في الفترة الواقعة بين أواخر السنة الرابعة والنصف الأخير من السنة الخامسة من هجرة النبي ( ص ) تزوج بزينب بنت خزيمة وأمّ سلمة وزينب بنت جحش .
فقد جاء في البداية والنهاية انه في شهر رمضان من السنة الرابعة تزوج النبي ( ص ) من زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد اللّه بن عمرو بن عبد مناف بن هلال وهي التي يقال لها أم المساكين لكثرة عطفها على الفقراء وصدقاتها عليهم ، وقد أصدقها اثنتي عشر أوقية من الفضة ، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث ، فطلقها ، ثم تزوجها اخوه عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف .
وجاء في أسد الغابة لابن الأثير انها كانت متزوجة من عبد اللّه بن جحش فقتل عنها يوم أحد ، وتوفيت بعد زواجها من رسول اللّه بشهرين أو ثلاثة كما جاء في الواقدي . وفي البداية والنهاية عن الواقدي انه في شهر شوال من تلك السنة تزوج من أمّ سلمة بنت أميّة ، وكان زوجها أبو سلمة قد شهد أحدا وأصيب بجراحات بليغة ، وقبل ان يشفى منها شفاء كاملا وبعد مضي شهر تقريبا على رجوعه من أحد ارسله النبي على رأس سرية لمهاجمة بني أسد فغزاهم بمن معه من المسلمين واستولى على نعمهم وأموالهم ، وبعد رجوعه انتقضت عليه جراحاته ومات منها كما ذكرنا من قبل .
ولما انقضت عدتها خطبها رسول اللّه ، فقالت له يا رسول اللّه : اني امرأة في غيرة شديدة وأخاف ان ترى مني شيئا يعذبني اللّه عليه ، وقد كبر سني وتخطيت الشباب ، ومع ذلك فإني امرأة ذات عيال واحتاج لأن اعمل في قوتهم فقال لها اما ما ذكرت من الغيرة فسيذهبها اللّه عنك ، واما السن فقد أصابني ما أصابك[1] واما ما ذكرت من العيال فعيالك عيالي فرضيت وتزوجها النبي وعاشت بعد وفاته زمنا طويلا وكانت أفضل من تركهن النبي من نسوته في دينها وعقلها والتزامها بوصايا رسول اللّه وسنته ، وكان ولدها سلمة ملازما لعلي ( ع ) في حربه الناكثين بالبصرة التي تولت قيادتها عائشة ، وفي حروبه مع القاسطين في صفين بقيادة معاوية بن هند .
وخلال السنة الخامسة تزوج رسول اللّه ( ص ) من زينب بنت جحش كما جاء في رواية الطبري حيث قال وهو يعرض كيفية زواجها من زيد وأسباب طلاقه لها ، فقال لقد كان النبي ( ص ) قد زوج زيد بن حارثة من زينب بنت جحش ابنة عمته امامة بنت عبد المطلب ، وكان إذا تأخر زيد عن النبي ذهب في طلبه فتأخر عنه يوما فذهب في طلبه وعلى بابه ستر من شعر فرفعت الريح الستر وكانت زينب في حجرتها حاسرة فوقع إعجابها في قلب النبي ( ص ) ، فلما وقع ذلك كرّهت إلى الآخر على حد تعبيره .
وفي رواية ثانية انه لما رآها أدار وجهه عنها وهو يقول سبحان مصرف القلوب سبحان اللّه ، فلما جاء زيد إلى منزله أخبرته ان رسول اللّه قد اتى إلى منزله ، فقال لها الا قلت له ادخل ، فقالت قد عرضت عليه ذلك وأبى ، قال أسمعته يقول شيئا ، قالت سمعته يقول حين ولى وجهه سبحان اللّه العظيم ، سبحان مصرف القلوب فخرج زيد من منزله إلى رسول اللّه ، وقال له بلغني انك جئت منزلي فهلا دخلت بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه لعل زينب أعجبتك فأفارقها ، فقال له الرسول : امسك عليك زوجك ، فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك اليوم ، فكان يأتي رسول اللّه فيخبره ورسول اللّه يقول له :
امسك عليك زوجك ، ثم طلقها زيد واعتزلها .
وحدث الطبري عن عائشة انها قالت : بينا رسول اللّه يتحدث معها إذ اخذته غشية ، فلما سرى عنه الوحي إذا به يبتسم ويقول من يذهب إلى زينب ويبشرها ان اللّه قد زوجنيها وتلا رسول اللّه الآية :
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ .
اي انك تخفي في نفسك رغبتك بها وعزمك على الزواج منها وتخشى الناس واللّه أحق ان تخشاه .
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا .
وأكثر المؤرخين والمفسرين من السنة والشيعة عندما يذكرون زواج النبي من زينب بنت جحش يخلطون في المقام ويضعون النبي في مستوى الانسان العادي الذي لا يهمه الا اشباع شهواته ولو بغير الطرق المألوفة ، ولعل بعضهم يضعونه بهذا المستوى من حيث لا يقصدون ولا يدركون المغزى الذي من اجله وضع أعداءه تلك المرويات في حين ان ما ورد حول زواجه منها كما رواه الطبري وأكثر المؤلفين في السيرة اما من موضوعات المنافقين الذين تستروا بالاسلام في عهد الرسول ( ص ) وعاشوا بعده مدة من الزمن لم يكن ليشغلهم خلالها شيء عن الدس والكذب والتشويش على الاسلام والنبي ( ص ) .
أو من موضوعات الأمويين أعداء الاسلام الألداء ، وهؤلاء قد سخروا جماعة ممن أسموهم بالصحابة لهذه الغاية .
ولما جاء عصر التدوين باشراف الأمويين وعملائهم كالزهري وأبي بكر ابن حزم وأمثالهما دونوا هذه الموضوعات من بعدهم ولا سيما بعد ان كانت تخدم رغبة الأمويين ، وجاء من بعدهم فأخذها اخذ المسلمات .
وقد يسر هؤلاء لأعداء الاسلام من مستشرقين وغيرهم ان يصوروا النبي ( ص ) وكأنه رجل مسيّر لشهواته يسيل لعابه لمنظر المرأة ومفاتنها ، فلا يكفيه على حد تعبيرهم ان يكون زوجا لثلاثة نسوة ، بل تزوج غيرهن خلال اشهر معدودات ، ومن بينهن من هي ذات بعل قد شغفه حبها لمجرد انه مر ببيتها واستقبلته بدون ان تستر محاسنها فتعلق قلبه بها وقال عندما رآها سبحان مقلب القلوب ، وكرر هذه الكلم وهو منصرف عنها حتى لقد أيقنت بأنه افتتن بها ورأت ذلك في عينيه فأعجبت بنفسها وتنكرت لزوجها وأصبحت حياتها جحيما لا يطاق ، فذهب إلى النبي ليطلقها ، فقال له امسك عليك زوجك واتق اللّه في معاشرتها قال له ذلك وهو يخفي غرامه بها وحبه لها على زعم هؤلاء الذين يحاولون بكل ثمن ان يخلقوا في تاريخ النبي ولو ثغرة لينفذوا منها إلى التضليل والتشهير والافتراء عليه .
ومضى هؤلاء يقولون : ولما لم تعد تحسن معاشرته ، ولم يعد هو من جانبه يستطيع ان يتحمل منها هذا الجفاء فارقها على كره منه وتزوجها النبي ، وأباح بذلك لنفسه ما حرمه على غيره من سائر الناس إرضاء لهواه واستجابة لشغفه بهذا النوع من الملذات على حد تعبيرهم .
ويمضي المبشرون والمستشرقون ودعاة الصهيونية العالمية يطلقون لخيالهم العنان ليخلقوا من طلاق زيد بن حارثة لزوجته وزواج النبي منها بعد ذلك قصة غرامية كان محمد بن عبد اللّه بطلها الأول المفتون بالمرأة ومحاسنها .
وليس بغريب على هؤلاء وأمثالهم من دعاة المسيحية والصهيونية ودعاة الالحاد من شرقيين وغربيين ان يقفوا هذا الموقف العدائي للاسلام وبني الاسلام لأن الاسلام وحده من بين الأديان الموجودة في هذا العالم هو الذي يستطيع فيما لو رجع المسلمون إليه واخذوا بأصوله ومبادئه وتعاليمه ان يضع حدا للجشع والاستغلال ويناصر المظلومين والمعذبين وينشر العدل والرخاء والأمن والسلام في كل بقاع الأرض ويكشف زيف مخططاتهم التي ضللوا بها الملايين من الناس ، بما في أصوله وتعاليمه وتشريعاته من اصالة وواقعية يستمدها من لدن حكيم خبير لينعم الانسان بالأمن والرخاء والعدل وحرية القول والعمل في كل ما يعود عليه بالخير ولا يسيء إلى غيره من الناس .
ليس بغريب ان يقف هؤلاء وأسيادهم هذه المواقف المسعورة من النبي العظيم وإنما الغريب المؤسف ان يأخذ كتاب السيرة وأكثر المحدثين بتلك المرويات الموضوعة التي تتحدث عن الكيفية التي انتهى إليها زواج النبي ( ص ) من زينب وبقية زوجاته اللواتي بلغن تسعا أو أكثر على زعم المؤرخين بدون تحقيق في أسانيدها ولا تدبر لمضامينها ، وجاءت أكثر المؤلفات في التفسير تعتمد على تلك المرويات وبنت عليها تفسير الآيات ومناسبات نزولها .
وقد اكد الرازي في تفسيره ان المراد من قوله تعالى وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ انك تخفي رغبتك في التزوج بها إذا طلقها زوجها ، وأضاف إلى ذلك في تفسيره قوله : ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ( سورة الأحزاب 38 ) ، أضاف ان اللّه يشير بقوله سنة اللّه في الذين خلوا من قبل إلى قصة داود النبي حيث افتتن قبلك بامرأة أوريا وهو أحد أتباعه[2].
ومعنى ذلك كما يزعم الرازي انك لست وحدك الذي أحببت زينب وافتتنت بها وهي مع زوجها ، فلقد سبقك إلى ذلك داود النبي حيث افتتن بزوجة أحد أتباعه المعروف بأوريا .
وقد تعلق المستشرقون وغيرهم من أعداء الاسلام بهذه التأويلات لتركيز حملاتهم المسعورة على النبي ( ص ) في حين ان ظواهر الآيات التي تعرضت لزواجه من زينب وسياقها يأبى ما ذكره الرازي وغيره أشد الإباء ، والمتتبع لتاريخ حياة النبي وكيفية زواجه من زينب وغيرها يقطع بأن زواجه منها ومن غيرها كانت دوافعه إنسانية صرفة قبل أن تكون لإشباع شهواته أو لمصالح أخرى .
وإذا أباح بعض الكتاب من المسلمين في بعض العصور لأنفسهم ان يقولوا ان محمدا كان يتزوج بدافع من شهواته ، إذا أباحوا لأنفسهم ان يقولوا ذلك عن جهل بواقع محمد ( ص ) ليصوروه بأنه كان عظيما في كل شيء حتى في هذا النوع من الشهوات ، فذلك تصوير خاطىء يأباه تاريخ محمد ( ص ) أشد الاباء وتأباه حياته كلها .
قال العقاد في كتابه عبقرية محمد : ولو كانت لذات الحس هي التي تسيطر على زواج النبي ( ص ) بعد زواج خديجة ، لكان من الأحجى بإرضاء هذه الملذات ان يجمع إليه تسعا من خيرة الفتيات الأبكار اللواتي اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة والجزيرة العربية وبلا شك لو أراد ذلك لأسرعن إليه هن وأولياؤهن ووجد أولياؤهن أنفسهم فخورين بهذه المصاهرة التي لا تعلوها صلة من الصلات .
لقد كان محمد بن عبد اللّه معروفا في صباه إلى كهولته بالعفة البالغة ، فلم يعرف عنه انه استسلم للملذات في ريعان صباه ، ولا لها كما كان يلهو غيره من الفتيان حين كانت الجاهلية تبيح ما لا تبيحه الشرائع والأديان ، بل كان وهو في ريعان فتوته ووسامة طلعته وكمال رجولته معروفا بالطهر والأمانة والجد والرصانة ، وحينما قام بالدعوة على كثرة شانئيه وضراوتهم في خصومته ومقاومته لم يستطع أحد ان ينسب إليه شيئا يسئ إلى سمعته ولم يقل أحد بأنه كان ممن يستهويه الجمال وتسيطر عليه مفاتن المرأة ولو كان فيه شيء من ذلك لظهر عليه وهو في تلك المرحلة من مراحل حياته ، ولحدثنا التاريخ عن العشرات من اخصامه الألداء تقول للناس : ان هذا الداعية إلى الطهارة والعفة ونبذ الشهوات لقد كان بالأمس القريب مسيرا لشهواته وملذاته .
لقد تزوج من خديجة رضوان اللّه عليها وهو في الثالثة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره ، ولم يحدث أحد بأنه كان يعرف النساء قبلها ، وكانت هي قد تخطت الأربعين ، وظلت وحدها زوجته المفضلة على جميع النساء طيلة ثمانية وعشرين عاما ، في حين ان تعدد الزوجات كان مألوفا عند العرب وغيرهم بدون تحديد في الغالب ، وفي حين انه كان له أكثر من مندوحة لأن يتزوج عليها لا سيما وانه لم يسلم له من أولاده منها غير الإناث ، وعد ذلك المشركون نقصا فيه وسموه بالأبتر يعنون بذلك انه لا عقب له والأنثى لا تعد عقبا عندهم ، ومع ذلك فقد بقيت معه إلى أن توفيت وهي في حدود السابعة والستين من العمر ، لم يفكر في الزواج من غيرها خلال تلك المدة الطويلة ، كما لم يعرف عنه خلال ذلك وقبل ذلك أنه ممن تغريه مفاتن النساء في وقت لم تكن المرأة تحجب محاسنها عن أحد من الناس .
ومن غير المعقول ان ينقلب انسانا آخر وقد تخطى الخامسة والخمسين تغريه امرأة بمفاتنها وهي متزوجة من غيره ، بل هي بمنزلة ابنته رباها صغيرة ورعاها كبيرة ، ويعرف من جمالها وصفاتها أكثر من أي كان من الناس ، لأنها ابنة عمته ، وهو الذي اختار لها هذا الزواج وكانت كارهة له هي وأخوها عبد اللّه ، ولولا ان اللّه سبحانه قد هددهما وحذرهما من مخالفته لم تكن لتقدم عليه كما جاء في الآية :
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ( الأحزاب 36 ) .
عند ذلك نزلت على ارادته وتزوجت من ذلك الرجل الصالح الذي سبق الناس جميعهم إلى الاسلام بعد علي وجعفر ابني أبي طالب ، وبعد زواجها لم تكن في أكثر الأحيان بعيدة عن النبي ولا كانت لتستر عنه الا ما حرمه اللّه سبحانه عليه وقد كان يراها وتراه في أكثر الأحيان ، فهل من المعقول بعد ذلك ان يفتتن بها وينقلب إنسانا آخر تستبد به الشهوات التي لم تستبد به قبل نبوته ، أيام صباه وشبابه ، وهما من أشد الأدوار وأدقها على الانسان عند الغالبية العظمى من الناس ، وفي الوقت الذي طلقها زوجها كان عنده خمس من النساء ومن بينهن عائشة وهي لا تزال في حدود الخامسة عشرة من عمرها .
وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة سودة بنت زمعة أرملة السكران بن عمرو بن عبد شمس ، ولم يرد عن أحد من الرواة انها كانت من الجمال والثروة والجاه ما يحمله على الزواج منها لمطمع في متع الدنيا ، بل كان زواجه لأن الرجل لا بد له من زوجة وفي الوقت ذاته فقد كانت من السابقات إلى الإسلام وعانت هي وزوجها ما عاناه المسلمون الأوائل من المشركين وهاجرت معه إلى الحبشة وفيها توفي زوجها ، ولم يكن لها من خيار إلا البقاء في ارض الحبشة بلا كفيل أو معين أو الرجوع إلى أهلها وهم لا يزالون على شركهم وقد يضطرونها إلى الرجوع عن الاسلام ، فكان زواجه منها بالإضافة إلى حاجته الملحة إلى النساء تعويضا عما لحقها من الأذى ومما كانت تعانيه من الحاجة ، وفي الوقت ذاته تأليفا لأهلها الذين كانوا من أعدائه الألداء .
وإذا استعرضنا البقية من زوجاته كأم سلمة التي قد تخطت الشباب ، وقد أراد كما ذكرنا ان يعوض عليها ويضمها هي وأولادها إلى عائلته تقديرا لمواقف زوجها الخالدة في سبيل الاسلام وكانت مثالا للمرأة الصالحة طيلة حياتها كما ذكرنا .
وجويرية بنت الحارث وقد تزوجها بعد إعتاقها فأعتق المسلمون جميع ما بأيديهم من أسرى قومها تكريما لها ، وأسلم بعد هذه المصاهرة خلق كثير من قومها على حد تعبير المؤلفين في سيرة الرسول .
ورملة بنت أبي سفيان التي أسلمت هي وزوجها في مكة بالرغم من عداوة أبيها للاسلام وهاجرت معه إلى الحبشة وتوفي فيها ولم يعد لها ملجأ غير أن ترجع إلى أبيها عدو الاسلام والمسلمين وإذا رجعت وأصرت على الاسلام فلا بد ان تتعرض لأشد أنواع الأذى والتعذيب من أبيها وأتباعه .
وجاء في أكثر المرويات ان زوجها تنصر في الحبشة وتركها وهي غريبة وليس لها معيل ، فأرسل النبي ( ص ) إلى النجاشي وطلب منه ان يزوجه منها لينقذها من الغربة وضياع القرين .
ومن الجائز ان يقصد النبي من زواجه منها ان يتألف أبا سفيان كما تألف غيره بالاتصال بهم بالمصاهرة .
وعلى اي الأحوال فالباحث في تاريخ النبي بتجرد ونزاهة يخرج وهو على يقين بأن النبي لم يكن في اي مرحلة من مراحل حياته يبالي بالملذات والشهوات ومفاتن النساء وغير ذلك من متع الدنيا ومظاهرها .
ولو افترضنا ان النبي كان يتزوج بالدوافع الطبيعية الموجودة في جميع الناس باعتباره إنسانا لم يفقد غريزة الجنس كما فقدها السيد المسيح ، وكان يحب المرأة ليلبي رغبة الطبيعة ، فأي ضير في ذلك ما دامت المرأة وغيرها لم تشغله عن اي عمل من اعماله صغيرا كان أم كبيرا وعن المضي في توطيد دعائم الاسلام ونشر تعاليمه ومكافحة أعدائه الذين تألبوا عليه من كل حدب وصوب .
وان في تاريخه لعشرات الشواهد والأدلة على أنه لم يستسلم في يوم من الأيام للملذات ، فكان لا يأكل غير خبز الشعير ، وأحيانا لم يكن يملك غير قوته فيبذله للفقراء ويبقى طاويا ليس لديه ما يسد الرمق وقد أوشك ان يطلق بعض نسائه لأنهن طلبن منه المزيد من النفقة ، وخيرهن أكثر من مرة بين الطلاق والرضا بحياة التقشف كما تشير إلى ذلك الآية :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ( الأحزاب 28 - 29 ) .
ومجمل القول فيما يتعلق بزواجه من زينب بنت جحش ابنة عمته هو انها منذ ان نشأت كانت في رعايته كإحدى بناته ولما بلغت السن التي تؤهلها من الزواج خطبها منه الأشراف من المسلمين فلم يوافق على زواجها من أحد ، وكان زيد بن حارثة مملوكا لخديجة فوهبته للنبي ، فأعتقه وبقي عنده مسلما مؤمنا مخلصا في اسلامه فتبناه رسول اللّه ، وأرادها النبي ( ص ) أن تكون زوجة لزيد مولاه حتى لا يستنكف أحد بعد ذلك ان يزوج من هو دونه في الجاه والنسب لأن الاسلام لا يعتد إلا بالتقوى والأعمال الصالحات ، وزيد كان من أفضل المسلمين في دينه وإخلاصه .
ولما عرض عليها الأمر انفت نفسها من ذلك ورأت هي وأخوها عبد اللّه ان ذلك عار لم يقدم على مثله أحد من العرب ، ولكن النبي اصر على ذلك ليكون هو أول من يخرج على تلك التقاليد ويباشر بهدمها ، وظلت هي وأخوها على موقفهما المتصلب ، ولما نزلت الآية الكريمة بهذا الخصوص :
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً .
بعد هذه الآية لم يبق لعبد اللّه وأخته إلا الاذعان والتسليم لأمر اللّه ورسوله ، وأتم النبي الزواج وبذل لها المهر وهاجرت معه حين هاجر ، ولكنها لم تلن له ، ولم تستطع ان تتخلص من تلك الرواسب التي كان العرب يغالون في التمسك بها ، وكانت تؤذيه أحيانا وتفتخر عليه بأصلها ونسبها حينا آخر وهو يتحمل منها بمرارة وأحيانا يشكوها للنبي ويبدي له رغبته في التخلص منها ، والنبي ينهاه عن ذلك ويتمنى عليها ان تكف عن ايذائه وتتناسى اخلاق الجاهلية وعاداتها التي لم يقرها الاسلام . ولكن النفوس مهما سمت وطابت فمن الصعب ان تتخلص مما ترثه عن الآباء والأجداد بتلك السرعة ، لا سيما وانها قد تجد من مثيلاتها من يثرن في نفسها الاعجاب بأصلها ونسبها والترفع عن مثل هذا النوع من الزواج ، وظلت بين الحين والآخر وتعترض حياتهما بعض المشاكل فيعود إلى النبي ويشكوها ويبدي رغبته في التخلص منها والنبي يأبى عليه ذلك ، وأخيرا تأزمت حياتهما وأصبحت أشبه بالجحيم ، وكان الطلاق هو الحل الأخير ، وتم الطلاق بينهما .
وبالرغم من أن الطلاق كان محققا لرغبتها فقد ادخل عليها ألما وغما بالرغم من أنها قد تخلصت من ذلك الزواج الذي كان على خلاف رغبتها ، ولما كان النبي ( ص ) هو السبب لكل ما تحسه من الآلام أراد ان يتدارك ذلك ، ولا شيء يزيل ما بنفسها ويعوض عليها إلا إذا تزوجها وضمها إلى نسائه .
لقد ذكر في ذلك وحدث به نفسه ، ولكنه خشي ان يقول الناس ان محمدا قد تزوج من زوجة ابنه ، والناس يوم ذاك ينزلون الأدعياء منزلة الأولاد ، فأنزل اللّه عليه وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ اي ان ما تخفيه سيحققه اللّه ، ولا حرج عليك فيما أحله اللّه وإن لم يكن مألوفا عند الناس ، وتخشى الناس واللّه أحق ان تخشاه ، اي لا ينبغي لك ان تمتنع من زواجها مراعاة لما هو المألوف عند الناس ، ما دام فيه رضا للّه سبحانه ، وستكون قدوة لغيرك في التزويج من نساء أدعيائهم ، لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان امر اللّه مفعولا .
ثم نفى بنوة زيد للنبي ( ص ) بقوله :
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ( الأحزاب 40 ) .
فليس في الآيات التي تعرضت لزواجه من زينب اشعار بما تضمنته مرويات بعض المفسرين وكتاب السيرة ، ولا بما تشدق به المستشرقون والمبشرون ودعاة الصهيونية ، بل تفيد الآيات والروايات الصحيحة ان طلاق زيد لها كان نتيجة لصراع بينهما يتصل بتاريخ زواجهما .
وقد حاول النبي أكثر من مرة ان يهون على زيد ويحد من اباء زينب وغطرستها عليه ولكنه لم يفلح في ذلك وكان الفراق آخر علاج لإنقاذ حياتهما من التردي والشقاء .
ولا صحة لكل ما جاء حول هذا الموضوع في التفاسير والتاريخ ولا تؤيده ظواهر الآيات التي نزلت بهذا الخصوص ، وتم زواج النبي منها بتلك الدوافع الشريفة التي ذكرناها وهو ان دل على شيء فإنما يدل على ارفع مراتب النبل والرحمة والخلق الكريم[3].
[1] وفي ذلك دلالة على أنها كانت في سن تقرب من سن النبي ( ص ) .
[2] انظر الرازي جزء 25 ص 212 و 113 .
[3] لقد اعتمدنا فيما كتبنا عن أزواج النبي وزواجه من زينب على « حياة محمد » لهيكل ( وعبقرية محمد ) للعقاد وكتابنا ( عقيدة الشيعة الإمامية ) .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة