تحقيق في معنى الصراط
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج1/ ص182-186
2025-10-16
345
يسلك الإنسان في هذه الدنيا بواسطة النفس وصفاتها واستخدام أفعالها طريقاً في المعنى،[1] ولأنّ رجوع الأنفس إلى الله، فانّ هذا الطريق في ملكوت الإنسان ونفسه سيكون إلى الله أيضاً.
ويختلف البشر في سلوك هذا الطريق باختلاف قواهم المعنويّة، فالبعض له طريق مستقيم تماماً، وللبعض الأخر طريق يضمّ انحرافاً قليلًا، بينما البعض الأخر يتحرك بصورة كاملة في طريق الانحراف.
ولأنّ الإنسان يمتلك منذ اوائل عمره حتى آخر لحظات حياته حالاتٍ متفاوتة وملكات روحيّة ونفسيّة من الحالات المختلفة، والتي هي نتيجة للأعمال المتفاوتة، فهو في انتقال من حالة إلى حالة اخرى. حتى اذا ما كانت حالاته حسنة وممدوحة بشكل كامل، واذا ما كان فعله صالحا ونيّته التقرّب إلى الله، فانّه سيكتسب الاخلاص في العمل وينتقل دائماً من حال إلى حال ومن كمال إلى كمال، فيصير من المقرّبين والسابقين، فاذا أخذت عنايةُ الله ولطفه بيده فأعانته صار من العباد الكمّل، واذا كان من المتوسّطين، أي انّه لم يستطع نسيان غير الله كلياً، بل كانت نفسه الأمّارة والشهوة يتغلّبان عليه أحياناً فيوقفان سيره أو يُعيدانه إلى الخلف قليلًا، الّا انّ فعله وقوله غالباً ما يكون صالحا ونيته صالحة، فسيكون من أصحاب اليمين.
واذا كانت نفسه الأمّارة هي التي تقوده دائماً، وكان كلّ سيره بخلاف الوصول إلى مراحل الكمال الإنساني، فانّه سيكون من الأشقياء وأصحاب الشمال.
وهذا الاختلاف الموجود لدى الناس في طريقهم سيسبّب اختلاف ملكوتهم، لذا فانّ بعضهم سيطوي الطريق بسرعة، والبعض الأخر ببطء، والبعض الأخر في نهاية المشقّة والمحنة.
وهذا الملكوت سيظهر يوم القيامة، وهناك حيث عالم الحقيقة فان الناس سيكونون في درجات مختلفة؛ وجهنّم التي تستعر هي ظهور وبروز عوالم الشهوة والغضب والاستكبار وحبّ الشخصية والإعراض عن الله والانغماس في المعاصي التي يعبّر القرآن عنها بعبارة الحياة الدنيا.
وبناءً على هذا فانّ جهنّم هي ملكوت الدنيا، كما ان الصراط الذي يمدّ عليها هو الطريق الذي ينبغي للإنسان طيّة في نفسه لكي ينال المقصود وهو الله سبحانه وتعالى. وعند ما يطوي الانسان هذا الطريق في الدنيا، لذا فان هذا الصراط سيوضع أيضاً على جهنّم. ولأنّ على كلّ شخص بشكل حتمي أن يفوز بمقصوده بمجاهدة النفس للشهوات في الدنيا، لذا فانّ العبور على جهنّم ضروري لجميع الافراد، حتى للأنبياء ولأولياء الله.
وحين نزلت الآية الكريمة: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ونَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا}[2] سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله: أ وأنتَ أيضاً واردٌ جهنّم؟ أجاب: بلي، لكننّا نعبر عليها كالبرق الخاطف[3].
وعلى هذا، فلأنّ الجميع قد قدموا إلى هذه الدنيا وكان لهم جميعاً طريق في أنفسهم إلى الله، فانّ عليهم جميعاً ان يردوا إلى جهنّم، وعلى الجميع ان يعبروا على الصراط.
فأولئك الذين لم يهبوا قلوبهم إلى الدنيا، ولم ينكبوا عقولهم، ولم يسألوا غير الله تعالى ولو لحظة واحدة، فانهم سيعبرون على جهنّم (على الصراط) كالبرق الخاطف، امّا الباقون فانّ سرعتهم ستتفاوت باختلاف حالهم في الاخلاص، فالبعض يمرّ بطيئاً، والبعض من زمرة الأشقياء الذين كان صراطهم منحرفاً بشكل كامل، سيزلّ على الصراط ويهوي في النار.
روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: "يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ، ثم يَصْدُرونَ بِأعْمَالِهِمْ، فَأوَّلُهُمْ كَلمحِ الْبَرقِ، ثم كَمَرِّ الرِّيحِ، ثم كَحَضْرِ الْفَرَسِ، ثم كَالرَّاكِبِ، ثم كَشَدِّ الرَّجُلِ ثم كَمَشْيِهِ"[4].
وفي تفسير القمّي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الصِّرَاطُ أدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وأحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، فَمِنهم مَنْ يمرُّ عَليهِ مِثْلَ الْبَرقِ، ومِنهُمْ مَنْ يمُرُّ عَليهِ مِثْلَ عَدْوِ الْفَرَسِ، ومِنْهُم مَنْ يمُرُّ عَليهِ مَاشِيًا، ومِنهُمْ مَنْ يمرُّ عَليهِ حَبْواً، ومِنهُمْ مَنْ يمُرُّ عَليهِ مُتَعَلِّقًا، فَتَأخُذُ النَّارُ مِنْهُ شَيْئاً وتَتْرُكُ شَيْئاً"[5].
لذا فانّ معنى الصراط العبور على الملكات والأخلاق الرذيلة والصفات القبيحة، فمن لم يُدنّس بها أصلًا مرّ كالبرق الخاطف، ومن تلوّث بها في الجملة مرّ كعدو الفرس، حتى اذا ما ابتلى وتدنّس كثيراً علّق من الصراط إلى جهنّم فأحاطت النار به.
انّ الإمام عليه السلام الذي يعيّن صراط الانسان وطريقة إلى الله في هذه الدنيا، والذي له السيطرة على نفس الإنسان وملكوته، هو نفسه الذي سيعيّن سرعة وبطء حركة الإنسان على الصراط يوم القيامة حيث ظهور الصفات والملكات، ووفقاً لسرعة الانسان في حركته في الدنيا إلى الله، فانّه سيُجيزه بنفس القدر بالحركة بسرعة أو ببطء على الصراط، امّا الأفراد الذين لم يكن لديهم اتّصال بمقام المعنى والولاية، والذين أفنوا في وجودهم روح وشرف وفضيلة الإنسانية، فانّه لن يسمح لهم بالحركة، وسيأمر جهنّم لتبتلعهم وتغمرهم.
ولأن الإمام له إحاطة في الدنيا على ملكوت المؤمنين وغير المؤمنين، فانّه سيقف هناك على مكان عالٍ ورفيع بحيث يُشرف على الجنّة وعلى جهنّم، فيعيّن مكان ومنزلة كلّ فرد صالح في الجنّة، ومنزلة كلّ فاسق ومنحرف طالح في النار، وقد عبّر في القرآن الكريم ن ذلك المقام العالي بالأعراف.
{وَبَيْنَهُما حِجابٌ وعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ}[6].
والأعراف في اللغة لها معنيان، الأول أعراف الحجاب وهو القسم الأعلى منه، والثاني أعالي الجبل والتلّ، وكلا المعنيين مناسب هنا، أي انّه حجاب بين أهل الجنّة وأهل النار يقف الإمام في ذروته وقمّته، لأنّه كان في الدنيا في ذروة وقمّة الحالات الروحيّة والمعنوية، ينظر من هناك إلى وجوه وسيماء أمّته، ويشاهد حالاتهم الروحيّة والملكوتيّة من سيمائهم، كما كان محيطاً على ملكوتهم في الدنيا يسيرهم عن طريق الملكوت إلى واقعيّتهم ومقصدهم، لذلك فانّه هناك أيضاً سيجعلهم حسب واقعيّتهم وملكوتهم في نقاط مختلفة من الجنّة أو في دركات متفاوتة في النار.
وبناءً على ما ذكرنا فقد اتّضح بحمد الله وقوّته حقيقة وسرّ ظهور جهنّم أولًا، وظهور الصراط ثانياً، ومقام الإمام في الأعراف وارتباط كيفيّة إدخال اهل جهنّم فيها بأمر الإمام ثالثاً.
[1] في الباطن- في الحقيقة.
[2] الآية 71 و72 من السورة 19: مريم.
[3] التعبير مُترجم وليس نصّ كلامه صلوات الله عليه وآله(م).
[4] (تفسير مجمع البيان)، ج 3، ص 525.
[5] (تفسير الصافي)، ج 1، ص 54.
[6] الآية 46، من السورة 7: الأعراف.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة