جنّة آدم هي جنّة القابليّة وهي غير الجنّة الفعلية التي تليها
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص151-154
2025-08-13
489
سبب طرد الإنسان من الجنّة وأن عليه تحمّل المشاقّ والمعاناة للعودة إليها ثانية فهو أن الجنّة صنفان: جنّة القابليّة وجنّة الفعليّة. فالجنّة الاولى التي كان آدم وبنيه فيها كانت جنّة مرحلة النزول من العوالم الملكوتيّة النورانيّة المجرّدة المحضة والتي كانت واصلة إلى عالَم الصورة والمادّة الأوّليّة والتي يُعَبَّر عنها كذلك ب- «عَالَم الذرّ». وأمّا الجنّة التي تُقصَد بعد عالَم الدنيا فهي جنّة بمعنى الكلمة، صاحبة الفعليّة والبروز والظهور والتفصيل والانشراح.
فأمّا إطلاق تسمية الجنّة على الاولى فيعود إلى أن التكليف فيها لا يوازي التكليف في عالَم الطبيعة، وهي لا تملك أيّة حركة أو نهضة؛ وهي طهارة وتنزيه وحسب، لكنّ تلك الطهارة تخصّ مرحلة القابليّة فقط. وتوجد في (عالَم) الدنيا كلّ مسائل التكليف والأمر والنهي والطاعة والمعصية والجهاد مع النفس الأمّارة بالسوء والتحرُّك نحو المبدأ الأعلى؛ وبالنتيجة تتحوّل جميع القابليّات في الجنّة الثانية، والتي هي مرحلة العروج والصعود، إلى فعليّة، حيث البروز والظهور الخالصين والشرح والتفصيل اللامتناهيين، فأين هذا من ذاك؟
ميان ماه من با ماه گردون *** تفاوت از زمين تا آسمان است[1]
دانة فلفل سياه وخال مهرويان سياه *** هر دو جان سوزند امّا اين كجا وآن كجا؟[2]
لقد كان خروج آدم من الجنّة سبباً لكماله لا لنقصه. فلو لم يخرج منها لثبت في دار الاستعداد ومنزل القابليّة مراوحاً في مكانه دون أيّ تقدّم. لكنّه في نزوله إلى عالَم الطبيعة وتفصيل التكاليف يقطع جميع مراحل مراتب استعداداته البشريّة وقوّته الإنسانيّة، درجةً درجة، باختياره وإرادته، أملًا للوصول بها إلى أعلى درجات الكمال والفعليّة. وهكذا يخطو قُدُماً للدخول إلى الجنّة الثانية والتي تلي هذه الحياة الدنيا، ويتمكّن منها إلى الأبد.
إن مَثَل الجنّة التي تسبق الدنيا كمثل الجنين، فمع كونه إنسان إلّا أنّه ذو قابليّة محضة؛ حيث لا ضوضاء ولا ضجيج، لا حراك فيه ولا عشق ولا حبّ، لا مقصود فيه ولا مراد؛ وهكذا يتحتّم عليه الخروج من الجنّة والنزول إلى الدنيا، وإلّا فسيؤول إلى الفساد، بعد أن يفقد كلّ مراتب الاستعدادات التي يمتلكها.
إن الجنين وهو يشهد حريّته وقدرته على الاختيار في عالَم الطبيعة وسط التيّارات المختلفة والقوى الملكوتيّة والإبليسيّة المضادّة لها، وفي خضمّ الدعوة إلى الحسنات والسيّئات، فيسير بقدم ثابتة وإرادة راسخة متينة في مجاهدته للنفس الأمّارة بالسوء؛ فإذا به يرى نفسه في عالم تسوده العظمة وتهيمن عليه الابّهة والجمال والجلال؛ عالم تكتنفه الآثار التي تتمثّل في بروز الاستعدادات وظهورها من حور العين وقصور وجنّات وخُلد ورضوان، وبالتالي الانمحاء والانصهار في الذات المقدّسة للربّ الحيّ القدير، ثمّ التشكّل بشكل الفعليّة التامّة في جميع مراحل الوجود. ولا سبيل لوصول الإنسان إلى تلك الجنّة إلّا بالعبور من فوق جسور الشهوة والأنانيّة واجتيازها بجدارة، ولن يكون ذلك إلّا بالنزول من الجنّة الاولى والسير في دار التكليف وتصارع القوى الشيطانيّة الأمّارة بالسوء مع القوى الملكوتيّة الرحمانيّة. ومحال هذا دون ذاك! ومَثَل الجَنّة الاولى كذلك كمَثَل حَبّة، ومَثَل الجنّة الثانيّة كمَثَل شجرة بالغة وكاملة النموّ. ومع أن هذه الشجرة مع ما تحويه من جذع وجذور وأغصان وأوراق وثمار وحبوب تلك الأثمار التي تُمثّل كلّ واحدة منها شجرة مستقلّة قائمة بذاتها ولها جميع خصوصيّات تلك الشجرة وآثارها وخواصّها، إلّا أنّها في الحقيقة نفس تلك الحَبّة والتي تحوّلت إلى هذا الشكل وتبدّلت بهذه الصورة. لكن بين هاتَيْن الحالتَيْن بون شاسع وفَرق كبير. أن تلك الحبّة الصغيرة والتي تبدو في بعض الأحيان تافهة وحقيرة ولا يمكن تصوّر خروج شجرة شامخة قويّة خضراء، تلك الحبّة هي شجرة الصنوبر. ولا يمكن المقايسة كذلك من جهة الآثار والمنفعة الوجوديّة بين تلك الحبّة وتلك الشجرة. ولو أنّنا لم نلحظ تلك الحبّة أو لم نَقُم بزرعها بأيدينا ونشهد بأنفسنا خروج وتبرعم تلك الحبّة ثمّ صيرورتها شجرة قويّة عالية ومثمرة، كشجرة التوت مثلًا والتي تُعطي اكلها عشرات السنين وتُسعد الكثيرين وتُبهجهم، لو لا كلّ ذلك لكان من المستحيل علينا أن نُصدّق أن هذه الشجرة إنّما هي تلك الحبّة الصغيرة الدقيقة.
بل انظر إلى الإنسان نفسه الذي نشأ من نطفة وهي ذرّة دقيقة جدّاً لا تُرى بالعين المجرّدة، كيف تمرّ بأدوار في الرحم وتطوي مراحل عدّة حتى تتشرّف بقوله تعالى عن الإنسان فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ[3]، فيخرج إنساناً سويّاً إلى هذا العالم، إنساناً عاقلًا نافعاً عالماً. وعلى هذه الشاكلة تكون مراحل تكامل الإنسان وخروجه من هذه الدنيا إلى دار التجرّد والنور والإطلاق.
إن هذا الإنسان الملكوتيّ والجبروتيّ واللاهوتيّ هو نفسه الذي كان إنساناً ناسوتيّاً في البدء، لا غيره؛ لكنّه تمكّن بسبب الارتقاء والتكامل اللذين حصلا له، وبسبب حُسن اختياره وقوّة إرادته كذلك، وأيضاً بفضل اجتيازه لمدارج الكمال ومعارجه، وتخلّيه عن الأنانيّة الرمزيّة الجوفاء، لأجل كلّ ذلك تمكّن من الوصول إلى مرتبة العبوديّة المحضة والتي تُوازي الربوبيّة المحضة لربّه.
[1] يقول:« أن السالك إلى الله إذا شرب من خمرة العشق بقدرٍ فهنيئاً له؛ وأمّا إذا تجاوز حدّ الشراب واخترق حدوده فسينسي فكرة السير والسلوك في طريق المعرفة.
و أن مَن يستطيع شرب جرعة أقلّ من خمرة( الحُبّ) فإنّه سيضع في النهاية ذراعه على عاتق محبوبه ويتمتّع بوصاله».
[2] يقول:« أن البعد بين قمري وقمر السماء؛ كالبعد بين السماء والأرض».
[3] يقول:« أن الفلفل الأسود يشبه لون الخال الموجود على وجنة الحبيب؛ وكلاهما حِرّيف، لكن أين هذا من ذاك».
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة