تفسير العلّامة الطباطبائيّ لسورة التكاثر
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص3-7
2025-07-30
642
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ. (سورة التكاثر)
يقول سماحة العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في تفسيره هذه السورة المباركة: «بيان: توبيخ شديد للناس على تلهّيهم بالتكاثر في الأموال والأولاد والأعضاء وغفلتهم عمّا وراءه من تبعة الخسران والعذاب، وتهديد بأنّهم سوف يعلمون ويرون ذلك ويُسألون عن هذه النِّعم التي اوتوها ليشكروا فتلهّوا بها وبدّلوا نعمة الله كفراً.
قوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ، قال في «المفردات»: اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه ويهمّه. قال، ويقال: ألْهَاهُ كَذَا، اي شغله عمّا هو أهمّ إليه، قال تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ- انتهى.
وقال الراغب: والمُكَاثَرَة والتَّكَاثُر: التباري في كثرة المال والعزّ. وقال أيضاً: المِقْبَرَة (بكسر الميم وفتحها): موضع القبور، وجمعها مَقَابِر؛ قال حتى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ كناية عن الموت- انتهى كلام الراغب.
فالمعنى على ما يعطيه السياق شغلكم التكاثر في متاع الدنيا وزينتها والتسابق في تكثير العدّة عمّا يهمّكم، وهو ذكر الله، حتى لقيتم الموت فعمّتكم الغفلة مدى حياتكم.
وقيل: المعنى شغلكم التباهي والتباري بكثرة الرجال بأن يقول هؤلاء: نحن أكثر رجالًا، وهؤلاء: نحن أكثر حتى إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى القبور فعددتم الأموات من رجالكم فتكاثرتم بأمواتكم.
وهذا المعنى مبنيّ على ما ورد في أسباب النزول أن قبيلتين من الأنصار تفاخرتا بالأحياء ثمّ بالأموات، وفي بعضها أن ذلك كان بمكّة بين بني عبد مَناف وبني سَهْم فنزلت السورة، وستأتي القصّة في البحث الروائيّ.
قوله تعالى كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ردع على اشتغالهم بما لا يهمّهم عمّا يعنيهم وتخطئة لهم، وقوله: سَوْفَ تَعْلَمُونَ، تهديد معناه على ما يفيده المقام سوف تعلمون تبعة تلهّيكم هذا وتعرفونها إذا انقطعتم عن الحياة الدنيا.
قوله تعالى: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، تأكيد للردع والتهديد السابقَينِ، وقيل: المراد بالأوّل علمهم بها عند الموت، وبالثاني علمهم بها عند البعث.
قوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ردع بعد ردع تأكيداً، واليقين العلم الذي لا يداخله شكّ وريب.
وقوله: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، جواب لو محذوف، والتقدير لو تعلمون الأمر علم اليقين لشغلكم ما تعلمون عن التباهي والتفاخر بالكثرة، وقوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، استئناف في الكلام، واللام للقسم، والمعنى اقسم لتروُنّ الجحيم التي جزاء هذا التلهي كذا فسّروا.1
قالوا: ولا يجوز أن يكون قوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواب لو الامتناعيّة، لأنّ الرؤية محقّقة للوقوع وجوابها لا يكون كذلك.
وهذا مبنيّ على أن يكون المراد رؤية الجحيم يوم القيامة كما قال: وبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى،[1] وهو غير مسلّم، بل الظاهر أن المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤية البصيرة وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه، قوله تعالى: وكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والْأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.[2]
وقد تقدّم الكلام فيها، وهذه الرؤية القلبيّة قبل يوم القيامة غير محقّقة لهؤلاء المتلهّين، بل ممتنعة في حقّهم لامتناع اليقين عليهم.
قوله تعالى: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ، المراد بعين اليقين نفسه، والمعنى لتروُنّها محض اليقين، وهذه بمشاهدتها يوم القيامة، ومن الدليل عليه قوله بعد ذلك ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، فالمراد بالرؤية الاولى رؤيتها قبل يوم القيامة، وبالثانية رؤيتها يوم القيامة.
وقيل: الاولى قبل الدخول فيها يوم القيامة، والثانية إذ دخلوها. وقيل: الاولى بالمعرفة، والثانية بالمشاهدة. وقيل: المراد الرؤية بعد الرؤية، إشارة للاستمرار والخلود. وقيل غير ذلك وهي وجوه ضعيفة.
قوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، ظاهر السياق أن هذا الخطاب وكذلك الخطابات المتقدّمة في السورة للناس بما أن فيهم من اشتغل بنعمة ربّه عن ربّه فأنساه التكاثر فيها عن ذكر الله، وما في السورة من التوبيخ والتهديد متوجّه إلى عامّة الناس ظاهراً واقع على طائفة خاصّة منهم حقيقة وهم الذين أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ.
وكذا ظاهر السياق أن المراد بالنعيم مطلقه وهو كلّ ما يصدق عليه أنّه نعمة، فالإنسان مسؤول عن كلّ نعمة أنعم الله بها عليه.
وذلك أن النعمة- وهي الأمر الذي يلائم المُنعَم عليه ويتضمّن له نوعاً من الخير والنفع- إنّما تكون نعمة بالنسبة إلى المُنعَم عليه إذا استعملها بحيث يسعد بها فينتفع، وأمّا لو استعملها على خلاف ذلك كانت نقمة بالنسبة إليه، وإن كانت نعمة بالنظر إلى نفسها.
وقد خلق الله تعالى الإنسان وجعل غاية خلقته التي هي سعادته ومنتهى كماله التقرّب العبوديّ إليه كما قال: وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.[3]
وهي الولاية الإلهيّة لعبده، وقد هيّأ الله سبحانه له كلّ ما يسعد وينتفع به في سلوكه نحو الغاية التي خُلِق لها وهي النعم فَأسْبَغَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وبَاطِنَةً.[4]
فاستعمال هذه النعم على نحو يرتضيه الله وينتهي بالإنسان إلى غايته المطلوبة هو الطريق إلى بلوغ الغاية وهو الطاعة، واستعمالها بالجمود عليها ونسيان ما وراءها غيّ وضلال وانقطاع عن الغاية وهو المعصية، وقد قضى سبحانه قضاء لا يُردّ ولا يُبدّل أن يرجع الإنسان إليه فيسأله عن عمله فيحاسبه ويجزيه، وعمله هو استعماله للنِّعم الإلهيّة، قال تعالى: وأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى، وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزأهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى، وأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى.[5]
فالسؤال عن عمل العبد سؤال عن النعيم كيف استعمله، أشَكَرَ النعمة أم كفر بها.
[1]ومن القائلين بهذا التفسير: البيضاويّ في تفسيره، حيث قال: فحُذف الجوابُ للتفخيم، ولا يَجوز أن يكونَ قولُه:« لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» جواباً، لأنَّه محقَّقُ الوقوع؛ بلْ هو جوابُ قَسمٍ محذوفٍ اكّد به الوعيدُ واوضِح به ما أنذَرهم منه بعد إبهامِه تفخيماً.
[2] الآية 36، من السورة 79: النازعات: وباعتبار أن هذه السورة تتحدّث عن أحوال القيامة، فإنّ عبارة: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ* تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ تفيد يوم القيامة. كما أن كلمة برزت؛ تفيد هذا المعنى أيضاً، لأنّ عالم القيامة هو عالم ظهور الحقائق وبروزها وليس أصل عالم الحقائق.
[3] الآية 75، من السورة 6: الأنعام.
[4] الآية 56، من السورة 51: الذاريات.
[5] اقتباس من الآية 20، من السورة 31: لقمان: وأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ وظاهِرَةً وباطِنَةً.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة