علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
الأحاديث القدسيّة
علوم الحديث عند العامّة (أهل السنّة والجماعة)
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
أقسام الحديث الصحيح
المؤلف:
أبو الحسن علي بن عبد الله الأردبيلي التبريزي
المصدر:
الكافي في علوم الحديث
الجزء والصفحة:
ص 157 ـ 165
2025-05-15
39
الصحيح أقسام:
[المتّفق عليه]:
فأوّلها ما أخرجه البخاري ومسلم، ويقال فيه: صحيح متّفق عليه ـ وهو أعلاها ـ وهذا القسم جميعه مقطوعٌ بصحَّته، سوى أحرف يسيرة (1) تكلَّم عليها بعضُ الحفّاظ كالدَّارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن (2).
[هل أحاديث "الصحيحين" تفيد اليقين؟]:
قال الشيخ تقي الدين (3): "إنَّ العِلمَ اليقينيَّ واقعٌ بأنَّ هذا القسمَ مقطوعٌ به؛ لاتِّفاقِ الأُمَّة (4) على تلقّي ما اتَّفقا عليه بالقبول، والأمَّةُ في إجماعها معصومةٌ عن الخطأ". وقال الشيخ محيي الدين: "هذا الذي اختاره الشيخ خلاف الذي اختاره المحقّقون" (5).
قلتُ: إنْ ثبتَ إجماعُ الأمّة على ما حكاه الشَّيخ تقي الدين، أو ثبت تواتر هذا القسم عند علماء الحديث، فلا شَكَّ في أنَّ ما قاله الشَّيخُ تقيُّ الدِّين حقّ، وإن لم يوجد شيء من ذلك فعدُّهُ من اليقينيَّات بَعيدٌ، إلَّا عند مَن ذهب إلى أنَّ الآحاد يفيد اليقين مُطَّردًا، وفيه بُعْد (6).
وأمّا قولُ الحافظ أبي نَصرٍ الوائليِّ السِّجْزيِّ: "أجمع أهل العلم من الفقهاء وغيرهم على أنَّ رجلًا لو حلف بالطَّلاق أنَّ جميع ما في كتاب البخاري ممَّا رُويَ عن النّبيِّ - صلى الله عليه [وآله] وسلم - قد صحَّ عنه، ورسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - قاله؛ فإنّه لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالته" (7).
وقال الشيخ تقي الدين: "إنّما المراد بذلك مقاصد الكتاب، وموضوعه، ومتون الأبواب"(8). قلت: وفيه بحثٌ؛ لأنّا لا نُسلِّم عدمَ وقوعِ الطَّلاقِ للجزم بصحَّته، بل لعدم الجزم بعدم صحَّته (9)، ولا يقع الطَّلاقُ بالشَّكِّ في وقوع المعلَّق عليه، فعلى هذا كلُّ كتابٍ لم يجزم بضعف ما فيه فهو بهذه المثابة، وشأن الكتابين أعظم من أن يثبت بمثل هذه المسائل، والله أعلم.
[ما انفرد به البخاريّ وما انفرد به مسلم، وماذا يفيد ذلك؟]:
الثاني: صحيح انفرد به البُخاريّ عن مُسلمٍ (10).
الثالث: صحيح انفرد به مسلم عن البخاريّ.
وألحق الشيخ تقي الدين هذين القسمين بالأول في إفادتهما اليقين (11).
[الصحيح على شرط الشيخين، والمراد بذلك]:
الرابع: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.
قال الشيخ محيي الدين وغيره: "المراد بشرطهما أن يكون رجال إسناده في كتابيهما على ما ذكرنا" (12).
وقيل: شرطهما أن لا يرويا عن أحد إلا إذا كان له راويان فصاعدًا، ليدفع عنه الجهالة والنكارة، فإذا روى عن رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - صحابيّ مشهور له راويان، ثم يروي عنه اثنان التابعي المشهور بالرواية وله راويان ثقتان، ثم يروي عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور وله رواة من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظًا متقنًا مشهورًا بالعدالة في روايته.
هكذا نقل عن أبي عبد الله الحاكم (13)، وسنعود إليها إن شاء الله تعالى (14).
[الصحيح ليس على شرط واحد من "الصحيحين]:
الخامس: صحيحٌ عند غيرِهما، وليس على شرطِ واحدٍ منهما، لكن عُرِفَ أنَّ طريقَه صحيحٌ إلى منتهاه، فهو أيضًا معمولٌ به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جلُّها ليس فيها قادح يُردّ به الحديث، وإنّما هي من أوهام الرواة في إدخال حديث بآخر.
(2) تراها عند الدارقطني في كتابه "التتبّع"، وأجاب ابن حجر في "الفتح" في مواطن شرحه للأحاديث المنتقدة و"الهدي" (346 وما بعد) على الأحاديث حديثًا حديثًا، ولابن عمّار الشهيد انتقادات على بعض حروف في (صحيح مسلم" وهي قوية، وللغسّاني في "تقييد المهمل" عناية بذلك، وهي - على عدّ ابن حجر في "هدي الساري" (ص 12، 346) - مئتا وعشرة أحاديث، انفرد البخاري منها بتخريج ثمانية وسبعين حديثًا، وانفرد مسلم منها بتخريج مئة حديث، والذي اشتركا فيه هو اثنان وثلاثون حديثًا، وللعلماء أجوبة عليها، وهي تدلّل - قطعًا - على عدم محاباة علماء الملّة لبعضهم بعضًا، وللشيخ ربيع بن هادي المدخلي دراسة جيّدة مطبوعة فيها المحاكمة بين الدارقطني ومسلم، وافق في بعضها الدارقطنيُّ، وصنيع شيخنا الألباني في تخريجاته يدلّ على صحّة الانتقاد في بعض الحروف، وسمعت منه بأنّه مسبوق في ذلك، وأنّه ما تفرّد، وأنّ للصحيحين مهابة عظيمة عنده، وأنّ قواعد أهل الصنعة هي التي ألجأته لهذا، خلافًا لما يشاع عنه!
(3) المقدّمة (ص 28)، وعبارته: "وهذا القسم جميعه مقطوع بصحّته، والعلم اليقين النظري واقع به".
(4) عبارة فيها تجوُّزٌ، بيَّنَ ذلك مُغُلْطاي في كتابه "إصلاح كتاب ابن الصَّلاح" (ق 10/ ب - 1/ 11) فقال: "عاب ابنُ عبد السَّلام هذا القول على ابن الصَّلاح وقال: إنّ المعتزلة يرَون أنَّ الأمَّة إذا عملت بحديثٍ اقتضى ذلك القطع بصحّته، وهو مذهب رديء. وأيضًا إن أراد كلّ الأمّة فهو أمرٌ لا يَخفَى فسادُه، وإن أراد الأمّة الذين وُجدوا بعد وضع الكتابين فهم بعضُ الأمة لا كلّها، لا سيما على قول أهل الظاهر؛ فإنّهم لا يعتدّون إلا بإجماع الصحابة خاصّة، وكذلك الشيعة وإن كنَّا لا نعتبر خلافهم على ما هو المشهور من قول العلماء. وإن أراد كلَّ حديث فيهما تلقّي بالقبول من كافّة النّاس فغير مستقيم؛ لأنّ جماعة من الحفاظ تكلّموا على بعض أحاديثهما. وأيضًا فإنّه وقع فيهما أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينها، والقطعيُّ لا يقع فيه التعارض.
ثمَّ إنَّا نقول أيضًا: التلقّي بالقبول ليس بحجّة؛ فإنَّ الناس اختلفوا أنَّ الأمّة إذا عملت بحديث وأجمعوا على العمل به هل يفيد القطع أو الظن؟ فمذهب أهل السنّة أنّه يفيد الظَّنَّ ما لم يتواتر. انتهى. وأمّا قول أبي الفضل بن طاهر المقدسي في كتابه "صفة التصوّف" - وذكر "الصحيحين" -: أجمع المسلمون على ما أخرج فيهما أو ما كان على شرطهما" فلا أدري معناه. وقال أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه "الانتصار" - في أثناء كلام -: وإن كانت الحجَّة في العلم بأنَّ ما يقوله الواحد والاثنان والنفر أنّهم سمعوه من سيّدنا رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - ولم يتواتر الخبر عنه بذلك، واستفاضته وانتشاره في الكافّة على وجه يقطع العذر".
(5) "التقريب" (1/ 187 - "التدريب")، "الإرشاد" (1/ 133)، وزاد قبلها: "قلت: وقد أجاب عن تلك الأحرف آخرون"، وقال في "شرح صحيح مسلم" (1/ 27): "وقد أجيب عن كل ذلك أو أكثره". قلت: ممّن أجاب عليها أبو مسعود الدمشقي، وكتابه مطبوع، وقال ابن حجر في "هدي الساري" (ص 349) بعد أن ذكر عبارة النووي في "الشرح": "إنّ منها ما الجواب عنه غير منتهض"، والذي يتعنَّى (الصنعة)، ويحذق في (التخريج)، ويجمع (الطرق) و(يستوعب) يعلم دقّة جواب ابن حجر عليه الرحمة، وينظر وجه تعقّب النووي لابن الصلاح في الهامش السابق ولا يظنّ ظان أنّ في هذا تهوينًا من شأن "الصحيحين"! كلا والله، إنّ لهما منزلة الجبال الرواسي، ولكن أبى الله إلا أن يصحّ كتابه، فهما ليس مثله، ولا يهوّن منهما إلا مغرور، يركب الصعب، ويقرّر الغريب، ولا يعرف الصنعة، وهو - أعني: التهوين - من علامات المبتدعة، وأمر تكاد تلتقي كلمتهم عليه عند المحاججة في كثير من المسائل، ومن تفقَّد، وجد.
ثم، إيّاك أن يخطر في بالك أنّ وقوع العلم اليقيني - بالجملة - لما في "الصحيحين" يخالف تعكير النووي، فالكلام على أحرف يسيرة من جهة. وسبق أن بيّنا في التعليق على (ص 118) أنّ التواتر قسمان: عام، وخاص، وأنّ حصول العلم اليقينيّ ليس مرتبطًا بحد المتواتر المذكور عند علماء المصطلح.
بقي التنبيه على أنّ عبارة ابن الصلاح السابقة - التي قال عنها النووي: "خلاف الذي اختاره المحقّقون" -، تعوزها الدّقّة من جهة أنّ نقله الاتفاق على وجوب العمل بالأحاديث، وتلقّيهم له بالقبول لا يدلّل على صحّة ما فيهما خاصّة؛ لأنّهم اتّفقوا على وجوب العمل بكلّ ما صح، ولو لم يخرجه الشيخان، فلم تكن للصحيحين في هذا مزيَّة، والاجماع حاصل على أنّ لهما مزيَّة فيما يرجع إلى نفس الصحّة، أفاده ابن حجر في "نكته" (1/ 372)، وينظر "التدريب" (1/ 133).
ولكن ممّا ينبغي أن يذكر أنّ التقرير المذكور مجمل، والعلم اليقيني يتبرهن للمتبحّر والممارس، وفَصْلُ المنتقَد ولا سيما إن كان حرفًا من الأحرف اليسيرة المنوّه بها عنه، عسر من حيث الإسقاط على (المفردات)، وكذا تمييز (الحسن) ممّا في "الصحيحين" من (الصحيح)، ولكن (الحسن) في جلّ "الصحيحين" باعتبار السند لا المتن؛ فإنّهما اختارا وأحسنا، ولذا أطلقت كتب المصطلح عبارة ابن الصلاح ونحوها، والذي حكاه النووي عن المحقّقين فيما وقف عليه من تصانيف من خالف في ذلك فحسب، كالقاضي أبي بكر الباقلاني، والغزالي، وابن عقيل، وإلا فالأمر على خلاف ما قرّر، كما بينّاه، والحمد لله.
(6) انظر لزامًا - ما قدّمناه في التعليق على (ص 117)، ومنه تعلم ما في كلام المصنِّفِ رحمه الله تعالى.
(7) نقله في المقدمة (ص 26)، ونقل النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (1/ 16 - 19) مثله عن إمام الحرمين. وذكر "صحيح مسلم" مع "صحيح البخاري".
(8) "المقدّمة" (ص 26)، وعبارته: "ثم إنّ ما يتقاعد من ذلك عن شرط الصحيح قليل يوجد في كتاب البخاري في مواضع من تراجم الأبواب دون مقاصد الكتاب وموضوعه الذي يشعر به اسمه…".
(9) استصحاب العدم من أضعف الأدلّة بيقين، والظاهر أقوى منه، وتعقّب المصنّف قائم على أصل ضعيف! ومنه تعلم قيمة قوله الآتي: "كلّ كتاب.. فهو بهذه المثابة" أي: بمثابة "الصحيحين"!
(10) انظر الأمر الأوّل في الهامش الآتي، والله الهادي.
(11) المقدّمة (ص 29)، وتذكر أمرين:
الأول: انضمام مسلم إلى البخاري، لم يأتِ بزيادة تقوِّي رواية البخاري، وكذا انضمام البخاري إلى مسلم.
الثاني: ليس مرتبة المتفق عليه ولا البخاري وحده ولا مسلم وحده متساوية؛ بل منها المتواتر وغيره، وتشمل الصحيح والحسن، فالمفاضلة على الأغلب تستقيم، ولا تصح على التنويع السابق إلا به، وينظر: "التقييد والإيضاح" (ص 41)، "توضيح الأفكار" (1/ 87).
(12) سيأتي في فقرة رقم (42) نقل ابن طاهر المقدسي حول شرط البخاري ومسلم، وأنّهما لم ينصّصا، ولكن بالسَّبر عرف عنهما! ولذا اختلفت الأنظار في عبارة "على شرطهما" فهل من ساوى رجالهما في العدالة والضبط يلحق بهما، وإن لم يخرجا له، كالشافعي - مثلًا -، فإنّه لم يوفَّق لهما التخريج له، ولم يتقصَّدا الحيدة عنه!
وهذا باب لاحب، والأنظار فيه مختلفة، والسابقون أقدر على تمييزه من غيرهم، ومنهم من حصره بأعيان من أخرجا له، وإن لم تكن أخبارهم في "الصحيحين"، وعلى هذا درجت عبارات المتأخّرين، ونصروه ولم يذكروا غيره، ومن أقدم من رأيته يصنع ذلك الاسماعيليّ، فأفاد أنّ شرط الشيخين هو إخراج الصحيح، وقال: "لمّا كان مرادهما إيداع الصحيح في كتابيهما؛ كان من يرويا عنه رواية موثوقًا به، فجائز من حذا حذوه أن يحتجَّ به بعينه، وإنْ كان في غير ذلك الخبر، فإذا رويا عن مالك، والليث، وعقيل، ويونس، وشعيب، ومعمر، وابن عيينة، عن الزهري؛ فقد صار هؤلاء بأجمعهم من شرطهما في الزهريّ، وحيث وجدوا إذا صحّت الرواية عنهم، فأيّهم جيء به بدلًا عن الآخر؛ كان شرطهما فيه موجودًا". كذا في "لقط الدرر" (90) للسيوطي.
وقد صرّح المزِّيُّ بالفرق بين اصطلاح المتقدّمين والمتأخّرين في شروط الشيخين؛ فذكر أنّ اصطلاح المتقدّمين إذا قالوا: على شرط البخاري ومسلم؛ أي: إنّ ذلك مخرج على نظير رجال "الصحيحين"، واصطلاح المتأخّرين إذا كان على رجال "الصحيحين" أنفسهم، انظر "اللقط" أيضًا.
وإلى الأخير ذهب... ابنُ تيمية ...؛ فقال في "مجموع الفتاوى" (18/ 42): "وأمّا شرط البخاري ومسلم؛ فلهذا رجال يروي عنهم، يختصّ بهم، ولهذا رجال يروي عنهم، يختصُّ بهم، وهما مشتركان في رجال آخرين، وهؤلاء الذين اتّفقا عليهم؛ عليهم مدار الحديث المتّفق عليه، وقد يروي أحدُهُم عن رجلٍ في المتابعات والشواهد دون الأصل، وقد يروي عنه ما عرف من طريق غيره، ولا يروي ما انفرد به، وقد يترك من حديث الثّقة ما علم أنّه أخطأ فيه؛ فيظنّ من لا خبرة له أنّ كلّ ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب "الصحيح"، وليس الأمر كذلك؛ فإنّ معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمة الفنّ".
وهذا هو عين قولِ ابن الصَّلاح، وهو الذي لم يرضَ المباركفوريّ غيرَهُ، قال رحمه الله تعالى في (مقدمة) "تحفة الأحوذي" (1/ 142 - 143): "فاعلم واستمع وأنت تنفض يديك عن لوث التقليد والتزليق، وتمسح عينيك عن قذى العصوبة في نظرك إلى شواهق ذروة التحقيق، أن الحذاق الكبراء من هذا الفنّ تكلّموا في تعيين شروط الشيخين في "الصحيحين"، على اختلافِ كثيرٍ لم يقضِ وطرأ عن تعيين تلك الشروط، وآلتْ كلمتُهُم إلى أنّ شرطهما فيهما بذل جهدهم في التيقّظ من كلّ وجهٍ في الأسانيد والمتون من حيث ما أمكن لهم من صرف مجهودهما في كونهما سلطاني سلاطين الصّنعة"، قال رحمه الله تعالى: "لم يَبْقَ سبيل إلى ضبط ما راعياه واحتاطاه على مبلغ كمالهما وخبرتهما في دقائق التصحيح والعلل في كتابَيْهما، وقد ثبت أنّهما أخرجاهما عن ألوف من الصحاح الثابتة عندهما"، قال: (فَدَقَّقَا النَّظَرَ في الصحيح عندهما، وأخرجا منهما اللبَّ، وكلّ ما به وقع التدقيق؛ فهو شرطهما، فلا يعرف شرطهما إلا بتصريحهما، ولم يُصَرِّحَا. فلا محيص إلى الفوز بشروطهما إلّا الإِخراج عن رجالهما بأعيانهم، ولهَذا قال الإِمام النووي وغيره ممّن نظر فيما فصَّلنا لك: "إنّ المراد بقولهم: على شرط الشيخين أن يكون رجال إسناده في كتابيهما"، وعلّل النوويّ كلامه هذا بقوله: "لأنّه ليس لهما شرط في كتابيهما، ولا في غيرهما"، انتهى.
يعني: لم يُصَرِّحا به، ولم يوجد بالإِجماع في عصرهما ولا فيما بحد ذلك مثلهما في هذا الفن وإِمامته؛ فلا سبيل إلى إتيان مثل شروطهما في حذاقتهما من غير الرواية عن رجالهما بالأعيان، وذلك أيضًا برواية غيرهما عنهم لا يوجب المساواة بهما، ولا يزول به خصوص أصحيّة ما فيهما بالنّسبة إلى غيرهما، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أنّ الشيخين لا يكتفيان في التصحيح بمجرّد حال الراوي في العدالة والاتّصال من غير نظر إلى غيره، بل ينظران في حاله مع من روى عنه في كثرة ملازمته له أو قلّتها، أو كونه من بلده ممارسًا لحديثه، أو غريبًا من بلد من أخذ عنها، ثم ذكر أربعة وجوه أخرى تدلك على أنّ الحكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في "صحيحه" بأنّه من شرط "الصحيح" غفلة وخطأ، بل ذلك يتوقّف على النظر في كيفيّة رواية مسلم عنه، وعلى أيّ وجه اعتمد عليه، ثم قال: "والحاصل أنّ الحُذّاق ربّما يروون عن رجالٍ ليسوا على باله، ولا يضرّهم ذلك بما رزقوا من البصارة في أمرهم، على ما ثبت عن سفيان أنّه كان يقول: حدّثني فلان، وهو كذّاب، فقيل له: أنت تروي عنه، وتقول: هو كذّاب؟! قال: إنّي أعرف كذبه من صدقه. وهذا الذي بسطنا لك يعطيك أنّ رواية غير الشيخين لا يوجب مساواة مرويِّه بمرويِّهما".
وبهذا الفرق الذي ذكره المزّيّ، وبهذا الكلام الذي ذكره المباركفوري ينفصل البحث معنا إلى ما حطّ عليه المتأخِّرون، وهو قول ابن الصلاح - كما نقله عند المصنّف - ومن تابعه، وهو صنيع جماعة من المتقدّمين، مثل: الدارقطني في "الإِلزامات"، وابن دقيق العيد في "الاقتراح"، والذهبي في "مختصر المستدرك"، وابن القيّم في "زاد المعاد" (3/ 502)، وغيرهم.
(13) صرح به في "المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل" (ص 38).
(14) في آخر فقرة رقم (42)، وينظر تعليقنا هناك.