شمول قانون الوراثة للمعنويات والأسرار الإلهيّة
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج1/ ص30-32
2025-09-30
340
اذا ما تجاوزنا الماديّات ومراتب الظهور الطبيعي في الإنسان إلى الأفكار والأخلاق والروحيّات، فإنّنا سنرى أنّ الطفل يتأثّر وراثياً أيضاً بأصله، فتظهر فيه عن طريق النطفة غرائز وأخلاق والدية، ومن تركيب تلك النطفتين فانّ مجموعاً مركّباً منهما سيُظهر الطفل بأخلاق خاصة هي نتاج غرائز الوالدين معاً.
فالولد الذي له والدان يتصّفان بالشجاعة سيكون شجاعاً بالتأكيد، أمّا إذا كان والداه يتصّفان بالجبن والخوف فانّه سيصبح جباناً، واذا كانا سخيّين فانّه سيكون سخيّاً، أو كانا لئيمين أو مُضحيّين فانّه سيماثلهما في ذلك. كما انّ الوالدين العاقلين سينجبان ولداً عاقلًا، فإن كانا أبلهين صار طفلهما أبلها. وعلى أي حال فانّ جميع الأخلاقيّات والغرائز الروحيّة للولد لن تخرج عن أصل الوالديين، بل هي تابعة إلى صفاتهما، وناتجة عن اللقاح والفعل والانفعال لقواهما الروحيّة والأخلاقية.
وقد يحصل أحياناً أنّ شخصاً عاقلًا يخرج من صلبه ولدٌ جاهل، والعكس صحيح، وبالطبع فانّ ذلك سيكون ناجما من شرائط وظروف التربية في الرحم، أو من انتقال نطفة أحد أجداده الذين كانوا كذلك، فظهرت هذه الصفة في هذا النسل، وهذا بالطبع ينطبق على أصل الوراثة.
وكما انطبق أصل الوراثة في الإنسان، فانّه ينطبق كذلك على النباتات والحيوانات، فولد الذئب سيكون ذئباً، وولد الخروف خروفاً وولد الأسد أسداً، ثم انّ آثار اولئك وكيفيّتهم ستنتقل إلى الأجيال والطبقات التالية نسلًا بعد نسل من وجهة نظر كيفيّة تشكيل الجسم والخلايا الجسميّة والصفات الروحيّة. والأمر في النباتات كذلك، فورد الياسمين ينتج ياسميناً، والورد المحمّدي ينتج ورداً محمّدياً يتبع أصله في شكله ولونه ورائحته، كما انّه لن يخرج من شجرةِ التفّاح إجاص ولو مضى عليها ألف عام، ولو تعاقبت الأجيال.
بلى، لقد كان أصل الوراثة أساس عالم الوجود، وهذه الظهورات ستستمرّ وتتقدّم طبقاً لهذه السُّنن.
{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}.[1]
ولقد حفظ أصل الوراثة ثباته وبقاءه في جميع الشؤون المذكورة، والأهمّ والأعلى من ذلك بقاؤه وثباته في المعنويّات والأسرار الالهيّة.
إنّ الله سبحانه وتعالى خلق آدم أبا البشر وجعله خليفته في الأرض، وجعل قلبه مركز تجليات أنوار جماله، وجعل عقله قويّاً وصدره منشرحاً وقلبه متّسعاً، بحيث يمكنه الاطّلاع على جميع أسرار عالم الكون، والعلم بحقائق الموجودات، وتمزيق حجب الأوهام، والاستقرار في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[2]. والوصول إلى مقام الاطمئنان، والاطّلاع على أسرار الغيب، ومحادثة الملائكة، والسكنى في حرم الأمن والأمان الالهيّ، فيصبح قلبه مركز تجليات أسماء وصفات المعبود جلّ شأنُه.
وهكذا فانّه سيُشاهد رأي العين إحاطة قدرة وعلم وحياة الله في جميع مراحل الوجود، وسُيناجي ربّه ويتكلم معه من السرّ والباطن، وسيفوز بمقام: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ، وهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى}[3].
والبقاء ببقاء الله بعد فناء النفس، وطيّ أسفاره الأربعة ليكون مرآةً تامّة ومظهراً تامّاً كاملًا للحضرة الأحديّة.
وقد أودع هذا النور في آدم عليه السلام منذ بدء الخلقة؛ وبمقتضى: {وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها}[4].
وكذلك بمفاد قوله: {وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[5].
فانّ آدم وحده جوهر عالم الوجود، وهو وحده اللؤلؤة الثمنية في صدف عالم الكون، وخزينة أسرار الحضرة الربوبيّة التي طلعتْ وظهرت فيه إلى حدّ ما. وبموجب أصل الوراثة فقد انتقل ذلك السرّ إلى أبناء آدم، فظهر وبرز في الأنبياء واحداً بعد الأخر كلًّا بدوره، وبمراتب الاختلاف التي تُشاهد فيهم، فأصبح كلّ واحد منهم مركزاً لتجلى ذلك النور بقدر استعداده وظرفيّته.
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ورَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}[6].
إلى أن وصل الدور إلى خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله، فأشرق ذلك النور فيه على أتم نحو وأكمله، وبمقتضى أصل الوراثة فقد مرّ في دور الكمون في أصلاب الآباء، وها قد وصل إلى مرحلة الظهور والبروز، وأشرق كما ينبغي له بلا زيادة ولا نقصان لذا فانّ شريعته صلوات الله وسلامه عليه ناسخة لجميع الأديان، ودينه متمم ومكمّل لجميع الأديان، وباقٍ وخالد إلى يوم القيامة.
[1] ذيل الآية 43، من السورة 35: فاطر.
[2] الآية 55، من السورة 54: القمر.
[3] الآيات 5- 11، من السورة 53: النجم.
[4] صدر الآية 31، من السورة 2: البقرة.
[5] صدر الآية 30، من السورة 2: البقرة.
[6] صدر الآية 253، من السورة 2: البقرة.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة