نزاع العلَمَين السيّد أحمد الكربلائيّ والشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج2/ ص225-232
2025-07-28
678
لقد نشب الخلاف حول هذه المسألة بين آيتين من آيات الله، وفقيهين من فقهاء بحر العلم، هما مَرجِعا الحكمة والعرفان، آية الله على الإطلاق ونور الله في ظلمات الأرض: الآقا السيّد أحمد الكربلائيّ الطهرانيّ أفاض الله علينا من بركات تربته، والمحقّق الكبير والمدقّق القدير، فيلسوف زمانه وحكيمه بلا شبهة ولا ظنّ: الآقا الحاجّ الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ الأصفهانيّ النجفيّ رضوان الله تعالى عليه.
فكان السيّد يقول: «أنّ الوجود يمتلك تشخّصاً ووحدة، وأنّ ذات الحقّ الأزليّة والأبديّة واللامتناهية لا تقبل التعيّن. وأنّ جميع العوالم معدومة وفانية في وجوده وأنّ وجودها ليس إلّا وجوداً غير اعتباريّ ومجازيّ وانتسابيّ».
وأمّا الشيخ فيقول: «أنّ الوجود لا يمتلك تشخّصاً ووحدة وأنّ التشكيك يكتنف مراتب الوجود. وليس هناك فناء محض للموجودات. وأنّ تعيّن الأشياء ومحدوديّتها لا يتنافى مع الوجود المطلق للحقّ تعالى. وبالتالي فإنّ جميع الموجودات تمتلك أصالة؛ وهذه الأصالة ضعيفة في حدودها وإنّيّاتها، خلافاً للحقّ تعالى الذي له حدّ أكبر وتعيّن أوسع، بحيث يشملان جميع الموجودات؛ لكنّهما تتوقّفان عندها، ولن يحصل هناك ما يسمّى بالتوحيد أو (الوحدة)؛ والحقّ أنّ فناء الأشياء في ذاته المقدّسة، بكلّ معنى الكلمة، ليس إلّا مجرّد وظنّ لا حقيقة لهما».
إن العلّة في عدم قبول الشيخ مسألة وحدة ذاته المقدّسة، ومعيّته مع الموجودات، وسيطرته على جميع العوالم والأشياء وإحاطته الوجوديّة بها، وانمحائها جميعاً واندكاكها ذاتاً وصفة وفعلًا في ذاته؛ تكمن في اعتبار نفسه موجوداً، اي «ذو وجود» في مقابل الحقّ تعالى، والذي وصف المرحوم السيّد ذلك بعبارة ال- جَبَلانيّة.
والعلّة الأخرى، في لزوم الإحاطة الوجوديّة للحقّ على العيوب والمضارّ والمفاسد والقبائح، والذي وصف المرحوم السيّد ذلك بعبارة لزوم المفاسد الشنيعة.
إلّا أنّ ذلك الوجود ليس إلّا جَبَلًا وجوديّاً خياليّاً؛ وسيزول إن عاجلًا أم آجلًا، شئنا أم أبينا. وهذا اللزوم ليس صحيحاً كذلك، لأنّ الحقائق الوجوديّة للموجودات والأشياء لها اندكاك في ذات الحقّ، لا معائب أو قبائح أو مفاسد. أنّ مصدر هذه الامور، عند التحليل، امور عدمية. وأنّ النقائص والماهيّات الباطلة هي امور عدميّة كذلك؛ فأنّى لها الدخول إلى ذاته المقدّسة!؟ ولهذا فإنّ اولئك الذين يحتجّون على وحدة الوجود ويعترضون عليه لم يعقلوا معناه مطلقاً.
إن لوحدة الوجود والتوحيد اللذان هما أساس الشرائع الإلهيّة، وبالأخصّ الدين الإسلاميّ الحنيف، معنى واحداً، فالوحدة مصدر لازم ومجرّد، والتوحيد مصدر متعدّي ومزيد.
فمعنى اللهُ أكْبَرُ، ولَا إلَهَ إلَّا اللهُ هو نفس هذه الحقيقة العظيمة.
فهؤلاء يقولون: أنّ وحدة الوجود تعني أنّ كلّ شيء هو الله؛ اي والعِيَاذُ بِاللهِ فالكلب هو الله، والكافر هو الله، والزاني هو الله! فأين معنى الوحدة هنا؟! في اي كتاب قرأتم هذا؟ أم من اي مؤمن عارف سمعتم هذا؟! إن الذين ينادون: لا سبيل لجميع الأشياء المحدودة وكلّ الممكنات بحدودها وماهيّاتها إلى الذات الواجب؛ فكيف للكلب والكافر والزاني أن يجدوا السبيل إلى ذلك!؟ إن أرباب الشهود وكشف التوحيد يقولون: لا يوجد في عالم الوجود غير الله؛ اي أنّ لوجوده من السيطرة والإحاطة- سبب الوحدة الحقّة الحقيقيّة والصرفة التي يتميّز بها- ما يحول دون استطاعة اي موجود من استعراض نفسه أمامه وفي مقابل ذاته؛ بما في ذلك الأرواح الملكوتيّة والمجرّدات العلويّة.
إن وجود الحقّ سبحانه جعل جميع الأشياء مندكّة ومضمحلّة وفانية. فأنّى للحدود والتعيّن- وهما من مستلزمات شيئيّة الأشياء هناك- أن تحوز على الوجود والتحقّق؟! اولئك يقولون: أنّ وجود الأرواح القدسيّة، ونفوس الأنبياء العظام مندكّة في ذات الحقّ وفانية فيها. ولمّا كان متعذّراً وجود جبرائيل وإسرافيل في ذات الحقّ فأنّى لنا شهادة الكلب والخنزير والجرثومة والقاذورات فيها؟ واولئك يقولون: أنّ جميع الموجودات لا وجود لها في مقابل ذاته تعالى، إنّها جميعاً تمثّل التعيّن والماهيّة والحدود؛ وأنّ الأصل في وجود الموجودات هو ارتباطها بذات الحقّ المُعَبّر عنها ب- الصمديّة والمصدريّة والقيُّوميّة، والمنشئيّة.
لو دقّقنا في هذا المعنى وتحقّقنا من هذا المفهوم لوجدنا أنّه يمثّل مفاد كلمتي التكبير والتهليل هاتين واللتين نكثر من ترديدهما في صلواتنا اليوميّة الواجبة كلّ يوم، واللتين نؤمن بما تحويانه من معانٍ وما تنطويان عليه من مفاهيم.
فأمّا المساكين فهم قاصرون عن فهم ذلك ويستقون معنى الوحدة من نفس الحلول والاتّحاد؛ والذي يكون منشأه الكثرة والثنويّة.
في حين يخشون التفوّه بهذه العقيدة السامية التي تمثّل روح الإسلام، بينما يكرّرون هذا المعنى مراراً في الليل والنهار أثناء الصلاة، وتتردّد هذه العبارات على ألسنتهم وفي أذهانهم. وهذا الأمر ناتج عن تدنّي المستوى العامّ للمعارف الإسلاميّة، والاكتفاء بالعلوم المصطلحة والمقرّرة الحاليّة، والابتعاد عن مناهل الحقائق.
كان سماحة استاذنا الأكرم آية الله الجليل: العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه يقول: يعتقد عوامّ الناس أنّ المؤمن بالوحدة الوجوديّة هو أسوأ من الكافر؛ لأن تكون يهوديّاً أو مسيحيّاً خيراً من أن تكون ممّن يؤمنون بوحدة الوجود![1]
الحاجّ الشيخ يقرّ بكلام الحاجّ السيّد أحمد بعد ارتحال الأخير
قال سماحة العلّامة استاذنا الأكرم الطباطبائيّ رضوان الله عليه: في الرسائل والمباحثات التي جرت بين العالمين الكبيرين الآقا الحاجّ السيّد أحمد الكربلائيّ الطهرانيّ والآقا الحاجّ الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ الأصفهانيّ رضوان الله عليهما حول قضية التشكيك في الوجود ووحدة الوجود، والتي انتهت بعدم اقتناع المرحوم الحاجّ الشيخ بالمواضيع العرفانيّة التوحيديّة للآقا الحاجّ السيّد أحمد، قام أحد طلّاب المرحوم القاضي- ويدعى «الآقا السيّد حسن الكشميريّ» وهو من معاصري آية الله الآقا الحاجّ الشيخ على محمّد البروجرديّ والآقا السيّد حسن المسقطيّ وزميل تلك المجموعة من تلاميذ المرحوم القاضي- بفتح باب الحديث والبحث والمكالمة مع المرحوم الحاجّ الشيخ، وذلك بعد وفاة المرحوم الآقا السيّد أحمد، وقد تابع البحث معه على أساس من استدلالات وبراهين المرحوم حتى ألزمه الحجّة فاقتنع.[2]
وشاهدنا على عدول المرحوم الكمبانيّ عن عقيدة الفلاسفة القائلة بالتشكيك في الوجود إلى عقيدة العرفاء المصرّحة بوحدة الوجود، هو أشعاره في كتاب الحكمة الذي ألّفه تحت عنوان «تحفة الحكيم» فيما يخصّ الاتّحاد والهويّة، هو أدلّ شاهد على ما نقول؛ حيث قال:
صَيْرُورَةُ الذَّاتَيْنِ ذَاتَاً وَاحِدَهْ *** خُلْفٌ مُحَالٌ والعُقُولُ شَاهِدَهْ
وَ لَيْسَ الاتِّصَالُ بِالمُفَارِقِ *** مِنَ المُحَالِ بَلْ بمعنى اللَّائِقِ
كَذَلِكَ الفَنَاءُ في المَبْدَإ لَا *** يُعْنَى بِهِ المُحَالُ عِنْدَ العُقَلَا
إذِ المُحَالُ وَحْدَةُ الاثْنَيْنِ *** لَا رَفْعُ إنِّيَّتِهِ في البَيْنِ
وَالصِّدْقُ في مَرْحَلَةِ الدَّلالَهْ *** في المَزْجِ والوَصْلِ والاسْتِحَالَهْ
فَالحَمْلُ إذْ كَانَ بمعنى هُوَ هُو *** ذُو وَحْدَةٍ وكَثْرَةٍ فَانْتَبِهُوا[3]
وتدلّ هذه الأبيات المذكورة دلالة لا ريب فيها على دعوة الآقا السيّد أحمد؛ ولكنّ أصرح ما فيها، البيت الرابع منها والذي ذُكر كشاهد على البيت الثالث- الذي يُشير إلى إمكانيّة الفناء في الله- وهو عين ما يقول به أهل العرفان واليقين؛ ولا يقول المرحوم الحاجّ السيّد أحمد الكربلائيّ كذلك غير هذا. رحمة الله عليهما رحمة واسعة شاملة.[4]
نعم، وهل لهذا الأبيات مضموناً ومفهوماً غير مضمون ومفهوم أبيات الحسين بن منصور الحلّاج التي ذكرناها آنفاً.
أنَا أنَا أنْتَ أمْ هَذَا إلَهَيْنِ؟! *** حَاشَايَ حَاشَايَ مِنْ إثْبَاتِ اثْنَيْنِ
هُوِيَّتِي لَكَ في لَائِيَّتِي ابداً *** كُلٌّ على الكُلِّ تَلْبِيسٌ بِوَجْهَيْنِ
فَأيْنَ ذَاتُكَ عَنِّي حَيْثُ كُنْتُ أرَى *** فَقَدْ تَبَيَّنَ ذَاتِي حَيْثُ لَا أيْنِي
إلى آخر الأبيات.
[1] « التوحيد العلميّ والعينيّ» في الرسائل الحكميّة والعرفانيّة، تصنيف الحقير، ص 326 إلى 329 من الطبعة الفارسيّة.
[2] «التوحيد العلميّ والعينيّ» ص 324 و325 من الطبعة الفارسيّة.
[3] «تحفة الحكيم» ص 40 و41، من منشورات مطبعة النجف، مع مقدّمة للعالم القدير آية الله الشيخ محمد رضا المظفّر رحمه الله تعالى.
طلب العالم المعظّم الفاضل النحرير والمحقّق المدقّق القدير، الأخ العزيز والصديق القديم والحميم: سماحة الآقا الحاج السيّد عزيز الله الطباطبائي اليزدي مدّ ظلّه العالي، ذات يوم من الحقير أن أقوم بكتابة شرح عن تحفة المرحوم الحاجّ الشيخ أعلى الله مقامه. فأجبتُ: أنّه مضافاً إلى عدم لياقتي واستعدادي لهذا الأمر الخطير وفعليّتي له: لأنّني منهمك في الوقت الحاضر بتأليف سلسلة« معرفة الله» و« معرفة الإمام» و« معرفة المعاد» وأنّ كلًّا منها تشمل عدّة أجزاء، وقد استحوذت على وقتي بالكامل، وحتى أنّني في بعض الأحايين أواصل الليل بالنهار؛ فإنّ الشروع بتأليف كتاب مستقلّ وخصوصاً بهذا المستوى من المواضيع العميقة والأسرار الفلسفية والحكمية للمرحوم الشيخ قد يتسبّب في توقّف تلك التآليف.
لذا نوصي الطلاب الكرام والدارسين في الحوزات العلميّة ذوي العزّة والاحترام بحفظ تلك الأبيات كما هي عن ظهر قلب كوثيقة معتبرة شأنها شأن أبيات« نصاب الصبيان» و« ألفيّة ابن مالك» وأشعار« المنظومة» للحكيم المتألّه السبزواريّ، لأنّ منظومة الشيخ هي على قدر من العذوبة والسلاسة بحيث استقرّت في قلوب جميع العلماء والفضلاء ولفتت انتباههم نحوها، حتى يُنزل الله من لدنه لطفاً فيتمّ شرح« التحفة» على أكمل وجه من الإتقان بما يناسب شأن النصّ. ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا بِالله العَلِيّ العَظِيمِ.
[4] أنّ نظرة فاحصة على ذلك تقودنا إلى أنّ: المرحوم الحاجّ الشيخ عاش أكثر من عشرين سنة بعد مراسلاته مع الآقا الحاجّ السيّد أحمد. وأنّ عدوله عن العقيدة الفلسفيّة إلى الغايات العرفانيّة مع نظم المنظومة الحكميّة« تحفة الحكيم» يعدّ أمراً طبيعيّاً ومقبولًا.
و تستند هذه النظرة على بيان بعض المقدّمات:
1- كانت ولادة آية الله الحاجّ الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ في الثاني من المحرّم سنة 1296، ووفاته في ليلة الأحد الخامس من ذي الحجّة سنة 1361، حسبما أوردته في مقدّمة كتابي« التوحيد العلميّ والعينيّ»؛ وعلى هذا تكون سنيّ عمره قد بلغت ال- 66 إلّا 27 يوماً بالتمام.
2- لقد أتمّ نظم منظومة الحكمة، حسب ما دوّنه هو في آخرها، في 29 ربيع الأوّل سنة 1351؛ وبناء على ذلك يكون نظمها قد تمّ في فترة تسبق وفاته ب- 10 سنوات و8 أشهر و5 أيّام.
3- فإذا طرحنا تلك المدّة من عمره فسيكون الباقي 55 سنة وشهرين و28 يوماً.
4- اي أنّه أنجز تلك المنظومة خلال هذه المدّة من عمره.
5- كانت وفاة آية الله الحاجّ السيّد أحمد الكربلائيّ عصر يوم الجمعة 27 شوّال المكرّم من سنة 1332 هجريّة قمريّة.
6- كان عمر سماحة الشيخ آنذاك( وقت وفاة سماحة السيّد) 36 سنة.
7- لقد جرت المكاتبات والمراسلات بين العَلَمينِ الآيتين في عهد المرحوم آية الله الآخوند الملّا محمّد كاظم الخراسانيّ، وكانت رحلة الآخوند في سنة 1329 هجريّة قمريّة.
8- تبلغ المدّة من وفاة الآخوند إلى زمان انتهاء الشيخ من نظم منظومته، 21 سنة.
9- يتبيّن لنا ممّا سبق أنّ: الانتهاء من نظم المنظومة أعقب وفاة الحاجّ السيّد أحمد ب- 18 سنة و5 أشهر ويومين، وب- 21 سنة بعد وفاة الآخوند.
و يوضّح ذلك بجلاء أنّ المرحوم الشيخ كانت له الفرصة الكافية خلال هذه المدّة الطويلة للتغيير والعدول إلى عقيدة العارفين بالله.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة