مفهوم النسخ عند الصحابة
المؤلف:
الدكتور عبد الرسول الغفار
المصدر:
الميسر في علوم القرآن
الجزء والصفحة:
ص178-180
2025-07-07
640
اتضح لك من التعريف اللغوي أن النسخ الموافق للمفهوم الشرعي هو الإزالة على الوجه الحقيقي. غير أن الصحابة كانوا يفهمون من النسخ المعنى الأوسع بمعنى أوضح إن استعمالهم كلمة (ناسخ) أو (منسوخ) لا يريدون منها إزالة حكم شرعي بحكم شرعي آخر فقط بل كانوا ينظرون إلى التخصيص والتقييد والاستثناء والتفسير. قبال ذلك رووا عن ابن عباس أن قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] منسوخ بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] أقول: إن فسرت الأنفال بالغنائم - كما في بعض التفاسير - فلا تناسخ بين الآيتين لأن الثانية مبينة لما أجملته الأولى.
وهكذا ما روي عن ابن عباس: أن قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224-226] منسوخ بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227] فالآية الأخيرة جاءت لتستثني مما سبقها الفريق الصالح المؤمن من أولئك الشعراء.
فليس ناسخة لما تقدمها. ورووا أن قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] منسوخ بقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7] إنك تجد في الآيتين اخبار وليس فيها أمر والنسخ لا يكون في الاخبار. وروي عن عبد الملك بن حبيب في قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] منسوخات بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] الآيات المباركة جاءت في معرض الوعيد والتهديد وهذا ليس فيه حكم تكليفي لذا لا يقبل النسخ. والأمثلة في هذا كثيرة والذي يظهر منها أن معنى النسخ عند الصحابة والتابعين شمل أنواعا عديدة لذا من الصواب أن تقول إن حمل تلك الموارد على النسخ من باب المجاز لا من باب الحقيقة وأنك جد عليم في معنى النسخ وهو ارتفاع حكم شرعي سابق قد انتهى أمده بحكم شرعي آخر.
وهذا الرفع للحكم يصطلح عليه: الإزالة على وجه الحقيقة والنقل على وجه المجاز.
فليس عجيبا أن نرى أغلب الآيات التي ادعى نسخها داخلة في قسم المجاز الذي فهمه الصحابة والتابعين أنه من المنسوخ وهو ليس كذلك. قال الإمام الشاطبي ت 790هـ في الجزء الثالث من الموافقات: (الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخا وعلى تخصيص العموم بدليل متصل ومنفصل نسخا وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي تأخر نسخا لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف وإنما المراد ما جيء به أخيرا فالأول غير معمول به وهذا المعنى جار في تقييد المطلق فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده فلا أعمال في إطلاقه بل العمل هو المقيد فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا فصار مثل الناسخ والمنسوخ وكذلك العام مع الخاص إذا كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم بجميع ما يتناوله اللفظ فلما جاء الخاص أخرج حكم الظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ والمنسوخ إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص.[1]
وقال شمس الدين بن القيم: مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر تارة أخرى أما بتخصيص عام أو تقييد مطلق وحمله على المقيد وتفسيره وتبنيه حتى أنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة ناسخا لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر[2] فالنسخ في الاصطلاح ما كان الحكم فيه رافعا فهو (الناسخ) وما كان الحكم فيه مرفوعا فهو (المنسوخ) وعملية الرفع يسمى (نسخ) بعد هذا اختلف العلماء في وقوع النسخ لكن ما تسالم عليه الأصوليون هو أنه يقع في الأمر والنهي ولا يقع في غيره كالإخبار والوعد والوعيد والتهديد. بينما أجاز بعضهم وقوعه في الخبر المحض وأدخلوا الاستثناء والتخصيص والتقييد فيه وسنشير إلى ذلك إن شاء الله.
الاكثر قراءة في مصطلحات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة