ألزم النبيّ إبراهيم قومَه العرفان الشهوديّ عن طريق البحث الفلسفيّ
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص264-267
2025-09-18
377
ألم يكن إبراهيم خليل الله وموسى كليم الله وعيسى روح الله ومحمّد حبيب الله عليهم الصلاة والسلام بشراً؟! لقد استفادوا من ذلك السراج وأزاحوا عنه كلّ الحُجُب حتى أضاء نورهم الباطنيّ مُنيراً كلّ العالَم بشعاعه.
وكان إبراهيم عليه السلام قد قال في صغره وحداثة سنّه: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والْأَرْضَ حَنِيفاً وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وقَدْ هَدانِ ولا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ، وكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ ولا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وهُمْ مُهْتَدُونَ وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.[1]
واعلم أن مُحاجّة إبراهيم عليه السلام هذه لقومه ومجادلتهم له وجوابه المنطقيّ على ذلك قد حدثت بعد أن ألزمهم الحجّة بتقريب قياس البرهان وتعيين صغرى الفلسفة وكبراها كما تدلّ على ذلك الآيات السابقة للآيات الآنفة الذكر: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.[2]
نلاحظ في الآيات أعلاه مسألة إثبات ربوبيّة الكوكب والقمر والشمس أوّلًا بالقياس الصغرويّ والكبرويّ على النمط التالى: هذا كوكب مُضيء هو ربّ؛ ونتيجة ذلك: هذا الكوكب المضيء هو ربّي! وهذا قمر منير، وكلّ قمر منير هو ربّ؛ ونتيجة ذلك: هذا القمر المنير هو ربّي! وهذه شمس مشرقة لأنّها أكبر، وكلّ شمس مشرقة كبيرة هي ربّ؛ ونتيجة ذلك: هذه الشمس المشرقة الأكبر هي ربّي! وهذا لكون أمر كبرى هذه المسائل إمّا أن يعود إلى نظرته البدائيّة أو من وجهة نظر قومه؛ ومرجع استحقاق كوكب ما للعبادة هو الإضاءة والإشراق والتألُّق على الإطلاق وأن صاحبَ ذلك افول وغروب، وفي هذه الحال فهي لا تستحقّ صفة الربوبيّة، لذا نراه يقوم بتصحيح ذلك ثانية، حيث قال: أن ربّاً يأفل ويغرب لا يستحقّ الربوبيّة! وعلى هذا الترتيب: فإنّ هذا الكوكب قد أفل، وكلّ كوكب يأفل ويغرب لا يستحقّ الربوبيّة؛ ونتيجة ذلك: أن هذا الكوكب الآفل لا يستحقّ الربوبيّة.
وهذا القمر المنير قد أفل، وكلّ قمر منير آفل لا يستحقّ الربوبيّة؛ ونتيجة ذلك: أن هذا القمر المنير الآفل لا يستحقّ الربوبيّة.
وهذه الشمس المشرقة الأكبر قد أفلَتْ، وكلّ شمس مشرقة أكبر تأفل لا تستحقّ الربوبيّة؛ ونتيجة ذلك؛ هذه الشمس المشرقة الأكبر الآفلة لا تستحقّ الربوبيّة.
ويتّضح هنا أنّه يُشير إلى بطلان كلّيّة الكبرى في المحاجّة الاولى في الاستدلال الثاني. اي أنّه لمّا كان البرهان الأوّل مستنداً على أصل الكلّيّة القابلة لربوبيّة الكواكب السماويّة، وهذه الكبرى ليست صحيحة بالطبع، لذا رأينا غلط نتيجة البرهان، لأنّنا استخدمنا فيه كبرى غير صحيحة.
واشير في الاستدلال الثاني إلى أنّه لا يجب على الربّ الافول، فالنورانيّة ليست الشرط الوحيد في الربوبيّة؛ بل يلزم دوام تلك النورانيّة واستمرارها. لذا فإنّ الإله الذي إمّا أن يكون شرقيّاً أو غربيّاً أو شماليا أو جنوبيّاً لا تليق به الربوبيّة؛ لأنّه في هذه الحالة سيكون هو نفسه محتاجاً ومعوزاً، وفقيراً وضعيفاً ومقهوراً وخانعاً.
على الربّ أن يكون لم يزليّاً ولا يزاليّاً، لا شرقيّاً ولا غربيّاً، بلا زمانٍ قبليّ أو بَعديّ. وقد انطوى استدلاله الحقّ في القياس المنطقيّ البرهانيّ على كلّ تلك الكبريات.
ولهذا نراه قام بعد هذا الاستدلال مباشرة- كما طالعنا ذلك آنفاً- بمخاطبة قومه قائلًا: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والْأَرْضَ حَنِيفاً وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
أي أنّني قُمتُ باتّخاذ ربّ لي لا يملك أيّ بُعد من أبعاد الزمان أو المكان ولا الكيف أو الكمّ ولا الحَدّ أو العَدّ ولا القَيْد أو الحَصر أو القياس. وهو خالق الجهات والأبعاد والنور والظُّلمة والشروق والافول. وها أنا ذا أصدُّ قلبي عن كلّ أنواع الأهواء التي من شأنها تحديده وتقييده والتي تؤدّي إلى ضعفه وفتوره وانحلاله في حرم قدسه، وأتوجّه إلى هذا الربّ المحيط والمجرّد والنورانيّ المطلق وهو المُشعّ للنور!
[1] - الآيات 79 إلى 83، من السورة 6: الأنعام.
[2] - الآيات 76 إلى 78، من السورة 6: الأنعام.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة