الأنهار الأربعة الجارية في الجنّة (الماء، اللبن، الخمر، والعسل المصفّى)
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج1/ ص204-207
2025-10-19
420
أنهار الجنّة الأربعة:
ذكر الله سبحانه في هذه الآية المباركة أربعة أنهار، أوّلها أنهار الماء الزلال غير الأسن، لأن الماء في عالم الطبيعة هو حياة الموجودات: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ}[1].
أنهار من الماء: وحياة القلوب بالعلم ومعرفة الله، لذا فانّ أنهار العلم والمعرفة الجارية في القلوب ستتجلّى هناك في هيئة أنهار ظاهرة صافية من ماء زلال غير آسن، والمراد بالأنهار أصناف وأنواع المعارف والعلوم الحقّة والحقيقيّة التي تناط بها حياة القلوب وتروي بها غرائز الإنسان، والمراد بغير الأسن غير المتعفّن وغير المتغير، أي عدم تغير تلك العلوم بأوهام وشكوك وعادات باطلة وسنن ضالّة واعتقادات فاسدة.
وهذا النهر مختصّ بالذين وصلوا في طريق الله إلى مقام القلب، واستفادوا من العلوم الالهيّة الحقة دون أي تدخّل للنفس لتغييرها.
انهار من لبن: والنوع الثاني هو الأنهار من اللبن الذي لم يتغير طعمه، وهذه الأنهار هي ظهور وبروز العلوم التي كانت مفيدة للمبتدئين في الطريق إلى الله، لأنّ اللبن طعام الطفل، والعلوم التي تتعلّق بالأفعال والأخلاق كعلوم الشرائع والحكمة العمليّة باعتبارها مقدّمة للعمل وتزكية النفس، لذا فانّ ظهور هذه الأنهار مختصّ بالضعفاء المستعدّين للسير في منازل النفس والذين لهم قابلية الوصول إلى مقام القلب بسبب الابتعاد عن المعاصي والأخلاق الرذيلة، الّا انّهم لم يصلوا بعدُ إلى ذلك المقام، فهم بتعلّمهم المقدّمات من علوم الشرائع والأخلاق وبالعمل بها في صدد تقوية بُنيتهم الروحية. كما انّ عدم تغير طعم هذه الأنهار إشارة إلى عدم تلوّث هذه العلوم بالنوايا الفاسدة والأهواء والبدع الباطلة والأعمال والعصبيّات الجاهلية التي تُسقط هذه العلوم عن خاصيّتها وفضيلتها، وتحوّلها إلى سمّ مهلك.
أنهار الخمر: والنوع الثالث من الأنهار أنهارٌ من خمر لذّة للشاربين، فالخمر في الدنيا مع انّ مادّتها خبيثة ونكهتها مُقرفة وطعمها رديء، لأنّها تخدّر العقول وتسقطها من الإحساس والإدراك، وتهوي بالإنسان إلى مصافّ البهائم، لكن خمر الأخرة جذباتٌ الهيّة تظهر أثر تجليّات الصفات والأسماء في القلب، فتحيّر العقول وتبهتها بحيث يسقط العقل المفكّر في العواقب والمصالح عند مشاهدة تلك الاسماء الكليّة والصفات الالهيّة غير المحدودة وينسى كليّاً مراتب الوجود.
ولأنّها تمتلك هذه الخاصيّة فقد عُبّر عنها بالخمر، لكن هذه الخمر ترفع الانسان من مرتبة العقل وتهديه إلى مرتبة أعلى وهي الشهود والقلب.
وعلى ذلك فانّ انهار الخمر هي ظهور أصناف وأنواع محبّة صفات وذات الله التي جعلها الله سبحانه للشاربين، وهم الكاملين الواصلين إلى درجة الشهود، والذين صار لديهم القابليّة لمشاهدة حسن تجليّات الصفات وشهود جمال الذات، وصاروا مولّهين بالجمال المطلق للحضرة الربوبيّة لا إدراك لهم بسببه، ووصلوا إلى مقام الروح واستغرقوا في الأنوار الالهيّة، وستوجب لهم اللذة والبهجة والسرور والحبور.
أنهار من عسل مصفّى: والنوع الرابع من هذه الأنهار هي أنهار من عسل مصفّى لا يُرى فيها شيء من الشمع والخبث والمواد القذرة. ولأنّ العسل له حلاوة زائدة، فانّ تلك الحلاوة التي هي من واردات عالم القدس والبوارق النورانية، واللذات التي توجد في حالات مختلفة للمتوسّطين في طريق الله، وتعيدهم إلى الله بالذوق والوجد والتوجّه، وتوجّههم إلى كمالاتهم، فإنّها تظهر هناك في هيئة أنهار من عسل مصفّى خالٍ من الشوائب والأكدار وتدخّلات النفس وتسويلاتها، وهذا بالطبع مختصّ بالأفراد الذين هم في مقام ذوق تلك الجذبات، والذين لم يصلوا بعدُ إلى مرحلة السكر أثر مشاهدة التجليات.
وبناءً على ما سبق فانّ أنهار اللبن هي العلوم لدى المبتدئين والضعفاء من سالكي طريق الله، وأنهار العسل مختصّة بالأفراد المتوسّطين المشغولين بملاحظة الجذبات الالهية ومشاهدة الصفات، وأنهار الخمر مختصّة بالأفراد الذين نسوا وجودهم بسبب تجليات الجمال وعشق تلك الذات الأزلية فامّحوا في أنوارها.
والمراد بالآية الشريفة: {وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً}[2]، الشراب الذي يطهّرهم ويزكّيهم من جميع التعلّقات الدنيويّة من المال والولد والعيال والجاه والاعتبار، ويرفع نفس الشارب عن هذه المراحل.
ثم انّ أنهار الماء الزلال غير الأسن وغير المتغير مختصّة بالذين وصلوا إلى مرحلة القلب، والذين طلعت وأشرقت في قلوبهم جميع أنواع العلوم والمعارف الالهيّة بدون تدخّل النفس وزيغ الأهواء.
[1] الآية 30، من السورة 21: الأنبياء.
[2] ذيل الآية 21، من السورة 76: الدهر.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة