجاً وزوجة ويغديان من الناحية النوعية رجلاً وامرأة ليضفيا على خلقهما بذلك تحولاً كمياً ونوعياً.
هناك ـ أي في ليلة الزفاف - تمنح الأولوية للنوعية دون الكمية، وهنا ـ أي إبان التناسل - تولى الأقدمية للكمية، فذاك انضمام ووصال وهذا انسجام واندماج وحدوي، الزفاف إتحاد والإنجاب وحدة، الزفاف نوعية تثمر عن كمية، الزفاف نية والإنسال تطبيق، هناك تتجسد مظاهر الشهوة الجنسية في طابع الإنجذاب لتعلن هنا أن الحفاظ على النوع البشري مستهدف كذلك. هناك الانفصال عن الأبوين وهنا تقلد وسام الصيرورة إلى الأبوة والأمومة.
الزفاف تأهب لأزفة لاحقة كما سبقه زفاف هيأ الظروف لحالات من النكاح تلته، في الزفاف يستعيض الفتى الدور النسائي لأمه بوجود فتاة إلى جانبه تدعى زوجته، وتبحث الفتاة عن الدور الرجالي لأبيها في حياتها مع فتى أصبح زوجها، وفي الإنسال يبحث كل من الأب والأم عن شخصيتهما المتبلورة في نسلهما القادم الذي يحفظ ذكرهما وإنه لطموح نحو ديمومة الحياة جبلت عليه الفكرة الإنسانية إثباتاً لحقانية المعاد.
في ليلة الزفاف تسجل مجريات الأحداث في سجل الذكريات بينما يدون تاريخ الميلاد في السجلات الحكومية الرسمية. لقد اعتاد آباؤنا وأمهاتنا وأسلافنا على تسجيل تاريخ النكاح في الصفحة الأولى من القرآن وتاريخ ميلاد الأبناء في آخر صفحاته، أي أنهم كانوا يشرعون حياتهم المشتركة بما أنزل به الوحي الالهي ويحفظون ذكرى ميلاد الأبناء عند اختتام الوحي الالهي إيماناً منهم بضرورة التمسك بفحوى الآيات القرآنية والوحي الالهي بغية التحصن بها في هذه المسيرة الخطيرة التي يقطعها الإنسان بين النية والتطبيق والمبادرة للإنسال.
تبدأ ليلة الزفاف بالثناء على الباري تعالى وحمده وقراءة سورة الفاتحة {الحمد لله رب العالمين} وتستهل المبادرة للإنجاب بقراءة المعوذتين (سورتي الفلق والناس) تعبيراً عن التضرع إلى رب الكون ليحفظ ما يهب للزوجين في كنفه ويأمن نسلهما من شر يتأتى من اللسان ويعم على الآخرين جراء تفوه الإنسان بحديث ما ثم يستعيذان بـرب الناس إله الناس من شر الجن والإنس وإضرارهم بالإنسان وتلقينهم إياه لعبادة رب واه وملك كاذب وإله غير واقعي {بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 1 - 6].
نمط تسجيل تاريخ ليلة الزفاف ويوم الميلاد
لقد ارتئيت فوارق بين نمط تسجيل تاريخ ليلة الزفاف وتاريخ يوم الميلاد:
لو كان كلا الأبوين يطمح إلى أن يهبهما الله ذكراً ورزق به ذات يوم، على الأب أن يسارع إلى تسجيل اسم المولود في قرآن أعده ليكون في متناول يده سواء أكان ينتظر قدوم مولوده خلف جدران غرفة الولادة بالمستشفى أو إلى جانب الهاتف في الدار. وهكذا يتم تسجيل اسم المولود أيضاً فيما لو كانت أنثى يطلبها كلا الأبوين إذ يقبّل الأب القرآن وبعد البسملة، أي قول {بسم الله الرحمن الرحيم} يكتب إسم قرة عينه إلى جانب تاريخ ولادته في القرآن ثم يقبله ثانية إجلالاً لمكانته السامية في قلوب المسلمين. ويحبذ اقتناء قرآن جديد عند ولادة الطفل الأول.
وفي الحالة التي يأمل فيها الأبوان ولادة الذكر ويأتي المولود أنثى أو خلافاً لهذا يتوقعان الأنثى ويولد الذكر عليهما إقامة وليمة ولو بسيطة تختص بأفراد العائلة، خاصة عند ولادة أول الأبناء.
وتلوح الطريقة الخاصة التي يدون بها اسم الوليد خلف القرآن إلى الأوضاع التي ولد فيها. لقد تم قبل عدة سنين انتشار كتاب يخص نمط تواقيع الشخصيات البارزة في العالم، لا سيما الساسة منهم، وكان الكتاب يعنى بتحليل التواقيع بشكل ملفت للنظر حيث نرى توقيع هتلر أفقي الطابع عند شعوره بالضيق في بداية حياته المهنية ثم تتجه خطوط توقيعه نحو الأعلى فتميل لتكون عمودية عند استشعاره بقرب إشغاله منصب هندرنيورك وتزداد الخطوط عمودية إبان إندلاع الحرب واحتلال بولندا وهولندا وبلجيكا وفرنسا، وعاد توقيعه تدريجياً إلى طابعه الأفقي السابق بعد شعوره بخيبة الأمل والإحباط في استالين غراد حتى نهاية الحرب.
وبالتمعن في أكثرية التواقيع وتاريخها يمكننا استيعاب حقيقة تطابق هذه التواقيع مع الظروف التاريخية التي اجتازتها آنذاك هذه الشخصيات العالمية، وعلى نطاق أوسع نجد أن تواقيع زعماء المحتلين (وأكثرية السفاكين) تتجه نحو الانفتاح والعمودية بل أن هذه الظروف قد تركت بصماتها على تواقيع مؤيديهم وخدمتهم أيضاً.
إذن يؤول أمر الإنسان حسب القانون الأساس للطبيعة والذي يحكم بوجود الضعيف إلى جانب القوي إلى التأثر بظروف الانتصار أو الهزيمة التي يمنى بها. ومن الحكمة أن نعود هنا إلى القرآن الكريم الذي يتطبع في يوم فتح مكة الدال على ذروة اقتدار المسلمين بالطابع ذاته الذي نزلت به آياته في خضم الحصار الاقتصادي الذي عانى منه المسلمون في شعب أبي طالب وإبان انهيار أوضاع المسلمين إقتصادياً وسياسياً حيث لا نجد أي تباين بين الآيات النازلة في كلا الحالتين مهما بذلنا من مساع، ومرد ذلك هـوا أن الوحي كان ينزل عـلى خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) على مدى الثلاثة والعشرين عاماً وفي أي محل تم فيها نزول الآيات القرآنية، من لدن الذات المقدسة التي لا يعتريها تغيير ولا يؤثر فيها أي طارئ.
ولو اختلف الأبوان في النوع الجنسي المرغوب لديهما تؤجل كتابة اسم المولود وانتقاله من الذهن إلى ظهراني كتاب الله هنيهة ليتحول هذا الوليد المنبوذ إلى مرغوب فيه عند أول ابتسامة ترتسم على شفتيه فتزيل غبار الضيق عن صدر الأبوين وتغرس براعم مودته في قلبيهما.
نعود إلى حديثنا حول تسجيل تاريخ النكاح في ليلة الزفاف:
رغم تسجيل تاريخ النكاح في سجلات عقود الزواج الزاخرة بالآيات الالهية وأحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وآله الطيبين الطاهرين (عليهم السلام)، يرغب المسلمون في كتابة هذا التاريخ في القرآن الكريم أيضاً تيمناً بـ (وقد تضاءل التمسك بهذه العادة حالياً إلى حد بعيد).
قد يدهش القراء أنني أتيت على ذكر تاريخ النكاح وليلة الزفاف معاً وقد سادت العادة في العصر الحالي بفصل ليلة الزفاف عن تاريخ عقد القرآن لفترة زمنية ليست قصيرة تمر بأقسى ما يمكن على الزوجين بينما يدعى أنها بغرض الاستعداد والتأهب وأنها من أجمل أيام حياة الإنسان فبدلاً من التفريغ الثنائي الهادئ لعواطف الزوجين في هذه الفترة تجتاحها أمواج عاتية غير ضرورية من المشاعر المتذبذبة وهي فرصة تسنح أمام الانتهازيين لبث سمومهم في العلاقات المبرمة بين الزوجين والتدخل بشكل غير معقول فيما لا يعنيهم مما يبعث الخلافات بين العريس والعروس.
ان توحيد هذين التاريخين وضم الزفاف إلى تاريخ النكاح أو اقترابه منه يحول دون بروز هذه العراقيل وأنوه هنا إلى الطابع الإسلامي لهذا الكتاب وأنني بصفتي مؤلف هذا الكتاب أؤكد أن المجتمع الذي تسوده الأجواء الاسلامية تضطرم فيه نيران المودة والحب أكثر فأكثر بـيـن الزوجين في فترة العقد إلى جانب إفساحها المجال أكثر فأكثر لسعاية الغاوين، ولهذا أباح الإسلام كلا الحالتين.
منشأ مصطلحي ليلة الزفاف ويوم الميلاد
یا ترى لِمَ نستخدم مصطلح ليلة للزفاف ويوم للميلاد؟
ما زال المسلمون - حتى تلك الجماعة منهم التي انصرفت عن إتباع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) وأقر القرآن الكريم، متخذة سبيلاً آخر اختارته لنفسها وتأبى الانصياع للتعاليم الاسلامية في شتى الظروف والأحـوال ـ يحتفظون ولو ببقايا وشائجهم مع العالم الروحاني في بعض الحالات، من قبیل:
الزواج، الوفاة، عند أداء بعض المراسيم والطقوس الدينية. إذن لابد ان يكون مصطلحا ليلة الزفاف ويوم الميلاد منبثقين من روح التعاليم الإسلامية.
عندما تطرق القرآن الكريم في سورة مريم لميلاد النبيين عيسى ويحيى (عليهم السلام) تأتي لفظة «يوم»: {والسلام عليه يوم ولد...} أو {السلام عليَّ يوم...} وقد ذكرت الكلمة ذاتها فيما يخص ميلاد الأشخاص خلال الأحاديث والروايات المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) واعتادت كافة الشعوب وجميع الحكومات على استخدام لفظة «يوم» لميلاد كبار شخصياتها وإن كان هذا الحدث قد صادف وقوعه ليلاً. ونشاهد الحالة نفسها في جنسيات ووثائق الأشخاص.
وتؤيد الأديان العادة السائدة باستخدام كلمة «الليل» للزفاف والاقتران والنكاح وقد آلى زعماء الدين لزف العروس ليلاً إلى بيت الزوجية وأسندوا سيرتهم العملية هذه بأقوالهم عند استخدام كلمة الليل في الأحاديث التي تخص النكاح أيضاً، إذ لم يتناسوا (عليهم السلام) توضيح شؤون الحياة لأتباعهم في أي جانب من جوانبها، وقد عـني القـرآن الكريم والأحاديث الشريفة بهذا الأمر حيث جاء فيها «يوم الميلاد» و «ليلة الزفاف» كما تذكر كلمة يوم فيما يخص واقعة البعث وإحياء الموتى يوم الدين يوم تبلى السرائر ويوم....
أذكر هنا جانباً من جوانب الاعجاز القرآني في استخدام لفظة «يوم» إذ أنها تؤدي معنى اللحظة الواحدة أو الملايين والميلياردات منها (حيث تتألف منها فترات زمنية مختلفة قد تبلغ العصر أو الدهر). ونحن أيضاً نتبع هذه الاسلوب في محادثاتنا اليومية.
زرتك يوم أمس فلم أجدك في الدار (نقصد أن الشخص ترك داره لمدة قد لا تتجاوز عدة دقائق)، أثيرت العواصف يوم أمس (نصف ساعة مثلاً)، هبطت الأمطار يوم أمس خلال ساعتين)، تصرفت بصبيانية أيام شبابك واليوم قد تقدم بك العمر يستقبح منك هذا السلوك (تعبر عن عدة سنين)، تمتعت إيران يوماً ما بعراقة تامة (عدة قرون)، كانت الكرة الأرضية تتكون في يوم ما من المواد المذابة (ملايين السنوات)، إذن ذكر عبارة «يوم الميلاد» في القرآن الكريم - وإن كانت الولادة قد تمت ليلاً - إنما يدل على الفترة الزمنية التي ولد فيها المولود.
ربما يكون قد تطرق إلى سمع القراء أن معدل المواليد ليلاً يتجاوز عدد المواليد في النهار، وأشارت الأبحاث والدراسات الإحصائية التي تناولت هذا الموضوع إلى أن بوسع المرأة في فترة الطلق أن تتحمل آلامها 12-16 ساعة وأنها تؤجل عادة مراجعتها لمستشفى الولادة أو المراكز الأخرى حتى اقتراب موعد ولادة الطفل عندما تبادرها آلام الطلق نهاراً لكن الخوف يستولي عليها فيما لو انتشر الظلام إذ تراودهـا الهواجس بشأن عدم حضور الأطباء ليلاً في عياداتهم الشخصية أو غير الشخصية فتسارع لمراجعة مستشفى الولادة وهذا ما يثبته زيادة معدل المراجعات الليلية المسجلة في مستشفيات الولادة من قبل هؤلاء النسوة مقارنة مع المراجعات التي تتم في النهار.
ولا ننسى الإشارة هنا إلى أثر الليل والنهار عـلـى الـطـفـل الوليد وللراغبين في استحصال المزيد من المعلومات مراجعة موضوع «علم الأحياء الزمني» الذي تطرقت إليه مسبقاً في هذه السلسلة.
لا ريب ان قراءنا الكرام قد أدركوا أن المقصود باليوم في هذا المضمار هي الفترة الزمنية (24 ساعة) التي تتضمن الليل أيضاً ولا يعني القرآن بها «النهار» أي فترة طلوع الشمس حتى غروبها.
الاكثر قراءة في مقبلون على الزواج
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة